عرض سريع لتاريخ علم الأديان

(١) مقدمة

كلمة «تاريخ الأديان» كلمةٌ مُعرَّبةٌ عن لغة الفرنجة.

والتسمية بهذا الاسم مستحدَثة؛ لم تعرفها أُوربا إِلا عند فجر القرن التاسع عشر.

على أن الحديث عن العقائد البشرية هو في جوهره شأْنٌ قديم؛ معاصرٌ — لاختلاف النَّاس في مِللهم ونِحلهم — تتسع مادته حينًا وتضيق حينًا؛ بمقدار تعارُف أهل الأديان فيما بينهم، ووقوف بعضهم على مذاهب بعض. كما يختلف طابعه ووجهتُه، مسايرة لتشعُّب نزعات الباحثين وأهدافهم.

ولو أننا تَتَبَّعْنَا سلسلة الحديث عن الأديان من عهد الفراعنة، فاليونان، فالرومان، فالمسيحية، فالإسلام، فالنهضة الحديثة؛ لاستطعنا، أن نتبيَّن اختلاف صورِهِ فيما بين العصر والعصر، بل ربما بين الفترة والفترة، من فترات العصر الواحد.

(٢) العصر الفرعوني

لم يصل إِلى أيدينا سِجلٌّ جامع دَوَّنَ فيه قدماءُ المصريين دياناتهم وديانات جيرانهم، ولكن البحوث الأخيرة أثبتتْ إِثباتًا لا يخالطه وهمٌ أن المصريين منذ ألوف السنين قبل ميلاد المسيح — عليه السلام — بدءوا يسجلون عقائدهم وعوائدهم ووقائعهم، وألوان حياتهم، أقوالًا متفرقة، مسطورةً في قراطيس البردي، أو منقوشة على جدران المقابر والمعابد. وأنهم تركوا إِلى جانب ذلك مجموعات عظيمة من التماثيل المنحوتة، والأجساد المحنَّطة، لملوكهم ورؤسائهم ومقدساتهم من الطير والحيوان والأناسي، وغيرها، وكذلك صنعوا في شأن الأقاليم التي افتتحوها (كبلاد النوبة وسوريا والعراق وغيرها).

وعلى قدر سعة فتوحهم اتسعت صدورُهم لمختلف العقائد، فتركوا لكل إِقليم حريتَه في تقديس ما شاء، واتخاذ ما شاء من الرموز الموضعية.

وامتدت روح التسامح هذه إِلى مدارسهم الفلسفية الدينية، فكان عمل هذه المدارس هو محاولة التوفيق بين تلك المقدسات والمعبودات، بافتراض أنها أسرةٌ واحدة يرتبط بعضها ببعض، ارتباط الزوجية أو الولادة، بحيث يتألف منها مجموعات: «ثالوث» أو «تاسوع» أو عدد أدنى من ذلك أو أكثر.

ولم يشذ عن هذا الطابع إِلا عصورٌ قليلةٌ كانت تنزع إِلى الانتصار لبعض العقائد، والمقاومة لبعضها، ومن أمثلة ذلك ما صنعتْه مدرسة «عين شمس»، حين حاولت إِبطال كل عبادة إِلا عبادة إِله الشمس، وما صنعه الملك «أمنحوتب الرابع» الملقب بأخناتون، حين ثار على كل المظاهر الوثنية، فمحا الصور وأزال التماثيل من المعابد، وأمر بعبادة إِله واحد ذي مظهرين: «الشمس» في السماء و«الملك» على وجه الأرض.

غير أن هذه الثورات لم تَدُم آثارها طويلًا، وكانت السُّنة الغالبة لدى الملوك والكُهَّان، هي تأليف قلوب أتباعهم ورعاياهم، بتمكينهم من ملء المعابد بتلك الأسماء والرموز المختلفة.١

(٣) العصر الإغريقي

لم يبقَ الآن مجالٌ للشك في أن القدامى من علماء اليونان وفلاسفتهم تخرجوا في مدرسة الحضارات الشرقية،٢ والحضارة المصرية بوجه أخص.

وليس معنى هذا أن الإِغريق كانوا بمثابة أوعية مصمتة نقلت علوم الشرق ومعارفه نقلًا حرفيًّا، فذلك ما لا يستسيغه عقل، ولم يقم عليه دليلٌ من صحيح النقل، ولكن المعنى أنهم لم يُنشئوا هذه العلوم إنشاءً على غير مثال سابق — كما ظنه بعضهم — بل وجدوا مادتها في الشرق فاقتبسوا منها وأفادوا كثيرًا.

وإِن قدماء اليونان أنفسهم يذهبون إِلى الاعتراف بهذه التلمذة إِلى القول بأن عُظماءهم أمثال فيثاغورس وأفلاطون مدينون بأرقى نظرياتهم إِلى المدرسة المصرية. والناقدون المحدثون وإِن استبعدوا حصول نقل حرفي لهذه النظريات لم يسعهم إِلا التسليم بتبعية هؤلاء الفلاسفة، في الدين والأخلاق، للنظريات المصرية.٣
أقدم الآثار الأدبية التي حفظها لنا التاريخ عن العصر الإِغريقي ينتمي إِلى ما حول القرن العاشر قبل الميلاد المسيحي، وأشهر هذه الآثار الديوانان المنسوبان إِلى هوميروس Homere:٤ أعني الإِلياذة Plliabe، والأوديسا Podyssee،٥ وهما سلسلتان من القصص الشعري عند قدماء اليونان، نرى فيهما صورة مغامراتهم في الأسفار، وبلائهم في الحروب وتنافسهم في الغنائم والأسلاب، وما كان ينزل بهم من عجيب النوازل العامة والخاصة. غير أنه لا يكاد يخلو شأنٌ من هذه الشئون — دقيقها وجليلها — من ذكر أسماء آلهتهم وآلهة خصومهم، ووصف القربات والضحايا والتوسلات التي كان يتوجه بها كل مظلوم أو مكروب إِلى إِلهه، وذكر ما يجري — في زعمهم — بين آلهة السماء حين تتشاور فيما بينها، وحين تتنازع وتنقسم آراؤها في الانتصار لهذه الفريق أو ذاك … إلى غير ذلك.
وهكذا تتميز هذه المرحلة:
  • (١)

    بضيق رقعة البلاد والأمم التي يتناولها الوصف.

  • (٢)

    وبأن شئون الأديان فيها إِنما تُساق عَرَضًا في ثنايا الشئون الحيوية الأخرى.

  • (٣)

    وبما تتسم به رواياتها من الطابع الأُسطوري والتمثيلي الذي يستمده الكاتب من خياله وأسلوب تفكيره في تعليل الحوادث والنوازل.

يلي هذه دور الرحلات للمؤرخين الوصَّافين أمثال هيرودت Herodote (المتوفَّى في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد)، وهذا الدور وإِن كان كسابقه لم يُفرد فيه للأديان تأليفٌ مستقل، حيث كان الحديث عنها يُمزج بالأوصاف الإِقليمية وغيرها، إِلا أَنَّ الاعتماد فيه كان على المشاهدات لا على التخيلات، كما أن نطاق البحث فيه كان أوسع؛ فقد شمل ديانات آسيا الصغرى ومصر، وبابل، وفارس وما يتاخمها، وامتاز أيضًا بطابع المقارنة بين معبودات الإِغريق، ومعبودات غيرهم مقارنةً تميل إلى تفضيل وجهة النظر المصرية، وإِلى نقد الأخطاء التي كان يقع فيها عامتهم بسبب الاشتراك اللفظي، حين يكون الاسم الواحد (مثل هيرقيل Hercule) عَلَمًا على إِلهٍ أزلي، وعلى بطلٍ من أبطال البشر.
ولقد كانت فتوح الإِسكندر المقدوني (المتوفى في الربع الأخير من القرن الرابع ق.م) سببًا في انفساح مجال المعرفة لأديان أخرى؛ حيث وصلت جيوش الإِسكندر إِلى الهند وكتب عنها ميجاستين Megasthenes (القرن الثالث قبل الميلاد).
إِلى جانب هذه الدراسات الوصفية لمختلف الأديان المعروفة إِذ ذاك، قامت دراساتٌ نقدية فلسفيةٌ تهدف إِلى تمحيص حقيقة الدين بوجهٍ عام في ثنايا البحث عن حقائق الأشياء، وأحقُّ الأسماء بالذكر في هذا الضرب من البحث اسم الفيلسوفين العظيمين: أفلاطون Platon (آخر الخامس قبل الميلاد وأول الرابع قبل الميلاد) وتلميذه أرسطو Aristote٦ (الرابع قبل الميلاد)، وكان من مذهبهما أن السبب الأول الأزلي بإِطلاق المبدأ لكل حركة وتغيير ليس هو المادة، بل روحٌ عاقل مدبر متصرف٧ في المواد، وأن العقائد والفلسفات كانت في بدايتها نقية نبيلة ثم تطوَّرت تطوَّرًا تنازليًّا،٨ وأن الفضيلة وسطٌ بين طرفي الإِفراط والتفريط.٩
وإِلى هذين الفيلسوفين — ومن قبل ذلك إِلى معلمها سقراط Socrate (أواخر الخامس قبل الميلاد) — يرجع الفضل في تأسيس الفلسفة التحقيقية الإِيجابية — التي تعترف بوجود حقيقة ثابتة للأشياء وبإِمكان العلم بها — وفي تفنيد مذاهب الجحود والعناد التي تنكر وجود أية حقيقة ثابتة، وتدعي استحالة العلم بها أو تعليمها — على فرض وجودها — تلك المذاهب التي كان يروجها السوفسطائية، وهم قوم أوتوا الجدل والمغالطة والتمويه، واتخذوا الفلسفة صناعة كلامية يؤيدون بها المتناقضين على السواء، ويهدمون بها كل العلوم حتى بداهات العقول، ملتمسين بهذا السحر البياني وهذه المهارة في قلب الأوضاع لنيل ما استطاعوا من جاه وثروة وسلطان.
ثم خلفت خلوف انتسبوا إِلى أفلاطون ومدرسته L’Academie، التي امتد اسمها إِلى القرن الأول قبل الميلاد، ولكنهم لم يكونوا جديرين بهذه التسمية؛ إِذ بعدوا عن مذهب إِمامهم، وكانوا إِلى الشك أقرب١٠ منهم إِلى اليقين بوجود حقائق الأشياء.
وسرعان ما مهَّدوا بهذا الفتور لظهور مذهب التشكيك الصريح، المعروف باسم اللاأدرية Sceptcisme، وهو المذهب الذي أعلنه بيرون Pyrrhon في عصر الإِسكندر المقدوني، وكان بيرون في أول أمره سوفسطائيًّا، ثم سئم الجدل والنقاش، وأخذته الحيرة في الاختيار بين الفلسفة الإيجابية التي تقرر وجود حقيقة ثابتة قطعًا، والفلسفة السلبية التي تنكر جزمًا هذه الحقيقة، فلما تعارضت عليه الأدلة لم يجد منها مخرجًا إِلا بالتوقف١١ عن الحكم.

فإِذا ما تركنا مذهبَي الإِنكار والتشكيك وعدنا لنتابع سير الفلسفة الإِيجابية في اليونان؛ وجدنا أن الصفحة الناصعة فيها طُويتْ بانقضاء عهد أرسطو وانقسام مُلك الإِسكندر، وأن الذي ظهر منها بعد ذلك كان في عامة الأمر مذاهبُ شاذةٌ متطرفة في الناحيتين النظرية والعملية.

أما في الناحية العملية «مبادئ الأخلاق» فكان مذهب أبيقور Epicure (من منتصف القرن الرابع إِلى أوائل القرن الثالث قبل الميلاد) يمثل الطرف الأدنى؛ إِذ كان يقرر أن شعور اللذة والألم — جثمانيًّا أو عقليًّا أو روحيًّا — هو المعيار الوحيد للخير والشر، والمقياس الفذ للفضيلة والرذيلة.
وكان مذهب زينون Zenon١٢ (القرن الثالث قبل الميلاد) مؤسس المدرسة الرواقية Le Portibue المشهورة باسم مدرسة أهل العزيمة والجَلَد Les Stoiciens يمثل الطرف الأقصى، وذلك بمكافحة العاطفة الإنسانية والوجدان الطبيعي، والبلوغ بهما من الجمود والتحجر إِلى حد الجسارة على الانتحار، وعدم المبالاة بأكل لحم الآدمي.

وأما في الناحية النظرية «الإِلهيات والطبيعيات» فإِن هذه المدرسة الرواقية نفسها، وإِن انتقلت من الفلسفة المادية الملحدة الخاصة إِلى النظرية المقابلة لها في الطرف الآخر وهي الاعتراف بوجود روح يدبر العالم ويتعهده في أطواره، إِلا أنها عادت تُقرِّر أن هذه الروح ما هو إِلا جزء من العالم يسري في مادته سريان الماء في العود، أو النار في الجمر، غير شاعر بنفسه، ولا مختار في تحريكه للمادة، بل هو بدوره خاضعٌ لقانون طبيعي كقانون النمو النباتي، ثم انتهت إِلى القول بأن العنصرين المادي والروحي في الكون ليس لأحدهما وجودٌ مستقل في نفسه، بل يتألف منهما شيءٌ واحد هو الوجود الحقيقي، يسمى فاعلًا، منفعلًا، خالقًا ومخلوقًا، إلهًا وكونًا …

هذه النظرية المصادمة للبداهة، المتناقضة في نفسها، وفي نتائجها العملية١٣ هي التي تُسمَّى عند الرواقيين «وحدة الوجود»، ولكنها على الرغم من هذه الوحدة الاسمية قد سايرت مذاهب الوثنية وتعدد الآلهة؛ إِذ جعلت في كل عنصر من العناصر ساريًّا هو إِلهه الخاص به، فإِله الحياة يُسمى زوس Zeus، وإِله الأثير آتينيه Athene، وإِله الهواء هيرا Hera … وهلم جرًّا.

(٤) العصر الروماني

في القرن الثاني قبل الميلاد أخضع الرومان الدولة اليونانية سياسيًّا، فأصبحت ولاية تابعة لهم، بعد أن كانوا هم تبعًا لها.

وإِن تعجب لشيء فاعجب كيف أن هذا الاختلاط بين الأمتين قُرونًا متوالية، من قبل ومن بعد، لم يصنع منهما أمةً واحدةً في اللغة والدين والفن والتشريع وسائر مقومات الحياة الجماعية، كما صنع الفتح الإِسلامي في الأقطار التي دخلها؟ … لا، بل ما لنا نطمع في هذه الوحدة المثالية! ألم يكن من المتوقع — على الأقل — أن تفيد الأوساط العلمية والأدبية في روما من هذا التراث العلمي والأدبي المكنوز في العاصمة الإِغريقية؟ غير أن شيئًا من ذلك لم يكن، وكان كل ما حمله الأدباء الرومانيون من أثينا بعد هذا الفتح هو بعض الآراء الرائجة إِذ ذاك في جماهير الشعب، فاقتبسوها اقتباسًا سطحيًّا من غير تعمُّق ولا تمحيص، كما يحاكي النَّاس بعضهم بعضًا فترة من الزمان في الأزياء الجديدة وألوان الطعام والشراب …

آية ذلك أن المذهب السائد في أثينا في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد كان هو المذهب الرواقي، الذي فرغنا من الحديث عنه توًّا، وأن هذا المذهب وحده هو الذي نُقل منها إِلى روما، بل إِنه لم يُنقل بشطريه كليهما، وإِنما كان الذي انتقل منهما هو أَخَفُّهما حملًا على أقلام الكاتبين، وأدناهما إِرضاء لكبرياء الفاتحين، أعني: ذلك القسم العملي الذي كان يتسم بطابع الزهو والغرور، في دعوته إِلى تبديل الطبيعة البشرية، ومحو معاني اللذة والألم من بين عناصرها، أما الشطر النظري فلا ترى له أثرًا في مقالات المؤلفين اللاتين أمثال سينيك Seneque  وإِبيكتيت Epiclete (القرن الأول بعد الميلاد)، ومهما يكن من شيء، فإِن هذا المذهب الرواقي لم يطل أجله، وكان آخر ممثليه في روما هو مارك أوريل Marc Aulele (القرن الثاني الميلادي).
وكما كان الفتح الروماني لبلاد الإِغريق سببًا في اجتلاب بعض آرائهم الشائعة في العصر، كان هذا الفتح للبلاد الآسيوية والإِفريقية سببًا في نقل بعض مذاهبهما الدينية إِلى روما، فاشتهرت فيها أسماء المعبودات: ميترا Mithra، وبعل Baal، وإِيزيس Isis وغيرهن.
وكان وصف هذه الديانات الواغلة، مضافةً إِلى الديانات المحلية، مجالًا لأقلام الكاتبين من الرومان في القرن الأول قبل الميلاد، فكتب سيسيرون Ciceron عن الآراء الفلسفية في طبيعة الألوهية، وكتب فارون Varron عن الشعائر والعبادات الرومانية، لا بأسلوب النقد والموازنة والترجيح، بل بأسلوب التأويل والتوفيق — أو التلفيق — بين الآراء المختلفة. أسلوب ينم عن التردد والحيرة وعدم العناية بالبحث الجدي أكثر مما يعبر عن روح التسامح الديني الذي يُنسب إِلى ذلك العهد، فالتعبيرُ بالتسامح هنا تعبيرٌ غير محرر، واستنباط غير موفَّق من عادة اعتادها بعضهم إِذ ذاك، وهي أنهم كانوا لا يلتزمون شعائر دينٍ معين، بل يشتركون في عبادات متنوعة من دياناتٍ شتى، باعتبارها كلها رموزًا لحقيقة واحدة، فهذا المسلك لا يدل على احترام كل متدين لديانة غيره — وهو معنى التسامح والإِغضاء — بل يدل على الانحلال وعدم الركون إِلى دينٍ ما.

(٥) العصر المسيحي

وفي منتصف القرن الأول بعد الميلاد، دخلت الدعوة المسيحية إِلى أُوربا في صورة دينٍ سماويٍّ جديد يأبى أن ينتظم في سلك مع الأديان الوثنية السابقة، ويحاول أن يظهر عليها ويحل محلها.

وكان ما كان من احتكاك وصراع، وتفاعل وامتزاج بينه وبين تلك الديانات المحلية، ثم بينه وبين المذاهب المستحدثة في عهده مثل الديانة المانوية التي ظهرت في القرن الثالث بعد الميلاد، والفلسفة الأفلاطونية الحديثة (القرن الثالث أيضًا).

وكان ما كان من اضطهادات ومقاومات عميقة شنها أباطرة الرومان على دعاته وأتباعه؛ حتى جاء الإِمبراطور قسطنطين (أول القرن الرابع الميلادي) فدعا في أول الأمر إِلى المهادنة الدينية العامة، ثم أعلن المسيحية دينًا رسميًّا للدولة، على الصورة التي وضعها المجمع المنعقد بأمره في نيقية Nicee سنة ٣٢٥م.
وقد كان ألمعُ اسمٍ في قائمة المدافعين عن المسيحية، المعارضين للنِّحل الجديدة المنافسة لها، هو اسم القديس أوغسطين St. Augustin (من منتصف القرن الرابع إِلى ثلث القرن الخامس الميلادي) وهو أسقف كان قد اعتنق المانوية قبل أن يعتنق المسيحية، وله مؤلفاتٌ أشهرها كتاب «المدينة الإِلهية» Cite de Dieu وكتاب الاعترافات Les Confessions وكتاب اللطف de La Grace وأهمها هو السِّفْر الأول، الذي يُعَدُّ فلسفة دينية ومدنية معًا.

واستمر هذا الطابع الجدلي في العقائد هجومًا ودفاعًا، وهدمًا وبناءً، لا بين المسيحية وغيرها فحسب، بل بين المذاهب المسيحية أنفسها … فلم يكن همُّ الكاتبين تصوير العقائد المختلفة كما هي، بل كان هدف كل كاتب التماس موطن من مواطن الضعف في عقيدة خصمه لإبطالها، وإِبراز ناحية من نواحي القوة في عقيدته لنصرها ونشرها.

(٦) العصر الإِسلامي

ثم ظهر الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، وما هي إِلا أن تمكنت دعوته في سنة ٦٢٢م من استنشاق نسيم الحرية خارج مكة، حتى انتشرت بسرعة البرق شمالًا وجنوبًا، وشرقًا وغربًا، ولم يمضِ قرنٌ واحد حتى سَرَتْ في أقطار أُوروبا الغربية «إسبانيا وإِيطاليا وفرنسا» حاملة معها علوم الإِسلام وآدابه وتشريعاته، مضافة إِلى علوم اليونان وفلسفتهم، ومضافًا إِليها ما اكتشفه العرب والمسلمون في رحلاتهم من علوم الشرق وآدابه، وما أفادوه هم من تجارب جديدة.

ولم يكن بدعًا من الأمر أن يكون الغرب عالةً على العرب في علوم الشرق، وإِنما البديع والعجب العُجاب أن يكون عالةً عليهم في علوم أوروبا نفسها، وأن يبقى كذلك حقبةً مديدة من التاريخ … فقد مضى الفتح الروماني — كما رأينا — دون أن يفيد من الأدب اليوناني إِلا ما كان رائجًا في السوق يومئذ من آراءٍ سطحية، ومذاهب زائفة؛ ومضى العصر المسيحي في شُغلٍ بالجدل الديني الداخلي والخارجي، عن التنقيب في علوم اليونان وتاريخهم وطرائق تفكيرهم المختلفة، وهكذا بقي غرب أوروبا طيلة هذه المدة في شبه عزلةٍ أدبية عن شرقها الذي له به أوثقُ الصلات المادية، فلم يفتح الغربيون أَعْيُنَهم على تلك الكنوز العقلية إِلا وهي في أيدي العرب المسلمين الذين جاءوهم من وراء البحار في أوائل القرن الثامن، فاتحين فتوح علم وسلم، وعدالة وسماحة، لا فتوح عُلُوٍّ وعتو، وإِشباع للغرائز الجامحة، واستنزاف للدماء والثروات.

هناك هرع النَّاس إِليهم من كل صَوْبٍ ينهلون من معارفهم، وكان اليهود أولَ الناس انتفاعًا بهذه التلمذة، فأخذوا ينقلون هذه العلوم من العربية إِلى العبرية، ثم إِلى اللاتينية … ولو أن روما كانت قد ورثت أثينا وراثةً علمية لاستنسخت علومها من أول يوم، ولقرأها النَّاس يومئذ باللاتينية أو بالإِغريقية مباشرة، بدل أن ينتظروا حتى يأخذوها هكذا وهي في المرحلة الرابعة من الترجمة.

ولكن الأمانة التي عجزتْ عن أدائها الحضارتان اليونانية والرومانية في جميع عصورهما نهضت بها حضارةُ الإِسلام في لغته العربية، واستقلَّتْ بحملها قرونًا متوالية، من القرن الثامن إِلى القرن الثالث عشر أو يزيد، فليس في علماء أُوروبا الآن من ينكر أن فلسفة أرسطو وعلومه لم يسمع بها الغرب إِلا على لسان ابن رشد Avorroes الفيلسوف الإِسلامي (القرن الثاني عشر) ولسان أتباعه أمثال موسى بن ميمون Maimonide الفيلسوف الإِسرائيلي (القرن الثاني عشر أيضًا)، وليس هناك من ينكر ما كان لهذا التعليم من أثر في فلسفة أوروبا عن طريق القديس توماس St. Tomas d’Acquin (القرن الثالث عشر الميلادي).
أما ما أفاده الغربيون من معارف العرب أنفسهم في الأدب والشعر والتشريع، والطب والفلك والتاريخ والطبيعة والكيمياء والجبر والتقويم والترقيم، ومختلف الفنون والصناعات، فهو أوسع من أن نلم ببعضه في هذا التمهيد، ولقد كتب فيه علماء أوروبا أسفارًا جمة ما بين وَسِيع ووَجِيز.١٤ والذي يعنينا هنا إِنما هو أثر العرب والمسلمين في علم الأديان، الذي نحن بصدده.

وإِنه لأثرٌ جليل يمتازُ بطابعين جديدين لم يسبق إِليهما أحدٌ فيما نعلم:

أما أحدهما فهو أن الحديث عن الأديان بعد أن كان في العصور السابقة إِما مغمورًا في لُجة الأحاديث عن شئون الحياة، وإِما مدفوعًا في تيار البحوث النفسية أو الجدلية، أو على الأقل محدودًا بحدود العقائد الموضوعية وما يشارفها، أصبح من كتب العرب دراسةً وصفية واقعية، منعزلةً عن سائر العلوم والفنون، شاملة لكافة الأديان المعروفة في عهدهم، فكان لهم بذلك فضل السبق في تدوينها علمًا مستقلًّا، قبل أن تعرفه أوروبا الحديثة بعشرة قرون.

أما الآخر — وهو ليس أقل نفاسة من سابقه — فهو أنهم في وصفهم للأديان المختلفة لم يعتمدوا على الأخيلة والظنون، ولا على الأخبار المحتملة للصدق والكذب، ولا على الفوائد والخزعبلات الشائعة في الطبقات الجاهلة، والتي قد تنحرف قليلًا أو كثيرًا عن حقيقة أديانها، ولكنهم كانوا يستمدون أوصافهم لكل ديانة من مصادرها الموثوق بها، ويستقونها من منابعها الأُولى، وهكذا بعد أن اختطوه علمًا مستقلًّا اتخذوا له منهجًا علميًّا سليمًا.

ونحن ذاكرون هنا بعض أسماء المؤلفات العربية المشهورة في هذه المادة على ترتيبها التاريخي:
  • كتاب «جمل المقالات»١٥ لأبي الحسن الأشعري، المتوفى سنة ٣٣٠ﻫ (القرن العاشر الميلادي).
  • كتاب «المقالات في أصول الديانات» للمسعودي، المتوفَّى في سنة ٣٤٦ﻫ (العاشر أيضًا).

  • كتاب «الفصل في المِلل والنِّحل» لابن حزم الظاهري، المتوفى في سنة ٣٤٦ﻫ (العاشر أيضًا).

  • كتاب «المِلل والنِّحل» للشهرستاني، المتوفَّى في سنة ٥٤٨ﻫ (الثاني عشر).

  • كتاب «اعتقادات المسلمين والمشركين» للفخر الرازي، المتوفى في سنة ٦٠٦ﻫ (الثالث عشر).

أَفَتَرى من الإِنصاف بعد هذا أن يقال عن الإِسلام: إِنه لم يصنع شيئًا في تاريخ الأديان المقارن؟١٦

(٧) نهضة أوروبا الحديثة

بدأت أوروبا الغربية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر تستيقظ رويدًا رويدًا، وتتلفت بأنظارها إِلى الشرق الذي كان مبعث نورها، فجعلت تبعث إِليه البعوث من رجال الدين، الفرنسيسكان والدومينيكان، حتى بلغوا في رحلاتهم بلاد الهند والصين واطلعوا على دياناتها.

وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر — وهما أول العصر المسمى بعصر «البعث» أو «النهضة» — انبعثت همتها للاطلاع بنفسها على علوم اليونان وآدابهم وفنونهم القديمة باللغة اليونانية، وكانت باكورة نشاطها في هذا الشأن تنقيبها عن الآثار الأُسطورية وتفسير ما ترمز إِليه من عقائد أو حوادث تاريخية.

ولم تلبث أنْ ظهرت حركة الإِصلاح المسيحي «البروتستانتية» في منتصف القرن السادس عشر، فكانت مُكمِّلةً لجانب من هذه النهضة العلمية في أُوربا، بما مهدت له من دراسات في اللغة العبرية١٧ واللغات السامية الأخرى، بُغية التفهم لنصوص التوراة والإِنجيل التي كان رجال الإِصلاح يتمسكون بحرفيتها، ولكنها من جانب آخر أغرقت أوروبا في حمأة المنازعات والحروب الدينية، التي عوقت حركة اكتشاف الأقاليم ونشر المسيحية فيها؛ ولذلك بقي البروتستانت قرنين من الزمان لا يساهمون في هذه البعوث، وكان الكاثوليك — من إسبان وبرتغال وفرنسيين — هم القائمين إِذ ذاك وحدهم بأعبائها.

ثم تتابع الرحالون من الفريقين وازدادت عنايتُهم بالأقطار الجديدة في آسيا، والأوقيانوسية، وأمريكا، ومجاهل إِفريقيا … حتى كان آخر القرن الثامن عشر، وهو الوقت الذي نشطت فيه حركة التأليف في وصف عقائد هؤلاء الأقوام وعوائدهم، فهناك اشرأبت العقول إِلى السؤال عما كانت عليه ديانة الإِنسان الأول، وبذلت محاولات لتحديدها في ضوء المقايسة على ديانات هؤلاء البدائيين، كما بذلت محاولات لاستنباط الطريق الذي سارت فيه الديانات منذ نشأة الإنسان إِلى اليوم، ومعرفة أسلوب تطوُّرها، أو تولُّد بعضها عن بعض.

ومنذ ذلك اليوم أصبح علم الأديان ذا شعبتين اثنتين: شعبة جديدة مبتكرة، وشعبة قديمة نالها شيءٌ من التجديد.

أما الشعبة القديمة المجددة، فهي تلك الدراسات الوصفية، التحليلية الخاصة بمِلة مِلة، وهي التي يمكن أن تُعرِّفَنا نشأة ديانة ما، وحياة مؤسسها، ومقومات عقائدها وعباداتها، وأسباب انتشارها، وألوان تطورها، إِلى غير ذلك من المعاني التي ما فتئت مجالًا لحديث النَّاس منذ اختلفت مذاهبهم، وهذه الشعبة هي المشهورة باسم «تاريخ الأديان» ولو أنصفت التسمية لكانت «تواريخ الأديان».

والتجديد الذي لحقها في العصور الحديثة يتناول مادتها ووسائلها جميعًا، فبعد أن كانت مادة البحث لا تتجاوز في الغالب حوض البحرين الأبيض والأحمر، أعني: مُلتقى القارات الثلاث، اتسعت الآن رقعتها حتى انتظمت القارات الخمس؛ وبعد أن كانت محصورةً أو تكاد في نطاق الأُمم المتمدينة، ذات التاريخ المدون، أو الآثار الخالدة؛ تناولت الشعوب الهمجية والأُمم البائدة، بل تطاولت إِلى التنقيب عما وراء التاريخ المعروف.

نعم، إِن إِفساح الميدان هكذا أمام المؤلفين المحدثين قد بَعُدَ بهم عن المنهج السليم الذي انتهجه مؤلفو العرب؛ ولكنه على كل حال قد فتح أمام الباحثين آفاقًا جديدة لم يتشرف إِليها السابقون؛ ولا سيما في وسائل البحث وأدواته، التي تنوعت حتى شملت علم اللغات المقارن، وعلم طبقات الأرض، وعلم التصوير والتمثيل الرمزيين، بل علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الأجناس البشرية، وسائر ما يَمُتُّ بسبب إِلى ظاهرة الدين.

وليس من شكٍ في أن الأداة الرئيسية في دراسة هذه الشُّعبة يجب أن تكون هي استقراءَ العقائد والعبادات وسائر التعاليم في كل نِحْلة، من واقع الأقوال والأفعال الدالة عليها؛ وأن تكون مهمة العلوم الإِضافية قاصرةً على تقديم نوع من الضمان تُحاط به عملية الاستقراء للتحقق من صحة سيرها، وعدم مصادمتها لمقررات تلك العلوم، وهذا هو هدف النقد العلمي١٨ الذي يقوم على مراجعة التاريخ مثلًا للتثبت من صحة الوثائق والأسانيد، ومراجعة فقه اللغة واصطلاحات الفنون لتحديد مدلولات النصوص، وهكذا …

وأما الشعبة الجديدة المبتكرة، فهي ضربٌ من الدراسات النظرية، والاستنباطات الكلية، التي تهدف إِلى إِشباع نهمة العقل في التطلع إِلى أُصول الأشياء ومبادئها العامة، حين تتشعب عليه جزئياتها وتفصيلاتها.

بيان ذلك — في موضوعنا — أن الذي يستقرئ المِلل على كثرتها، إِذا درسها دراسةً مقارنة، وأخذ يعزل ما فيها من المفارقات ووجوه الاختلاف، سيجد فيها البتة وجوهًا من المشابهة تتلاقى عندها كل الديانات، وسيجد في نفسه إِذ ذاك باعثةً تصعب مقاومتها، تدفعه إِلى استخلاص هذه المبادئ العامة، وجمعها في وحدة كلية يحدد بها طبيعة الدين من حيث هو، كما أنه حين يرى ظاهرة التدين حظًّا مشاعًا في الجماعات، مُشترَكًا بين الأمم الحاضرة والغابرة، البادية والمتحضرة، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه السؤال عن منشأ هذه الظاهرة العالمية ومصدرها: هل لها منبعٌ في طبيعة الفرد أو المجتمع؟ أم كانت وليدة المصادفة، أو ثمرة الصنعة والابتكار؟ أم ماذا؟ وهل كان في اختلاف صورها ومظاهرها في غضون التاريخ ما ينم على وجود ضربٍ من التسلسل والتولُّد بين بعضها وبعض، أو ما يدلُّ على الأقل على شيءٍ من التدرج التصاعدي أو التنازلي بينها؟ أم أنها لم تسر على سنن واحدة، بل كانت تصعد تارة، وتنحدر تارة، وتقف طورًا، وترجع عَودًا على بدء كرةً أخرى …؟

هذه الأسئلة وأشباهها يصطدم بها دارس الأديان المختلفة في خاتمة مطافه فيضعها في صيغة نيرة محدودة؛ ولكنها تتجمجم غامضةً مبهمة في صدر كل شغوف بالمعرفة ولو لم يكن ذا إطلاع على غير دينه الخاص، وقد خاض فيها علماء أُوروبا وأُدباؤها في العصور الحديثة، وعرض كُلٌّ منهم وجهة نظره في حلها، ولكنهم تناولوها أشتاتًا في مناسبات متفرقة، ومنهم من أدخل مسألةً أخرى في طي بحوثه الأدبية، أو نظرياته الفلسفية العامة، ومنهم من وضع مسألةً ثالثة في مقدمة دراسته لدين معين، ومنهم مَنْ أَلَمَّ بهذه أو تلك في مدخل تأليفه عن تاريخ الأديان العام، ومنهم من ساقها نكتة عابرة، ومنهم من أطنب في الشكل والمظهر، وكان أقل عناية بالصميم والجوهر …

وأنت، ألست ترى معنا قبل كل شيء أن هذه المسائل ألصق بالدراسات الدينية منها بشيء آخر من الفنون والآداب؟ أَوَلست ترى بعد ذلك أن ما فيها من تجانُس الموضوع يجعلها جديرةً بأن تُجمع في سِفْر، وأن يتألف منها شعبةٌ مستقلة غايتُها دراسة الظاهرة الدينية في جملتها، دراسة تبسط وجوه النظر المختلفة في كل بحث، وتعرض وجه الفصل فيه بميزان العدل الذي لا يُحابي ولا يُماري؟ ثم ألست ترى أن هذا النوع من الدرس لتاريخ الديانة بإِطلاق أحقُّ بالصدارة والسبق على الدراسات المشهورة لتواريخ الأديان مفصلة، وأنه يستأهل بطبيعته التعليمية أن يكون مقدمة لتلك الدراسات؟ إِذ إن مهمته هي تقريرُ المبادئ العامة، ووضع الأسس الكلية، التي لا بد من إِرسائها قبل الشروع في تحديد ماهية كل دين على حدة.

من أجل ذلك كله وجهنا أول عنايتنا لمعالجة هذه الجانب من البحوث، ورأينا حقًّا علينا أن نسجل ها هنا خلاصة ما سبقت معالجته منها.

١  تدل بعض أوراق البردي المحفوظة الآن في برلين وفي ليدن على أن المصريين منذ القدم كانوا يعرفون الإِله الأحد، الغيبي، الأزلي، الذي لا تصوره الرسوم، ولا تحصره الحدود (راجع موسوعة التاريخ العام للديانات Histoire Generale des Religions المجموعة من المؤلفين الفرنسيين ج١ ص٢٥١-٢٥٢)، غير أن تلك العقيدة الروحية كانت مشوبة عند العامة بفكرة أن هذا الإِله يتمثل أو يتجسد أو يحل سره في بعض الكائنات الممتازة: من إِنسان أو حيوان أو جماد، فكانوا يعتقدون أن قوة التدبير في الملوك، وقوة الإِخصاب النباتي في النيل، وقوة الإِخصاب الحيواني في عجل أبيس، مستمدة من السماء — بتلقيح شعاع الشمس مثلًا — وأن هذه الكائنات الخاصة أهلٌ للتقديس والعبادة بفضل تلك الصلة السرية بالإِله الأعلى.
٢  انظر إِميل بربيه Emile Brehier في «تاريخ الفلسفة» Histoire de la Philosophie، ص٣–٥. واقرأ أيضًا ماسون أورسيل Masson Oursel في كتاب «الفلسفة في الشرق» La Philosophie en Orient، ص٧ من الطبعة الفرنسية، وقد ترجمه إِلى العربية الدكتور محمد يوسف موسى.
٣  راجع بينار دي لا بولي Ptnard de la Boullaye في دراسته المقارنة للديانات Elude Compalee des Regions، جزء ١، ص٨، ١١ وص١٤ بالهامش رقم ٦.
٤  يختلف المؤرخون في تحديد مولد «هوميروس» على أقوال، أدناها أول القرن التاسع قبل الميلاد، وأبعدها أول القرن الحادي عشر، كما يختلف الناقدون في نسبة الديوانين كليهما إِليه.
٥  أما الحديث المسترسل عن المعبودات اليونانية فإِنما ظهر بعد ذلك، ولعل أول ظهوره كان في القرن الثامن قبل الميلاد في قصيدة «أنساب الآلهة» La Theogonie التي يضيفونها إلى هيزيود Hesiode أو إِلى أحد تلاميذه.
٦  يعترف أرسطو بأن لهما سلفًا في ذلك، وهو أناجزاجور Anaxagore (الخامس ق.م).
٧  يقول أفلاطون في الجزء العاشر من كتاب القوانين Platon Les Lois, L.X: إِن الروح هي أول موجود، وهي المبدأ الأصيل Le Point Depart، وهي سبب الكائنات بلا استثناء، وسبب كل حركة وتغيير فيما كان وما هو كائن وما سيكون، وإِنها هي التي تدبر السماء والأرض، وإِليها مَرَدُّ كل تركيب وتحليل، ونمو ونقص، وخير وشر وحسن وقبح، وعدل وظلم، وكل الأضداد والمتقابلات (الفقرة ٨٩٦ من الجزء المذكور) وأنها منشأ كل شيء a l’origine de la generation de toutes choses (الفقرة ٨٩٩)، ويتساءل: أي نوع ترى من الأرواح هذه الروح الأزلية؟ أهي الروح الموصوفة بالحكمة والفضيلة، أم روح ليست لها هذه الصفات؟ ثم يجيب بأن كل ما في الكون من نظام وتدبير على أدق حساب يدل على أنها الروح التي لها المثل الأعلى في الكمال (الفقرة ٨٩٧). ويقول أرسطو في الفصل السادس من الجزء الثاني عشر من كتاب «ما وراء الطبيعة» Aristote Metaphysiquel, XII, ch.6. إِنه يوجد حتمًا ذات أزلية قادرة على إِحداث التغييرات، وإِن هذه الذات يجب أن تكون غير مادية، وأن تكون موجودةً بالفعل لا بمجرد القوة والإِمكان، وإِلا لَمَا حدث شيء في الوجود. إِنه لا شيء يتحرك مصادفة، بل لا بد من وجود سبب معين لحركته … إِن الخشبة الغفل التي لم تدخلها صنعة، لا تتحرك بنفسها، ولكن بصنعة النجار … (الفقرة ١٠٧٤ب).
٨  أرسطو في الفصل الثامن من الجزء الثاني عشر من كتاب ما وراء الطبيعة Aristote Metaph, L. XII, ch8.. ويقابل هذا مذهب السوفسطائية الذين زعموا أن الأصل هو: اللادين واللاقانون، وأن الأديان والقوانين ما هي إِلا اختراعاتٌ وحِيَل سياسية لإِخضاع الجمهور.
٩  أرسطو في كتاب الأخلاق Ethique.
١٠  فقد كانوا يقولون إِنه لا قطع بوجود هذه الحقائق، ولكن يُظن ذلك ظنًّا راجحًا Probable.
١١  يقول مؤرخو المذاهب الفلسفية إِن يبرون لم يكن ليتشكك في الحسيات والوجدانيات من حيث هي ظواهر متغيرة وأعراض سيالة تفنى بمجرد ظهورها، ولم يكن ليشك في أنه شاك؛ لأنه لم يعد سوفسطائيًا ماكبرًا (هكذا يقول فرنك Franck في معجمه الفلسفي) … وكل ما في الأمر أنه كان يتوقف عن إِثبات جوهر مستقل يحمل هذه الأعراض، وحقيقة ثابتة تتبدل عليها هذه الأوضاع. نعم أنه كان يوافق بعض السوفسطائية في «نسبية المعرفة الحسية» بمعنى أن هذه المعرفة تختلف باختلاف حال الشخص المُدرِك، واختلاف وضع الشيء المُدرَك، واختلاف آلة الإِدراك … إِلخ، وأن كل امرئ إِنما يقضي بحسب إِدراكه وهو الحق بالنسبة إِليه، وليس الحق بإِطلاق، ولكنه لم يكن يوافقهم على الجزم بعدم وجود تلك الحقيقة المطلَقة من وراء هذه الظواهر المتغيرة، ولا على استحالة العلم بتلك الحقيقة، بل كان يتوقف على الحكم في شأنها إِيجابًا وسلبًا.
١٢  هو غير سلفه زينون الإيلي Zenon d’Elee صاحب النظرية المشهورة عن استحالة الحركة (القرن الخامس ق.م) وغير خلفه زينون الأبيقوري معاصر سيسيرون.
١٣  أما تناقضها في نفسها فلأنها تدعي أن الشيء وضده شيء واحد، وأما تناقضها في نتائجها فلأنها تدعو إلى التحرر من أَسْر الطبيعة في الوقت الذي تُقرر فيه أن الكون وإِله الكون خاضعان لقانون الجبر والاضطرار.
١٤  من الموسوعات كتاب جوستاف لوبون في «حضارة العرب» Gustave Le Bon, La Civilisation des Arabes. ومن المختصرات كتاب ف. جوتييه «أخلاق وعوائد المسلمين»  E. F. Gautier, Moeurs et Coutumcs des Musulmans, Livre, IV.
١٥  هذا الكتاب جمع فيه مؤلفه جملة الفوائد التي كان أودعها في كتابين سابقين له: أحدهما باسم «مقالات الإِسلاميين»، والآخر بعنوان «مقالات غير الإِسلاميين».
١٦  الأب شميدت في كتاب «نشأة الديانة وتطورها».
Schmidt, Origine et Evolution de la Religion, p. 34.
١٧  يذكرون أن هذه العناية البالغة باللغة العبرية كان مبعثها الاعتقاد بأن هذه اللغة هي لغة الإِنسان في أول نشأته — اعتقاد اشترك فيه الكُتَّاب البروتستانت والكاثوليك على السواء.
١٨  وهو غير النقد الأدبي للعقائد والشعائر بتقدير قيمها، وتمييز سليمها من سقيمها … فتلك مرحلة أُخرى خارجةٌ عن كلتا الشعبتين، يمكن أن تسمى بالموازنة الأدبية بين الأديان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤