صديقة شبابي

مهداة إلى آر جيه تي مع الشكر

اعتدتُ على أن أحلم بأمي، وعلى الرغم من أن التفاصيل كانت تختلف داخل الحلم، فكانت المفاجأة فيه دائمًا واحدة لا تتغير؛ يتوقف الحلم؛ نظرًا — مثلما أظن — للبراءة المذهلة في آماله، ولليسر المفرط في غفرانه.

في الحلم أكون في نفس عمري الحقيقي، وأعيش الحياة التي أحياها فعلًا، وأكتشف أن أمي لا تزال حية. (في حقيقة الأمر، توفيت أمي عندما كنتُ في أوائل العشرينيات، وكانت هي في أوائل الخمسينيات.) في بعض الأحيان، أجد نفسي في مطبخنا القديم؛ حيث كانت أمي تصنع عجينة الفطائر على المائدة، أو تغسل الصحون في وعاء التنظيف المتهالِك كريميِّ اللون ذي الحافَّة الحمراء. وفي أحيان أخرى أقابلها مصادفةً في الشارع، في أماكن لم أتوقَّع أن أراها فيها قطُّ، ربما أراها تسير عبر بهو فندق أنيق، أو تقف في طابور في أحد المطارات. كانت تبدو في حالة صحية طيبة، لا تبدو شابة تمامًا، ولا تغيب عنها آثار مرض الشلل الذي ظلَّتْ أسيرته لعقد من الزمان أو أكثر قبل أن تفيض روحها، لكنها كانت تبدو أفضل حالًا مما أستطيع أن أذكر، الأمر الذي كان يدهشني كثيرًا. كانت تقول: «آهٍ، أشعر برجفةٍ بسيطة في ذراعي، وتيبُّسٍ طفيف أعلى هذا الجانب من وجهي. الأمر مؤلم، لكني أتغلب عليه.»

استعَدْتُ حينها ما كنتُ قد فقدْتُه في حياة اليقظة؛ استعَدْتُ حيوية وجه وصوت أمي قبل أن تُصَاب عضلاتُ حلقِها بالتيبُّس، وقبل أن تكتسي ملامحها بقناع شجي جامد خالٍ من أي تعبير. كيف أستطيع أن أنسى — كذا كنتُ أحدِّث نفسي في الحلم — الدعابة العفوية التي كانت تحظى بها، دعابة مرحة لا ساخرة، وخفة الظل والرغبة الدائمة في التغيير والثقة؟ كنتُ سأقول إنني أشعر بالأسف؛ لأنني ما رأيتها منذ هذا الوقت الطويل، وهو ما يعني أنني لم أشعر بالذنب بل بالأسف؛ لأنني احتفظت بأفكار غريبة في رأسي بدلًا من هذه الحقيقة الواقعة — وكان أكثر الأشياء غرابةً ولطفًا على الإطلاق بالنسبة لي إجابتها الصريحة الواضحة.

قالت أمي: «آه، حسنًا، أن يحدُثَ هذا متأخرًا أفضل من ألَّا يحدث على الإطلاق. كنتُ متأكِّدَةً أني سأراك يومًا ما.»

•••

عندما كانت أمي شابة ذات وجه ناعم مَرِح، تغطي رجليها الممتلئتين جوارب حريرية رائعة غير شفافة (رأيت صورة فوتوغرافية لها مع تلاميذها)، كانت تدرِّس في إحدى مدارس الفصل الواحد، وتُسمَّى مدرسة جريفز، في وادي أوتاوا. كانت المدرسة تقع على ناصية مزرعة تملكها عائلة جريفز، وهي مزرعة أجمل من أن تنتمي إلى هذا البلد؛ كانت هناك حقول جيدة التصريف، دون وجود أيٍّ من صخور العصر ما قبل الكمبري التي تشق طريقها عبر الأرض، وهناك نهر تنتصب أشجار الصفصاف على حوافه يمر بحذاء الأرض، وأجمة سكرية، وأكواخ خشبية، ومنزل كبير غير مزيَّن لم يجرِ طلاء جدرانه الخشبية من قبلُ، بل تُرِكَتْ كي تتحلَّل. كانت أمي تقول: إن الخشب عندما يُترَك حتى يتحلَّل في وادي أوتاوا — ولا أعرف سببًا لذلك — لم يكن لون الخشب يتحوَّل إلى الرمادي بل إلى الأسود. كانت أمي تقول: إن ثمة شيئًا — لا شك — في الهواء. كانت أمي تتحدث كثيرًا عن وادي أوتاوا، موطنها — كانت أمي قد نشأت على مسافة عشرين ميلًا تقريبًا من مدرسة جريفز — في لهجة جازمة محيرة، مركِّزة على أشياء فيه تجعله مختلفًا عن أي مكان آخَر على وجه الأرض؛ حيث تتحول المنازل فيه إلى اللون الأسود، ويحظى الشراب المستخرَج من أشجار القيقب بمذاق لا يضاهيه مذاق أي شراب من النوع نفسه في أي مكان آخَر، وتسير الدِّبَبَة الهُوَيْنَى على مرمى البصر من المزارع. بالطبع، أُصِبْتُ بخيبة الأمل عندما رأيتُ مؤخرًا المكان؛ لم يكن واديًا على الإطلاق، إذا كنتَ تعني بالوادي شِقًّا بين مرتفعين، بل كان مزيجًا من الحقول المنبسطة والصخور الخفيضة والأجمات الكثيفة والبحيرات الصغيرة؛ نوع من الريف المختلط، غير المنظَّم بلا انسجام طبيعي، مكان لا يمكن وصفه بسهولة.

لم تكن الأكواخ الخشبية والمنزل غير المطلي — وهي مظاهر شائعة في المزارع الفقيرة — في حالة عائلة جريفز علامةً على الفقر بل على اعتقادٍ ما؛ كان آل جريفز يمتلكون المال لكنهم لم يكونوا ينفقونه، هذا ما قاله الناس لأمي. كان آل جريفز يكدحون، وكانوا أبعد ما يكونون عن الجهل، لكنهم كانوا رجعيِّينَ جدًّا؛ لم تكن لديهم سيارة أو كهرباء أو هاتف أو جرار، بينما ظنَّ بعض الناس أن ذلك مرجعه إلى أنهم كاميرونيون — كانوا وحدهم في منطقة المدرسة ممَّنْ ينتمون إلى هذا المذهب الديني — لم تُحَرِّم كنيستهم في واقع الأمر (التي كانوا هم أنفسهم يطلقون عليها الكنيسة المشيخية الإصلاحية) المحركات أو الكهرباء أو أي اختراعات من هذا النوع، بل فقط ألعاب الورق والرقص ومشاهدة الأفلام، وفي أيام الآحاد أي نشاط غير ديني أو غير حتميٍّ.

لم تستطع أمي أن تحدِّد على وجه اليقين طبيعة الكاميرونيين، أو لماذا كان يُطلَق عليهم هذا الاسم، مجرد مذهب غريب وارد من اسكتلندا، مثلما كانت تقول في ثقةٍ استنادًا إلى المذهب الإنجيلي المتسامح الذي كانت تدين به. كانتِ المدرِّسة في المدرَسَة تسكن دومًا في مقابل أجر لدى آل جريفز، وكانت أمي تشعر بشيء من الرعب لفكرة أنها ستعيش في ذلك المنزل الأسود الخشبي الذي تصاب الحياة فيه بالشلل أيامَ الآحاد، وتنيره المصابيح المُضاءة بزيت الفحم، وتسكنه الأفكار البدائية. لكن كانت أمي مخطوبة في ذلك الوقت، وكانت ترغب في تجهيز مستلزمات عُرْسها بدلًا من أن تمضي وقتًا طيبًا في التسكع في أرجاء البلدة وحسب، ورأت أنها تستطيع أن تعود إلى المنزل يوم أحد واحد كل ثلاثة أيام آحاد. (في أيام الآحاد في منزل آل جريفز، يمكن أن توقِد نارًا للتدفئة لا للطهي، ولا يمكنكَ أبدًا غلي الماء في القدر لعمل شاي، ولا يجدر بك كتابة خطاب أو سحق ذبابة. على أي حال، كانت أمي معفاة كما اتَّضَح لاحقًا من هذه القواعد. كانت فلورا جريفز تقول ساخرةً من أمي: «لا، لا، لا تشملك هذه الأمور، ما عليك سوى عمل ما أنت معتادة عليه.» بعد فترة، صارت أمي وفلورا أصدقاء إلى درجة أنها لم تعد حتى تذهب إلى منزلها أيام الآحاد مثلما قررت.)

كانت فلورا وإيلي الأختين المتبقيتين من العائلة؛ كانت إيلي متزوجةً لرجل يُدعَى روبرت ديل، الذي كان يعيش هناك وكان يدير المزرعة، لكنه لم يفلح في تغيير اسمها في ذهن أحدٍ إلى مزرعة ديل. من خلال الطريقة التي كان الناس يتحدثون بها، كانت أمي تتوقع أن تكون الأختان جريفز وروبرت ديل في منتصف العمر على الأقل، لكن إيلي، الأخت الصغرى، كانت لا تزيد عن ثلاثين عامًا، وكانت فلورا أكبر منها بسبع أو ثماني سنوات، ربما كان عمر روبرت ديل بين الاثنتين.

كان المنزل مقسومًا بطريقة غير متوقَّعَة. لم يكن الزوجان يعيشان مع فلورا؛ فعند وقت زواجهما، تركت فلورا لهما غرفة الاستقبال وغرفة الطعام، وغرف النوم الأمامية، والسلم، والمطبخ الشتوي. لم تكن ثمة حاجة لاتخاذ قرار بشأن الحمام؛ نظرًا لعدم وجوده. احتفظت فلورا بالمطبخ الصيفي، ذي السقف المفتوح والحوائط الطوبية غير المصقولة، وتم تحويل حجرة المؤن القديمة إلى غرفة جلوس وغرفة طعام ضيقة، وغرفتين خلفيتين، خُصصت إحداهما لأمي. كانت المدرِّسة التي تعمل في المدرَسة تعيش مع فلورا، في الجزء الأفقر من المنزل، لكن لم تعبأ أمي بذلك. أُعجِبت أمي على الفور بفلورا وروحها المرحة، على الرغم من الصمت والجو المرضي في الغرف الأمامية. في جزء فلورا، لم يكن صحيحًا أن جميع وسائل الترفيه كانت ممنوعة؛ كانت فلورا تمتلك لعبة كروكينول، وقد علَّمت أمي كيف تلعبها.

بطبيعة الحال، جرى عمل هذا التقسيم باعتبار أن روبرت وإيلي سيكونان عائلة، وباعتبار أنهما سيحتاجان لمساحة أكبر. لم يحدث ذلك؛ ظل روبرت وإيلي متزوجين مدة اثني عشر عامًا ولم يعش طفل لهما. كانت إيلي تحمل مرارًا وتكرارًا، لكن مات طفلان عند الولادة، وأُجهِضت في باقي المرات الأخرى. خلال عام أمي الأول في المزرعة، كانت إيلي فيما يبدو تقضي وقتًا أطول في الفراش، وكانت أمي تظن أنها حبلى مرة أخرى، لكن لم يُشِرْ أحدٌ إلى ذلك قطُّ؛ لم يكن مثل هؤلاء ليتحدثوا عن أمور كهذه. لم يكن من الممكن أن تعرف شيئًا من شكل إيلي عندما كانت تقوم من السرير وتتجول في المكان؛ لأن مظهر جسدها كان ممشوقًا واهنًا وبدا صدرها مترهلًا. كانت تفوح من إيلي رائحة المرض، وكانت تتذمر بطريقة طفولية من كل شيء. كانت فلورا تعتني بها وتقوم بجميع الأعمال. كانت فلورا تنظِّف الملابس وترتب الغرف وتطهو الوجبات التي تُقدَّم في جانبي المنزل، فضلًا عن مساعدة روبرت في حلب الماشية وغربلة المحاصيل. كانت فلورا تستيقظ قبل شروق الشمس ولم يكن يبدو أنها تَكِلُّ قط. في الربيع الأول الذي كانت أمي موجودة خلاله في المزرعة، جرى البدء في عملية تنظيف واسعة، خلالها ارتقت فلورا السلالم الخشبية بنفسها، وفكَّتِ النوافذ ونظفتها ووضعتها في أحد الأركان، وأخرجت الأثاث كله من غرفة تلو أخرى، بحيث تستطيع تنظيف القطع الخشبية والأرضيات. غسلت فلورا جميع الصحون والأكواب في الخزائن المُفترض أنها نظيفة في الأساس، وقامت بتنظيف جميع الأواني والملاعق بالماء المغلي. تملَّكَتْها هذه الحاجة إلى التنظيف والطاقة مما حال دون نومها؛ فكانت أمي تستيقظ على صوت تفكيك أنابيب تهوية الموقد، أو المقشة الملفوفة في فوطة أواني وهي تزيل شبكات العناكب المغطاة بالدخان. كان فيض من ضوء باهر يأتي عبر النوافذ المغسولة منزوعة الستائر. كانت نظافة المكان مذهلة. صارت أمي تنام الآن على ملاءات جرى تبييضها وتنشيتها على نحو جعل حكة تسري في جسدها. كانت إيلي المريضة تشتكي يوميًّا من رائحة سوائل التلميع ومساحيق التنظيف. كانت يدا فلورا خشنتين، لكن مزاجها العام ظل ممتازًا. أضفى منديلها وميدعتها وملابس العمل المتسعة الخاصة بروبرت التي ارتدتها أثناء عملية ارتقاء السلالم مظهر الممثل الكوميدي، وهو ما يدل على الخفة وصعوبة توقُّع ما يمكن أن تفعله في اللحظة التالية.

أطلقت عليها أمي الدرويش الدوَّار.

قالت لها أمي: «أنتِ نموذج للدرويش الدوَّار.» فتوقفت فلورا فورًا عن العمل؛ إذ كانت تريد أن تعرف المقصود من ذلك. سارعت أمي وشرحت لها، على الرغم من خوفها من أن تجرح المشاعر الدينية لديها. (لم تكن مشاعر دينية تمامًا؛ لا يمكن أن تسميها كذلك، قُلِ التزام ديني.) بالطبع، لم يكن الأمر كذلك، لم يكن ثمة غلظة أو احتراز خيلائي في تديُّن فلورا. لم تكن فلورا تخشى الوثنيين؛ فقد كانت دومًا تعيش وسطهم. أعجبتها فكرة أن تكون درويشًا وذهبت إلى أختها تخبرها عن ذلك.

«هل تعرفين ماذا قالت المدرسة عني؟»

كانت فلورا وإيلي امرأتين ذواتَي شعر أسود، وعينين سوداوين، وكانتا طويلتين، وأكتافهما غير عريضة، وأرجلهما طويلة. بينما كانت إيلي — بالطبع — حطامًا، كانت فلورا لا تزال منتصبة القامة ورشيقة. كانت أمي تقول إنها يمكن أن تبدو مثل ملكة، وهي تركب عند ذهابها إلى المدينة في العربة الكبيرة التي كانتا تمتلكانها. عندما كانت هي وروبرت يذهبان إلى الكنيسة، كانا يركبان عربة صغيرة أو زلاجة يجرها حصان، لكنهما عندما كانا يذهبان إلى المدينة، كانا ينقلان عادةً أجولة من الصوف — كان لديهما بعض الخراف — أو من محاصيل المزرعة لبيعها، وكانا يجلبان المؤن إلى المنزل عند عودتهما. لم يقوما بهذه الرحلة التي لا تزيد عن بضعة أميال كثيرًا. كان روبرت يركب في المقدمة لقيادة الحصان، ورغم أن فلورا كانت تستطيع قيادة أي حصان جيدًا، كان الرجل هو الذي يجب أن يقود دومًا. كانت فلورا تقف في الخلف ممسكة بالأجولة. كانت تقف في الرحلة من المدينة وإليها، محافظة على توازنها، ومرتديةً قبعتها السوداء — كان الأمر مضحكًا وإن لم يكن تمامًا. كانت أمي ترى أنها تبدو مثل ملكة غجرية، بشعرها الأسود وبشرتها التي كانت تبدو دومًا وكأنها قد اسمرت نتيجة تعرُّضِها للشمس، وسكينتها الرقيقة والحازمة في آنٍ واحد. بطبيعة الحال، كان ينقص فلورا الأساور الذهبية والملابس البرَّاقة. كانت أمي تحسدها على رشاقة جسدها، وجمال عظام وجنتيها.

•••

عند عودتها في الخريف في السنة الثانية، علمت أمي بأمر إيلي.

قالت فلورا: «أختي لديها ورم.» لم يتحدث أحد عن وجود سرطان لديها.

كانت أمي قد سمعت بذلك من قبلُ، كان الناس يشكُّون في ذلك. كانت أمي تعرف الكثير من الأشخاص في المنطقة حينها؛ فقد نشأت علاقة صداقة قوية بين أمي وامرأة شابة كانت تعمل في مكتب البريد، وصارت هذه المرأة إحدى وصيفات أمي في حفل زفافها لاحقًا. سُردت قصة فلورا وإيلي وروبرت — أو كل ما كان يعرف الناس عنهم — في صور متعددة، لم تشعر أمي أنها كانت تستمع إلى نميمة؛ نظرًا لأنها كانت على استعداد دومًا للدفاع عند سماعها أي انتقاد لفلورا — حيث كانت أمي لا تسمح بذلك. لكن لم ينتقد أحد فلورا، كان الجميع يقول إن فلورا كانت تتصرف مثل القديسة، وحتى عندما كانت تتطرف في تصرفاتها، مثلما فعلت عند تقسيم المنزل، كان سلوكها راقيًا مثل القديسات.

جاء روبرت للعمل في مزرعة آل جريفز قبل شهور قليلة من وفاة والد الفتاتين، كانا يعرفانه قبلًا من الكنيسة. (كانت أمي تقول: إن تلك الكنيسة، التي ذهبت إليها مرة بدافع الفضول، عبارة عن مبنى كئيب يوجد على بُعْد أميال على الجانب الآخَر من المدينة؛ حيث لا يوجد أرغن أو بيانو، وكان هناك زجاج خالٍ من أي رسوم في النوافذ، وقسٌّ هَرِم وَاهِن تستغرق موعظته عدة ساعات، ورجل يقرع شوكة رنانة أثناء الغناء.) كان روبرت قد غادر اسكتلندا وكان في طريقه غربًا. كان قد توقَّف لدى أقارب أو أشخاص يعرفهم؛ أعضاء في الكنيسة قليلة العدد. وقد جاء روبرت إلى منزل آل جريفز بهدف كسب بعض المال على الأرجح. وسرعان ما تمَّتْ خطبته إلى فلورا. بينما لم يكن بوسعهما الذهاب إلى حفلات الرقص أو إلى حفلات لعب الورق مثل الخطباء الآخرين، كانا يذهبان في نزهات سير طويلة. كانت إيلي — بصورة غير رسمية — هي المرافقة للخطيبين أمام الناس التي تراقب حركاتهما. كانت إيلي حينها فتاة استفزازية، وجامحة، وطويلة الشعر، ووقحة، وطفولية، وممتلئة بالطاقة الوثَّابة. كانت تجري عبر التلال وتضرب بقوة سيقان البوصير، وهي تصرخ وتقفز وتتظاهر بأنها كالمحارب الذي على صهوة جواد، أو الجواد ذاته. كان ذلك عندما كانت تبلغ خمسة عشر، أو ستة عشر عامًا. لم يكن يستطيع أحد سوى فلورا السيطرة عليها، وعمومًا كانت فلورا تسخر منها فقط، وكانت معتادة على تصرفاتها بحيث لم تتساءل عما إذا كان ثمة خطب في عقلها. كانتا مغرمتين إحداهما بالأخرى بصورة مدهشة. كانت إيلي، بجسدها الطويل النحيف، ووجهها الطويل الشاحب، بمثابة نسخة من فلورا؛ النسخة التي تراها عادةً في العائلات، التي بسبب وجود بعض الاختلاف أو المبالغة في الملامح أو اللون، كانت وسامة شخص تتحول إلى قبح — أو ما يشبه قبحًا — في الشخص الآخَر. لكن لم تكن إيلي تغار من ذلك، كانت تحب تمشيط شعر فلورا وربطه معًا. كانتا تقضيان معًا أوقاتًا عظيمة وهما تغسلان إحداهما شعر الأخرى. كانتا قريبتين إحداهما من الأخرى جدًّا، وكانت العلاقة بينهما مثل بنت وأمها؛ لذا، عندما خطب روبرت فلورا، أو خطبته فلورا — لم يعلم أحدٌ كيف تطورت الأمور بينهما — كان يجب ضم إيلي إلى صحبتهما. لم تُظهِر إيلي أي كراهية تجاه روبرت، لكنها كانت تتبعهما وتقاطعهما أثناء سيرهما، كانت تختبئ وراء الأجمات وتفاجئهما وهما معًا، أو تتسلل خلفهما في خفة بحيث تتمكن من الانقضاض عليهما وتفاجئهما. كان الناس يرونها تفعل ذلك، وكانوا يسمعون نكاتها. كانت إيلي دائمًا بالغة السوء في المزح، وفي بعض الأحيان أفضى بها ذلك إلى مشكلات مع والدها، غير أن فلورا قامت بحمايتها. كانت تضع الشوك في فراش روبرت، وكانت تضع السكين والشوكة بشكل معكوس في موضع جلوسه على المائدة، كانت تبدِّل دلاء اللبن بحيث تعطيه الدلو القديم المثقوب. كان روبرت، من أجل إرضاء فلورا، لا يُغضِبها.

جعل الأب فلورا وروبرت يحدِّدان يوم الزفاف قبل عام كامل منه، وبعد وفاته لم يُقدِّما موعده قط. ظل روبرت يعيش في المنزل. لم يكن أحد يعرف كيف يمكن إخبار فلورا أن هذا أمر مشين، أو يبدو مشينًا. كانت فلورا ستكتفي بالسؤال عن السبب. بدلًا من تقديم موعد الزفاف، قامت فلورا بتأخيره، من الربيع التالي إلى أوائل الخريف بحيث يمر عام كامل بين يوم الزفاف ويوم وفاة والدها. عام بين زفاف وجنازة — بدا ذلك مناسبًا لها. كانت تثق تمامًا في صبر روبرت وفي عِفَّتها.

أو على الأقل كانت تثق في نفسها. حدثت جلبة في الشتاء؛ كانت إيلي تتقيأ وتبكي، وهربت واختبأت في أكوام القش، وكانت تصرخ عندما وجدوها وجذبوها خارجها، وكانت تقفز على أرضية الحظيرة، وتجري في دوائر، وتهيم على وجهها في الجليد. لقد فقدت إيلي صوابها. كان على فلورا الاتصال بالطبيب. أخبرت فلورا الطبيب أن دورتها الشهرية توقَّفَتْ، فهل أدى احتباس الدم داخلها إلى إصابتها بالجنون؟ كان على روبرت الإمساك بها وتقييدها، ووضعها هو وفلورا في الفراش. لم تكن ترغب في تناول الطعام، كانت تهز رأسها فقط من جانب إلى آخَر، وهي تصرخ، كان الأمر يبدو كما لو أنها ستموت دون أن تتفوه بكلمة. ظهرت الحقيقة بطريقة ما، لا عبر الطبيب، الذي لم يستطع الاقتراب منها بما يكفي لفحصها بسبب حركاتها العنيفة. بل على الأرجح كان روبرت هو من اعترف. أخيرًا، استطاعت فلورا أن تلتقط بعض أطراف الحقيقة، وتعاملت مع الأمر بنبل شديد. كان يجب أن يكون ثمة زفاف الآن، وإن لم يكن الزفاف المقرَّر.

زفاف بدون كعكة، ولا ملابس جديدة، ولا رحلة شهر عسل، ولا تهاني، فقط زيارة مشينة سريعة إلى مقر إقامة القس لإتمام مراسم الزواج. اعتقد بعض الأشخاص، عندما رأوا اسمَي الزوجين على الأوراق، أن محرِّر عقد الزواج خلط بين اسمَي الأختين، ظنوا أن العروس من المفترض أن تكون فلورا. زفاف سريع لفلورا! لا، كانت فلورا هي مَن قامت بِكَيِّ بذلة روبرت — لا بد أنها قامت بذلك — وساعدت إيلي على النهوض من الفراش وحممتها وجعلتها تبدو في صورة طيبة. كانت فلورا هي مَن انتقى زهرة إبرة الراعي من النافذة ووضعتها في فستان أختها، ولم تنزعها إيلي. كانت إيلي ضعيفة آنذاك، ولم تَعُدْ تقاوم في عنف أو تبكي. تركت إيلي فلورا تعدِّل من هندامها، وتركت نفسها تتزوج، ولم تَعُدْ شرسة منذ ذلك الحين.

قسَّمَتْ فلورا المنزل. ساعدت بنفسها روبرت على بناء الهياكل الضرورية للتقسيم. حملت إيلي واستمر الحمل حتى نهاية المدة المحدَّدة للوضع — لم يدَّعِ أحد أن ولادة الطفل كانت مبكرة — لكن وُلِد الطفل ميتًا بعد عملية ولادة طويلة وعسيرة. ربما أضرت إيلي بالطفل عندما قفزت من أعلى الحظيرة ووقعت وأخذت تتدحرج على الجليد وأخذت تضرب نفسها، حتى لو لم تكن قد فعلت ذلك، كان الناس سيتوقعون حدوث شيء خطأ، مع هذا الطفل أو ربما مع أي طفل آخَر ستحمل به لاحقًا. يُنزِل الرب عقابه بالزيجات السريعة — ليس فقط المشيخيون هم مَن كانوا يعتقدون ذلك، بل تقريبًا الجميع. كان يعتقد أن الرب يعاقب الزنا بأطفال يتوفون عند ولادتهم، أو أطفال يُولَدون بلهاء، أو أطفال لهم شفة أرنبية، أو أطراف ضامرة، أو حَنَف في الأقدام.

في هذه الحالة تواصل العقاب. أجهضت إيلي مرة بعد أخرى، ثم توفي طفل آخَر عند الولادة، ثم أجهضت مجدَّدًا أكثر من مرة. كانت تحمل بشكل مستمر، وكانت فترات حملها مليئة بنوبات قيء كانت تستمر أيامًا، ونوبات صداع، وتقلصات، ونوبات دوار. كانت حالات الإجهاض مستنزفة لجسمها مثل حالات الحمل الكاملة. لم تستطع إيلي القيام بواجباتها المنزلية؛ كانت تسير في المكان مستندة على المقاعد. مرت فترة صمتها الجامد، وصارت شكَّاءة؛ فإذا جاء أحد لزيارتها، كانت تتحدث عن تفاصيل نوبات الصداع التي كانت تصيبها، أو تشير إلى نوبة الإغماء الأخيرة التي تعرَّضَتْ لها، أو حتى — أمام الرجال، وأمام الفتيات غير المتزوجات أو الأطفال — تحكي تفصيلًا عما أسمته فلورا «حالات خيبة الأمل الشديدة» التي كانت تتعرض لها. وعندما كان الحاضرون يغيِّرون الموضوع أو يأخذون الأطفال بعيدًا، كانت تتجهم. كانت تطلب علاجًا جديدًا، وتنتقد الطبيب انتقادًا لاذعًا، وكانت تلقي باللائمة على فلورا. كانت تتهم فلورا بغسيل الأطباق في جلبة شديدة حتى تزعجها، وبجذب شعرها — شعر إيلي — بشدة عند تمشيط شعرها، وباستبدال مزيج الماء والعسل في شحٍّ واضح بدوائها الحقيقي. مهما قالت، كانت فلورا تهدئ من روعها، وكل مَن كان يحضر إلى المنزل كان يحكي حكايات مثل هذه. كانت فلورا تقول: «أين فتاتي الصغيرة؟ أين إيلي؟ هذه ليسَتْ إيلي التي أعرفها، هذا شخص سيئ الطباع حل محلها!»

في أمسيات الشتاء، بعد مساعدة روبرت في القيام بأعمال المزرعة، كانت فلورا تغتسل وتغيِّر ملابسها ثم تذهب إلى إيلي لتقرأ لها لتنام. ربما كانت أمي تزورهما، مصطحبةً معها أي أعمال حياكة كانت تمارسها، كجزء من تجهيزات عرسها. كان فراش إيلي موضوعًا في غرفة الطعام الكبيرة، حيث كان هناك مصباح غازي فوق المائدة. كانت أمي تجلس على جانب من المائدة تخيط، وكانت فلورا تجلس على الجانب الآخَر تقرأ بصوت مرتفع. في بعض الأحيان كانت إيلي تقول: «لا أستطيع أن أسمعك.» أو إذا كانت فلورا قد توقفت لبرهة لترتاح، فكانت إيلي تقول: «لم أنَمْ بعدُ.»

ماذا كانت فلورا تقرأ؟ قصصًا حول الحياة الاسكتلندية، لم تكن أعمالًا كلاسيكية، بل قصصًا حول القنافذ والجدات المضحكات. كان اسم الكتاب الوحيد الذي استطاعت أمي تذكره هو «وي ماكجريجور». لم تستطع أمي متابعة القصص جيدًا، أو الضحك عندما كانت فلورا تضحك وإيلي تتذمر، نظرًا لِلَّهجة الاسكتلندية أو طريقة القراءة بهذه اللكنة الصعبة. فاجأ أمي أن فلورا استطاعت عمل ذلك؛ فلم تكن تلك هي الطريقة التي كانت تتحدث فلورا بها، على الإطلاق.

(لكن أَلَمْ تكن تلك هي الطريقة التي كان روبرت يتحدَّث بها؟ ربما لهذا السبب لم تخبرني أمي بأي شيء قاله روبرت، ولم تتحدث عنه كجزء من المشهد على الإطلاق. لا بد أنه كان هناك، لا بد أنه كان يجلس هناك في الغرفة، فقد كانوا يدفئون فقط الغرفة الرئيسية في المنزل. أراه أسود الشعر، عريض المنكبين، بقوة حصان يعمل على حرث الأرض، ونفس نوع الجمال الكالح المكبوت الذي يتمتع به.)

ثم كانت فلورا تقول: «يكفي هذا الليلة.» كانت تنتقي كتابًا آخَر، كتابًا قديمًا كتبه واعظ ينتمي إلى مذهبهم. كان في الكتاب أشياء لم تسمع أمي بها قطُّ. أي أشياء؟ لم تستطع أن تفصح. كل الأشياء في مذهبهم العتيق الرجعي. كان يجعل هذا إيلي تخلد إلى النوم، أو يجعلها تتظاهر أنها نائمة، بعد قراءة صفحتين.

كل هذه المنظومة من الأخيار والملعونين، لا بد أنها ما كانت أمي تقصده؛ كل المناقشات حول الوهم وحتمية الإرادة الحرة: القدر، والخلاص الغامض، مجموعة المعتقدات المتداخلة والمتناقضة التي تتحدث عن العذاب والاستسلام، لكن التي يرى البعض أنهم لا يمكنهم مقاومتها. كانت أمي تستطيع مقاومة ذلك. لم يكن مذهبها متشدِّدًا، وكانت معنوياتها آنذاك مرتفعة. إن أمي لم تكن لتشغف بتلك الأفكار على الإطلاق.

لكن كانت أمي تتساءل (في صمت): ما هذا الذي كان يُقرَأ لامرأة تحتضر؟ كان هذا أقوى انتقاد أخذته أمي على فلورا.

لم تَرِد الإجابة — إن هذا هو الشيء الوحيد، إذا كنتَ مؤمنًا متدينًا — إلى خاطرها قطُّ.

•••

بحلول الربيع، كانت قد وصلت ممرضة. كانت هذه هي الطريقة التي كانت الأشياء تتم من خلالها آنذاك. كان الناس يموتون في منازلهم، وكانوا يستعينون في مرضهم الأخير بممرضات تأتيهم في منازلهم لعلاجهم.

كان اسم الممرضة أودري أتكينسون، وكانت امرأة بدينة ترتدي مشدات مشدودة مثل أطواق البراميل، ذات شعر مموَّج بلون الشمعدان النحاسي، وفم يحدِّد ملامحه طلاء شفاه يتجاوز حدوده الضيقة. جاءت في سيارة إلى فناء المنزل — سيارتها الخاصة، سيارة داكنة الخضرة، لامعة، وفارهة. انتشرت الأنباء حول أودري أتكينسون وسيارتها سريعًا. ثارت الأسئلة: من أين جاءت بالمال؟ هل غيَّر أحد الحمقى الأثرياء وصيته لصالحها؟ هل قامت بابتزاز أحد؟ أم هل سرقت حفنة من الأوراق المالية كانت مخفية تحت مرتبة فراش أحد الموتى؟ كيف يمكن الوثوق بها؟

كانت سيارتها هي السيارة الأولى التي تقبع في فناء آل جريفز ليلًا.

قالت أودري أتكينسون إنها لم يجرِ استدعاؤها من قبلُ لنظر إحدى الحالات في منزل بدائي كذلك المنزل. قالت إن الأمر كان يفوق تصوُّرَها؛ فكيف يمكن أن يعيش أناس على هذا النحو؟

قالت لأمي: «حتى لا يرجع ذلك إلى أنهم فقراء، أليس الأمر كذلك؟ هذا ما أستطيع أن أفهمه، أو لا يرجع حتى الأمر إلى مذهبهم. إذن، ما مَرَدُّ الأمر؟ إنهم لا يعبئون!»

حاولَتْ في البداية أن تقترب من أمي، كما لو كانتا ستصبحان حليفتين طبيعيتين في هذا المكان الموحش. تحدَّثَتْ كما لو كانتا في العمر نفسه — كلتاهما أنيقة، وذكية، تحب قضاء وقت طيب، وتمتلك أفكارًا عصرية. عرضَتْ على أمي أن تعلِّمها قيادة السيارة، وعرضت على أمي سجائر، أغرت أمي فكرة تعلُّم قيادة السيارة أكثر من تدخين السجائر، لكنها رفضت وكانت ستنتظر زوجها كي يعلمها. رفعت أودري أتكينسون حاجبيها البرتقاليين المائلين إلى اللون الوردي قبالة أمي خلف ظهر فلورا، وكانت أمي في شدة الغضب؛ كانت أمي تكره الممرضات أكثر مما كانت فلورا تكرههن.

قالت أمي: «كنتُ أعرف حقيقةَ أمرها، لكن فلورا لم تكن تعرفها.» كانت أمي تعني أنها لمحت آثار حياة رخيصة، ربما حتى بارات، ورجال سيئي الأخلاق، وصفقات صعبة في الحياة، وهي أشياء كانت فلورا من النقاء الداخلي بحيث لا تلحظها.

بدأت فلورا في عملية التنظيف الكبرى مجدَّدًا. نشرت فلورا الستائر فوق العوارض الخشبية، وقامت بنفض الأبسطة المنشورة، وقفزت صاعدةً السلم لتنظيف الحواف العليا من الأتربة، لكنها كانت تتعطل طوال الوقت بسبب اعتراضات الممرضة أتكينسون.

كانت الممرضة أتكينسون تقول في أدب مصطَنَع: «كنتُ أتساءل إذا كنَّا نستطيع أن نقلِّل من هذه الجلبة؟ أنا لا أطلب إلا راحة مريضتي.» كانت دومًا تتحدث عن إيلي باعتبارها «مريضتي»، وكانت تتظاهر أنها الوحيدة التي تحميها وتُجبِر الآخرين على احترامها، لكنها لم تكن تُظهِر احترامًا كبيرًا لإيلي. كانت تقول، وهي تجر المخلوقة المسكينة إلى وسادتها: «هيلا هوب.» وكانت تقول لإيلي إنها لن تسمح بالتذمر والشكاية. كانت تقول لها: «أنتِ لا تساعدين نفسك البتة هكذا، وبالتأكيد لا تساعدينني على أن آتي إليك سريعًا. ربما يجب عليك أن تتعلمي أن تتحكمي في نفسك.» هكذا كانت تصيح منفعلة في وجه إيلي مؤنِّبَةً إياها عندما كانت ترى تقرحات إيلي في الفراش، كما لو أن ذلك كان سببًا آخَر في وصم المنزل. كانت تطلب مستحضراتٍ لتنظيف الجلد، ومراهمَ وصابونًا باهظَ الثمن، كلها، بلا شك، لوقاية جلدها هي، الذي زعمت تضرُّره من الماء العسر. (كيف يكون الماء عسرًا؟! كانت أمي تسأل — التي كانت تدافِع عن أهل هذا البيت مثلما لم يفعل أحد: كيف يكون الماء عسرًا وهو يأتي من برميل ماء المطر؟!)

كانت الممرضة أتكينسون تريد قشدة، أيضًا كانت تقول: إن عليهم الاحتفاظ بكمية منها، لا بيعها بالكامل إلى معمل الألبان. أرادت أتكينسون أن تصنع أصنافًا مغذِّية من الحساء والبودنج لمريضتها. صنعت بالفعل بودنج وجيلي من خلائط معلَّبَة لم يعرفها هذا المنزل من قبلُ. كانت أمي مقتنعة أنها كانت تأكل كلَّ ما تعدُّه.

كانت فلورا لا تزال تقرأ لإيلي، لكنها كانت تقرأ مقتطفات قصيرة من الكتاب المقدس. عندما كانت تفرغ من قراءتها وتنتصب واقفةً، كانت إيلي تحاول التعلُّق بها. كانت إيلي تنتحب، وفي بعض الأحيان كانت تشكو شكاوى مضحكة؛ كانت تقول: إن ثمة بقرة عائدة إلى المنزل، تحاول دخول الغرفة وقتلها.

كانت الممرضة أتكينسون تقول: «عادةً تراودهم بعض الأفكار كتلك. لا يجب أن تستجيبي لها وإلا لن تدعك تذهبين ليلًا أو نهارًا. هكذا هم، لا يفكرون إلا في أنفسهم. الآن، عندما أكون وحدي معها، تسيطر على نفسها جيدًا، لا أجد أي مشكلات على الإطلاق، لكن عندما تكونين هنا، أجدني أواجه متاعب مرةً أخرى؛ لأنها تراك وتنزعج. هل ترغبين في أن تجعلي عملي أكثر صعوبة؟ أعني أنك أحضرتِنِي هنا لأرعاها، أليس كذلك؟»

كانت فلورا تقول: «إيلي، الآن عزيزتي إيلي يجب أن أذهب.» وكانت تقول للممرضة: «أتفَهَّمُ الأمرَ. أتَفَهَّمُ أنك يجب أن تكوني مسئولة عن الأمور هنا، وأنا معجَبَة بكِ للعمل الرائع الذي تقومين به. يجب أن تتحلي في عملك بكثير من الصبر والعطف.»

كانت أمي تتعجب لذلك؛ هل كانت فلورا لا ترى الأمور على حقيقتها حقًّا، أو تُراها كانت تأمل من خلال هذا الثناء غير المستحَق أن تحثَّ الممرضة أتكينسون على أن تتحلى بالصبر والعطف اللذين لا تتحلَّى بهما؟ كانت الممرضة أتكينسون فظَّة المشاعر، ولا ترى في نفسها أية نقيصة، مما يصعب معه أن تقع في شرك محاولة كتلك.

كانت أمي تقول: «هذا عمل صعب، لا شك في ذلك، ولا يستطيع كثيرون القيام به. إنها ليست كتلك الممرضات في المستشفى اللائي يتوفَّر لهن كل شيء يحتاجونه دون مشقة.» لم يكن لديها وقت كثير للمناقشة — كانت تحاول الاستماع إلى برنامج «ميك بيليف بولروم» في الراديو الخاص بها الذي يعمل بالبطاريات.

كانت أمي مشغولة باختبارات نهاية العام وتمارين شهر يونيو في المدرسة. كانت تستعد لزفافها في شهر يوليو. جاء الأصدقاء في سيارات واصطحبوها إلى الخياطة، وإلى الحفلات، ولتختار شكل بطاقات الدعوة التي ترغب فيها ولشراء تورتة الزفاف. ظهرت زهور الليلك، وطالت الليالي، وعادت الطيور وعششت، وكانت أمي تتألق أكثر فأكثر في أعين الآخَرين، وهي على وشك الانطلاق إلى مغامرة الزواج الجليلة الرائعة. كان فستانها سيُزيَّن بزهور من الحرير، وكان وشاح وجهها سيُزيَّن بطوق من اللؤلؤ المنمَّق. كانت أمي تنتمي إلى الجيل الأول من الشابات اللائي كُنَّ يدَّخِرْنَ أموالهن لحفلات زفافهن — حفلات أكثر أبهة مما كان آباؤهن يستطيعون تحمُّل تكلفتها.

في أمسيتها الأخيرة، جاءت الصديقة من مكتب البريد لاصطحابها، ومعها ملابسها وكتبها والأشياء التي صنعتها لتجهيزات عُرْسها، و«الهدايا» التي أعطاها تلاميذُها وآخَرون إياها. ثار هرج ومرج وضحك كثير حول وضع كل هذه الأشياء في السيارة. خرجت فلورا من المنزل وساعدت أمي في وضع أشيائها. قالت فلورا ضاحكةً: هذه المرأة التي في طريقها إلى الزواج مزعجة أكثر مما كنتُ أظن. أهدت فلورا أمي مفرشًا للتسريحة، كانت قد غزلته سرًّا. كان لا يمكن منع الممرضة أتكينسون من المشاركة في مناسبة مهمة؛ قدَّمَتْ زجاجةَ عطرٍ كهدية. وقفت فلورا على المنحدر إلى جانب المنزل وهي تلوِّح مودِّعة أمي. كانت قد جرت دعوتها إلى الزفاف، لكنها بالطبع قالت إنها لن تستطيع المجيء، لا تستطيع «الخروج» في مثل ذلك الوقت. كانت المرة الأخيرة على الإطلاق التي رأَتْ أمي فيها فلورا هي هذه المرة التي كانت فلورا تقف فيها وحيدة، تلوِّح في حماس مرتدية ميدعة التنظيف وعصابة الرأس، على المنحدر الأخضر إلى جانب المنزل أسود الجدران، في ضوء المساء.

قالت الصديقة من مكتب البريد: «حسنًا، ربما ستحظى الآن بما لم تكن لتحظى به في المرة الأولى؛ ربما سيتمكنان الآن من الزواج. هل هي كبيرة سنًّا على أن تكوِّن عائلة؟ كم عمرها على أي حال؟»

كانت أمي تعتقد أن هذه طريقة فظة للغاية للحديث عن فلورا، وأجابت أنها لا تعرف. في المقابل، كانت تقرُّ في قرارة نفسها أنها كانت تفكِّر في الشيء ذاته.

•••

عندما تزوَّجَتْ واستقرت في بيتها، على مسافة ثلاثمائة ميل، تلقَّتْ أمي خطابًا من فلورا. ماتت إيلي، ماتت متمسِّكةً بمذهبها، مثلما قالت فلورا، راضية بوفاتها. ظلت الممرضة أتكينسون مقيمة في المنزل لفترة، حتى حان موعد مغادرتها لمتابعة حالتها التالية. كان ذلك في أواخر الصيف.

لم ترد أخبار من فلورا عمَّا حدث لاحقًا. عندما كتبَتْ إليها في الكريسماس، بدت كما لو كانت تأخذ على محمل التسليم أن أخبارها تُنقَل إليها وأنها لن تأتي بجديد.

كتبت فلورا قائلةً: «لعلك سمعتِ بالتأكيد … أن روبرت والممرضة أتكينسون تزوَّجَا، هما يعيشان هنا، في الجزء الخاص بروبرت في المنزل، يقومان بإجراء بعض الإصلاحات فيه ليلائمهما. لعل من قبيل سوء الأدب أن أطلق عليها الممرضة أتكينسون، مثلما أرى أنني دعيتها توًّا، كان يجب أن أسميها أودري.»

بالطبع، كانت صديقة مكتب البريد قد كتبت إلى أمي، مثلما فعل آخَرون. كانت صدمة وفضيحة مروعتين، ومسألة أثارت المقاطعة بأسرها؛ نظرًا لغرابة وسِرِّيَّة زواج روبرت مثل زواجه الأول (وإن لم يكن للسبب نفسه بالتأكيد)، وزرع الممرضة أتكينسون بصورة دائمة في المقاطعة، وخسارة فلورا للمرة الثانية، لم يسمع أحد بوجود أي نوع من المغازلة بين الاثنين، وتساءلوا: كيف استطاعت المرأة أن تغريه بالزواج منها؟ هل وعدته بإنجاب أطفال، كاذبةً عليه بشأن عمرها؟

لم تنتهِ المفاجآت بالزواج بأي حال من الأحوال؛ فلم تُضع العروس وقتًا واستكملت على الفور «إجراء الإصلاحات» التي ذكرتها فلورا، ثم جاءت الكهرباء والهاتف. كانت الممرضة أتكينسون — إذ سيُطلَق عليها الممرضة أتكينسون دومًا — تُسمَع عبر الهاتف تعنِّف مَن يقومون بالطلاء، وتعليق ورق الحائط، وخدمات التوصيل. قامت بتجديد كل شيء. قامت بشراء سخَّان كهربائي ووضعته في حمام، ولا يعلم أحد من أين جاءت بالأموال؟ هل كانت أموالها؟ حصلت عليها من خلال صفقات متعلقة بمرضى على فراش الوفاة؟ من خلال صفقات إرث مشبوهة؟ هل كانت الأموال أموال روبرت، نصيبه؟ نصيب إيلي، الذي تركته له وللممرضة أتكينسون ليستمتعا به، هذان الزوجان عديما الحياء!

جرت عمليات التطوير هذه جميعها في جانب واحد فقط من المنزل، ظل جانب فلورا كما هو؛ لا وجود لمصابيح كهربية، ولا وجود لورق حائط جديد، ولا ستائر معدنية. عندما جرى طلاء المنزل من الخارج — باللون الكريمي بزخارف داكنة الخضرة — تُرِك جانب فلورا كما هو، قُوبِلَتْ هذه البداية الغريبة في البداية بشيء من الشفقة والامتعاض، ثم بتعاطف أقل؛ علامةً على عناد فلورا وغرابتها (كان باستطاعتها شراء طلاء، وجعل جانبها يبدو أكثر أناقة)، وأخيرًا صار الأمر بمثابة مزحة. جاء الناس من كل حدب وصوب لمشاهدة المنزل.

كان يُقام حفل راقص دومًا في المدرسة لأي زوجين متزوجين حديثًا. كان يجري تقديم مبلغ نقدي — يُطلَق عليه «محفظة مالية» — إليهما. أعلنت الممرضة أتكينسون أنها لا تمانع في اتباع هذا التقليد، على الرغم من أن عائلة زوجها كانت تحرِّم الرقص. اعتقد البعض أن من العار إرضاء الممرضة أتكينسون، ما يمثِّل صفعةً على وجه فلورا. اتسم آخرون بفضول مفرط حال دون إحجامهم عن التطفل، كانوا يريدون أن يروا كيف سيتصرف الزوجان المتزوجان حديثًا. هل سيرقص روبرت؟ ما شكل الفستان الذي سترتديه العروس؟ تأخَّرَ تنظيم الحفل فترةً، ثم ما لبث أن تمَّ وتلقَّتْ أمي الأنباء.

ارتدت العروس الفستان الذي كانت قد ارتدته في زفافها، أو هكذا قالت، لكنْ مَن يرتدي فستانًا كذلك في منزل القس؟ لعل الأمر الأكثر احتمالًا أنها ابتاعت الفستان خصيصى من أجل ظهورها في حفل الرقص. فستان من الستان الأبيض الناصع، له عنق على هيئة قلب، فستان لشابة صغيرة جدًّا. ارتدى العريس بذلة جديدة لونها أزرق داكن، وكانت العروس قد غرست زهرة في عروة سترته. كان منظرهما لافتًا للانتباه. كان شعرها مصفَّفًا بحيث يُعمي الأبصار من خلال الانعكاسات النحاسية البرَّاقة، وبدا وجهها كما لو كان سيتهشم لو حدث أن أراحته على كتف رجل أثناء الرقص. رقصت، بالطبع؛ رقصت مع الجميع إلا العريس، الذي جلس محصورًا في أحد مقاعد المدرسة قبالة الحائط. رقصت مع كل الرجال في الحفل — جميع الرجال زعموا أن عليهم الرقص معها، هكذا كان التقليد — ثم جرجرت روبرت خارج المقعد لتَلَقِّي المبلغ النقدي ولشكر الجميع على أمانيهم الطيبة. أشارت خفيةً إلى النساء في غرفة المعاطف أنها تشعر أنها ليست على ما يرام، للسبب المعتاد الذي تذكره أي عروس جديد. لم يصدِّقها أحدٌ، وحقيقةً لم يظهر شيء يدل على ذلك، إذا كانت فعلًا تشعر كما تقول. ظنَّتْ بعض النساء أنها كانت تكذب عليهن حقدًا منها، وتهينهن وتستخف بهن بحيث تظن أنهن بهذه السذاجة. لم يعترضها أحدٌ، ولم يتصرف أحد بوقاحة نحوها؛ ربما نظرًا لأنه من الواضح أنها كانت قادرة على التصرف بوقاحة بحيث لا يمكن أن يقف أمامها أحد.

لم تكن فلورا حاضرةً في الحفل.

قالت الممرضة أتكينسون: «سلفتي لا ترقص. لا تزال متمسكة بعادات الزمن الفائت.» دعتهم جميعًا للسخرية من فلورا، التي كانت تدعوها دومًا سلفتي، على الرغم من أنه لم يكن لها أي حق في أن تدعوها كذلك.

كتبت أمي خطابًا إلى فلورا بعد سماعها بكل هذه الأشياء. من خلال بُعْدها عن المشهد، وربما في غمار الأهمية المولاة إليها نظرًا لوضعها الجديد كعروس جديد، ربما غاب عنها طبيعة الشخص الذي كانت تكاتِبه. عبَّرت أمي عن تعاطفها وأظهرت جامَّ غضبها، ونقدت بشكل مباشر وعنيف المرأة التي — مثلما كانت ترى أمي — أعطت فلورا صفعة شديدة. أجابت فلورا على خطاب أمي قائلةً إنها لا تعلم من أي مصدر تتلقَّى أمي أخبارها، لكن يبدو أنها أساءت الفهم، أو استمعت إلى أشخاص حاقدين، أو قفزت إلى نتائج غير مبرَّرة. ما حدث في عائلة فلورا لا يعني أحدًا، وبالتأكيد لا يوجد ما يستدعي أن يشعر أحد بالأسف أو الغضب نيابةً عنها. قالت فلورا إنها كانت سعيدة وتشعر بالرضى عن حياتها، مثلما كانت دومًا، ولا تتدخل فيما يفعل أو يريد الآخَرون؛ لأن هذه الأشياء لا تعنيها. تمنَّتْ فلورا لأمي وافر السعادة في زواجها، وأمِلت في أن تصبح قريبًا جِدًّا منشغلة بمسئولياتها الخاصة، بحيث لا تهتم بحياة الآخرين الذين كانت تعرفهم.

أصاب هذا الخطاب المكتوب جيدًا أمي بجرح بالغ، مثلما قالت أمي. توقفت وفلورا عن تبادل الرسائل. صارت أمي منشغلة حقيقةً بحياتها الخاصة، وأخيرًا صارت أسيرة لها.

مع ذلك، كانت أمي تفكر في فلورا. بعد سنوات، عندما كانت تتحدث في بعض الأحيان عن الأشياء التي كان بإمكانها أن تَكُونها أو تحققها، كانت تقول: «لو قُدِّر لي أن أكون كاتبةً — وأظن أنني كنت أستطيع أن أكون كذلك؛ كنت أستطيع أن أكون كاتبة، وقتها كنت سأكتب قصة حياة فلورا. هل تعلمين ماذا كنتُ سأسمي قصتها؟ «المرأة العذراء».»

«المرأة العذراء». قالت هذه الكلمات في نغمة تتسم بالجلال والعاطفية المفرطة لم أكُنْ بحاجة إليها، كنت أعرف — أو أظنني كنتُ أعرف — تمامًا قيمة ما كانت تجده في هذه الكلمات؛ الجلال والغموض، الإشارة إلى نقد تحوَّلَ إلى توقير. كنتُ أبلغ من العمر خمسة عشر أو ستة عشر عامًا في ذلك الوقت، وكنت أعتقد أنني أستطيع قراءة عقل أمي، كنتُ أستطيع أن أرى ما كانت ستفعله بشخصية فلورا، وما فعلته فعلًا. كانت ستصنع منها شخصية نبيلة، شخصية تتقبل بصدر رحب الخيانة، الغدر، شخصية تغفر وتتوارى عن الأنظار، لا مرة واحدة بل مرتين. لا توجد لحظة واحدة من الشكوى. تمضي فلورا في ممارسة أعمالها الممتعة، تنظِّف المنزل، وتنظِّف حظيرة الأبقار، وتنظِّف تجمعات دموية من فراش أختها، وعندما بدا أن المستقبل أخيرًا يفتح لها ذراعيه — تموت إيلي، ويتضرع روبرت من أجل أن تغفر له، وستفعل ذلك نظرًا لطبيعتها النبيلة — يجيء دور أودري أتكينسون التي تقود سيارتها إلى فناء المنزل، وتقف حائلًا أمام سعادة فلورا ومستقبلها، بصورة غير مفهومة وأكثر عمقًا في المرة الثانية أكثر من المرة الأولى. يجب على فلورا أن تتحمل طلاء المنزل، وتركيب المصابيح الكهربية، وجميع الأنشطة الصاخبة في الجانب الآخَر من المنزل، برنامج «ميك بليف بولروم» ومسلسل «آموس آند آندي». لا مزيد من القصص الهزلية الاسكتلندية أو المواعظ القديمة. يجب على فلورا أن تودِّعهما في طريقهما إلى حفل الرقص — حبيبها القديم وتلك المرأة بليدة العواطف، الغبية، وغير الجميلة على الإطلاق في فستان الزفاف الستان الأبيض. تجري السخرية من فلورا. (وبالطبع تركت فلورا المزرعة من أجل إيلي وروبرت، وبالطبع ورث روبرت إيلي، والآن يئول كل شيء إلى أودري أتكينسون.) ينتصر الأشرار. كل شيء كالمعتاد في حياتنا؛ يستتر الأخيار في صبر وتواضع، ويهديهم يقين لا تستطيع الأحداث أن تعكِّر صفوه.

هذه هي الصورة التي خِلْتُ أن أمي ستصيغ قصتها بها. في ظل معاناتها، أصبحت أفكارها روحية أكثر، وكان يوجد في صوتها في بعض الأحيان خفوت، استثارة مهيبة كانت تستثيرني، وتنبِّهني إلى ما كان يبدو خطرًا شخصيًّا يتهددني. شعرتُ بوجود سحابة كبيرة من الأفكار الغامضة والمشاعر الروحية تتربص بي، وهي سُلْطَةُ أمٍّ قعيدةٍ لا يمكن مقاومتها، والتي تستطيع أن تمسك بي وتخنقني. كان لا يبدو أن ثمة نهاية لذلك. كان عليَّ أن أظل ناقدة، وساخرة، أجادل وأواجه. أخيرًا، توقَّفْتُ حتى عن ذلك وصرت أعارِضها في صمت.

هذه طريقة مهذَّبة للقول بأنني لم أكن الصدر الحاني لها، وكنتُ صحبة غير طيبة لها عندما لم يكن لديها ملاذ آخَر تلجأ إليه.

كانت لديَّ أفكاري الخاصة حول قصة فلورا. لم أعتقد أنني أستطيع كتابةَ رواية، لكنني كنتُ أرغب في كتابة واحدة. كنتُ سأتخذ مسارًا آخَر، كنتُ أقرأ ما بين سطور قصة أمي وأملأ فراغ ما كانت تتركه. كانت فلورا التي أتصورها سمراء مثلما كانت فلورا التي كانت تحكي عنها أمي بيضاء. ففي استمتاعها بالمواقف السيئة التي تعرَّضَتْ لها وبقدرتها على الغفران، وتلصصها على مآسي حياة أختها، كنت سأتصورها ساحرة مشيخية، تقرأ من كتابها المسموم. يتطلب الأمر قسوة مماثلة، الوحشية البريئة نسبيًّا للممرضة منعدمة المشاعر، لدفعها بعيدًا، حتى يتحسن وضعها في الظلال. لكنها تم إقصاؤها؛ أقصتها قوة الجنس والحقد العادي بعيدًا، وحبستها في القسم الخاص بها من المنزل مع المصابيح التي تُضاء بزيت الفحم. انكمشت، تقوقعت، تصلبت عظامها، وازدادت مفاصلها خشونةً، وأرى الجمال المجرد للنهاية التي سأبتغيها — يا لها من نهاية! ستصبح قعيدة، مصابة بالتهاب المفاصل، لا تكاد تقدر على الحركة. الآن، أودري أتكينسون تظهر في كامل لياقتها، تطالب بالبيت كله. تريد أن تزيل تلك التقسيمات التي عملها روبرت بمساعدة فلورا عندما تزوَّج إيلي. ستوفر غرفةً لإيلي، وستعتني بها. (لا ترغب أودري أتكينسون في أن يجري النظر إليها باعتبارها وحشًا، وربما هي ليست كذلك حقيقةً.) لذا، في أحد الأيام يحمل روبرت فلورا — للمرة الأولى والأخيرة بين ذراعيه — إلى الغرفة التي أعدتها زوجته أودري لها، وبمجرد استقرار فلورا في ركنها المُضاء والمُدفأ جيدًا، تتولى أودري أتكينسون مهمة تنظيف الغرف الخالية حديثًا، غرف فلورا. تحمل كومة من الكتب القديمة إلى الفناء. يحل الربيع مجدَّدًا، وقت تنظيف المنزل، الموسم الذي كانت فلورا نفسها تمارس عمليات التنظيف هذه فيه، والآن يبدو وجه فلورا الشاحب من وراء الستائر الشبكية الجديدة. لقد جرجرت نفسها من ركنها، لكي ترى السماء ذات اللون الأزرق الصافي بسحبها العالية المتزلقة فوق الحقول الندية، وطيور الغراب المتناحرة، والجداول الوافرة، وأفرع الأشجار الآخذة في الاحمرار. ترى الدخان يتصاعد من موقد إحراق القمامة في الفناء؛ حيث تحترق كتبها، تلك الكتب القديمة العفنة، مثلما كانت تسميها أودري. الكلمات والصفحات، ظهر الكتب داكنة اللون النذيرة بالشؤم. الأخيار، الملعونون، الآمال الواهية، العذابات العظيمة، كلها تحترق ويتصاعد الدخان منها. كانت تلك هي النهاية.

بالنسبة إليَّ، كان الشخص الغامض حقًّا في القصة، مثلما كانت ترويها أمي، روبرت. فهو لم يقل شيئًا البتة؛ يُخطَب إلى فلورا، يسير إلى جوارها بحذاء النهر عندما تفاجئهم إيلي، يجد أشواك إيلي في فراشه، يصنع جميع أعمال النجارة اللازمة لزواجه هو وإيلي، يستمع أو لا يستمع بينما تقرأ فلورا. أخيرًا، يجلس محصورًا في أحد مقاعد المدرسة بينما ترقص عروسه المبالغة في حركاتها وملابسها مع جميع الرجال.

هذا كل ما أعرفه عن تصرفاته ومرات ظهوره. رغم ذلك، كان هو الشخص الذي بدأ كل شيء من خلاله، سرًّا. «فعلها» بإيلي. فعلها بتلك الفتاة المتوحشة النحيلة في وقت كان مخطوبًا إلى أختها، وفعلها بها مرارًا وتكرارًا عندما لم تكن أكثر من مجرد جسد سقيم مسكين، امرأة لا تقوى على حمل طفل، راقدة في الفراش.

لا بد أنه فعلها بأودري أتكينسون أيضًا، ولكن في ظل نتائج أقل كارثية.

تلك الكلمات، «فعلها ﺑ …» — الكلمات التي لم تكن أمي، فضلًا عن فلورا، لتتفوه بها — كانت ببساطة مثيرة بالنسبة لي، لم أشعر بأي قدر من النفور أو الامتعاض بأي شكل حيالها، كنتُ أتجاهل التحذير، لم يكن مصير إيلي حتى ليردعني، ليس حتى عندما فكَّرتُ في هذا اللقاء الأول، التهور فيه الناتج عن اليأس، قَدُّ الملابس والمقاومة. اعتدت اختلاس النظرات الطويلة إلى الرجال في تلك الأيام. كنت أعجب بمعاصمهم ورقابهم وأي جزء من صدورهم ما كان يسمح زر مفتوح برؤيته، بل آذانهم وأقدامهم في الأحذية. لم أكن أتوقع أي شيء عقلاني من الرجال، فهم تتملكهم فقط شهوتهم. دارت أفكار مشابهة بخلدي حول روبرت.

كان ما جعل فلورا شريرة في قصتي هو ما جعلها مثار إعجاب في قصة أمي؛ ابتعادها عن الجنس. كنتُ أقاوم كل شيء تحاول أمي أن تلقِّنني إياه حول هذا الموضوع، كنت أكره حتى انخفاض صوتها، التحذير الغامض التي كانت تتناول من خلاله الموضوع. نشأت أمي في عصر وفي مكان كان الجنس عملية مرعبة بالنسبة إلى النساء. كانت أمي تعرف أنها قد تموت بسببه؛ لذا، كانت تُعلي من قدر الاحتشام، والعفة، والفتور الشعوري، الذي قد يقيك. ونشأتُ أنا مرتعبة من تلك الحماية، الطغيان المهذَّب الذي بدا كما لو كان ينتشر في جميع مناحي الحياة، لفرض حفلات الشاي وارتداء القفازات البيضاء فرضًا وجميع أشكال التفاهات الطنانة. كنتُ أفضِّل الكلمات السيئة والتطفل، كنتُ أداعب نفسي بفكرة طيش وهيمنة الرجل. كان الغريب في الأمر أن أفكار أمي كانت متوافِقة مع بعض الأفكار التقدمية في عصرها، وكانت أفكاري تردِّد صدى الأفكار التي كانت مفضَّلة في زمني، كان ذلك بالرغم من أننا كنا نظن أنفسنا مستقلتين، وكنا نعيش في مكان متخلف لم تمر عليه هذه التغيرات. كان الأمر كما لو أن الميول التي بدت أكثر تجذرًا في عقولنا، الأكثر خصوصية وغرابة، جاءت في صورة بذور تذروها رياح عاتية، تبحث عن أي مكان محتمل تقر فيه، عن أي لفتة ترحيب.

•••

قبل وقت غير طويل من وفاتها، عندما كنتُ لا أزال أقيم في المنزل، تلقَّتْ أمي خطابًا من فلورا الحقيقية. جاء الخطاب من تلك المدينة قرب المزرعة، المدينة التي اعتادت فلورا أن تذهب إليها، في العربة الكبيرة مع روبرت، ممسكةً بأجولة الصوف أو البطاطس.

كتبَتْ فلورا أنها لم تَعُدْ تعيش في المزرعة.

كتبَتْ قائلةً: «لا يزال روبرت وأودري يعيشان هناك … بخلاف بعض المتاعب في ظهره، كان روبرت يتمتع بصحة جيدة. دورة أودري الدموية كانت ضعيفة، وكانت تصاب بضيق في التنفس كثيرًا. يقول الطبيب: إنها يجب أن تفقِد بعض وزنها، لكن يبدو أن أيًّا من النظم الغذائية التي تتبعها لا يجدي. كانت أمور المزرعة تسير على خير ما يرام. أوقفوا تربية الخراف بالكامل وتحولوا إلى تربية الأبقار الحلوب. فمثلما قد تكوني سمعتي، أهم الأشياء على الإطلاق الآن هو الحصول على حصة اللبن من الحكومة، ثم يصبح كل شيء على ما يرام. الإسطبل القديم مزوَّد بماكينات حلب وأحدث المعدات، يا له من أمر رائع! عندما أذهب إلى هناك، لا أكاد أعرف أين أنا.»

استمرت في حديثها قائلةً إنها تعيش في المدينة منذ بضع سنوات، وإنها حصلت على وظيفة في أحد المتاجر، لا بد أنها قالت أي نوع من المتاجر كان ذلك، لكنني لا أذكر الآن. بالطبع، لم تذكر شيئًا عما قادها إلى ذلك القرار، سواء كان قد جرى طردها من مزرعتها، أو باعت حصتها، دون أن تجني فيما يبدو كثيرًا من وراء ذلك. شدَّدَتْ على صداقتها مع روبرت وأودري، وقالت إن صحتها جيدة.

كتبَتْ قائلةً: «سمعت أنك لم تكوني محظوظة في حياتك؛ قابلت مصادفةً سليتا بارنز التي كانَتْ تُدعَى سليتا ستابلتون في مكتب البريد في موطني، وأخبرتني أن لديك بعض المشكلات في عضلاتك، وقالت إن قدرتك على الكلام تأثَّرَتْ أيضًا. أحزنني سماع ذلك، لكن يستطيع الأطباء عمل الكثير هذه الأيام؛ لذا آمل أن يستطيع الأطباء مساعدتك.»

خطاب مزعج، لا يتحدث عن أشياء كثيرة. لا توجد أي إشارة في الخطاب إلى إرادة الله أو دوره في ابتلاءاتنا، لا يوجد أي ذكر حول ما إذا كانت فلورا لا تزال تذهب إلى تلك الكنيسة. لا أعتقد أن أمي قامت بالرد على هذا الخطاب. كان خطها الجميل، وأسلوبها في الكتابة كمدرِّسة قد تدهوَرَا، وكانت بالكاد تستطيع الإمساك بالقلم، كانت دومًا تشرع في كتابة الخطابات ولا تستطيع الفراغ من كتابتها. كنتُ أجدها ملقاةً في أنحاء المنزل. كانت خطاباتها تبدأ قائلةً: «عزيزتي ماري»، و«حبيبتي روث»، و«عزيزتي الصغيرة جوان (على الرغم من أنني أدرك أنك لم تَعُودي صغيرة)»، و«صديقتي القديمة العزيزة سليتا»، و«محبوبتي مارجريت». كان أولئك النساء صديقاتها منذ أيام التدريس، أيام دراستها بكلية المعلمين، ومن المدرسة الثانوية. كان قليلًا منهن من تلاميذها السابقين. كانت أمي تقول في تحدٍّ: لديَّ أصدقاء في جميع أنحاء البلاد. لديَّ أصدقاء أعزاء جدًّا.

أتذكَّر رؤية أحد الخطابات الذي كان يبدأ هكذا: «صديقة شبابي». لا أعلم إلى مَن كان الخطاب موجَّهًا؛ كُنَّ جميعهن صديقات شبابها. لا أتذكر أي خطاب كان يبدأ «عزيزتي وحبيبتي فلورا»، كنت أنظر إلى الخطابات دومًا، محاوِلةً أن أقرأ عبارات التحية والجمل القليلة التي كانت قد كتبتها، ونظرًا لأنني لم أكن أتحمل أن أشعر بالحزن، كنت أشعر بعدم الصبر تجاه اللغة المنمَّقة، التي تستجدي بشكل مباشر الحب والشفقة. «كانت ستتلقى المزيد من ذلك.» هكذا كنتُ أحدِّث نفسي (أعني أكثر مما كنتُ أبعث به إليها)، إذا استطاعت الانسحاب في كرامة، بدلًا من محاولتها طوال الوقت التأثير عليَّ بأفكارها المريضة.

كنتُ قد فقدت الاهتمام بفلورا في ذلك الوقت، كنتُ أفكِّر دومًا في القصص، وفي ذلك الوقت ربما كانت لدي قصة جديدة تدور بخلدي.

لكنني كنتُ أفكِّر بها منذ ذاك الحين، كنتُ أحدِّث نفسي أيَّ نوع من المتاجر التي تعمل بها: متجر بيع أدوات معدنية، أم متجر مستلزمات منزلية رخيصة؛ حيث كانت ترتدي معطفًا، أم صيدلية؛ حيث كانت ترتدي زيًّا مثل الممرضات، أم متجر ملابس نسائية؛ حيث يُتوقَّع أن تبدو في هيئة أنيقة؟ ربما كان عليها أن تعرف أكثر عن خلاطات الطعام، أو المناشير الجنزيرية، أو الملابس الداخلية النسائية، أو مستحضرات التجميل، أو حتى العوازل الذكرية. ربما كان عليها أن تعمل طوال اليوم في ضوء المصابيح الكهربية، وتشغِّل ماكينة دفع نقدي. أتراها تصفِّف شعرها في صورة تموجات، وتطلي أظافرها، وتضع طلاء شفاه؟ لا بد أنها وجدَتْ مكانًا تعيش فيه — شقة صغيرة بها مطبخ صغير، مطلَّة على الشارع الرئيسي، أو غرفة في نُزُل. كيف تستطيع المضي في الحياة بمذهبها الكاميروني؟ كيف كانت تستطيع بلوغ تلك الكنيسة القَصِيَّة إلا إذا نجحت في شراء سيارة وتعلَّمَتْ قيادتها؟ وإذا فعلتَ ذلك فربما لم تكن تكتفي بقيادة السيارة إلى الكنيسة بل إلى أماكن أخرى، ربما تسافر في عطلات، ربما تستأجر كوخًا يطل على بحيرة لمدة أسبوع، وتتعلم السباحة، وتزور إحدى المدن، ربما تتناول الطعام في مطعم، ربما في مطعم يجري تقديم المشروبات الكحولية فيه، ربما تصادق نساءً مطلَّقات.

ربما تصادِق رجلًا، أخًا أرملًا لصديق، ربما رجلًا لم يعرف أنها كاميرونية أو مَن هم الكاميرونيون، رجلًا لا يعرف شيئًا عن قصتها، رجلًا لم يكن قد سمع قطُّ عن الطلاء الجزئي للمنزل أو الخيانتين، أو أن الأمر تطلَّبَ منها كامل كرامتها وبراءتها حتى تتجنَّبَ أن تصبح أضحوكة. ربما يرغب في اصطحابها للرقص، وربما يجب عليها أن تفسِّر لماذا لا تستطيع الذهاب معه. ربما يندهش لكنه لن يصاب بخيبة أمل؛ فربما يبدو أمر المذهب الكاميروني هذا كله غريبًا بالنسبة إليه، ولكنْ شيئًا مثيرًا، وهكذا بالنسبة للجميع. نشأت فلورا وفق تعاليم مذهب غريب، هكذا سيقول الناس. عاشت فترة طويلة في مزرعة مهجورة. رغم أنها غريبة الأطوار بعض الشيء، فإنها لطيفة حقًّا وجميلة أيضًا، خاصةً عندما قامت بتصفيف شعرها.

ربما أدخل أحد المتاجر فأجدها.

لا، لا، ستكون قد ماتت منذ وقت طويل حينها.

لكن هَبْ أنني دخلت أحد المتاجر، ربما أحد المتاجر متعدِّدَة الأقسام، وأرى مكانًا مزدحمًا، توجد به معروضات معروضة بشكل تقليدي، متجر على غرار المتاجر قديمة الطراز في فترة الخمسينيات. هَبْ أن امرأة طويلة وسيمة، ظهرت في رشاقة، أتت تلبِّي طلبي، وكنتُ أعرف إلى حدٍّ ما — على الرغم من الشعر المرشوش والمنفوش والأظفار والشفاه الوردية أو المرجانية اللون — أن هذه هي فلورا، كنتُ سأرغب في أن أقول لها إنني كنت أعرف، أعرف قصتها، على الرغم من أننا لم نلتقِ قط. أتصور نفسي أحاول أن أخبرها. (هذا حلم الآن، أفهمه كحلم.) أتصورها تستمع، برزانة تُحسَد عليها، لكن ها هي تهز رأسها، تبتسم إليَّ، وفي ابتسامتها شيء من الاستهزاء، خبث خفي واثق، وسأم أيضًا. بينما لا يدهشها أني أقول لها ذلك، تسأم من الأمر، مني، ومن فكرتي عنها، معلوماتي، فكرتي أنني ربما أعرف شيئًا عنها.

بالطبع، إنها أمي التي أفكِّر بها، أمي مثلما كانت تظهر في تلك الأحلام، تقول بنبرة غفران أريحية مدهشة: «لا شيء، مجرد رجفة بسيطة. أوه، كنتُ أعلم أنكِ ستأتين يومًا.» أمي تفاجئني، وتفعلها غير عابئة. قناع وجهها، مصيرها، ومعظم آلامها ذهبت عنها. كم كنتُ أشعر بالراحة، بالسعادة! لكن أتذكَّر الآن أنني كنت منزعجة أيضًا، أقول إنني أشعر بأنني خُدِعتُ قليلًا. نعم، أشعر بالإهانة، بالخديعة، بالغدر، بسبب هذا التحوُّل المرحب به، هذا التحرُّر. كانت أمي تتحرك في غير اكتراث خارج سجنها القديم، مظهِرَةً خيارات وقدرات لم أحلم قط أنها كانت تمتلكها، تحوُّلات أكثر من ذاتها نفسها. لقد حولت أمي هذه الكتلة المريرة من الحب التي كنتُ أحملها كل هذا الوقت إلى شبح؛ شيء بلا نفع وغير مرغوب فيه، مثل الحمل الكاذب.

•••

مثلما اكتشفتُ، فإن الكاميرونيين — أو بالأحرى كانوا — مجموعةً متشدِّدةً متبقية من المعاهدين؛ أولئك الاسكتلنديين الذين في القرن السابع عشر تعاهَدُوا أمام الرب على رفض كتب الصلوات والأساقفة، أو أي مسحة من البابوية أو التدخل من قِبَل الملك. يأتي اسمهم من ريتشارد كاميرون، أحد الواعظين المحظورين، أو واعظي «الشوارع»، الذي سرعان ما جرى قتله. خاض الكاميرونيون — الذين ظلوا يفضلون لفترة طويلة أن يُطلَق عليهم المشيخيون الإصلاحيون — المعركة وهم ينشدون المزمارين الرابع والسبعين والثامن والسبعين. قطَّع الكاميرونيون أسقف كنيسة القديس أندروز إربًا حتى الموت على الطريق العام، وامتطوا صهوة جيادهم فوق جسده. وقد شلح أحد قساوستهم — وهو منتشٍ انتشاءً بالغًا وهو يُعدم — جميعَ الواعظين الآخَرين في العالم أجمع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤