الفصل الثالث

الوضع التاريخي للمسألة

(١) خطأ هذا الوضع في وسائله وفي غايته

ونحن نرى أن وضع المسألة على هذا الوجه، ومحاولة حلها من هذا الطريق، ينطوي على خطأ مزدوج: خطأ في الغاية، وخطأ في الوسيلة.

أما من حيث الغاية التي يهدف إِليها البحث، وهي تحديد الأصل الأصيل للعقيدة، والمظهر الذي ظهرت به في أول الأزمنة بإِطلاق، فلأن هذه المنطقة «البدائية المحضة» قد اعتبرها العلم شقةً حرامًا حظرها على نفسه، وأعلن — في صراحة كاملة — خروجها عن حدود عمله. فاقتحامها الآن باسم العلم تعامُلٌ بصَكٍّ مزيف، وتستُّر بثوب مُستعار، وكل حكم يصدر تحت هذا الاسم يكون صادرًا عن قاضٍ معزول، فاقدًا للركن الأول من سلطته الشرعية، ومؤرخو الديانات — على الخصوص — معترفون بأن الآثار الخاصة بديانة العصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لنا جهلًا تامًّا، فلا سبيل للخوض فيها إِلا بضرب من التكهن والرجم بالغيب.

وأما من حيث المنهج وهو الاستدلال على ديانة الإِنسانية الأولى بديانة الأمم المنعزلة المتخلفة عن ركب المدنية، فلأنه مبنيٌّ على افتراض أن هذه الأمم كانت منذ بدايتها على الحالة التي وصل إِليها بحثنا، وأنها لم تمر بها أدوار متقلبة، وهو افتراضٌ لم يقم عليه دليل، بل الذي أثبته التاريخ واتفق عليه المنقِبون عن آثار القرون الماضية، هو أن فترات الركود والتقهقر التي سبقت مدنياتها الحاضرة كانت مسبوقة بمدنيات مزدهرة، وأن هذه المدنيات قامت بدورها على أنقاض مدنيات بائدة، قريبة أو بعيدة، في أدوار تتعاقب على البشرية، كما تتعاقب الفصول السنوية على الطبيعة بحيث يصبح من العسير أن نحكم بصفة قاطعة بأيهما بدأت دورة الزمان، وليس تعيين أحد الأمرين للابتداء الحقيقي بأثبت تاريخيًّا من مُقابله، فكذلك نقول في شأن العقائد الدينية، إِنه من الممكن أن تكون الخرافات القديمة بداية ديانات، كما يمكن أن تكون نتيجة تحلُّل وتحريف لديانة صحيحة سابقة مزقت أهلها الحروب، أو أفسدتهم الآفات الاجتماعية، فقَلَّتْ عنايتهم بأصول دينهم، وتلقوا بالتسليم والقبول كل ما سمعوه من أفواه الأدعياء والدجالين، وشاعت بينهم هذه الروايات وتوارثوها حتى أصبحت سُننًا مقدسة، ولقد أنصف العلامة هوفدنج Hoffding حين قال: «إِنه يبعد كل البعد أن ينجح تاريخ الأديان في حل مشكلة بزوغ الدين في النوع الإِنساني … فإِن التاريخ لا يصور لنا هذه البداية الأولى في موضع ما، وكل ما نجده إِنما هو سلسلة من صور مختلفة الديانات متقدمة قليلًا أو كثيرًا …» «حتى إِن أَحَطَّ القبائل الهمجية التي نعرفها قد مرت بأدوار شتى، وتطوَّرت تطوُّرًا بعيدًا.»١

فقد بان لك مبلغ ثبات الفرض الذي بُنِيَتْ عليه البحوث الحديثة كلها، وأنها أُسست على جُرُفٍ هَارٍ لا تطمئن عليه الأقدام.

(٢) نقد المذهب التطوري بشكل خاص

ويمتاز المذهب التطوري بأنه مبنيٌّ على افتراضٍ آخَرَ لم يَقم عليه دليلٌ كذلك، وهو قياس المَلَكات والأحاسيس الروحية، على القوى البدنية والمكتسبات العقلية والتجريبية. فكما أن الإِنسان ينتقل في نموه البدني من الضعف إِلى القوة، وفي نموه العقلي من الجهالة إِلى المعرفة، قد يلوح أيضًا أنه بدأ حياته بالسخف والخرافة، ولم يصل إِلى العقيدة السليمة إِلا بعد جَهدٍ وعناء.

ونحن نسأل — قبل كل شيء — عن الأصل الذي بُنِيَ عليه هذا القياس.

هل صحيح أن قوى النفس المختلفة تسير في نموها على قدم المساواة، وأن حياة النَّاس الروحية تمشي في كل أدوارها جنبًا إِلى جنب مع حياتهم المادية؟ أَوَلَسْنَا نرى هاتين الظاهرتين تسيران أمامنا في طريقين متعارضين؟ فإِذا صح ما يقال من أن الإِنسان كان في بدايته قانعًا بكهف يُئويه، وجلد حيوان يستر به بشرته، وشيء من الأعشاب يدفع مخمصته، ألا تكون قلة مشاغله ومطامحه المادية قد تركت في نفسه فراغًا عميقًا للتأملات التي تُرهف حاسته الدينية، وتنمي مشاعره الروحية العليا؟ كما أن اشتغال النَّاس في عصور المدنيات بترف الحياة الجثمانية يؤدي إِلى عكس هذه النتيجة؛ ذلك أن الغرائز المتقابلة تضعف وتتقلص بقدر ما تنمو وتقوى أضدادُها، ككفتي الميزان، لا ترتفع إِحداهما إِلا انخفضت الأخرى.

على أن قليلًا من التأمل يهدينا إِلى أن قياس الأديان على الفنون والصناعات إِنما هو محاولة للجمع بين أمرين لا تؤلف بينهما حقيقة نوعية مشتركة، بل تتباين طبائعهما ووسائلهما. فبينما حقائق العلوم ثروة واسعة ترحل النفس في طلبها واكتسابها، ويتطلب اقتناؤها وتنميتها علاجًا ومثابرة، واستعانة بأدوات منفصلة في غالب الأمر، وحقيقة الدين توجد عناصرها قارة بين الجوانح، وتُعرض دلائلها لائحة أمام الحس، حتى إِن التفاتةً يسيرة لَتكفي للظفر بها في حدس سريع كالبرق الخاطف، وليس إِدراك هذه الحقيقة الكبرى محصول إِدراكات لحقائق الكون ودقائقه الجزئية، ولا هو أشق منها كما ظُنَّ،٢ بل إِنه يتقدمها ويمهد لها، في نظرية كلية تلم بها جملة، قبل أن تفحص أجزاءها وتفصيلاتها؛ ولذلك يستوي العالِم والجاهل في أصل هذا الإِحساس، كلٌّ على فهمه يجد في الكون ما يبهره ويستولي على مشاعره.

ولقد كان مقتضى الوضع السليم، في تعرُّف ما كانت عليه بداية الأديان فيما قبل التاريخ، أن تسترشد في مقارنتها، لا بسير الفنون والمصنوعات، بل بسير الديانات المعروفة منذ طفولة التاريخ إِلى اليوم، ألا وإِننا نعرف بالاستقراء أن كل واحدة من هذه الديانات بدأتْ بعقيدة التوحيد النقية، ثم خالطتْها الشوائب والأباطيل على طول العهد، فالأشبهُ أنْ تكون هذه سُنة التطور في الديانات كلها: أن بدايتها دائمًا خير من نهايتها.

فإِذا أبينا إِلا أن نقيس تطور الدين على تطور الفن، كان من الحق علينا ألا نأخذ في هذه المقارنة بالمقاييس السطحية والتشابه اللفظي الأجوف، بل ننظر إِلى جوهر الأشياء وأعماقها، وحينئذ ينقلب هذا القياس نفسه حجة في يد أنصار «الفطرية»، ذلك أن معنى «التطور» في الفنون — كما في كل كائن حي — هو أنها تبدأ في صورة ساذجة، متحدة، متجانسة، ثم تنتقل تدريجيًّا إِلى نوع من التكثر والتركيب، تزداد به تعقيدًا كلما بعدت عن العقيدة الإِلهية يستوجب أنها سارت أيضًا من الوحدة إِلى الكثرة، ومن النقاوة والسهولة واليُسْر، إِلى التعقُّد بالإِضافة الأسطورية، والنزوات الخيالية، التي لا ضابط لها من العقل السليم.

(٣) التطور بين الأديان السماوية

أما «التطور» بمعناه الأدبي، وهو الترقِّي من النقص إِلى الكمال، فليس قانونًا علميًّا، ولا سُنة طبيعية مطردة، ولا يمكن تطبيقه بصفة آلية على التاريخ البشري، وإِنما هو إِحدى القيم العليا التي تطمح إِليها النفوس، وتشرئبُّ إِليها الأعناق؛ فتبلغها حينًا؛ وتنحسر عنها أحيانًا. نعم، إِن كل مُصْلِح لا بد أن يكون مؤمنًا بإِمكان تحقيق هذه الغايات السامية؛ إِذ لولا الأمل في قابلية الأخلاق والعقائد للتحول والرقي، لَبطل كل تشريع، ولأصبح من العبث بذل أدنى مجهود للتقدم، ولكن شتان ما بين قابلية الترقي وبين تحققه بالفعل، فهذا مطمح لا يناله إِلا مَنْ أدى مهره من العزيمة الصادقة، والمجاهدة المتواصلة. وتاريخ الإِنسانية لا يسير في هذا الاتجاه على خطٍّ رأسيٍّ مستقيم.٣

هكذا نرى أن التحليل النفسي، وشواهد التاريخ، والتطور الصحيح؛ لا يقف شيءٌ منها في وصف الدفاع عن النظريات الموسومة بالتطورية، والتي تجعل الخرافة والأسطورة هي بداية الأديان؛ بل إِنها بالعكس تميل إِلى تأييد النظرية المقابلة، غير أن تأييدها لهذه النظرية الأخيرة لا يرفعها إِلى صَفِّ الحقائق التاريخية المفروغ منها؛ لأن هذه الدلائل كلها لا تُقدِّم لنا ضمانًا من المنطق ولا من الواقع تثبت به أن الحوادث كانت تسير بالفعل دائمًا على وفق ما ألفناه من الأوضاع، لا على الوجه الذي كان ينبغي أن يكون.

بل هي هنا نظرية ثالثة يمكن الأخذ بها في المسألة، وتقريرها أن الرشد والضلال في الفكرة الدينية ليستا ظاهرتين متعاقبتين فقط، صعودًا أو انحدارًا على مدى العصور، بل هما ظاهرتان متعاصرتان، موزعتان في كل أمة وجيل، تبعًا لاختلاف الأفراد في درجات استقامة الحدس العقلي، ونُبل الحس الباطني، فلا يخلو جيل ما من نفوس صافية تدرك الحقيقة نقيةً من شوائب الخرافة، وأخرى دون ذلك. ولعل هذا الوصف هو أقرب الأوصاف تصويرًا للواقع المعروف، فقد اتفق الموثوق بهم من مؤرخي الأديان — كما أسلفنا — على أن أشد الشُعوب همجية ووثنية لم تنفك عن الاعتقاد بإِله خالق هو رب الأرباب.

لكن بين القدر الذي عرفناه من تاريخ البشرية وبين عصر نشأتها، لا تزال الثغرة واسعة لم تُسد ولن تُسد؛ إِذ لم يقل أحدٌ إن الوقائع المفقودة الوثائق يمكن إِثباتها على وجه قاطع بمثل هذا الضرب من التخمين، اعتمادًا على مجرد حُسن المقابلة وجمال التناسق بينها وبين الوقائع المعروفة، دون تثبُّت من تشابه الظروف والملابسات في طرفي القياس.

هكذا عجزتْ وسائل العلوم أن تقدم لنا بيانًا شافيًا يطمئنُّ إِليه القلب عن ديانة الإِنسان الأول، أما من أحب أن يسترشد بنصوص الكتب السماوية، فإِنه سوف يجد فيها ما شد أزر القائلين بأولية العقيدة الإِلهية الصحيحة، لا في الغريزة فحسب: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا،٤ بل في التطور الزماني كذلك، فهذه النصوص تنادي بأن النَّاس بدءوا حياتهم مستقيمين على الحق مؤتلفين عليه، وأن الانحراف والاختلاف إِنما جاء عَرَضًا طارئًا بعد ذلك: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا،٥ وأن استمرار هذا الخلاف واتساع شُقَّته إِنما كان بتأثير الوراثة وتلقين كل جيل عقيدته للناشئين فيه: «كُلُّ مَوْلود يُولَد على الفِطْرَة، فأَبَواه يُهَوِّدَانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسَانه».٦ وإِلى ذلك كله فإِن الكتب السماوية متفقَةٌ على أن الجماعة الإِنسانية الأولى لم تُترك وشأنها تستلهم غرائزها وحدها، بغير مرشد ومذكِّر، بل تعهدتها السماء بنور الوحي من أول يوم، فكان أبو البشر هو أول الأفذاذ الملهمين، وأول المؤمنين الموحدين، وأول المتضرِّعين الأوابين.

لكن الالتجاء إِلى هذه النصوص اعترافٌ ضمنيٌّ بأن وسائل العلم البشري وحدها عاجزة عن أن تصل بنا من طريق يقيني إِلى نقطة البدء الحقيقي للدين، والواقع أن الحل النهائي لهذه المسألة إِنما يكون عن طريق الوحي؛ لأنها داخلة في منطقة الغيب التي هي موضوع الإِيمان، وليست من شأن العلوم الاستقرائية، ولا العلوم الاستنتاجية.

وجملة القول: أن كل النظريات التي حاولت تحديد ديانة الإِنسان الأول بالتطبيق على ديانات القرون الماضية، أو الأمم الهمجية، فَصَوَّرَتْها لنا تارةً سليمة، وتارة سقيمة، وتارة ملفقة؛ إِنما هي افتراضاتٌ مبنية على افتراضات فهي لا تصف الحق الثابت Le vrai، الذي هو مطلب العلم الصحيح، وإِنما تعرض احتمالات تشبه الحق قليلًا أو كثيرًا + ou-vraisemblables.

فإِذا نحن عرضنا الآن شيئًا من هذه النظريات، فليكن معلومًا أننا لن نتابعها في تلك الدعوى العريضة، وهي أنها ترسم الصورة الأولى المطلَقة للحياة الدينية، بل سَنَقنع منها بالجانب التحليلي، أو الجانب التاريخي النسبي، لا أكثر من ذلك.

١  Harald Hoffding, Philosophie de la Religion, trad fr. pp. 126-127.
٢  انظر أول صفحة من كتاب العقاد عن نشأة العقيدة الإِلهية «الله».
٣  نعم، إِن الناظر في الأديان السماوية الثلاثة يلاحظ بينها تطورًا فعليًّا، وتقدمًا تدريجيًّا محققًا، لكن هذا التقدم لا يبرز فيها بصفة مطردة من حيث هي حقيقة خارجية تطبيقية حسبما يدين بها أهلها — كما كان يلزم لو صح المذهب التطوري — بل في حقيقتها التنزيلية من حيث طبيعة دعوتها ومناهج تشريعها … وحتى من هذه الوِجهة الأخيرة ليس هو تطورًا من الخطأ إِلى الصواب — كما تريد أن تصوره المذاهب التطورية للأديان — وإِنما هو تدرُّج تصاعديٌّ في مراتب الوفاء والشمول والكمال، ولَعَلَّنا تؤاتينا الفرصة لعرض هذه المقارنة مقتبسة من النصوص المقدسة نفسها.
٤  الروم: ٣٠.
٥  يونس: ١٩.
٦  البخاريُّ، عن أبي هريرة، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، رقم الحديث ١٢٩٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤