أمسكيني جيدًا، لا تدعيني أسقط

أطلال «كنيسة الغابة». مقبرة قديمة، إعلان ويليام والاس حامي اسكتلندا هنا، ١٢٩٨.

قاعة المحكمة حيث كان يقيم الأحكام، ١٧٩٩–١٨٣٢.

فيليفو؟ ١٩٤٥.

مدينة رمادية. أحجار رمادية قديمة مثل إدنبرة. يوجد أيضًا جص بني مائل إلى الرمادي، ليس عتيقًا تمامًا. المكتبة التي كانت يومًا سجنًا (محبسًا).

المنطقة المحيطة تلالية الطابع جدًّا، عبارة عن جبال منخفضة. الألوان قمحي، وبنفسجي فاتح، ورمادي. بعض المساحات الداكنة، تبدو مثل الصنوبر. عملية إعادة تحريج؟ الغابات على حافة المدينة، بلوط، وزان، وبتولا، وإيلكس. ألوان الأوراق متحولة إلى اللون البني الذهبي. الشمس غائبة، لكن تبدو الرياح العاتية والرطبة كما لو كانت تأتي من باطن الأرض. نهر صغير نظيف جميل.

أحد شواهد القبور غاطس في الأرض مائل، الاسم، التاريخ، وغير ذلك، كلها ذهبت، فقط جمجمة وعظمتان متقاطعتان. فتيات ذوات شعر وردي يمرُرْنَ وهنَّ يُدخِّنَّ.

شطبت هازل كلمة «أحكام» وكتبت «العدالة»، ثم شطبت «بنفسجي فاتح»، التي بدت كلمة ضعيفة أكثر مما ينبغي للتعبير عن التلال الجميلة العابسة. لم تكن تعرف ماذا تكتب مكانها.

كانت قد ضغطت على الزر الموجود إلى جانب المدفئة، أملًا في طلب شراب، لكن لم يأتها أحد.

كانت هازل تشعر بالبرد في هذه الغرفة. عندما قامت بالحجز في فندق رويال، في وقت مبكر من بعد الظهيرة، ألقت عليها امرأة ذات شعر ذهبي منفوش، ووجهٍ ناعمٍ مدبَّبٍ، نظرةً فاحصة سريعة، وأخبرتها بالوقت الذي يقدِّمون العشاء فيه، وأشارت إلى الردهة في الدور العلوي كمكان تستطيع الجلوس فيه، مستبعدةً — على هذا النحو — الحانة الدافئة الصاخبة في الدور السفلي. تساءلت هازل عما إذا كانت النزيلات من السيدات محترمات إلى درجة أنهن لا يمكنهن الجلوس في الحانة، أم أنها لم تكن محترمة بما يكفي. كانت ترتدي بنطالًا مخمليًّا مضلعًا ومعطفًا ثقيلًا، وتنتعل حذاء رياضيًّا. كانت المرأة ذات الشعر الذهبي ترتدي سترة مهندمة ذات لون أزرق فاتح وأزرار لامعة، وجوربًا أبيضَ مزينًا بشريط، وحذاءً عاليَ الكعب كان يمكن أن يقتل هازل لو مشت به نصف ساعة. عندما قدمت إلى الفندق بعد ساعتين من السير، فكَّرت في أن ترتدي فستانًا، لكنها قررت أن ترتدي ملابس عادية. استبدلت ملابسها، فارتدت بنطالًا مخمليًّا أسود وقميصًا حريريًّا، حتى تُظهِرَ أنها تبذل بعض المجهود، ومشَّطت وأعادت ربط شعرها، الذي كان رماديًّا قدر ما هو أشقر الآن، وكان جميلًا بما يكفي بحيث كان يمكن أن يتشابك في حركات مثيرة مع الرياح.

كانت هازل أرملة. كانت في خمسينيات عمرها، وكانت تدرِّس الأحياء في المدرسة الثانوية في والي، أونتاريو. كانت هذه السنة في إجازة. كانت امرأة لن تتعجب في أن تجدها تجلس وحدها في ركن ما من هذا العالم حيث لا تنتمي، تدوِّن ملاحظات في مفكرتها حتى تحول دون أن تشعر بالذعر. تجد نفسها تشعر بتفاؤل غير عادي في الصباح، لكن كان الشعور بالذعر مشكلة عند الغسق. لم يكن لهذا النوع من الذعر أي صلة بالمال أو التذاكر أو الترتيبات أو أي أخطار ربما تصادفها في مكان غريب، بل كان يتعلق بهبوط الهمة والابتعاد عن الهدف، وسؤالها نفسها: لماذا أنا هنا؟ من الممكن أن يسأل المرء نفسه ذلك السؤال في المنزل، وبعض الناس يفعلون، لكن عادة ما تجري أمور كثيرة تمنع المرء من توجيه هذا السؤال لنفسه.

لاحظتُ الآن التاريخَ الذي كانت قد كتبته إلى جانب «فيليفو»، ١٩٤٥، بدلًا من ١٦٤٥. ظنَّتْ أنها لا بد وأن تأثَّرت بطراز الغرفة. نوافذ من الطوب الزجاجي، بساط أحمر داكن زخارفه متموجة، ستائر من الكريتون تزيِّنها زهور حمراء وأوراق خضراء إزاء خلفية بيج. أثاث ضخم، مترب، منجد، داكن اللون. أباجورات طويلة. كل هذا من الممكن أنه كان موجودًا هنا عندما كان زوج هازل، جاك، يأتي إلى هذا الفندق خلال الحرب. لا بد أن ثمة شيئًا كان في المدفأة آنذاك، مدفأة غاز، أو شبكة حديدية لحمل الفحم. لا يوجد شيء هناك الآن. ربما ظل البيانو مفتوحًا مجهزًا استعدادًا للرقص، أو ربما كان هناك جرامافون، سرعة أسطواناته ٧٨ لفة في الدقيقة. ربما امتلأت الحجرة بالضباط والفتيات. تستطيع أن ترى أحمر الشفاه الداكن للفتيات، وشعرهن الملفوف إلى أعلى، وفساتينهن الجميلة المصنوعة من قماش الكريب ذات التقويرات التي تتخذ شكل قلب، أو الياقات ذات الأشرطة البيضاء المطرزة المستقلة. كان ملمس البِزَّات العسكرية سيكون جامدًا وخشنًا على أذرع وخدود الفتيات، وكانت ستصبح رائحتها لاذعة، وداخنة، ومثيرة. كانت هازل تبلغ خمسة عشر عامًا من العمر عندما وضعت الحرب أوزارها؛ لذا لم تذهب إلى أي حفلات من ذلك النوع، وحتى عندما ذهبت إلى إحدى هذه الحفلات، كانت أصغر كثيرًا من أن يهتم بها أحد، وكان عليها أن تراقص الفتيات الأخريات أو ربما الأخ الأكبر لإحدى صديقاتها. ربما لم تكن رائحة وملمس الزي العسكري إلا شيئًا تخيَّلَتْه.

والي ميناء مطل على بحيرة. نشأت هازل هناك وكذلك جاك، لكنها لم تعرفه، أو تراه بحيث تتذكره، حتى ظهر في إحدى حفلات رقص المدرسة الثانوية بصحبة مدرِّسة اللغة الإنجليزية، التي كانت إحدى المرافقات. بحلول ذلك الوقت، كانت هازل تبلغ من العمر سبعة عشر عامًا. عندما كان جاك يراقصها، كانت في غاية القلق والعصبية مما جعلها ترتجف. سألها عمَّا بها، واضطرت إلى أن تقول إنها تظن أنها ستصاب بالبرد. تحدَّث جاك مع مدرِّسة اللغة الإنجليزية طويلًا قبل أن يقنعها باصطحاب هازل إلى المنزل.

تزوَّجَا عندما بلغت هازل الثامنة عشر عامًا. في السنوات الأربع الأولى من زواجهما، رُزِقا بثلاثة أطفال. ولم يُرزَقا بأطفال بعدها. (أخبر جاك الناس أن هازل اكتشفت سبب ذلك.) عمل جاك لدى شركة بيع وإصلاح الأجهزة المنزلية بمجرد تركه للقوات الجوية. كانت الشركة ملكًا لأحد أصدقائه الذي لم يسافر إلى الخارج. حتى يوم وفاته، ظل جاك يعمل في تلك الشركة، نفس الوظيفة بشكل أو بآخَر. بالطبع، كان عليه أن يتعرَّف على أشياء جديدة، مثل أفران الميكروويف.

بعد أن ظلت متزوجة مدة خمسة عشر عامًا تقريبًا، بدأت هازل في تلقِّي دورات إضافية، ثم ذهبت إلى الجامعة التي كانت على مسافة خمسين ميلًا، طالبة بنظام الانتظام. حصلت هازل على شهادتها الجامعية وصارت مدرِّسة، وهو ما كانت تخطِّط له قبل أن تتزوج.

لا بد أن جاك كان يوجد في هذه الغرفة. كان سينظر إلى هذه الستائر، وسيجلس على هذا الكرسيِّ.

دخل رجل، أخيرًا، ليسألها عما تريد أن تشربه.

قالت: سكوتش. جعله ذلك يبتسم.

«سيَفِي «الويسكي» بالغرض.»

بالطبع. في اسكتلندا لا يسمى ويسكي السكوتش إلا ويسكي وحسب.

كان معسكر جاك قرب وولفرهامبتون، لكنه اعتاد المجيء هنا خلال إجازاته. جاء بحثًا عن قريبه الوحيد الذي كان يعرفه — والإقامة معه — في بريطانيا؛ ابنة عم أمه، امرأة تُدعَى مارجريت دوبي. لم تكن متزوجة، وكانت تعيش وحدها. كانت في منتصف العمر آنذاك، لذا ستكون مسنَّةً جدًّا الآن، إذا كانت لا تزال حية. لم يواصل جاك مراسلتها بعد أن عاد إلى كندا؛ لم يكن جاك يحب كتابة الخطابات، لكن كان يتحدث عنها، ووجدت اسمها وعنوانها عندما كانت تنظم أشياءه. كتبت خطابًا إلى مارجريت دوبي، فقط لتقول لها إن جاك مات وأنه كان دومًا يذكر زياراته إلى اسكتلندا، لكن لم يَرِدْ أي ردٍّ على الخطاب.

بدا أن جاك وابنة العم تلك صارا قريبين من بعضهما سريعًا. أقام جاك معها في منزل كبير، بارد، مهمل في مزرعة توجد فوق تل، حيث كانت تعيش مع كلابها وخرافها. كان يقترض دراجتها البخارية ويتجوَّل في أنحاء الريف. كان يقود الدراجة البخارية إلى المدينة، إلى هذا الفندق تحديدًا، ليحتسي الشراب ويكوِّن صداقات، أو يتشاجر مع الضباط الآخَرين، أو يطارد الفتيات. التقى هنا ابنة مدير الفندق أنطوانيت.

كانت أنطوانيت تبلغ من العمر ستة عشر عامًا، أصغر مما ينبغي لأن تذهب إلى الحفلات أو أن يُسمَح لها بارتياد الحانة. كان عليها أن تخرج متسللة لتلتقي جاك خلف الفندق أو على الطريق الممتد بحذاء النهر. كانت فتاة جذَّابة، طائشة، رقيقة، شديدة التهوُّر. «أنطوانيت الصغيرة». تحدَّث عنها جاك إلى هازل بسهولة بالغة كما لو كان قد عرفها ليس فقط في دولة أخرى، بل أيضًا في عالم آخَر. كانت هازل تطلق عليها صُرَّتك الشقراء. كانت هازل تتخيلها مرتديةً ثوب نوم رقيقًا صوفيًّا، وكانت تظن أن شعرها طفوليٌّ، حريريُّ الملمس، وفمها غض متشقِّق.

كانت هازل نفسها شقراء عندما التقاها جاك للمرة الأولى، وإن لم تكن طائشة. كانت خجولة ومحتشمة جدًّا وذكية. استطاع جاك التغلب بسهولة على الخجل والاحتشام الشديد، ولم يكن يشعر بالغضب مثلما كان معظم الرجال يشعرون، آنذاك، حيال ذكائها. لم يكن يأخذ الأمر بمحمل الجد.

عاد الرجل الآن حاملًا صينية. كان هناك كأسَا ويسكي ودورق مياه على الصينية.

قدَّمَ إلى هازل شرابها وتناوَلَ الآخَر. جلس إلى المقعد المقابِل لها.

إذن، ليس هذا هو النادل. كان رجلًا غريبًا جلب لها كأسًا. بدأت تتذمر.

قالت: «دققت الجرس … ظننتك أتيت لأني دققت الجرس.»

قال في رضا: «هذا الجرس بلا فائدة … أخبرتني أنطوانيت أنها جعلَتْكِ تجلسين هنا، لذا فكَّرْتُ في أن آتي وأسأل إذا ما كنتِ تشعرين بالعطش.»

أنطوانيت.

قالت هازل: «أنطوانيت! أليست هذه هي السيدة التي كنتُ أتحدَّث إليها بعد الظهيرة؟» شعرت بهبوط يسري داخلها. قلبها، معدتها، شجاعتها، أيما كان ذلك الذي تشعر بهبوط فيه.

قال: «أنطوانيت. نعم هي.»

«وهل هي مديرة الفندق؟»

«هي مالكة الفندق.»

كانت المشكلة عكس ما توقعتها. لم يكن الأمر أن الناس كانوا قد انتقلوا بعيدًا، وأن المباني اختفت ولم يَبْقَ لها أثر. العكس تمامًا. كان أول شخص تتحدث إليه فيما بعد الظهيرة هو أنطوانيت.

لكن كان يجب أن تعرف، كان يجب أن تعرف أن هذه المرأة المهندمة أنطوانيت، لم تكن لتوظِّف هذا الرجل كنادل. انظر إلى بنطاله البني الفضفاض، والثقب المحترق في الجزء الأمامي من سترته التي تتخذ ياقتها شكل الرقم ٧. أسفل السترة كان هناك قميص داكن ورابطة عنق، لكن لم يَبْدُ الرجل أنه غير مهتم بنفسه أو محبطًا، بل كان يبدو مثل رجل يثق في نفسه جدًّا إلى درجة ألَّا يعبأ أن يبدو غير مهندم بعض الشيء. كان جسده ممتلئًا وقويًّا، وصاحب وجه مربع متورِّد، وهناك شعر أبيض خفيف يتناثر حول جبهته. شعَرَ بالسرور أنها ظنته النادل، كما لو كان ذلك خدعة مارسها ضدها. في الصف، كانت ستميِّزه باعتباره شخصًا يتسبَّب في المشكلات، لا من النوع المشاكس أو السخيف أو المتهكم والمقزز، بل من النوع الذي يجلس في آخِر الصف، ذكي وكسول، يقول تعليقات لا تدري إلام ترمي تحديدًا. تمرد طفيف، ذكي، متواصل، أحد أكثر الأشياء صعوبةً في اجتثاثها من أي صف مدرسي. ما يجب أن تفعله — كان هذا هو ما قالته هازل إلى المدرسات الأصغر سنًّا، أو إلى أولئك الذين كانت تثبط همتهم بسرعة أكبر مما كانت تثبط همتها هي — هو أن تجد طريقة ما لإذكاء ذكائهم، جعله أداة لا لعبة. ذكاء هذا الشخص غير موظَّف توظيفًا جيدًا.

فيمَ اهتمامها بهذا الرجل على أي حال؟ ليس العالم صفًّا دراسيًّا. حدَّثَتْ نفسها قائلةً: لدي رقمك، لكن لا يوجد ما يمكن أن أفعله حياله.

كانت تفكِّر فيه حتى تُبعِد تفكيرها عن أنطوانيت.

أخبرها أن اسمه كان دادلي براون، وأنه كان يعمل محاميًا. قال إنه يعيش هنا (فهمت من ذلك أنه كان ينزل في إحدى غرف الفندق)، وأن مكتبه كان في نهاية الشارع. نزيل دائم، أرمل، آنذاك، أو أعزب. كانت تظنه أعزب. هذا الأسلوب البرَّاق الوثَّاب من الرضاء لا يتحمل عادةً الحياة الزوجية.

صغير جدًّا في السن، على الرغم من الشعر الأبيض، أصغر بضع سنوات من أن يكون قد شارك في الحرب.

قال: «إذن هل أتيت هنا تبحثين عن أصولك؟» أسبغ على الكلمة نطقها الأمريكي الأكثر تمييزًا.

قالت هازل في سرور بالغ: «أنا كندية … لا ننطق كلمة «أصول» على هذا النحو.»

قال: «آه، أستميحك عذرًا … أخشى أننا ننطقها على هذا النحو. نميل إلى أننا نضمكم كلكم معًا، أنتم والأمريكيين.»

شرعت تخبره عن سبب قدومها — لِمَ لا؟ أخبرته أن زوجها كان موجودًا هنا أثناء الحرب، وأنهما كانا يخططان دومًا للقيام بهذه الرحلة معًا، لكنهما لم يفعلا، وأن زوجها قد مات، والآن قدمت هنا وحدها. كان ذلك نصفه صحيح؛ بينما كانت تقترح على جاك القيام بهذه الرحلة كثيرًا، كان دومًا يرفض. كانت تظن أن ذلك بسببها؛ كان لا يرغب في القيام بالرحلة معها. كانت تأخذ الأمور على نحو شخصيٍّ أكثر مما كان يجب أن تفعل، لفترة طويلة. ربما كان يقصد ما قاله فقط. قال: «لا، سيكون الأمر مختلفًا.»

كان مخطئًا إذا كان يعني أن الناس لن يكونوا في نفس المكان الذي كانوا موجودين فيه. حتى الآن، عندما سأل دادلي براون عن اسم ابنة عم جاك التي تعيش في الريف وقالت هازل: مارجريت دوبي، الآنسة دوبي، لكنها على الأرجح ماتت، لم يملك الرجل إلا أن يضحك. ضحك وهزَّ رأسه وقال: آه، لا، ليس بأي حال من الأحوال، بالطبع لا.

«ماجي دوبي لم تَمُتْ قط، هي سيدة مسنَّة جدًّا بالتأكيد، لكنني لا أظن أن فكرة الموت وردت إلى ذهنها بأي حال من الأحوال. تعيش في البقعة التي كانت تعيش دومًا فيها، وإن كان المنزل مختلفًا الآن. إنها تتمتع بوافر الصحة.»

«لم ترسل إليَّ ردًّا على خطابي.»

«نعم، لن تفعل.»

«أظن إذن أنها لا ترغب في أي زائرين، أيضًا؟»

كانت ترغب تقريبًا في أن يقول لا. أن يقول لها: الآنسة دوبي شخص منعزل جدًّا، أخشى ذلك. لا، لا زوَّار. لماذا ترغب في هذا، بعد أن قطعت كل هذه المسافة؟

قال دادلي براون: «حسنًا، إذا ذهبت بمفردك إليها في السيارة، لا أعرف، من الممكن عمل ذلك … لا أعرف كيف ستتقبل الأمر، لكنني إذا هاتفتها وأخبرتها عنك، ثم ذهبنا معًا إليها، فأعتقد أنها سترحب بك ترحيبًا بالغًا. هل تمانعين في ذلك؟ ستكون الرحلة ممتعة أيضًا. اختاري يومًا يكون الجو فيه غير ممطر.»

«هذا لطف بالغ منك.»

«آه، ليست المسافة بعيدة تمامًا.»

•••

في غرفة الطعام، كان دادلي براون يأكل على مائدة صغيرة، وكانت هازل تأكل على مائدة أخرى. كانت تلك غرفة جميلة، حوائطها زرقاء ونوافذها عميقة في الجدران تُطل على الميدان الرئيسي بالمدينة. لم تشعر هازل بالكآبة والإهمال اللذين كانا يهيمنان عليها في الردهة. كانت أنطوانيت تقوم بخدمتهما. قدَّمت خضراوات في أطباق تقديم فضية باستخدام أدوات تقديم صعبة الاستخدام بعض الشيء. كانت أنطوانيت مدققة جدًّا، بل كانت مترفعة للغاية في طريقة تقديمها. عندما لا تكون تخدِّم أحدًا، كانت تقف إلى جانب البوفيه منتبهة مستقيمة، شعرها منتصب في الشبكة التي تلفه بها، سترتها مهندمة لا شية فيها، قدمها رشيقة وغير منتفخة في حذائها مرتفع الكعب.

قال دادلي إنه لن يتناول السمك. هازل أيضًا رفضت تناوُلَه.

قال دادلي: «أترين، حتى الأمريكيون … حتى الأمريكيون لا يأكلون هذه الأشياء المجمَّدة، وتظنين أنهم سيعتادون عليها. كل شيء لديهم مجمَّد.»

قالت هازل: «أنا كندية.» ظنَّتْ أنه سيعتذر، متذكرًا أن ذلك قيل له مرةً من قبلُ، لكن لم يعرها أو تعرها أنطوانيت أي انتباه. كانا قد شرعا في نقاش جعلت نبرة حدته المعهودة يبدوان كما لو كانا متزوجين.

قالت أنطوانيت: «حسنًا، لن آكل شيئًا آخَر … لن آكل سمكًا لم يكن مجمَّدًا، ولن أقدِّمه. ربما كان ذلك لا بأس به في الأيام الخالية، عندما لم تكن هناك كل هذه المواد الكيميائية التي توجد الآن في الماء، وكل هذا التلوث. تمتلئ الأسماك بالتلوث الآن إلى درجة أننا نحتاج إلى تجميدها للقضاء عليه. هذا صحيح، أليس كذلك؟» قالت ذلك مستديرة جهة هازل. «يعلمون كل ذلك في أمريكا.»

قالت هازل: «كنت أفضِّل السمك المشوي.»

قالت أنطوانيت متجاهلة هازل: «إذن، السمك الآمن بالنسبة إليك هو السمك المجمَّد فقط … شيء آخَر، يأخذون أفضل الأسماك لتجميدها، أما الأسماك الأخرى التي لا تُجمَّد تُباع طازجة.»

قال دادلي: «أعطني إذن الأسماك غير المجمدة … دعيني أجربها بالكيماويات.»

«يا لك من أحمق! لن أضع أي قطعة من السمك الطازج في فمي.»

«لن تنال فرصة تناول ذلك هنا. ليس هنا.»

بينما كان يجري الحديث على هذا النحو حول مسألة تناول السمك، وقعت عينا دادلي براون مرةً أو مرتين على عين هازل. حافَظَ دادلي براون على ثبات ملامح وجهه، الذي كان يشير — أكثر مما قد تفعل ابتسامة متكلفة — إلى مزيج مركَّز من الود والازدراء. ظلت هازل تنظر إلى سترة أنطوانيت. جعلتها سترة أنطوانيت تفكِّر في جوان كروفورد. ليس طراز السترة بل حالتها الرائعة. كانت قد قرأت مقابلة منشورة مع جوان كروفورد، منذ سنوات مضت، تشير إلى حيل صغيرة كثيرة كانت جوان كراوفورد تصنعها حتى تحافظ على الشعر والملابس والأحذية والأظافر في حالة رائعة. تذكَّرَتْ شيئًا عن طريقة كَيِّ الكَسَرات. لا تقوم بكي الكسرات وهي مفتوحة أبدًا. كانت أنطوانيت تبدو مثل امرأة تستوعب هذه الأمور جيدًا.

لم تكن تتوقع، على أي حال، أن تجد أنطوانيت لا تزال طفولية الملامح ومتهورة وساحرة. هي بعيدة كل البعد عن ذلك. كانت هازل قد تخيَّلت — برضا — امرأةً بدينةً قصيرةً تضع أسنانًا صناعية. (كان جاك يذكر باستمرار عادة أنطوانيت في قذف قطع الكراميل إلى فمها بين القبلات، وجعله ينتظر حتى تمتص آخِر رشفة حلاوة من القطعة الأخيرة.) سيدة طيبة، ثرثارة، رتيبة، جدة صغيرة تمشي متهادية، كان ذلك هو ما ظنَّتْ أنه متبقٍ من أنطوانيت، ولكن ها هي هذه المرأة الرشيقة، اليقظة، الغبية الحصيفة، المرشوشة الشعر المهتمة بمظهرها وذات الحياة المنمقة. كانت طويلة أيضًا. ليس على الأرجح أنها مرت بأي تجربة رومانسية من أي نوع، حتى عندما كانت تبلغ ستة عشر عامًا.

لكن كم ستجد في هازل من الفتاة التي اصطحبها جاك إلى المنزل من الحفل الراقص؟ كم ستجد من هازل جودري، الفتاة الشاحبة، ذات الصوت الرفيع التي كانت ترفع شعرها الأشقر إلى الوراء عن طريق رباطين من السليولويد الوردي، في هازل كيرتس؟ كانت هازل نحيفة أيضًا — نحيلة في قوة على عكس أنطوانيت. كان لديها عضلات تكوَّنت من خلال أعمال الحديقة والسير مسافات طويلة للتنزه والتزلج عبر البلاد. أفضت هذه الأنشطة أيضًا إلى جفاف وتغضُّن وتخشُّن بشرتها، وفي مرحلة ما توقَّفت عن الانزعاج حيال ذلك. ألقت بجميع المعاجين الملونة وأقلام التجميل والكريمات التي كانت قد اشترتها في لحظات اندفاع أو يأس. تركت شعرها ينمو في أي لون وعقصته خلف رأسها. كسرت قوقعة جمالها غير البادي والغالي؛ لم تظل أسيرته. بل إنها فعلت ذلك قبل سنوات من موت جاك. كان الأمر يتعلق بطريقة تسييرها لحياتها. كانت تقول وتظن أنه قد حان الوقت الذي كان يجب عليها أن تسيِّر حياتها بنفسها، وحثَّت الآخرين على أن يسيروا على النهج نفسه. تحث الآخرين على اتخاذ خطوات جادة، وممارسة الرياضة، وتحديد الاتجاه في الحياة. لا تكترث بأن تقول للآخَرين إنها عندما كانت في الثلاثينيات من عمرها كانت مصابة بما كان يُطلَق عليه انهيارًا عصبيًّا. كانت لا تقوى على مغادرة المنزل لمدة قاربت على شهرين. كانت ترقد في الفراش معظم الوقت. كانت ترسم الصور في كتب التلوين للأطفال. كان ذلك هو كل ما تستطيع فعله حتى تتحكم في خوفها وحزنها العام، ثم أخذت بزمام حياتها. أرسلت في طلب كتيبات مناهج الجامعات. ماذا جعلها تمضي في حياتها مجدَّدًا؟ لا تعرف. يجب أن تقول إنها لا تعرف. ربما شعرت بالملل، يجب أن تُقِرَّ بذلك. ربما شعرت بالملل من إصابتها بانهيار عصبي.

كانت تعلم أنها عندما كانت تنهض من الفراش (هذا ما لا تقوله)، كانت تترك جزءًا من نفسها خلفها. كانت تشك في أن ذلك كان جزءًا له علاقة بجاك، لكنها لم تظن وقتها أن أي هجر يجب أن يكون دائمًا. على أي حال، لم يكن بالإمكان الحيلولة دون وقوع ذلك.

عندما فرغ من تناول السمك المشوي والخضراوات، نهض دادلي فجأةً. أومأ إلى هازل وقال لأنطوانيت: «سأمضي الآن، يا حَمَلي.» هل قال ذلك حقًّا، «يا حملي»؟ أيًّا كان الأمر، كان في الكلمة نبرة سخرية تعبيرًا على مشاعر الإعزاز بينه وبين أنطوانيت. ربما قال «يا حبيبتي». يقول الناس هنا «حبيبتي». قالها سائق الحافلة من إدنبرة لهازل في ذلك اليوم.

قدَّمت أنطوانيت إلى هازل قطعةً من كعكة مشمش، وبدأت من فورها في الثرثرة مع دادلي. كان من المُفترَض أن يكون الناس متحَفِّظين في بريطانيا — هكذا كانت هازل تعتقد، من خلال قراءاتها، إذا لم يكن من خلال جاك — لكن بدا أن الأمر لم يكن دومًا كذلك.

قالت أنطوانيت: «سيذهب لزيارة أمه قبل أن تتدثر في غطاء فراشها ليلًا … يعود إلى البيت مبكرًا دومًا ليلة الأحد.»

قالت هازل: «أَلَا يعيش هنا؟ أعني في الفندق؟»

قالت أنطوانيت: «هل قال ذلك؟ أنا واثقة أنه لم يَقُلْ ذلك. لديه منزله الخاص به. لديه منزل جميل. يشارك أمه المنزل. ترقد في الفراش طوال الوقت حاليًّا — هي من أولئك الأشخاص الذين يجب أن يجري عمل كل شيء لهم. جلَبَ لها ممرضة تخدمها نهارًا وأخرى تخدمها ليلًا أيضًا، لكنه يرعاها دومًا ويتحدَّث إليها في ليالي الآحاد، حتى لو لم تستطع التعرف عليه على الإطلاق. لا بد أنه كان يعني أنه يتناول الوجبات هنا. لا يتوقع أن تُعدَّ الممرضة الوجبات له. لن تفعل ذلك على أي حال. لا تفعل الممرضات أي شيء زائد عن عملها في هذه الأيام. يردن أن يعرفن فقط المطلوب منهن، ولن يفعلوا شيئًا أكثر البتة. يشبه الأمر ما يحدث هنا. إذا قلتُ للعاملات هنا «اكنُسْنَ الأرضية»، ولم أقل «ضَعْنَ المقشة في مكانها بعد الفراغ من الكنس»، سيتركن المكنسة على الأرض.»

حدَّثَتْ هازل نفسها بأن الوقت قد حان. لن تستطيع أن تصرِّح بالأمر إذا أجَّلَتْه أكثر من ذلك.

قالت: «كان زوجي معتادًا على المجيء هنا. كان معتادًا على المجيء هنا أثناء الحرب.»

«حسنًا، كان ذلك منذ وقت طويل، أليس كذلك؟ هل ترغبين في قدح من القهوة؟»

قالت هازل: «من فضلك … جاء هنا بناءً على أن لديه قريبة تعيش هنا؛ امرأة تُدعَى الآنسة دوبي. يبدو أن السيد براون يعلم مَن تكون.»

قالت أنطوانيت في استنكار، مثلما ظنت هازل: «إنها امرأة مسنَّة جدًّا … تعيش بعيدًا في الوادي.»

قالت هازل: «كان اسم زوجي جاك.» وانتظرت، لكن لم تتلقَّ أي إجابة. كانت القهوة سيئة، وهو ما كان مفاجأةً؛ نظرًا لأن الوجبة كانت أكثر من جيدة.

قالت: «جاك كيرتس … كانت أمه قريبة لدوبي. كان معتادًا على المجيء هنا أثناء إجازاته ويقيم مع ابنة العم هذه، ويأتي إلى المدينة في الأمسيات. كان معتادًا على التردد هنا في فندق رويال.»

قالت أنطوانيت: «كان هذا المكان مزدحمًا جدًّا أثناء الحرب … أو هكذا يخبرونني.»

قالت هازل: «كان يتحدث عن فندق رويال وذكرك أيضًا … دهشتُ عندما سمعت اسمك؛ لم أكن أظن أنك لا زلت هنا.»

قالت أنطوانيت: «لم أكن هنا طوال الوقت.» كما لو أن وجودها كان سيمثل إهانة لها. «عشت في إنجلترا عندما كنتُ متزوجة؛ لهذا السبب لا أفكر بالطريقة التي يفكر الناس بها هنا.»

قالت هازل: «زوجي متوفى الآن … ذكرك. قال إن والدك كان يمتلك الفندق. قال إنك كنتِ شقراء.»

قالت أنطوانيت: «لا أزال كذلك … لا يزال لون شعري كما كان دومًا. لم أكن مضطرة أن أغيِّر فيه شيئًا. لا أستطيع أن أتذكر سنوات الحرب جيدًا. كنتُ لا أزال فتاةً صغيرةً جدًّا آنذاك. لا أعتقد أنني وُلِدتُ عندما بدأت الحرب. متى بدأت الحرب؟ وُلِدْتُ في عام ١٩٤٠.»

كذبتان في حديث واحد، لا مراء في ذلك. أكاذيب صارخة، وواضحة، وعمدية، ونفعية. لكن كيف تستطيع هازل أن تعرف إذا ما كانت أنطوانيت تكذب حول عدم معرفتها بجاك؟ لم يكن أمام أنطوانيت أي خيار إلا أن تقول ذلك، بالنظر إلى الكذبة التي ظلت ترددها طوال الوقت حول عمرها.

•••

في الأيام الثلاثة التالية ظلت تمطر بصورة متقطعة. عندما لم يكن هناك مطر، كانت هازل تتجول في المدينة، تنظر إلى الكرنب المنتفخ في الحدائق المنزلية الصغيرة، ستائر النوافذ البسيطة غير المبطنة المزخرفة بالزهور، بل كانت تنظر حتى إلى أشياء من قبيل أواني الفواكه المغطاة بمادة شمعية على المائدة في غرفة طعام مصقولة ضيقة. لا بد أنها اعتقدت أنها غير مرئية، بالنظر إلى الطريقة المتمهلة التي كانت تسير بها والتي كانت تحدِّق بها في الأشياء. كانت معتادة على تلاصق المنازل بعضها ببعض. عند ناصية الشارع، ربما تجد منظرًا مفاجئًا، ضبابيًّا للتلال الفاتنة. سارت بحذاء النهر وولجت إلى غابة كانت كلها من أشجار الزان، لها لحاء مثل جلد الفيل ونتوءات مثل الأعين المنتفخة. أضْفَتْ تلك الأشجار نوعًا من الضوء الرمادي إلى الهواء.

عندما كان المطر يهطل، كانت تمكث في المكتبة، تقرأ كتب تاريخ. قرأت عن الأديرة العتيقة التي كانت هنا في مقاطعة سيلكيرك، والملوك بغابتهم الملكية، والحروب مع الإنجليز. معركة فلودن. كانت تعرف بعض الأشياء من خلال قراءاتها في الموسوعة البريطانية قبل أن تبرح منزلها. كانت تعلم مَن هو ويليام والاس، وأن ماكبث قتل دانكن في معركة وليس على فراشه.

كان دادلي وهازل يحتسيان الويسكي في الردهة، كل ليلة قبل العشاء. كان قد ظهر جهاز تدفئة كهربي، ووُضِع أمام المدفأة. كانت أنطوانيت تجلس معهما بعد العشاء. كانوا يتناولون القهوة معًا. كان دادلي وهازل يتناولان كأسًا آخَر من الويسكي في وقت لاحق في المساء. كانت أنطوانيت تشاهد التليفزيون.

قالت هازل في تأدُّبٍ: «يا له من تاريخ طويل!» أخبرت دادلي جانبًا مما قرأت وشاهدت. «عندما رأيت اسم فيليفو للمرة الأولى منقوشًا على تلك البناية عبر الشارع لم أكن أعرف ماذا يعني.»

قال دادلي مستشهدًا فيما يبدو: «في فيليفو بدأت الهجمات … هل تعرفين الآن معناه؟»

قالت هازل: «المعاهدون.»

«هل تعلمين ما حدث بعد معركة فيليفو؟ قام المعاهدون بشنق جميع السجناء، هناك في الميدان الرئيسي بالمدينة، أسفل نوافذ غرفة الطعام، ثم ذبحوا جميع النساء والأطفال في أرض المعركة. انتقلت الكثير من العائلات مع جيش مونتروز؛ نظرًا لأن كثيرًا منهم كان من المرتزقة الأيرلنديين. كاثوليكيون بالطبع. لا، لم يذبحوهم كلهم. قادوا بعضهم سيرًا إلى إدنبرة. في الطريق، قرروا إلقاءهم من فوق أحد الجسور.»

قال لها ذلك في صوت ودود، مبتسمًا. كانت هازل قد رأت هذه الابتسامة من قبلُ ولم تكن متأكدة تمامًا ماذا تعني: هل يتحداك أي رجل يبتسم على هذا النحو ألا تصدقين، ألا تقرين، أَلَّا توافقين، أن هكذا يجب أن تكون الأمور، إلى الأبد؟

•••

كان جاك صعب المراس في النقاش معه؛ كان يستطيع التعامل مع أي هراء — من العملاء، من الأطفال، وربما من هازل أيضًا. في المقابل، كان يغضب كل عام يوم الذكرى؛ نظرًا لأن الجريدة المحلية كانت تنشر قصة حزينة عن الحرب.

«لا أحد ينتصر في الحرب.» هكذا كان العنوان في قصص كتلك. كان جاك يلقي بالصحيفة على الأرض.

«يا إلهي! هل كانوا يظنون أن الأمور كانت ستصبح هي نفسها إذا كان هتلر قد انتصر؟»

كان يغضب أيضًا عندما كان يرى مسيرات مناهضي الحرب في التليفزيون، على الرغم من أنه لم يكن يقول شيئًا، فقط كان يُصدِر أصوات استهجان أمام الشاشة على نحو مكبوت، ضَجِر. وبقدر ما كانت هازل تستطيع أن ترى، كان يظن أن الكثيرين — النساء بالطبع، لكن مع مرور الوقت، رجال أكثر وأكثر أيضًا — عازمون على إفساد صورة أفضل جانب في حياته. كانوا يفسدون تلك الصورة من خلال تعبيرات الأسف الخاشعة والاستنكار وقدر معين من الكذب الكامل. لم يكن أي من هؤلاء يقر بأن أي جانب من الحرب كان ممتعًا. حتى في رابطة المحاربين، كان من المُفترَض أن تعبِّر عن استيائك من الحرب؛ لم يكن يجدر بك أن تقول شيئًا أكثر من أنك لا تفتقد أيام الحرب مهما كان الأمر.

عندما تزوَّجَا، اعتاد جاك وهازل على الذهاب إلى حفلات الرقص، أو إلى رابطة المحاربين، أو إلى منازل أزواج آخَرين، وعاجلًا أو آجلًا يبدأ الرجال في سرد قصتهم مع الحرب. لم يكن جاك يتلو قصصًا كثيرة، ولا كانت قصصه الأطول، ولم تكن قصصه قط ممتلئة بالأعمال البطولية ولحظات مواجهة الموت. كان يتحدَّث عادةً عن أشياء كانت مضحِكة. لكن كانت قصصه تلقى الإعجاب الأكبر؛ نظرًا لأنه كان قائد طائرة قاذفة، وهو ما كان من أكثر الأشياء إثارةً للإعجاب بالنسبة لأي رجل. كان قد شارك في جولتين كاملتين من العمليات العسكرية. بعبارة أخرى، كان قد شارك في خمسين غارة قصف جوي.

كانت هازل معتادة على الجلوس مع الزوجات الشابات الأخريات وتستمع، في استسلام وفخر — وفي حالتها، على الأقل تشتت بسبب الرغبة. كان هؤلاء الأزواج يأتون إليهن ممتلئين عن آخِرهم بشجاعة مثبتة. كانت هازل تشفق على النساء اللائي كنَّ تسلمن أنفسهن إلى رجال أقل شأنًا.

بعد عشرة أعوام أو خمسة عشر عامًا كانت النساء نفسها تجلس بوجوه متوترة أو يتبادلن النظرات أو حتى يتغيبن (كانت هازل تفعل ذلك، في بعض الأحيان) عندما كان يجري سرد تلك القصص. كانت جماعة الرجال التي كانت تحكي تلك القصص قد تضاءلت، وأخذت تتضاءل أكثر فأكثر، لكن كان جاك لا يزال في مركز الاهتمام فيها. صار جاك أكثر تفصيلًا في حَكْيه، وأكثر تأمُّلًا، وربما يقول البعض أكثر إطنابًا. كان يتذكر الآن ضجيج الطائرات في القاعدة الجوية الأمريكية القريبة، صوتها الجبار وهي تدير محركاتها في الفجر المبكر قبل أن تُقلِع، ثلاثًا فثلاثًا، تطير فوق بحر الشمال في تشكيلات عظيمة. طائرات فلاينج فورترس. كان الأمريكيون يدكون أهدافهم نهارًا، ولم تكن طائراتهم تطير وحدها قط. لِمَ؟

قال جاك: «لم يكونوا يتقنون الملاحة … حسنًا، كانوا يعرفون ذلك، لكنهم لم يتقنوا الملاحة مثلنا.» كان فخورًا بامتلاكه مهارة إضافية، أو طيش، لدرجة أنه لم يعبأ بتبريره. كان يبيِّن كيف كانت طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني تفقد بعضها أثر بعض على الفور تقريبًا، وكانت تطير ست أو سبع ساعات وحدها. في بعض الأحيان، كان الصوت الذي يوجِّههم، عبر جهاز اللاسلكي، صوتًا ألمانيًّا ذا لكنة إنجليزية متقنة، يقدِّم معلومات خاطئة مميتة لهم. كان يتحدث عن طائرات تظهر من حيث لا تدري، تطير في خفة فوق أو أسفل الطائرات، وعن تدمير الطائرات في ومضات خاطفة مثل الأحلام. لم يكن الأمر مثلما هو في الأفلام، لا يوجد شيء مركَّز أو منظَّم، لم يكن ثمة شيء منطقي. في بعض الأحيان، كان يظن أنه يستطيع سماع الكثير من الأصوات، أو الآلات الموسيقية، أصوات غريبة لكنها مألوفة، أصوات تتجاوز ضوضاء الطائرة أو في خضمها.

ثم بدا كما لو كان يعود أدراجه إلى الأرض — بأكثر من طريقة — وكان يحكي قصصًا عن فترات الإجازة وأوقات السُّكْر، وعن الشجارات خارج الحانات، والمقالب في الثكنات.

•••

في الليلة الثالثة، ظنَّتْ هازل أن من الأفضل أن تتحدَّث إلى دادلي عن الذهاب لزيارة الآنسة دوبي. كان الأسبوع يمر، ولم تكن فكرة الزيارة تزعجها كثيرًا، الآن وقد اعتادت قليلًا على البقاء هنا.

قال دادلي: «سأهاتفك في الصباح.» بدا مسرورًا أن جرى تذكيره بالأمر. «سأرى إن كان ذلك يلائمها. هناك أمل في أن يصفو الجو أيضًا. سنذهب غدًا أو بعد غد.»

كانت أنطوانيت تشاهد أحد البرامج التليفزيونية كان الأزواج يختارون بعضهم فيه، من خلال عملية معقدة للالتقاء للمرة الأولى، ثم يعودون في الأسبوع التالي ويقصون كيف صارت الأمور. كانت تضحك في الحال على الاعترافات المذهلة.

كانت أنطوانيت معتادة على الخروج لملاقاة جاك وهي لا ترتدي إلا ثوب النوم تحت معطفها. كان والدها يعنِّفها، يعنِّف كلينا، مثلما كان جاك يقول.

•••

قالت أنطوانيت لهازل أثناء الإفطار: «سأصطحبك إذن لزيارة الآنسة دوبي … دادلي منشغل للغاية.»

قالت هازل: «لا، لا، لا بأس، إذا كان دادلي منشغلًا جدًّا.»

قالت أنطوانيت: «كل الأمور معدَّة الآن … سنذهب مبكرًا بعض الشيء مما كان دادلي عازمًا. كنت أفكر في الذهاب في وقت لاحق هذا الصباح قبل الغذاء؛ لديَّ أمران يجب أن أتولاهما أولًا.»

وهكذا، انطلقا في سيارة أنطوانيت، حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف. كانت الأمطار قد توقفت، وكانت السحب قد تحولت إلى اللون الأبيض، وكانت أشجار البلوط والزان تقطر مياه أمطار الليلة السابقة مع خفقان أوراقها الذهبية الشاحبة. كان الطريق يقع بين جدارين حجريين منخفضين. كان يقطع النهر الصغير الصافي المتدفق في ثبات.

قالت أنطوانيت: «تمتلك الآنسة دوبي منزلًا جميلًا … بيتًا صغيرًا جميلًا، يقع في أحد أركان المزرعة القديمة. عندما باعت المزرعة، احتفظت بأحد أركانها وأنشأت لنفسها بيتًا صغيرًا فوقه. استوطنت طيور الغدفان منزلها القديم الآخَر.»

كانت هازل تمتلك صورة واضحة في ذهنها عن ذلك المنزل القديم الآخَر. تستطيع أن ترى المطبخ الكبير مغطًّى بالجص، نوافذه بلا ستائر. ثلاجة اللحم، الموقد، الأريكة الملساء المصنوعة من شعر الخيول. كمية كبيرة من الدلاء، والأدوات، والبنادق، صنارات الصيد، صفائح الزيت، والمصابيح، والسلال. راديو يعمل بالبطارية. ستكون ثمة امرأة ضخمة، قوية البنية، ترتدي بنطالًا، وتجلس في مقعد بلا ظهر، تزيِّت بندقية أو تقطِّع البطاطس أو تنظِّف سمكة. لا يوجد شيء لا تستطيع أن تقوم به بنفسها، هكذا كان جاك يقول، مناولًا هذه الصورة إلى هازل. وضع نفسه في الصورة أيضًا. كان قد جلس على درجات السلم خارج باب المطبخ، في الأيام المشمسة الضبابية كاليوم — فيما عدا أن الحشائش والأشجار كانت خضراء — وكان يقضي الوقت يلاعب الكلاب، أو يحاول إزالة الأوساخ من الحذاء الذي كان قد استعاره من مضيفته.

قالت لأنطوانيت: «اقترض جاك حذاءَ الآنسة دوبي ذات مرة … كانت قدماها كبيرتين فيما يبدو. كانت تنتعل دومًا أحذية الرجال. لا أدري ماذا حدث لحذائه. ربما كان لديه حذاء عالي الرقبة فقط. على أي حال، ارتدى حذاءها في حفل راقص وذهب قاصدًا النهر، لا أعلم لِمَ.» — كان ذلك لملاقاة فتاة بالطبع، ربما لملاقاة أنطوانيت — «ثم تبلَّلَ حذاؤه تمامًا وتغطَّى بالأوساخ. كان ثملًا جدًّا إلى درجة أنه لم يخلع أيًّا من ملابسه عند ذهابه إلى الفراش، فقط ارتمى فوق غطاء الفراش. لم تتفوه الآنسة دوبي بأي شيء حيال ذلك. في الليلة التالية، عاد إلى المنزل متأخِّرًا مرة أخرى وزحف إلى الفراش في الظلام، وصدمه في وجهه دلو ممتلئ بالمياه الباردة! كانت قد نصبت ترتيب الأوزان والحبال، بحيث عندما ترتخي زنبركات السرير تحت وطأة ثقله، ينقلب دلو الماء وينسكب الماء على هذا النحو في وجهه، حتى ينال ما يستحقه.»

قالت أنطوانيت: «لا بد أنها لم تعبأ بأن تقع في مشكلات كبرى.» ثم قالت إنهما ستتوقفان لتناول الغذاء. كانت هازل قد ظنت أن الغرض من مغادرتهما في الوقت الذي غادرتا فيه كان الانتهاء من الزيارة مبكرًا؛ نظرًا لأن أنطوانيت لا تمتلك وقتًا كثيرًا. أما الآن، فيما يبدو، كانتا حريصتين على ألا تصلا سريعًا.

توقفتا عند حانة اسمها مشهور. كانت هازل قد قرأت عن مبارزة وقعت فيها. جرى ذكر هذه المبارزة في قصيدة قصصية قديمة. أما الآن، تبدو الحانة عادية، وكان يديرها رجل إنجليزي كان في منتصف عملية إعادة تجديد المكان. سخَّن السندويتشات التي طلباها في فرن ميكروويف.

قالت أنطوانيت: «لن أسمح لأيٍّ من هؤلاء بالنزول في إحدى الغرف … إنهم يفسدون الطعام.»

بدأت تتحدَّث عن الآنسة دوبي وعن الفتاة التي كان عليها أن تتولاها.

«لم تَعُدْ فتاة بالكاد الآن. اسمها جودي أرمسترونج. كانت واحدة من — ماذا تسمينهم — الأيتام. كانت تعمل لدى والدة دادلي. عملت لديها لفترة، ثم أوقعت نفسها في مشاكل. كانت النتيجة أنها أنجبت طفلًا، على النحو الذي يحدث دومًا. لم تستطع البقاء في المدينة بسهولة بعد ذلك؛ لذا كان من قبيل حسن الحظ أن الآنسة دوبي كانت في طريقها إلى البحث عن شخص لخدمتها. ذهبت جودي وطفلها إلى هناك، وبدا أن ذلك هو أفضل الترتيبات على الإطلاق.»

مكثتا في الحانة طويلًا حتى رأت أنطوانيت أن الوقت حان حتى تكون جودي والآنسة دوبي مستعدتين لاستقبالهما.

ازداد الوادي ضيقًا. كان منزل الآنسة دوبي قريبًا من الطريق، تعلو التلال في حدة خلفه. أمام المنزل كان ثمة سياج مورف لامع من الشجيرات وبعض الأجمات الندية، جميعها حمراء الأوراق أو تُساقط توتًا. كان المنزل مغطًّى بالجص، وكانت الأحجار متراصة هنا وهناك على طراز غريب خاص بضواحي المدن.

وقفت امرأة شابة في مدخل المنزل. كان شعرها بهيًّا؛ شعرًا أحمر متموجًا، يلمع فوق كتفيها. كانت ترتدي فستانًا غريبًا إلى حدٍّ ما بالنسبة إلى هذا الوقت من اليوم؛ فستانَ حفلات من مادة رفيعة، حريرية، بنية، يتخلله خيط ذهبي معدني. لا بد أنها كانت تشعر ببرد شديد فيه — كانت قد عقدت ذراعيها، ضاغطةً على صدرها.

قالت أنطوانيت، وهي تتحدث بصوت مفعم بالحماس كما لو كانت تتحدث إلى شخص أصم أو ثائر بعض الشيء: «ها نحن إذن يا جودي. لم يستطع دادلي المجيء. كان منشغلًا بشدة. هذه هي السيدة التي أخبرك عنها في الهاتف.»

تورَّد خدَّا جودي أثناء مصافحتها إياها. كان حاجباها شقراوين جدًّا، بالكاد يُريان، ما أصبغ على عينيها البنيتين الداكنتين صبغة مسالمة. بدت محبطة جرَّاء شيء ما؛ هل كان ذلك بسبب الزائرين، أو تُرَى كان ذلك يرجع إلى توهُّج شعرها السائب؟ لكن لا بد أنها قامت بنفسها بتمشيطه بحيث يصبح على هذا النحو من اللمعان، وصففته هكذا ليظهر على هذا النحو.

سألت أنطوانيت إذا ما كانت الآنسة دوبي بصحة جيدة.

أدت كتلة من البلغم إلى تغليظ صوت جودي وهي تحاول الإجابة. تنحنحت وقالت: «إن الآنسة دوبي بصحة جيدة طوال هذا العام.»

هناك شيء من الارتباك حيال خلع معطفيهما؛ لا تعرف جودي تمامًا كيف تطلب منهما خلع معطفيهما، أو كيف تقود أنطوانيت وهازل إلى المكان الذي ستجلسان فيه. لكن أخذت أنطوانيت بزمام المبادرة وقادت الطريق عبر القاعة إلى غرفة الجلوس، التي كانت تعج بأثاث منجد مزركش، قطع ديكورية من النحاس والخزف، وحشائش زينة، وريش طاووس، زهور مجفَّفة، ساعات وصور ووسائد. في وسط كل هذا كانت هناك سيدة عجوز تجلس في مقعد مرتفع الظهر، قبالة ضوء النوافذ، تنتظرهما. على الرغم من أنها كانت عجوزًا، فلم تكن متجعدة البشرة على الإطلاق. كانت تمتلك ذراعين وقدمين سميكات وهالةً كثيفةً من الشعر الأبيض. كانت بشرتها بنية اللون، مثل لون تفاحة خمرية، وكان لديها انتفاخات كبيرة أرجوانية اللون تحت عينيها. لكن كانت عيناها نفسيهما برَّاقتين وغير مستقرتين، كما لو كان ثمة ذكاء يتطلع إلى الخارج متى شاء — شيء في سرعة وطيش سنجاب يمر ذهابًا وإيابًا خلف هذا الوجه العجوز، الداكن، الثقيل، الممتلئ بالبثور.

قالت لأنطوانيت: «إذن، أنت المرأة من كندا.» كان صوتها قويًّا. كانت البقع المتناثرة على شفتيها تشبه الكرم الأسود المائل إلى الزرقة.

قالت أنطوانيت: «لا، ليس أنا … أنا من فندق رويال، وقد التقيتني من قبلُ. أنا صديقة لدادلي براون.» أخرجت زجاجةً من الخمر — من نوع ماديرا — من حقيبتها وقدَّمَتها لها، كدليل على صحة كلامها. «أليس هذا هو النوع الذي تفضِّلينه؟»

قالت الآنسة دوبي آخِذةً الزجاجة: «كل هذا الطريق من كندا.» كانت لا تزال ترتدي أحذية رجالية، كانت ترتديها الآن غير مربوطة.

كررت أنطوانيت ما قالته من قبلُ بصوت أعلى، وقامت بتقديم هازل.

قالت السيدة دوبي: «جودي، جودي، تعرفين أين توجد الأكواب؟» كانت جودي آتية لتوها حاملة صينية. كان عليها مجموعة من الفناجين وصحون الفناجين، برَّاد شاي، وطبق من شرائح كعكة فواكه، ولبن، وسكر. بدا طلب الأكواب كما لو كان يخرجها من مسارها، ونظرت حولها في حيرة. تناولت أنطوانيت الصينية منها.

قالت أنطوانيت: «أعتقد أنها ستفضِّل تذوُّقَ الخمر أولًا، يا جودي … أليس هذا جميلًا! هل صنعت الكعكة بنفسك؟ هل أستطيع أن آخذ قطعةً لدادلي عندما نذهب؟ يحب دادلي كعك الفواكه جدًّا. سيعتقد أنها صُنِعت خصيصى من أجله. لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا، بما أنه هاتفني هذا الصباح وتستغرق كعكة الفواكه وقتًا أطول كثيرًا من ذلك، أليس كذلك؟ لكنه لن يستطيع تمييز الفرق.»

قالت الآنسة دوبي: «أعلم مَن أنتِ الآن … أنت المرأة من فندق رويال. هل تزوَّجْتِ أنت ودادلي براون؟»

قالت أنطوانيت في غضب: «أنا متزوجة فعلًا … سأحصل على الطلاق، لكنني لا أعرف مكان زوجي.» ثم سرعان ما تحوَّل صوتها إلى النعومة، بحيث بدت كما لو كانت تطمئن الآنسة دوبي. «ربما في الوقت المناسب.»

قالت الآنسة دوبي: «لهذا إذن ذهبتِ إلى كندا.»

جاءت جودي ببعض كئوس الخمر. كان بمقدور أي شخص أن يلاحظ أن يديها كانتا مرتعشتين جدًّا إلى درجة أنها لن تتمكن من صب الخمر. انتزعت أنطوانيت الزجاجة من قبضة الآنسة دوبي ورفعت إحدى كئوس الخمر في الضوء.

قالت أنطوانيت: «هلا أحضرت لي منشفة … أو فوطة شاي نظيفة. تأكدي أنها نظيفة!»

تدخلت هازل في حسم، موجِّهَةً حديثها إلى الآنسة دوبي، قائلةً: «زوجي جاك، زوجي جاك كيرتس، كان في القوات الجوية، وكان معتادًا على زيارتك أثناء الحرب.»

سمعت الآنسة دوبي هذه العبارة بوضوح.

«لماذا يرغب زوجك في زيارتي؟»

«لم يكن زوجي حينها. كان صغيرًا جدًّا آنذاك. كان ابن عمٍّ لك. من كندا. جاك كيرتس، كيرتس. لكن ربما كان هناك أقارب كُثُر لك يزورونك، عبر السنين.»

قالت الآنسة دوبي في حزم: «لم نستقبل زائرين من قبلُ قط. نحن بعيدون تمامًا عن الطريق الرئيسي … كنتُ أعيش في المنزل مع أمي وأبي، ثم صرت أعيش مع أمي، ثم صرت أعيش وحدي. تخليت عن تربية الأغنام وذهبت للعمل في المدينة. كنت أعمل في مكتب البريد.»

قالت أنطوانيت مطرقةً: «هذا صحيح، حدث ذلك.» مناوِلَةً إياها الخمر.

قالت الآنسة دوبي في كبرياء مبهم حقود: «لكنني لم أعش في المدينة قط … لا، كنت أذهب كل يوم، كل هذا الطريق على متن الدراجة البخارية.»

قالت هازل حتى تشجِّعها على الحديث: «ذكر جاك دراجتك البخارية.»

«كنتُ أعيش في المنزل القديم آنذاك. تعيش أناس فظيعة هناك الآن.»

مدت يدها بالكأس طلبًا للمزيد من الخمر.

قالت هازل: «كان جاك يقترض منك دراجتك البخارية … وكان يذهب إلى الصيد بصحبتك، وعندما كنتِ تنظِّفين السمك، كانت الكلاب تأكل رءوس السمك.»

قالت أنطوانيت: «أف!»

قالت الآنسة دوبي: «أنا ممتنة لأني لا أستطيع أن أرى ذلك من هنا.»

قالت أنطوانيت في نبرةٍ آسِفَة: «المنزل … الزوجان اللذان يعيشان فيه غير متزوجين. قاما بإصلاح المنزل لكنهما غير متزوجين.» وكما لو كانت تذكَّرَتْ بطريقة طبيعية، قالت مخاطِبةً جودي: «كيف حال تانيا؟»

قالت جودي التي لم تحصل على أي خمر: «بخير.» وحملت طبق كعكة الفواكه ثم وضعته مضيفة: «تذهب إلى الحضانة الآن.»

قالت الآنسة دوبي: «تذهب في الحافلة … تأتي الحافلة وتأخذها من أمام الباب.»

قالت أنطوانيت: «أليس هذا شيئًا رائعًا؟»

واصلت الآنسة دوبي قائلةً في انبهار: «وتُقلُّها إلى المنزل … تُقلُّها حتى باب المنزل.»

قالت هازل: «قال جاك إن لديك كلبًا كان يأكل العصيدة … وفي إحدى المرات اقترض منك حذاءك. أعني جاك زوجي.»

بدت الآنسة دوبي كما لو كانت تفكِّر في ذلك مليًّا لبرهة، ثم ما لبثت أن قالت: «تمتلك تانيا شعرًا أحمر.»

قالت أنطوانيت: «لديها شعر مثل شعر أمها … وعينان مثل عينَيْ أمها البنيتين. نسخة من جودي.»

قالت الآنسة دوبي، بنبرة شخص يزيح جيدًا كثيرًا من اللغط: «إنها بنت غير شرعية … لكن قامت جودي بتربيتها جيدًا. جودي عاملة مجدَّة. أشعر بالسرور لأن لديهما منزلًا. على أي حال، لا يجري الإمساك إلا بالأبرياء.»

ظنَّتْ هازل أن هذا سيجهز على جودي تمامًا، يجعلها تعدو مسرعة إلى المطبخ. لكن بدلًا من ذلك، بدت كما لو كانت توصلت إلى قرار. نهضت وناولت الموجودات كلًّا قطعة من الكعك. لم يبرح اندفاع الدماء في وجهها أو عنقها أو الجزء من صدرها الذي تُرِك عاريًا من فستان السهرة. كان جلدها يحترق كما لو أن شخصًا صفعها، وكان التعبير المرتسم على وجهها، وهي تنحني نحو كل واحدة تناوِلُها قطعةً من الطبق، هو ذلك التعبير المرتسم على وجه طفل غاضب، شاعر بالمرارة، مزدرٍ يمسك نفسه عن الصراخ. تحدَّثَتْ الآنسة دوبي إلى هازل قائلةً: «هل يمكنك أن تلقي أي شيء؟»

كان على هازل أن تفكِّر برهةً لتتذكر ما هو الإلقاء، ثم قالت إنها لا تستطيع.

قالت الآنسة دوبي: «سألقي أنا مقطوعة، إذا كنتِ لا تمانعين في ذلك.»

وضعت كأسها الفارغ، وفردت كتفيها، وضمت قدميها معًا.

قالت: «أستميحكم عذرًا لعدم نهوضي.»

بدأت تتحدث في صوت بدا مجهدًا ومتلعثمًا في البداية، وسرعان ما صار لاهثًا ومنغمسًا. تزايدت لكنتها الاسكتلندية. لم تعر محتوى القصيدة انتباهًا قدر ما أعارت الجهد المتواصل في إلقائها بالترتيب الصحيح، كلمةً بعد كلمةٍ، شطرًا بعد شطرٍ، بيتًا بعد بيتٍ. أظلم وجهها أكثر من خلال المجهود. إلا أن الإلقاء لم يكن دون تعبير على الإطلاق؛ كانت طريقة الإلقاء مثل طرق الإلقاء الجامدة من «صنع الذاكرة» التي تذكرت هازل حاجتها إلى تعلُّمها في المدرسة. كان الأمر بمثابة عرض أفضل الملقين في حفل المدرسة، نوع من الشهادة العامة الطوعية، من خلال كل تغيير في مقام الصوت، وكل إشارة جرى التمرُّن عليها واعتمادها.

بدأت هازل في إدراك جانب من القصيدة. حكاية مطوَّلة كلها هراء حول الجنيات؛ صبي جرى إمساكه من قِبَل الجنيات، ثم فتاة تُسمَّى الجنية جينيت تقع في حبه. كانت تلك الجنية ترد في فظاظة على والدها وتلف نفسها في عباءتها الخضراء ذاهبةً إلى مقابلة حبيبها، ثم بدا كما لو أن الهالوين قد جاء وحلت ظلمة الليل القاحلة، وهلَّت أعداد كبيرة من الجنيات ممتطية ظهور الجياد. ليست جنيات طيبة، بأي حال من الأحوال، بل عصبة متوحشة كانت تنتقل في الليل وتطلق صراخًا مزعجًا.

«وقفت الجنية جينيت، جامدة، غير متأثرة،
في مرج مُقبض،
أكثر فأكثر ارتفع الصوت،
أثناء مجيئهن ممتطيات الجياد!»

جلست جودي واضعةً طبق الكعك في حجرها، وهي تتناول شريحة كبيرة من كعكة الفواكه، ثم تناولت شريحة أخرى، لا يزال وجهها مشتعلًا بالغضب غير مسامح. عندما انحنت لتقديم الكعكة، شمَّتْ هازل رائحة جسدها؛ ليست رائحة سيئة، لكنها رائحة جعلت عمليات التنظيف والتطهير منها رائحة غير مألوفة. كانت رائحتها تنبعث في حرارة من بين الصدر المتورد للفتاة.

شغلت أنطوانيت، التي لم تعبأ بأن تظل ساكنة، نفسها بطفاية سجائر نحاسية صغيرة، أخرجت سجائرها من حقيبتها، وبدأت تدخن. (قالت إنها لا تدخن أكثر من ثلاث سجائر يوميًّا.)

«أولًا امتطت الجواد الحالك السواد،
ثم امتطت الجواد البني،
ثم أخيرًا أمسكت بسرعة بزمام الجواد شاهق البياض،
وأسقطت مَن تقوده!»

ظنَّتْ هازل أنه لا جدوى من السؤال عن جاك أكثر من ذلك. ربما تذكَّرَه أحد هنا؛ شخص رآه يسير في الطريق وهو يقود الدراجة البخارية، أو تحدَّث إليه في إحدى الليالي في الحانة. لكن كيف يمكن أن تجد هذا الشخص؟ ربما من الأرجح أن أنطوانيت كانت قد نسيته. وفي ضوء ما يجري الآن، لا بد وأن ذهن أنطوانيت مشغول بما يكفي. أما ما كان يدور في ذهن الآنسة دوبي، فبدا كأفكار عشوائية غير مرتبة، شيء عفوي ومتقلب. ها هو جني قزم في قصيدتها المزعجة يتخذ موضع الصدارة الآن.

«شكَّلوه بين ذراعَي الجنية جينيت،
سمندل ماء، وحية سامة،
تمسَّكت به جيدًا في كل صورة،
حتى يصبح والد طفلها!»

أشارت نبرةُ رضاء عابس في صوت الآنسة دوبي إلى أن نهاية القصيدة ربما تكون قد اقتربت. ما سمندل الماء؟ لا يهم، كانت جينيت تلف حبيبها في عباءتها الخضراء، «رجل عارٍ كما ولدته أمه»، وكانت ملكة الجنيات ترثي فقدانه، وعند بلوغ النقطة التي كان يمكن أن يخشى المستمعون أن تتطور القصة مرة أخرى — كان صوت الآنسة دوبي قد انخفض مجدَّدًا، ثم تسارع كما لو كان يتأهَّب لإلقاء مطوَّلٍ — توقَّفَ الإلقاء.

قالت أنطوانيت عندما تأكدت أن الآنسة دوبي توقفت عن الإلقاء: «يا إلهي! كيف تستطيعين الاحتفاظ بكل هذا في رأسك؟ يستطيع دادلي أن يفعل ذلك أيضًا. أنت ودادلي، يا لكما من ثنائي رائع!»

بدأت جودي في إحداث جلبة عند توزيع الفناجين وصحون الفناجين. بدأت في صب الشاي. تركتها أنطوانيت تفعل ذلك قبل أن توقفها.

قالت أنطوانيت: «أظن أن ذلك سيكون أكثر من اللازم، أليس كذلك يا عزيزتي؟ أخشى أن يكون ذلك أكثر من اللازم بالنسبة إليَّ. يجب أن نعود على أي حال. سترغب الآنسة دوبي في أخذ قسط من الراحة، بعد كل ذلك.»

تناولت جودي الصينية دون إبداء أي اعتراض واتجهت إلى المطبخ. تبعتها هازل حاملةً طبق الكعك.

قالت لجودي بهدوء: «أظن أن السيد براون كان ينوي أن يأتي … لا أعتقد أنه كان يعرف أننا سنرحل مبكرًا هكذا.»

قالت تلك الفتاة المتوردة، التي تشعر بالمرارة، وهي تسكب الشاي المصبوب في الحوض: «أوه، نعم.»

•••

قالت أنطوانيت: «هل تمانعين في فتح حقيبتي ومناولتي سيجارة أخرى؟ يجب أن أشرب سيجارة أخرى. إذا أخذتها بنفسي فسأشعر بالغثيان. أشعر بصداع آتٍ بسبب كل ذلك النواح والإلقاء الرتيب.»

أظلمت السماء مرة أخرى، وكانتا تقودان تحت أمطار خفيفة.

قالت هازل: «لا بد أنها تعيش في وحدة … أقصد جودي.»

«لديها تانيا.»

كان آخِر شيء فعلته أنطوانيت عندما كانت تغادر هي وهازل، هو وضع بعض النقود في يد جودي.

قالت: «هذا لتانيا.»

قالت هازل: «ربما تود أن تتزوَّج … لكن هل تلتقي أحدًا هناك حتى تتزوجه؟»

قالت أنطوانيت: «لا أعرف مدى سهولة أن تجد أحدًا في أي مكان بالنسبة لها … في وضعها ذلك.»

قالت هازل: «لا يهم هذا الأمر كثيرًا هذه الأيام … تُنجِب الفتيات أولًا ثم تتزوجن لاحقًا. نجوم السينما، الفتيات العاديات أيضًا. طوال الوقت. لا يهم هذا.»

قالت أنطوانيت: «أعتقد أن هذا أمر مهم هنا … لسنا نجوم سينما هنا. سيفكر الرجل مرتين قبل أن يقترن بفتاة كتلك. سيفكر في عائلته. سيكون الأمر بمثابة إهانة لأمه. سيظل الأمر بمثابة إهانة لها حتى لو لم تكن تعرف أي شيء عن الأمر. وإذا كان عمل الرجل يعتمد على التعامل مع الناس، فيجب عليه التفكير في ذلك أيضًا.»

أوقفت السيارة على جانب الطريق. قالت: «أستميحك عذرًا.» ثم خرجت من السيارة وسارت في اتجاه الجدار الحجري. انحنت إلى الأمام. هل كانت تبكي؟ لا، كانت تتقيأ. كان كتفاها منحنيتين ومرتعشين. تقيَّأت على الحائط وعلى الأوراق المتساقطة لأشجار البلوط. فتحت هازل باب السيارة وأسرعت نحوها، لكن أنطوانيت أشاحت إليها بالابتعاد بيد واحدة.

صوت التقيؤ البائس المألوف، وسط سكون الريف، والأمطار الضبابية.

انحنت أنطوانيت إلى الأسفل وتمسَّكَتْ بالجدار لبرهة، ثم استقامت وعادت إلى السيارة وجفَّفَتْ آثار التقيؤ بمنديل وهي ترتجف، لكن في عناية.

قالت: «يحدث هذا لي … عندما أُصَاب بنوبات الصداع التي تنتابني.»

قالت هازل: «هل ترغبين في أن أقود السيارة؟»

«لستِ معتادةً على القيادة في هذا الجانب من الطريق.»

«سأقود بحرص.»

تبادلتا مكانيهما — تفاجأت هازل بموافقة أنطوانيت — وقادت هازل السيارة ببطء، بينما كانت أنطوانيت جالسة مغمضة العينين معظم الوقت ويداها موضوعتان على فمها. حالت بشرتها إلى اللون الرمادي من خلال المكياج الوردي. لكن قُرْب حدود المدينة، فتحت عينيها وأنزلت يديها وقالت شيئًا من قبيل «هذه كاثو.»

كانتا تمرَّانِ بحقل خفيض بحذاء النهر. قالت أنطوانيت في عجلة، مثلما يفعل شخص يخشى أن تنتابه نوبة تقيؤ أخرى: «هذا هو المكان في تلك القصيدة … الذي تخرج منه الفتاة وتفقد عذريتها، وهكذا.»

كان الحقل بنيًّا ورطبًا ومُحاطًا بما بدا مثل مساكن شعبية.

اندهشت هازل أنها تذكَّرَتْ مقطعًا شعريًّا كاملًا الآن. تستطيع سماع صوت الآنسة دوبي يدندن بأبياته في عنفوان.

«الآن، خواتم ذهبية ربما تشترين، يا فتيات،
عباءات خضراء ربما تغزلن،
أما، إذا فقدتن عذريتكن،
فلن تسترجعنها أبدًا!»

تحتفظ الآنسة دوبي بأعداد هائلة من الكلمات في ذاكرتها.

•••

قالت هازل لدادلي براون عندما أتيا إلى الردهة ذلك المساء: «أنطوانيت ليست على ما يرام … لديها صداع رهيب. ذهبنا اليوم لزيارة الآنسة دوبي.»

قال دادلي: «تركَتْ لي رسالة بهذا المعني.» واضعًا الويسكي والماء.

كانت أنطوانيت راقدة في الفراش. كانت هازل قد ساعدتها على الرقود، حيث كانت أنطوانيت تشعر بدوار شديد ولم تستطع معه تمالُكَ نفسها. ذهبت أنطوانيت إلى الفراش مرتدية قميصها التحتي وطلبت منشفة حتى تزيل ما تبقَّى من مكياجها ولا تفسد كيس الوسادة، ثم طلبت منشفة في حال تقيَّأت مرة أخرى. أخبرت هازل كيف تعلِّق سترتها — السترة نفسها، لا تزال ناصعة بطريقة مدهشة — في شماعتها المبطنة. كانت غرفة نومها كئيبة وصغيرة. كانت تطل على الجدار المطلي بالجص للمصرف الذي يوجد في الجوار. نامت في سرير نقَّال إطاره معدني. في التسريحة كانت توجد جميع مستلزمات صبغة شعرها. هل ستنزعج لو أنها أدركت أن هازل رأت هذه الأشياء؟ ربما لا، ربما نسيت هذه الكذبة فعلًا، أو ربما هي مستعدة للمضي في الكذب، مثل الملكة، التي تجعل كل ما تقول حقيقة.

قالت هازل: «ذهبت المرأة التي تعمل في المطبخ لتعدَّ لها العشاء … سيكون العشاء في البوفيه، وعلينا أن نتناول غذاءنا بأنفسنا.»

قال دادلي: «نتناول هذا أولًا.» كان قد جلب زجاجة الويسكي.

«لم تتمكن الآنسة دوبي من تذكُّر زوجي.»

«ألم تتذكَّره؟»

«كانت هناك فتاة، امرأة شابة بالأحرى تعتني بأمور الآنسة دوبي.»

قال دادلي: «جودي أرمسترونج.»

انتظرت حتى ترى إذا كان سيحجم عن السؤال أكثر، إذا كان سيجبر نفسه على تغيير الموضوع. لم يستطع. «هل لا تزال تحتفظ بشعرها الأحمر المدهش؟»

قالت هازل: «نعم … هل تظن أنها ستقوم بإزالته عن آخِره؟»

«تفعل الفتيات أشياءَ رهيبةً في شعورهن. أرى مناظر عجيبة هذه الأيام، لكن لا تنتمي جودي إلى ذلك النوع من الفتيات.»

قالت هازل: «قدَّمَتْ كعكة فواكه داكنة لذيذة جدًّا … طلبت أنطوانيت أن تجلب قطعة لك. أظنها نسيت. أعتقد أنها كانت تشعر بالغثيان عندما رحلنا.»

قال دادلي: «ربما كانت الكعكة مسمَّمة … على نحو ما تكون غالبًا في القصص.»

«أكلت جودي قطعتين، وتناولت أنا بضع قطع وأكلت الآنسة دوبي بعض القطع؛ لذا لا أظن أن الأمر كذلك.»

«ربما كانت قطع أنطوانيت فقط.»

«لم تتناول أنطوانيت أي قطع، فقط بعض الخمر وسيجارة.»

بعد لحظة صمت، قال دادلي: «كيف استضافتكم الآنسة دوبي؟»

«ألقت قصيدة طويلة.»

«نعم، أتوقع أن تفعل ذلك. قصائد قصصية، مثلما تسمَّى حقًّا، لا قصائد. هل تتذكرين أي قصيدة قصصية كانت هذه؟»

كانت الأبيات التي وردت إلى ذهن هازل هي تلك التي تتحدث عن العذرية، لكنها أحجمت عن إلقائها باعتبارها خارجة جدًّا، وحاولت أن تفتش في ذاكرتها عن غيرها.

قالت في حذر: «اغمسيني أولًا في سطل لبن؟ … ثم في سطل ماء؟»

صرخ دادلي قائلًا في سرور بالغ: «لكن أمسكيني جيدًا، لا تدعيني أسقط، سأكون والد طفلك!»

بينما كانت الأبيات الأولى التي تذكرتها أولًا تتسم بعدم لباقة بالغة، لم يبدُ أنه يعبأ بذلك. في حقيقة الأمر، أسند ظهره إلى مقعده وبدا مستريحًا، ورفع رأسه وبدأ في إلقاء القصيدة نفسها التي كانت قد ألقتها الآنسة دوبي، وإن كانت بوقع هادئ، بأسلوب مميَّز، وفي صوت ذكوري رائع، حزين، دافئ. اتسع استخدامه للَّكْنة الاسكتلندية، لكن مع سماعها جانب كبير من القصيدة من قبلُ، ضد إرادتها تقريبًا، استطاعت هازل تمييز كل كلمة. أُمسِك الصبي من جانب الجنيات، يعيش حياة المغامرات والترف — لا يستطيع الشعور بالألم — لكنه يصبح متحفظًا أكثر مع كبره في السن، مذعورًا من أن «يدفع ضريبة للجحيم»، ويتوق إلى الدفء البشري؛ لذا قام بإغواء فتاة وقحة وأرشدها إلى طريقة تحريرها إياه. كان عليها أن تحرِّره عن طريق الإمساك به بقوة، الإمساك بأي شيء تحوِّله الجنيات إليه، الإمساك به حتى تُستنفَد حيلهم، ويدعونه يذهب. بالطبع، كان أسلوب دادلي في الإلقاء قديمًا، بالطبع كان يسخر من نفسه قليلًا. كان ذلك ظاهريًّا فقط. كان هذا الإلقاء مثل الغناء. تستطيع أن تعبِّر أيما تعبير عن رغبتك الشديدة دون أن تخشى أن تصبح مغفَّلًا.

«شكَّلوه بين ذراعيها أخيرًا،
رجلًا عاريًا كما ولدته أمه،
لفَّتْه في عباءتها الخضراء،
وهكذا صار حبها الحقيقي!»

أنت والآنسة دوبي، يا لكما من ثنائي رائع!

•••

قالت هازل: «رأينا المكان حيث ذهبَت لملاقاته … في طريق عودتنا، أرتني أنطوانيت المكان. هناك بحذاء النهر.» كانت تظن أن من الأمور العجيبة أن تكون هنا، في خضم حياة هؤلاء الناس، شاهدةً على ما رأته من تدبير أمرهم، على جراحهم. لم يكن جاك هنا، لم يكن جاك هنا، لكن ها هي كانت هنا.

قال دادلي، بنبرة إزدراء وانفعال، «كارترهو؟ … لا يقع بحذاء النهر! لا تعرف أنطوانيت عمَّا تتحدث! هذا هو الحقل المرتفع الذي يطل على النهر. هناك حيث كانت توجد خواتم الجنيات. فطريات. إذا ظهر القمر، نستطيع أن نخرج الليلة ونلقي نظرة على المكان.»

كان هازل تستشعر شيئًا، وبدأ الشك يتسرب إليها. الجنس. شعرت بأن عينيها تتسعان، جلدها يتقلص، أطرافها تتراخى، في حذر. لم يكن القمر ليظهر؛ كان ذلك هو الشيء الآخَر الذي أوضحته نبرة صوته. صبَّ المزيد من الويسكي، ولم يكن ذلك بغرض تيسير عملية الإغواء. كل الإيمان والطاقة، البراعة، النسيان اللازم للتحكم في أية علاقة قصيرة — كانت هازل تعرف؛ إذ دخلت من قبل في علاقتين قصيرتين، واحدة في الجامعة والأخرى في أحد مؤتمرات المدرسين — كل ذلك تجاوزاه الآن. كانا سيرغبان في السماح للانجذاب بأن يكتسحهما ثم ينحسر. كانت أنطوانيت ستصبح غير ممانعة، هكذا كانت هازل متأكدة. كانت أنطوانيت ستفسح المجال لشخص سيمضي إلى حال سبيله — شخص لا يهم على الإطلاق — أشبه بالأمريكيين. كان ذلك شيئًا آخَر يجعلهما يتراجعان؛ عدم ممانعة أنطوانيت. كان ذلك كافيًا حتى يفكِّرَا في الأمر مليًّا، حتى يدققا في الأمر.

قال دادلي بنبرة أكثر خفوتًا: «الفتاة الصغيرة … هل كانت هناك؟»

«لا، تذهب إلى الحضانة.» فكَّرت هازل في كيف كانت تحتاج شيئًا ليس بالكثير في واقع الأمر — مجرد إلقاء قصيدة — حتى تتحول بأفكارها من القلق إلى الطمأنينة.

«هل تذهب حقًّا إلى الحضانة؟ يا له من اسم تحمله تلك الطفلة! تانيا!»

قالت هازل: «هذا ليس اسمًا غريبًا جدًّا … ليس في هذه الأيام.»

«أعلم ذلك. جميعهن يحملن أسماء دولية غريبة، مثل تانيا وناتاشا وإيرين وسولانج وكارمن. لا تحمل أي منهن أسماء من العائلة. تلك الفتيات صاحبات الشعر الذي يشبه عُرْف الديك اللائي أَرَاهُنَّ في الشوارع. ينتقين الأسماء. هن الأمهات.»

قالت هازل: «لديَّ حفيدة تُدعَى بريتاني … وسمعت عن فتاة صغيرة تُدعَى كابتشينو.»

«كابتشينو! هل هذا صحيح؟ لماذا لا يسمون طفلةً باسم كاسوليه؟ فتوشيني؟ ألزاس-لورين؟»

«ربما.»

«شليسفيج-هولشتاين! هذا اسم آخَر جيد لكِ!»

قالت هازل: «متى رأيتها آخِر مرة؟ … تانيا؟»

قال دادلي: «لا أراها … لا أذهب إلى هناك. بيننا بعض المعاملات المالية، لكنني لا أذهب إلى هناك.»

كادت تقول له: حسنًا، يجب أن تذهب. يجب أن تذهب، ولا تضع ترتيبات غبية تسمح بأن تتدخل أنطوانيت وتفسدها، مثلما فعلت اليوم. لكن كان هو مَن تحدَّث أولًا. مال نحوها وتحدَّث إليها في نبرة مخلصة، ثملة.

«ماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أجعل امرأتين سعيدتين.»

عبارة ربما كانت سخيفة، متعجرفة، مراوغة.

لكنها كانت عبارة صحيحة. توقَّفَتْ هازل. كانت العبارة صحيحة. في البداية، بدت العبارة منطبِقَةً تمامًا على جودي، وذلك بالنظر إلى طفلتها ووحدتها وشعرها الجميل. لكن لماذا يجب أن تخسر أنطوانيت، فقط لأنها كانت دومًا في منافسة لفترة طويلة، تستطيع الحساب، وتتحمل هجرها، وتعرف كيف تبذل مجهودًا حتى تبدو في أجمل صورة؟ لا بد أن أنطوانيت كانت خدومة ووفية وربما رقيقة سرًّا. لم تطلب حتى الاستحواذ على قلب رجل بالكامل. ربما تغض الطرف عن زيارة سرية مرة كل حين. (لكنها ستحزن لا شك، سيكون عليها أن تدير رأسها بعيدًا وتتقيَّأ.) لن تتسامح جودي مع هذا على الإطلاق. ستنفجر غاضبةً مع حماسة قصيدة قصصية، تسب وتلعن. لا يستطيع تحمُّل هذه المعاناة، هذه الشكوى؛ إذن هل أحبطت أنطوانيت محاولاته لمصلحته؟ لا بد أن هذه هي الطريقة التي يجب أن ترى بها الأمور — الطريقة التي ربما يراها أيضًا بعد فترة قصيرة. حتى الآن، ربما؛ وقد أثارت القصيدة القصصية قلبه وأراحته.

كان جاك قد قال شيئًا مثل ذلك ذات مرة، لا عن امرأتين بل عن جعل امرأة واحدة — حسنًا، كانت تلك هازل — سعيدة. رجعت بذاكرتها إلى ما قاله «أستطيع أن أجعلك سعيدة جدًّا.» كان يقصد أنه يستطيع أن يجعلها تبلغ قمة نشوتها الجنسية. كان شيئًا يقوله الرجال آنذاك، عندما كانوا يحاولون أن يُغْرِين النساء، وكان ذلك ما كانوا يقصدونه. ربما لا يزالون يقولون ذلك. ربما ليسوا على هذه الدرجة من المباشرة هذه الأيام. وقد كان صادقًا فيما كان يَعِدُ به، لكن لم يخبر أحدٌ هازل بذلك من قبلُ، وكانت مندهشة، أخذةً الوعد بمعناه الظاهري. بدا الأمر طائشًا، كاسحًا بالنسبة إليها، باهرًا، لكن وقحًا. كان عليها أن تجرِّب حتى ترى نفسها آنذاك كشخص يمكن أن «يجعله آخَرُ سعيدًا». كل الكتلة المعقدة القلقة المتوترة التي تمثلها هازل؛ هل كان ذاك شيئًا يمكن احتواؤه و«جعله سعيدًا»؟

في أحد الأيام، بعدها بنحو عشرين سنة، كانت تقود السيارة في الشارع الرئيسي في والي ورأت جاك. كان ينظر من وراء الواجهة الأمامية لمتجر الأدوات المنزلية. لم يكن ينظر في اتجاهها، لم يَرَ سيارتها. كان ذلك أثناء ذهابها إلى الجامعة. كان لديها بعض المهام التي تقوم بها، صفوف تحضرها، أوراق، معامل، أعمال منزلية. كانت تلاحظ وجود الأشياء فقط عندما كانت تتوقف دقيقة أو دقيقتين — مثلما توقفت الآن — تنتظر إشارة المرور. انتبهت إلى وجود جاك — كم كان يبدو نحيفًا وشابًّا، في بنطاله الفضفاض وكنزته — كم كان واهيًا، تنقصه الحيوية. لم تَرِدْ إلى ذهنها أي إشارة واضحة تقول: إن جاك سيموت هناك في المتجر. (مات هناك؛ سقط على الأرض بينما كان يتحدث إلى أحد العملاء — لكن كان ذلك بعدها بسنوات.) لم تأخذ في اعتبارها، هكذا فجأةً، إلام صارت حياته — ليلتين أو ثلاث أسبوعيًّا في رابطة المحاربين، الليالي الأخرى يقضيها ممددًا على الأريكة من وقت العشاء إلى النوم، يشاهد التليفزيون ويشرب. ثلاثة كئوس، أربعة. لم يكن قط دنيئًا صاخبًا، لم يفقد صوابه قط. كان يشطف كأسه في الحوض قبل أن يذهب إلى الفراش. حياة تتألف من مهام رتيبة، أعمال روتينية، مواسم، ومسرَّات. كان كل ما لاحظته هو هدوءه — يبدو كطيف. كانت ترى أن وسامته — نوعًا من وسامة غالبة في زمن الحرب العالمية الثانية، مثلما شعرت، تميِّزها روح مرحة وسكون أبيٌّ — كانت لا تزال موجودة وإن زال عنها كثير من حيويتها. عذوبة كالطيف تلك التي ظهرت لها منه، عبر الواجهة الزجاجية.

ربما تجاهد من أجل بلوغه الآن مثلما كانت آنذاك. مفعمة بالآمال المحطمة، والاندفاع، والاتهامات. لم تُطلِق لنفسها العِنان آنذاك — فكَّرت في أحد الاختبارات، أو في شراء البقالة. وإذا أطلقت لنفسها العِنان الآن، فسيصبح الأمر مثل اختبار الشعور بالألم في أحد الأطراف المبتورة. اختبار سريع، وخزة تستجلب هيئة الشعور بكاملها متجسدة. سيكون ذلك كافيًا.

•••

كانت ثملة قليلًا بحلول هذا الوقت، وحدَّثَتْ نفسها بأن تقول لدادلي براون إنه ربما كان يجعل هاتين المرأتين سعيدتين بالفعل. ماذا عساها كانت تعني بذلك؟ ربما كان يمنحهما شيئًا تصب كل واحدة منهما اهتمامها فيه. فاصل صعب البلوغ ربما تتخطينه يومًا ما في رجل ما، عقدة في عقله ربما تحلينها، ثبات فيه ربما تحركينه، أو غياب ربما تجعلينه يأسف عليه — سيجعلك شيء كذلك تنتبهين، حتى عندما تظنين أنك طوَّعْتِ نفسك على ألَّا تفعلي. هل يمكن أن يُقال إن ذلك يجعلك سعيدة؟

في الوقت نفسه، ماذا يجعل الرجل سعيدًا؟

لا بد أن ذلك شيئًا مختلفًا تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤