الفصل الثالث

تحليل الفكرة الدينية في نظر المتدين من الوجهتين الموضوعية والنفسية

(١) مقدمة

ولقد رأينا كيف وصل الأمر ببعض الباحثين في تحديد موضوع الدين إِلى تصويره بأرقى صورة عرفتْها الفلسفة، وأبعد صورة عن الخطور ببال العامة من المتدينين، أعني تلك الفكرة التي عبر عنها روبرت سبنسر بقوله: «إِن العنصر الأصيل في الدين هو الإِيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية والمكانية.» فهذه اللانهائية — إِن صح أنها عقيدة كبار الفلاسفة والعلماء — لا تنطبق بحال على عقيدة المشبهين ولا المجسمين ولا القائلين بأن ربهم في السماء، ونحن هنا لا نطلب تحديد الدين الصحيح فحسب، بل الدين من حيث هو، في مختلف صوره ومظاهره.

ثم رأينا كيف أن «ماكس ميلر» كان أشد تضييقًا لهذه الدائرة، حين قال: «إِن الدين هو محاولة تصور ما لا يمكن تصوره.» فهذه العبارة لا تنطبق في حرفيتها إِلا على نوع من الأديان يفصل بين العقيدة والعقل فصلًا تامًّا، ويفرض على معتنقيه أن يؤمنوا بما لا تقبله عقولهم، ولا تتصوره١ أذهانهم.

هذا الغلو في طرف التضييق لدائرة المحدود، يقابله — كما رأينا — غلوٌ في الطرف الآخر، يمثله فريق من علماء الاجتماع وعلماء الآثار «أمثال إِيميل دوركايم، وسالمون ريناك»، فهؤلاء لا يكتفون بحذف فكرة «الإِله، الخالق، اللانهائي، الذي لا يحيط به التصور» من التعريف الجامع للأديان، بل يذهبون إِلى وجوب إِبعاد أصل فكرة الألوهية بكل معانيها من هذا التعريف؛ محتجين بأن في الشرق أديانًا، مثل البوذية، والجاينية، والكونفوشيوسية، تقوم على أساس أخلاقيٍّ بحت، خالٍ من تأليه كائن ما، وأن الذين يؤلهون «بوذا» و«جينا» إِنما هم مبتدعون، خارجون عن أصول دينهم الحقيقي القديم.

فلننظر في قيمة هذا النقل، ومغزى هذه الحجة!

هل يعني هؤلاء الباحثون أن الأديان الصينية المذكورة مجردةٌ من كل فكرة نظرية اعتقادية؟

إِن الحقيقة التي أجمع عليها مؤرخو الأديان هي أنه ليست هناك جماعةٌ إِنسانية، بل أمةٌ كبيرة، ظهرت وعاشت ثم مضت دون أن تفكر في مبدأ الإِنسان ومصيره، وفي تعليل ظواهر الكون وأحداثه، ودون أن تتخذ لها في هذا المسائل رأيًا معينًا، حقًّا أو باطلًا، يقينًا أو ظنًّا، تصور به القوة التي تخضع لها هذه الظواهر في نشأتها، والمآل الذي تصير إِليه الكائنات بعد تحوُّلها، وهذه الأديان الثلاثة المشار إِليها لم تشذ عن هذه القاعدة قط؛ فهي من جهة مصدر الحوادث، لا تنكر وجود الآلهة الهندية المسماة «أندرا» و«أجنى» و«ثارونا» … إِلخ، ومن جهة مصير الإِنسان، لم تنس تلك النظرية الهندية القديمة في الحياة وآلامها، وفي أن التعلق بملاذها ومتعها هو السبب في عودة الحياة إِلى الجسم في صورة ما بعد الموت، فلا ينتقل الإِنسان بذلك من ألمٍ إِلى ألم، وأنه لا سبيل إِلى الراحة التامة إِلا بالزهد التام في الحياة، ليموت الإِنسان بلا رجعة، فلا يعود إِلى آلام الحياة كرةً أخرى.

نعم، قد يشكل علينا أن مؤرخي البوذية يقولون: إِن الآلهة الهندية، التي سرى الاعتقاد بها إِلى البوذية القديمة، لم يكن لها في نظر البوذيين سلطان إِلا على العالم المادي، الذي يريد البوذي أن يتخلص منه، فهو لذلك لا يعبدها ولا يرجو خيرها، بل يريد أن يهرب من سلطانها بالموت الأبدي، ثم هو لا يعتمد عليها في شئونه الأدبية، بل يعتمد على مجهوده العقلي والخلقي فحسب، ووجه الإِشكال أننا سواءً أقلنا إِن البوذية القديمة لا تعرف آلهةً البتة، أم قلنا إِنها تعترف بآلهة لا تُعبد، فالنتيجة واحدة: وهي أن تكون هناك ديانات خالية من فكرة العبادة، وذلك إِما لخلوها من كل عنصر نظري اعتقادي في مصدر الكائنات، وإِما لأنها مركبةٌ تركيب ضم لا امتزاج فيه، من عنصرين متدابرين لا يلوي بعضهما على بعض، بحيث يكون شطرها النظري مُثبِتًا لقوى عظيمة ذات سلطانٍ على الوجود ولكنها لا شأن لها بأعمالنا، وشطرها العملي مبينًا لطريق السلوك الذي يُخلص النفس من آلام الحياة، من غير توجه إِلى تلك القوى.

لكن المسألة إِنما هي في صحة تسمية أمثال هذه المذاهب أديانًا.

ونحن لا نرى مانعًا من أن يُصطلح مصطلحٌ على هذه التسمية، ولكنه يكون اصطلاحًا نابيًا عن معهود النَّاس، مجافيًا لذوق اللغات، ولا سيما لغتنا العربية التي لا تفهم من اسم الدين إِلا اعتقادًا بشيءٍ يدين له المرء؛ أي يخضع له ويتوجه إِليه بالرغبة والرهبة والتقديس، بل إِننا لا نبالغ إِذا قلنا: إِن كل مذهبٍ يخلو من هذه الدينونة هو أحق باسم «الفلسفة الجافة» منه باسم آخر، وأكبر الظن عندنا أن الديانات المذكورة — البوذية والكونفوشيوسية ونحوهما — ما استحقت أن تُدرج في جدول الأديان إِلا منذ دخلتْها فكرة التأليه، أو على اعتبار أنها كانت كذلك أبدا.

وبالجملة: فنحن لا نوافق على حذف مبدأ الألوهية من تعريف الأديان، بل نذهب إِلى القول مع الفيلسوف الألماني «إِرنست شلاير ماخر» بأن قوام حقيقة الدين هو ذلك الشعور بالحاجة والتبعية المطلقة لقوة ماهرة، فلا ريب أن هذا الشعور ركنٌ أصيل لا بد منه في تحقيق ماهية الدين من حيث هو.

ولكنه مع ذلك لا يحتوي كل العناصر التي يتألف منها هذا المفهوم؛ إِذ لو كان كل شعورٍ بالخضوع الكلي والتبعية المطلقة لقوة قاهرة أيًّا كانت — وأيًّا كان لون الخضوع لها — يسمى دينًا، لكان أحق الضرورات بهذا الاسم حاجتنا إِلى التنفس والغذاء، واستسلامنا التام لقوانين النقل والجاذبية وسائر العوامل الكونية، ولا قائل بذلك.

يجب إِذن أن نتابع البحث، لمعرفة الفوارق والمميزات التي تجعلنا نُسمِّي نوعًا من الخضوع دينًا، ولا نُسمي نوعًا آخر منه بهذا الاسم.

وإِن التحليل الدقيق لنفسية المتدين يكشف لنا نوعين من هذه الفوارق والمميزات:
  • أحدهما: في صفات الشيء الذي يقدسه المتدين ويخضع له.
  • والثاني: في طبيعة هذا الخضوع.

فهَلُمَّ بنا ندرس هذين النوعين:

(٢) أولًا: العناصر الموضوعية

أول ما يواجهنا من الفروق بين الخضوع الديني والخضوع اللاديني يتمثل في مجموعة الصفات التي يحدد بها المتدين موضوع خضوعه ومناط تقديسه الديني، ويميزه بها عن سائر الأشياء التي يعظمها ويخضع لسلطانها.

كلنا نقدس معنى الشرف، والعرض، والحرية، والكرامة، وما إِلى ذلك من المعاني الإِنسانية النبيلة؛ وكلنا نشعر بالخضوع والطاعة القهرية لقوانين الكون وسننه الثابتة التي لا نستطيع أن ننقضها أو نبدلها لكن الشيء الذي يقدسه المتدين ليس من جنس تلك المعاني العقلية المجردة، وليس من قُبيل هذه التصورات الشائعة المبهمة؛ ذلك أن المتدين يهدف بتقديسه إِلى حقيقةٍ خارجة عن نطاق الأذهان، وإِن كانتْ تعبر عنها الأذهان فإِنها في هذا التعبير تُشير إِلى ذاتٍ مستقلة، قائمة بنفسها ليست مجرد عرض من الأعراض أو لقب من الألقاب، هكذا ينفصل منذ البداية موضوعُ العقيدة الدينية عن هذا الضرب من المعاني المقدسة، من حيث إِن الصلة بين المقدس عند المتدينين هي قبل كل شيء صلةٌ بين ذات وذات، لا بين ذات وفكرة مجردة أو تجريدية كما في الأمثلة التي أسلفناها.

(٢-١) الإِله ذات، لا فكرة تجريدية

ثم إِن هذا التقديس الديني ليس تقديسًا لذاتٍ أيًّا كانت، وإِنما هو تقديسٌ لذاتٍ لها صفاتٌ خاصة؛ وأهم مميزاتها أنها ليست مما يقع عليه حس المتدين، ولا مما يدخل في دائرة مشاهداته، وإِنما هي شيءٌ غيبي لا يدركه إِلا بعقله ووجدانه، فالفاصل الثاني الذي تتميز به العقيدة الدينية بمختلف أنواعها هو أن لها خاصة الإِيمان بالغيب؛ أي بما وراء الطبيعة.

(٢-٢) الإِله ليس مادة وذو تصرف اختياري

ثم إِن هذا الغيب الذي تؤمن الأديان بوجوده من وراء الطبيعة ليس من جنس هذه الطبيعة المادية المنفعلة، بل هو شيءٌ ذو قوة فعالة مؤثرة، وله أسلوب في تصرفاته مباين للطرائق التي تؤثر بها المادة فيما حولها؛ إِذ إن هذه المواد يصدر عنها أثرها دون شعور منها ولا اختيار لها في صدوره، أما القوة التي يخضع لها المتدين فإِنه يفهمها على أنها قوةٌ عاقلة تقصد ما تفعل، وتتصرف بمحض إِرادتها ومشيئتها.

(٢-٣) الإِله يهيمن على شئون النَّاس

وأخيرًا فإِن هذه القوة العاقلة المدبرة في نظر المتدينين ليست قوةً منطويةً على نفسها، منعزلة عنه وعن العالم، بل يرى أن لها اتصالًا معنويًّا به وبالنَّاس. تسمع نجواهم، وتصغي لشكواهم، وتُعنى بآلامهم وآمالهم، وتستطيع — إِن شاءت — أن تكشف عنهم ما يدعونها إِليه.

من جملة هذه المعاني يتحدد على وجه الإِجمال المعنى الذي يتعلق به الاعتقاد والتقديس في جميع الديانات، ولتلخيص هذه الاعتبارات في لقبٍ واحد نقول: إِن التقديس الديني «تأليه» وعبادة، وإِن موضوعه «إِلهٌ معبود».

ولعلك قد يُشْكِلُ عليك من مقالتنا هذه أننا جعلنا مناط الاعتقاد والتأليه في جميع الأديان ذاتًا غيبية لا تراها العيون، كأن لم يكن من الأقوام من عَبَدَ الأحجار والأشجار والأنهار، والطير والحيوان والإِنسان.

(٢-٤) الوثنيات لا تعبد المادة في الحقيقة

فاعلم أن كلمات الباحثين في نفسيات المتدينين وعقلياتهم قد تطابقت على أنه ليس هناك دينٌ — أيًّا كانت منزلته من الضلال والخرافة — وقف عند ظاهر الحس، واتخذ المادة المشاهدة معبودة لذاتها، وأنه ليس أحدٌ من عُبَّاد الأصنام والأوثان كان هدف عبادته في الحقيقة هياكلها الملموسة، ولا رأى في مادتها من العظمة الذاتية ما يستوجب لها منه هذا التبجيل والتكريم.

وكل أمرهم هو أنهم كانوا يزعمون هذه الأشياء مهبطًا لقوة غيبية، أو رمزًا لسرٍّ غامض، يستوجب منهم هذا التقديس البليغ، فهي في نظرهم أشبه شيءٍ بالتمائم والتعويذات التي يُتفاءل أو يُتَبَرَّك بها، أو يُستَدْفع بها شيءٌ من الحسد أو السحر، لا على أن لها خاصية ثابتة كامنة فيها كُمون النار في الرماد، أو أن لها قوة طبيعية كقوة المغناطيس، بل على أن وراءها أو حولها روحًا٢ عاقلًا، مُدبِرًا، مستقل الإِرادة يستطيع أن يُغير بمشيئته سير الأُمور ومجرى العادات، فيعطي ويمنع، ويضر وينفع، من حيث لا ينتظر النَّاس ذلك في العادة، وأن تلك المواد المشاهدة ما هي في اعتقادهم إِلا مظهرٌ ومطلع يطل منه هذا الروح الخفيُّ، ويبارك من يتمسح بتلك الهياكل التي اتخذها له مظهرًا ومزارًا.

يلزمنا إِذن أن نضم عنصرًا رباعيًّا إِلى التعريف: فنقول إِن القوة التي يقدسها المتدين ليست فكرةً مجردة، وصورةً عقلية خالصة، بل هي حقيقةٌ خارجية، ونقول: إِن هذه الحقيقة ليست مادة يقع عليها الحس، بل هي سرٌّ غيبيٌّ لا تدركه الأبصار؛ ونقول: إِن هذه القوة الغيبية قوةٌ عاقلةٌ تتصرف بالإِرادة، لا بالضرورة كالمغناطيس والكهرباء، ونقول أخيرًا: إن لهذه القوة عنايةً مستمرة بشئون العالم الذي تدبره، وإن لها تجاوبًا نفسيًّا مع نفوسه.

وهكذا نقرر مع العلامة «تايلور» أن الدين يتضمن دائمًا «الإيمان بكائنات روحية»، لكن على شريطة أن نأخذ كلمة الروح هنا بأوسع معانيها فلا نحدد طبيعتها، ولا مدى سلطانها، ولا طريقة تصرفها، بل ندعها تتسع للتصورات المختلفة في ماهية تلك القوة؛ ونكتفي بأن نقول على الجملة: إِنها قوةٌ خفية، شاعرة، مدبرة، وإِن أفعالها تصدر عنها بمحض إِرادتها، وإِنها تستمع لمن يدعوها ولها مُطلق الحرية في قبول مطالبه أو رفضها.

(٢-٥) تمييز النظرة الدينية عن النظرتين النفسية والطبيعية

هذا العنصر الرباعي: عنصر الذات، الغيبية، الروحية، المتصلة معنويًّا بعابديها هو الحدُّ الموضوعيُّ الرئيس الذي يفصل بين وجهتي النظر الدينية واللادينية.

فبينما النظرة المنطقية أو النفسية تنحصر في حظيرة العقل أو النفس، باحثةً عما فيهما من المعاني والأحوال، ولا يعنيها دراسة ما خلف هذه الحدود، والنظرة الطبيعية تبرز إِلى الوجود الخارجي، ولكنها لا تعالج إِلا ما يقع عليه الحس والمشاهدة بالفعل، أو ما هو من نوع٣ هذه المحسات المشاهدات، ولا تنفك عن هذه القيود، تنفذ النظرة الدينية فترمي من وراء ذلك كله إِلى حقيقة أخرى لا تُلمس في داخل النفس ولا في خارجها المادي، وإِنما هي ذاتٌ غيبية وراء الطبيعة، بل فوق الطبيعة … فشأن المتدين أنه يطلب وراء كل حسٍ معنًى، ويلتمس تحت كل ظاهر باطنًا، ويضع في مبدأ كل فعل فاعلًا، مُعتقِدًا أنه لا يقع في الكون شيءٌ، من دقيق الحوادث وجليلها إِلا وللإِله — أو لبعض الآلهة — فيه قضاءٌ وتدبير.

نعم، إِن الفلسفة الروحية تُشارك النظرة الدينية في هذا الإِيمان بما وراء الطبيعة من قوة أو قوًى فاعلة عاقلة، ولكنها تفارقها بأنها منقطعةُ الصلة الأدبية بهذه القوة: فليس بين الفيلسوف وبينها ارتباطٌ بحقوق أو واجبات، وليس بينهما مناجاة تتبادل فيها المطالب والرغبات، أما المتدين فإِنه يؤمن بهذه الصلة إِلى حد أنه يجعلها جزءًا حيويًّا من كيانه النفسي؛ ولذلك نراه كلما حزبتْه حاجاته، وتعسرت عليه رغباته تطلع إِلى روحٍ أشد قوة، يلتمس منها تلك الحاجات والرغبات.

(٢-٦) الفرق بين التدين وبين السحر بأنواعه

على أنه ليس كل إِيمان بقوة غيبية روحية، ولا كل توجه إِلى تلك القوة، يُدخل صاحبه في جماعة المتدينين، فإِن موقف العالِم الروحاني في مناجاته للأرواح، ليس أحق باسم التدين من موقف أخيه العالِم الطبيعي لدى الأشباح، وإِن كان قد يشتبه الأمر بينه وبين موقف المتدين في عبادته، من حيث يتصل كل منهما بقوة خفية يستلهمها ويلتمس عونها، إِلا أنه على الرغم من الاشتراك في جنس هذه الصلة، تختلف الحقيقتان اختلافًا كبيرًا، حتى إِن طرفي النسبة في الأوضاع غير الدينية قد يبدوان منعكسين تمام الانعكاس بالنسبة لهما في الأوضاع الدينية، وذلك أن القوى السرية التي يدعوها الساحر٤ أو الكاهن أو مناجي الأرواح لا تقع صورتها في أخيلتهم على أنها شيءٌ يعلوهم فيتطاولون إِليه، بل على أنها قرن ينازلونه، أو قرينٌ يخادنونه، وقد يرون لأنفسهم من العُلُوِّ والسلطان على تلك القوى بوسائلهم الخاصة ما يستطيعون به أن يقتنصوها ويُخضعوها لأوامرهم، ويُسخروها لرغباتهم، كما يُسخر الكيميائي عناصر الطبيعة المادية لمآربه، أما العابد فإِنه يقف من معبوده موقفَ الخاضعِ المتواضعِ الساعي في رضى سيده، المشفق من غضبه وسخطه.

(٢-٧) تصوير الأهداف الثلاثة

فالفاصل الأخير، الذي يتم به تصوير القوة التي يؤمن بها المتدين، أنها قوة علوية سبحانية، قاهرة غير مقهورة، يخضع هو لها، ولا تخضع له.

إِن شئنا أنْ نضرب مثالًا حسيًّا لهذه الأهداف المختلفة، قلنا: إِن قِبلة العالم المادي تحت أقدامه؛ لأن القوى التي هو منها بسبيل قوًى عمياء صماء، يحس بها ولا تحس به، وإِذا دعاها لا تستجيب له، وقِبلة العالم الروحي هي من وجهٍ ما في مستوى أُفُقه؛ لأنها وإِن كانت أَقْدَرَ منه على التصرُّف، إِلا أنها قوًى حيةٌ عاقلة مثلُه، ولكنها من وجهٍ آخرَ هي دونه؛ لأنها تحت يده، متصرفةٌ بأمره، منقادةٌ إِلى تعاويذه وطلاسمه. أما المؤمن فإِنه يهدف إِلى أعلى من ذلك كله؛ لأنه يتجه إِلى القوة العليا بإطلاق، فالكل يُنَكِّسُون أبصارهم إِلى الأرض، والمؤمن يرفع رأسه إِلى السماء.

١  إِذا كان مقصود الفيلسوف من التصور هو أن يرتسم في الذهن صورة خيالية جسمية للإِله، وليس مجرد الفهم والإِدراك العقلي، يكون هذا التعريف كسابقه في أنه ينطبق على الأديان العليا المثالية، ولا يرد عليه اعتراضنا الأخير.
٢  من الأمثلة التي توضح لنا عموم هذه الفكرة — أعني: فكرة الروح والغيب وسريانها حتى في الديانات الوثنية الهمجية — قصة ذلك المعبود البشري الذي يقدسه الزنوج في جبال النوبة، والذي يروي لنا عزام باشا أنه جَالَسَه في إِحدى رحلاته في جنوب كردفان؛ فإِن قومه يزعمون فيه قوةً عجيبة على علم الغيب وفعل الخوارق، فيسألونه أن يدفع عنهم البلاء والمرض، وأن يُشير عليهم بالوقت المناسب للصيد والحرب، ويلتمسون منه أن يأتيهم بالمطر لزرعهم وسائمتهم. وهم من أجل ذلك يقدِّمون له القرابين والهدايا، ويجتمعون في حضرته رجالًا ونساء، فيرقصون ويطربون طلبًا لرضاه، فإِنْ أبى تحقيق مطالبهم في أول الأمر، بالغوا في دعائه واسترضائه … حتى إِذا يئسوا منه سجنوه، بل ربما قتلوه، وأقاموا غيره مقامه ممن له هذه الخصائص الخارقة (انظر الرسالة الخالدة، لعبد الرحمن عزام باشا، ص٦، ٧) فهم إِذًا لا يعبدون فيه هذا الشخص المشاهد الذين يتحكمون هم فيه بالسجن أو التعذيب أو القتل؛ وإِنما يتوجهون فيه إِلى ذلك السر المجهول. ويمضي المؤلف فيقول: إِنه لم يستطع أن يتبين: «أهو في نظرهم إِلهٌ كامل، أم هو كأصنام الجاهلية، يعبدونه زُلفى لمن هو أعظمُ منه في نظرهم؟» أما نحن فنرجح أنهم إِنما يكبرون فيه علم الأسرار والقدرة على قضاء الحاجات إِلى حد محدود؛ كما يعتقد العوام من أهل الأديان في الأولياء والقديسين، ولا يمنع ذلك من اعتقادهم في الإِله الأعظم، كما هو الحال في سائر الديانات الوثنية المعروفة للباحثين، وكما يدل عليه موقف هؤلاء النوبيين أنفسهم من معبودهم، فهم لا يسألونه أن يحول الجبال ذهبًا، أو يجعل البحار لبنًا وعسلًا، أو يُغير سير الأفلاك، ويرزقهم الخلود في الدنيا؛ فضلًا عن أن يظنوا أنه خلق نفسه، أو خلق السماوات والأرض، أو أنه هو يمسك نظامهما؛ وإِنما يلتمسون منه حظوظًا ممكنة قد سبق لهم العهد بوقوع أمثالها، ويريدون بالتقرب إِليه الانتفاع بما عنده من العلم والقدرة الروحية في إِصلاح معاشهم؛ كما يتوسل المريض إِلى الطبيب بأنواع العطاء والإِكرام، ومع ذلك فإِن إصراره على رفضها بعد إِغداق العطاء عليه، وبعد معالجته بألوان الوعيد والتهديد، هو بأن يكون في نظرهم دليلًا على جهله وعجزه، أحرى منه دليلًا على خبثه وبخله، فهذا الفشل والإِخفاق من المعبودين، وهذا اليأس من العابدين، يُلجئ الناس بفطرتهم إِلى الاعتراف بقوةٍ علوية، يتقاصر دونها علم العالمين وقدرة القادرين، وإِن التجئوا أحيانًا إِلى القوى الدنيا، التماسًا للحاجة العاجلة من حيث يظنون الحصول عليها.
٣  إِياك أن تظن إذن أن خضوع علماء المادة لقوة القانون الطبيعي العام يُعَدُّ منهم خضوعًا لسر باطن أو لمعنًى معقول؛ فالواقع أنهم إِذا جاوزوا المشاهَد المحسوس، لم يفكروا إِلا فيما هو من جنس المشاهَد المحسوس، وليس القانون العلمي في نظرهم إِلا تلك العبارة الجامعة التي تلخص جملةً من التجارب المتكررة في حوادث مشاهَدة يرتبط بعضها ببعض على نسق ثابت. فهم دائمًا في استسلامٍ للأمر الواقع الذي لا يفقهون تعليله، ولا يعنيهم معرفةُ سببه الأول، أما النظرة الدينية فإنها — حتى عندما يَشُوبُها الخطأ وتميل إلى الخرافة — تهدف إلى أُفُق أوسعَ وأعمق: فتجعل صاحبها يخضع تعظيمًا لمبدأ الأمر ومُبدئه، ومصرِّفه ومدبره، على أي صورة أمكنه أنْ يتصور ذلك المبدأ المختار.
٤  السحر صناعةٌ يُقصد منها إِحداثُ الخوارق بطرق خفية، وهو فنٌ يتشعب إِلى شُعب كثيرة، فهو كما يختلف من حيث قيمة أهدافه — إِذ منها الخيرة كشفاء المرضى ومعرفة السارق، أو الشريرة كجلب الأمراض وإِيقاع العداوة بين الأزواج والأصحاب — يختلف كذلك من حيث مناهجه ووسائله، فمنه ما يعتمد أسبابًا طبيعية وهو المسمى بالسحر الأبيض Magic blanche، ومنه ما يستدعي وسائل روحانية وشيطانية على الأخص وهو المعروف بالسحر الأسود Magic noire.
وحديثنا هنا إِنما هو عن هذا القسم الذي يقوم على الاستعانة بالأرواح ودعائها لتحقيق مآرب الساحر؛ لأنه هو الذي ينصرف إِليه اسم السحر عند إِطلاقه؛ وهو الذي قد يشتبه جنسه بالأعمال الدينية.
وذلك بخلاف القسم الأول الذي يعتمد الوسائل المادية؛ فإِنه لا التباس في أمره، على الرغم من كثرة أنواعه واختلافها: فمنه نوع يقوم على المهارة وخفة اليد وهو المسمى بالشعيذة أو الشعوذة. ونوع ينتفع بالخصائص الطبيعية والكيميائية للأشياء، وهذا هو سحر علماء الصيدلة ونحوهم. ونوع يعتمد على حساب سير الشمس والقمر ومواقع النجوم، وما يُظن من الارتباط بينها وبين حوادث الكون؛ وهو المسمى بالتنجيم. ونوع ينبني على الاعتقاد بأن الأشياء والناس يوجد فيها — بصورة جلية في البعض وخفية في البعض الآخر — خاصية يسميها الميلاتيزيون Mana ويسميها بعض القبائل Manitout وبعضها بأسماء أخرى، وهي تلك القوة التي يمكن ترجمتها بكلمة المُنة — بضم الميم — أو بكلمة اليُمن — بضم الياء — أو الموهبة، أو الحظ أو البركة، وبالجملة: السر الذي مَنْ ناله فقد وافاه التوفيق في مقاصده من الرزق والنصر والقوة والنفوذ إِلى غير ذلك.
والجهلاء حين يلتمسون هذه القوة في أبرز مظانها يعتمدون — في الغالب — على أول تجربة أو مصادفة يقترن فيها الحظ بوضع معين، أو بالحضور في مجلس شخص معين، أو باقتناء شيء معين من الجماد أو النبات أو الحيوان، فينسبون السر في النجاح إِلى ذلك الشخص أو الشيء. ومَنْ لم تقع له التجربة بنفسه فمن السهل أن يسريَ إِليه الاعتقادُ بحُسن الظن والتصديق لتجارب غيره من معاصريه أو من أسلافه.
ومن البين أن القوة المذكورة مباينةٌ للقوة التي هي موضوع الأديان؛ لأنها ليست قوة مستقلة متشخِّصة، بل منبثَّةٌ في الكون؛ ولأنها ليست قوة عاقلة، بل قوة مادية؛ أي سارية في المواد كامنة فيها، غير مسيطرة ولا مستعلية عليها؛ فليست روحًا، فضلًا عن أن تكون إِلهًا.
ونوع يستخدم التشابه الصوري، أو الجزئي أو غير ذلك من الملابسات، في نقل الأثر — الذي يُحدثه الفاعل في صورة الشخص أو في قطعة منفصلة من شعره أو من ثيابه — إِلى جسم صاحب الصورة أو صاحب الشعر أو المنديل مثلًا، وقد كان القدماء يسمون هذه الخاصية بالتجاذب الشبهي بين الأشياء Sympathie. ولقد ظهرت في أوروبا الآن نظرية طبية أُقيمت على تجارب عدة، استنبطوا منها أن كل شخص له إِشعاع كهربائي خاص، يوجد نموذج منه في كل ما يتصل به، حتى في صورته الشمسية أو البطاقة التي عليها اسمه، وأن لكل عقار من العقاقير أشعة خاصة كذلك، وأن الدواء الناجح هو الذي يتحقق فيه التناسب والتوافق بين إِشعاع الجسم المريض وإِشعاع المادة التي سيعالَج بها، ورأيت هناك أطباء يعالجون مرضاهم بهذا الأسلوب — الذي لا يزال في دور التجربة — ويسمونه Radiesthesie أو الحساسية بالإِشعاع، فهذه الأنواع كلها تمتاز بخُلُوِّها من فكرة الروح، فلا مجال لالتباسها بالأوضاع الدينية.
أما القسم الروحي فالفرق الرئيسي — في نظرنا — بينه وبين الديانات أن الاستعانة بالروح فيه استعانةُ استخدام وتسخير، لا استعانة عبودية وتمجيد وتقديس. هذا وقد ذكر دوركايم ومتابعوه فروقًا أخرى، فقالوا: إِن وجه الانفصال بين الحقيقتين هو أن الأصل في الشعائر الدينية أن تؤدَّى في جماعة، وأن الفكرة الدينية تؤلَّف بين معتنقيها في وحدة معنوية، ولا كذلك السحر، الذي هو عملٌ فرديٌّ سريٌّ، فضلًا عن أنه في الغالب ينتهك حُرمةَ المقدسات الدينية أو يعكس أوضاعها، وتلك — كما ترى — فروقٌ ثانوية، وهي بعدُ لا تأخذ صفة العموم، لا طردًا ولا عكسًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤