خير ورحمة

ودعت باجز الأرض التي كانت تتوارى عن الأنظار، شبه جزيرة لابرادور التي تحيط بها مياه داكنة الزرقة. كانت السفينة تعبُر خلال مضيق جزيرة بيل، في يومها الثالث من إبحارها من مونتريال.

قالت: «عليَّ أن أرحل إلى أجراف دوفر البيضاء.» ورسمت تعبيرًا على وجهها، مديرةً عينيها وفمها الصغير الحذق، فم المغنية، كما لو كان عليها أن تتقبَّل بعض المضايقة: «وإلا سألقي نفسي في الماء كي أكون طعامًا للسمك.»

كانت باجز في أيامها الأخيرة، لكنها كانت امرأة رشيقة القوام، بيضاء البشرة، قبل أن تبدأ في الذبول، لذا لم يكن ثمة فرق صادم. كان شعرها الفضي البرَّاق مقصوصًا بشكل قصير بطريقة ماهرة من قِبَلِ ابنتها آفريل. لم يكُن شحوب وجهها رهيبًا، وأخفت الأرديةُ العلوية والمعاطف الطويلة الفضفاضة التي صنعتها آفريل لها حالةَ ذراعيها ونصف جسدها العلوي. امتزجت تعبيرات الإجهاد والإرهاق التي تظهر على وجهها بين الحين والآخر مع تعبير قديم كان لديها؛ أسًى ضاحك، جامد. لم تكن تبدو في حالة سيئة على الإطلاق، وكان سعالها معقولًا.

قالت لآفريل — التي دفعت ثمن الرحلة من مال تركه لها أبٌ لم تره قط — لتتذكر: «هذه مزحة.» عندما فرغا من الترتيبات، لم تكونا تعلمان ماذا كان سيحدث، أو أن الأمر كان سيحدث بسرعة مثلما بدا الآن.

قالت باجز: «في واقع الأمر، أنوي أن أظل على قيد الحياة حتى أجعل حياتك بائسة لعدة سنوات قادمة … أبدو أفضل حالًا. ألا تعتقدين ذلك؟ في الصباح، على أي حال. أتناول الطعام. كنت أفكِّر في أن أبدأ في السير قليلًا. سرتُ إلى سياج السفينة بالأمس، عندما لم تكوني هنا.»

كانت كابينتهما على سطح السفينة، وهناك كرسي موضوع لباجز خارجها. كان هناك مقعد تحت نافذة الكابينة، تجلس آفريل عليه الآن وفي الصباح يجلس عليه الأستاذ الجامعي من جامعة تورونتو الذي كانت باجز تُطلق عليه أحد معجبيها، أو «ذلك الأستاذ الجامعي الأحمق».

كان ذلك يحدث على متن سفينة نرويجية ناقلة للركاب، في أواخر السبعينيات، في شهر يوليو. كان الجو عبر شمال المحيط الأطلنطي مشمسًا، والبحر هادئًا وبرَّاقًا مثل الزجاج.

•••

كان اسم باجز الحقيقي — بالطبع — هو جُون. كان اسمها الحقيقي — في عالم الغناء — جون رودجرز. خلال العام والثلاثة أشهر الأخيرة لم تقم أي حفلات غناء عامة. لم تكن قد ذهبت إلى معهد الموسيقى لإلقاء المحاضرات في الشهور الثمانية الأخيرة. كان هناك عدد قليل من الطُّلَّابِ يأتون إلى الشقة في شارع هورون، في الأمسيات وأيام السبت؛ حتى تمرنهم آفريل على البيانو. كانت آفريل تعمل في معهد الموسيقى، في وظيفة إدارية. كانت تذهب إلى المنزل راكبةً دراجة لتناول الغداء يوميًّا، لترى إذا كانت باجز على ما يرام. لم تكن تقول إنها تذهب إلى المنزل لهذا السبب. كان لديها سبب الاستئذان لتناول غَدائها الخاص: لبن منزوع الدسم، حبوب قمح، وموزة، جميعها مضروبة في الخلاط. كانت آفريل تحاول أغلب الوقت أن تنقص من وزنها.

كانت باجز تغني في حفلات الزفاف، كانت تغني غناءً منفردًا تتلقى فيه أجرًا مع الجوقات الكَنَسِيَّة، غنت الأنشودتين الدينيتين «المسيح» و«آلام المسيح بحسب القديس متى» وأيضًا في أوبرات جلبرت وسوليفان. كانت تغني في أدوار ثانوية في أوبرات تورونتو مع نجوم مشهورين من الخارج. لفترة — في الخمسينيات — كانت قد شاركت في تقديم برنامج في الراديو مع مغني أوبرا مشهور سِكِّير، الأمر الذي جعل المحطة تستغني في نهاية المطاف عن كليهما. كان اسم جون رودجرز معروفًا جدًّا خلال الوقت الذي كانت آفريل تكبر فيه. كان معروفًا بما يكفي، على الأقل، بين الأشخاص الذين عادةً ما كانت آفريل تلتقيهم. كان الأمر بمثابة مفاجأة بالنسبة إلى آفريل، أكثر مما هو لباجز، أن تلتقي أناسًا مصادفة الآن لا يعرفونها.

لم يتعرِّفِ الأشخاص على السفينة على باجز. كان نصف الثلاثين شخصًا أو ما يقارب ذلك من الرُّكَّاب من الكنديين، معظمهم من تورونتو وما حولها، لكنهم لم يتعرَّفوا عليها. قالت آفريل خلال أول محادثة لها مع الأستاذ الجامعي: «كانت أمي تلعب دور زرلينا … في «دون جيوفاني»، في عام ١٩٦٤.» كان عمرها عشرة أعوام آنذاك، وتذكَّرت المناسبة باعتبارها مناسبة مجيدة. قلق شديد، اضطراب عصبي، أزمة، حلق ملتهب يُعالَج عن طريق اليوجا. حُلَّة فلاحة بتنورة ذات نقوش وردية وذهبية فوق مجموعة كبيرة من التنورات التحتية. مناسبة مجيدة.

قالت باجز لها لاحقًا: «حبيبتي، زرلينا ليست مألوفة لدى كثير من الناس … أيضًا، أساتذة الجامعات أغبياء. أغبى من الأشخاص العاديين. أستطيع أن أكون لطيفة وأن أقول إنهم يعرفون أشياءَ لا نعرفها، لكن كما أعرف، أستطيع أن أُؤَكِّدَ لك أنهم لا يعرفون إلا قشورًا.»

لكنها كانت تدع الأستاذ الجامعي يجلس إلى جانبها وتدعه يخبرها أشياء عن نفسه في كل صباح. أخبرت آفريل عمَّا عرفته عنه. كان يسير على سطح السفينة لمدة ساعة قبل الإفطار. في دياره، كان يسير ستة أميال يوميًّا. كان قد تسبَّب في فضيحة في الجامعة قبل سنوات قليلة عندما تزوج زوجته الشابة (قالت باجز: زوجته الغبية)، التي كان اسمها ليزلي. بسبب ذلك، كوَّن عداءات، وأثار الغيرة والاستياء بين زملائه بسبب تحرُّره، ثم بسبب تطليق زوجته وتزوُّج هذه الفتاة التي كانت أصغر بعام واحد من أكبر أبنائه. من ذلك الحين فصاعدًا، عزم بعض الأشخاص على النيل منه، وهكذا فعلوا. كان عالِم أحياء، لكنه كان قد صمم منهجًا علميًّا شاملًا — كان يُطلق عليه منهج أُمِّيَّةٍ علمية — للطلاب في أقسام العلوم الإنسانية، منهجًا يتَّسم بالحيوية، والبساطة والذي أمَّل في أن يمثِّل فتحًا متواضعًا في مجال تعليم العلوم. حصل على موافقة رؤسائه على المنهج، لكن تم استبعاده من قبل زملاء له في القسم الذي ينتمي إليه، الذين وضعوا متطلبات وشروط سخيفة ومعقدة للمنهج. كانت النتيجة أنه تقاعد مبكرًا.

قالت باجز: «أظن أن الأمر كان كذلك … لا أستطيع تركيز ذهني على الأمر. أيضًا، يمكن أن تُدمِّر النساء الشابات حياة أزواجهن كبار السن. قد يكون الشباب مملًّا. نعم، بالتأكيد. يستطيع الرجل أن يشعر بالراحة مع امرأة أكبر سنًّا. إيقاعات أفكارها وذكرياتها … نعم، إيقاعات أفكارها وذكرياتها ستتوافق بشكل أكبر مع أفكاره وذكرياته. يا للقرف!»

في ركن بسطح السفينة، كانت الزوجة الشابة، ليزلي، تجلس منهمكة في غزل مفرش لمقعد غرفة الطعام. كان هذا هو المفرش الثالث الذي تصنعه. كانت في حاجة إلى ستة مفارش. كانت المرأتان الجالستان إلى جانبها تعبران عن إعجابهما بجمال نمط تطريزها — كان يسمى وردة تيودور — وكانتا تتحدثان عن المفارش المطرَّزة بالإبرة التي كانتا قد صنعتاها. كانتا تشيران إلى كيف كانت تلك المفارش تتماشى مع أثاث منزليهما. كانت ليزلي تجلس بينهما، تتمتع بالحماية إلى حَدٍّ ما. كانت فتاة ذات بشرة ناعمة، وردية، وشعر بني، كان شبابها يذوي. كان مظهرها يستدر التعاطف، لكن باجز لم تُظهر أي تعاطف تجاهها عندما أخرجت أدوات التطريز من حقيبتها.

قالت باجز: «يا إلهي!» ثم فردت يديها وهزَّت أصابعها النحيفة وقالت: «هاتان اليدان»، ثم انتابتها نوبة من السعال: «هاتان اليدان فعلتا أشياءَ كثيرة لستُ فخورة بها، لكنني يجب أن أقول إنهما لم تُمسِكَا بإبرة خياطة أو إبرة تطريز أو إبرة كروشيه أو حتى خاطت زرًّا إذا كان ثمة دبوس مِشبك في متناول اليد. لذا لستُ الشخص الذي يمكن أن يُقَدِّرَ ما تفعلينه يا عزيزتي.»

ضحك زوج ليزلي.

كانت آفريل تُدرِك أن ما قالته باجز لم يكن صحيحًا تمامًا. كانت باجز هي من علَّمتها كيف تخيط. كانت باجز وآفريل مهتمَّتين بشدة بالملابس وكانتا تتابعان الموضة، على نحو مرح وجرئ. كانت بعض أفضل الأوقات التي قضياها معًا هي الأوقات التي كانتا تقصانِ القماش فيها، وتحيكان الأجزاء معًا؛ ممَّا كان يؤدي لإنتاج تصميمات ملهمة.

كانت المعاطف الطويلة والأردية الفوقية الفضفاضة التي كانت ترتديها باجز على متن السفينة — المصنوعة من الحرير والقطيفة والقطن البرَّاق المزخرف والأشرطة المغزولة بالكروشيه — كلها مأخوذة من فساتين، وستائر، ومفارش مائدة قديمة كانت آفريل اشترتها من متاجر بيع الملابس القديمة. كانت جينين — وهي امرأة أمريكية على متن السفينة، كانت تصنع صداقات على نحو محموم — معجبةً بشدة بهذه التصميمات.

قالت جينين: «من أين جئت بهذه الأشياء الرائعة؟» وأجابت باجز: «آفريل. صنعتها آفريل. أليست حاذقة؟»

قالت جينين: «إنها عبقرية … أنت عبقرية يا آفريل.»

قالت باجز: «يجب أن تصنع ملابس مسرحية … أُلِحُّ عليها كثيرًا في هذا الأمر.»

قالت جينين: «نعم، لم لا تفعلين ذلك؟!»

توردت آفريل خجلًا ولم تستطع أن تقول أيَّ شيء، أي شيء لوقف تعليقات باجز وجينين اللتين كانتا تبتسمان لها.

قالت باجز: «رغم ذلك، أنا مسرورة أنها لم تفعل ذلك. أنا مسرورة أنها هنا معي. آفريل كنزي.»

سائرةً على سطح السفينة، مبتعدةً عن باجز، سألت جينين آفريل قائلةً: «هل تمانعين في أن تخبريني كم عمرك؟»

قالت آفريل ثلاثة وعشرون، وتنهدت جينين. قالت إنها تبلغ اثنتين وأربعين. إنها متزوجة، لكن لا يرافقها زوجها. كان وجهها طويلًا مسمرًّا، ولها شفاهٌ لامعة، بنفسجية مائلة للَّوْنِ الوردي، وشعر يصل إلى كتفيها، كثيف وناعم مثل قطعة خشب من شجرة بلوط. قالت إن الناس كثيرًا ما يقولون لها إنها تبدو كما لو كانت من كاليفورنيا، لكنها كانت في حقيقة الأمر من ويسكونسن. كانت من مدينة صغيرة في ويسكونسن؛ حيث كانت مقدِّمة برنامج إذاعي يتلقى تعليقات من المستمعين. كان صوتها خفيضًا ومقنعًا ومليئًا بالرضا، حتى إن كانت تتحدث عن مشكلة، أو تعبِّر عن حزن، أو تكشف عن عمل مخزٍ.

قالت: «والدتك امرأة ساحرة.»

قالت آفريل: «الناس إمَّا يرون ذلك وإما لا يستطيعون تحملها.»

«هل هي مريضة منذ فترة طويلة؟»

قالت آفريل: «إنها تتعافى … كان تعاني من التهاب رئوي حاد الربيع الماضي.» كان هذا ما اتفقتا على قوله.

كانت جينين متحمسة كي تصبح صديقة لباجز أكثر من شغف باجز بذلك. مع ذلك، عادت باجز إلى حميميتها غير الكاملة المعتادة، كاشفةً عن بعض الأشياء عن الأستاذ الجامعي، وذاكرةً الاسم الذي كانت قد اخترعته له: دكتور فاوست. كان اسم زوجته وردة تيودور. ظنَّت جينين أن هذين الاسمين ملائمان ومضحكان. قالت: أوه، يا له من أمر مضحك!

لم تكن تعرف الاسم الذي منحته إياها باجز: جلامور بوس.

تجولت آفريل على سطح السفينة واستمعت إلى الناس تتحدث. فكَّرت كيف أن الرحلات البحرية كان من المُفترض أن تبتعد بالمرء عن كل شيء، وكيف أن «كل شيء» كان يعني افتراضيًّا حياة المرء كلها، الطريقة التي يحيا بها، الشخص الذي يكونه في المنزل. غير أن جميع المحادثات التي استرقت السمع إليها كانت عكس ذلك تمامًا. كان هؤلاء يذكرون تفاصيل حيواتهم، ذاكرين طبيعة وظائفهم، وأطفالهم، وحدائقهم، وغرف طعامهم. كان يجري تبادُل وصفات الأشياء: كعكات الفواكه، والسماد العضوي. كانوا أيضًا يتحدثون عن طرق التعامل مع زوجات الأبناء وإدارة الاستثمارات. حكايات المرض، الخيانة، العقارات. «قلت». «فعلت». «أعتقد دومًا». «حسنًا، لا أعرف كيف تفكر في الأمر، لكنني …»

تساءلت آفريل — التي كانت تمر مولية وجهها شطر البحر — كيف يفعل المرء ذلك؟ كيف يتعلم المرء أن يكون بهذا العناد والإصرار وأن يأخذ دورك؟

«جدَّدتُ المكان بأسره الخريف الماضي باللونين الأزرق والمحاري.»

«أخشى أنني لم أتمكَّن قط من مشاهدة أعمال الأوبرا الساحرة.»

كانت الجملة الأخيرة جملة الأستاذ الجامعي، متصورًا أنه يستطيع أن يُلزم باجز حدودها. لكن لماذا قال «أخشى»؟

لم تذهب آفريل للسير وحدها طويلًا. كان لديها شخص معجب بها، الذي كان يتتبعها خِلسة ويقطع عليها طريقها إلى سياج السفينة. كان فنانًا، فنانًا كنديًّا من مونتريال، كان يجلس قبالتها في غرفة الطعام. عندما سُئل — أثناء الوجبة الأولى — عن نوع من اللوحات التي يرسمها، قال إن آخر أعماله لوحة لشخص يبلغ تسعة أقدام طولًا، وهو ملفوف بالكامل في ضمادات، عليها عبارات مأخوذة من إعلان الاستقلال الأمريكي. قال بعض الأمريكيين المهذَّبين: «يا لها من لوحة رائعة!» وقال الفنان في سخرية مكتومة: «أنا مسرور أنكم تعتقدون ذلك.»

قالت جينين: «لكن لماذا …» بنبرة مقدِّم البرامج الذي يجيب بشكل حاذق على أسلوب عدائي في الحديث (نوع خاص ثري من الطيبة في الصوت، ابتسامة أكثر انتباهًا واهتمامًا): «لماذا لم تستخدم أي مقولات كندية من أي نوع؟»

قالت آفريل: «نعم، كنت أتساءل عن ذلك أيضًا.» في بعض الأحيان، كانت تحاول أن تشترك في المحادثات على هذا النحو، كانت تحاول التكرار أو التوسع في الأشياء التي كان الآخرون يقولونها. عادةً، لم يكن الأمر ينجح.

تحوَّل موضوع الاستشهاد بمقولات كندية إلى موضوع شائك مع الفنان. كان قد تعرض لنقد لاذع على يد النُّقَّاد لهذا السبب ذاته، متَّهمين إياه بعدم الوطنية الكافية، متجاهلين الفكرة التي كان يحاول أن يبينها من خلال عمله. تجاهل جينين، وتتبَّعَ آفريل من المائدة وظل يحاضرها ما بدا ساعاتٍ طويلة، مُبديًا إعجابًا شديدًا بها أثناء ذلك. في صباح اليوم التالي، كان ينتظر الذهاب إلى تناول الإفطار معها، وبعد ذلك سألها إذا ما كانت قد وقفت قبل ذلك أمام فنان ليرسمها.

قالت آفريل: «أنا؟ … أنا بدينة بعض الشيء.»

قال إنه لم يقصد أن تفعل ذلك وهي مرتدية ملابسها. قال إنه إذا كان من النوع الآخر من الفنانين (ألمَّت مما قال أن النوع الآخر كان النوع الذي يحتقره) لكان سيختارها مباشرةً لجعلها موديل يرسمه. فخذاها الذهبيان الكبيران (كانت ترتدي سروالًا قصيرًا، لم تلبسه بعد ذلك) شعرها الطويل الذي يشبه الكراميل، كتفاها العريضتان وخصرها الأهيف. إلهة رائعة الجمال، تحظى ببشرة إلهة، إلهة الحصاد. قال إن تعبيرات وجهها العابس نقية وطفولية.

رأت آفريل أن عليها أن تتذكر أن تبتسم دومًا.

كان رجلًا قصيرًا ممتلئ الجسم داكن البشرة، ويبدو أنه عصبي المزاج. أطلقت باجز عليه تولوز-لوتريك.

كان هناك رجال قد وقعوا في حب آفريل من قبلُ. كانت قد وعدت مرتين أنها ستتزوج، ثم رأت أنها يجب أن تهرب من الأمر. كانت قد ضاجعت الرجال الذين خُطبت إليهم، واثنين أو ثلاثة آخرين. في حقيقة الأمر، أربعة آخرين. كانت قد أُجهضت مرَّةً من قبل. لم تكن باردة جنسيًّا — لم تكن تعتقد ذلك — لكنها كانت تشعر ببعض الاستحياء والخوف عندما كانت تمارس الجنس، وكانت تشعر دومًا براحة كبيرة عندما ينتهي الأمر.

كانت تتعامل مع الفنان من خلال الإنعام عليه بمحادثة في وقت مبكر من اليوم، عندما كانت تشعر بالقوة وصفاء الذهن. لم تكن تُجالِسُه، وخلال فترتي ما بعد الظهيرة والمساء كانت تحافظ على مسافة كافية بينهما. كان جزء من استراتيجيتها يتمثَّل في قضاء بعض الوقت مع جينين. كان ذلك جيدًا، طالما كانت جينين تتحدث عن حياتها الخاصة ولم تنتقل للحديث عن حياة آفريل.

قالت جينين: «والدتك امرأة شجاعة وجذَّابة جدًّا … لكن الأشخاص الجذَّابين قد يكونون مراوغين جدًّا. تعيشين معها، أليس كذلك؟»

أجابت آفريل بالإيجاب، فقالت جينين: «أوه! أنا آسفة. آمل ألا أكون متطفلة أكثر مما ينبغي. آمل ألا أكون قد أزعجتك.»

شعرت آفريل بحق بالحيرة، بالطريقة المعتادة. لماذا يُسَلِّمُ الآخرون سريعًا بأنها غبية؟

قالت جينين: «أتعرفين، لقد اعتدت على استضافة الآخرين في برنامجي الحواري … أنا في غاية السوء عندما يأتي الأمر للمحادثات العادية. لقد نسيت كيف أتواصل في مواقف غير مهنية. أنا فظة أكثر ممَّا ينبغي و«أُظهر اهتمامًا» أكثر مما ينبغي. أحتاج إلى مساعدة في هذا الأمر.»

قالت إن الهدف من هذه الرحلة هو أن تعود بنفسها إلى واقعها العادي وتكتشف من تكون حقًّا عندما لا تقف أمام الميكروفون. وحتى تعرف من هي خارج إطار زواجها. كان اتفاقًا بينها وبين زوجها، مثلما قالت، أن يرحل كل منهما بعيدًا عن الآخر في رحلات صغيرة كهذه كثيرًا؛ بحيث يمكنهما أن يختبرا حدود العلاقة فيما بينهما.

كانت آفريل تكاد تسمع ما كانت باجز ستقوله عن ذلك. كانت ستقول: «اختبار حدود العلاقة … تعني المضاجعة على متن سفينة.»

قالت جينين إنها لم تستبعد أن تَمُرَّ بعلاقة جنسية على متن السفينة. بعبارة أخرى، قبل أن تُلقي نظرة على الرجال المتاحين على السفينة، لم تكن قد استبعدت هذا الاحتمال. لكن بمجرد أن ألقت نظرة، وجدت أن هذا مستبعد. من عساه يكون هذا الرجل؟ كان الفنان قصيرًا وقبيحًا وكارهًا للأمريكيين. بينما لم يكُن ذلك في حد ذاته أمرًا يُثنيها عنه، كان هو متيمًا بآفريل. كان لدى الأستاذ الجامعي زوجة على متن السفينة، ولن تقدم جينين على العبث معه في أي مكان. بالإضافة إلى ذلك، كان ثرثارًا إلى حَدِّ الملل، لديه بعض البثور الصغيرة على جفني عينيه، كما كان معجبًا بباجز. جميع الرجال الآخرين كانوا خارج إطار تفكيرها لسبب أو لآخر؛ بعضهم لديه زوجة، أو كان بعضهم طاعنًا أو صغيرًا في السن جدًّا بحيث لا يمكن أن يسعدها، أو كانوا مُغرَمِين ببعضهم، أو مغرمين بأعضاء في طاقم السفينة. عليها أن تستغل الوقت لتعتني ببشرتها اعتناءً كاملًا ولتقرأ كتابًا أثناء الرحلة.

قالت لآفريل: «من كنتِ ستختارين، إذا كنت تختارين لي؟»

قالت آفريل: «ماذا عن ربَّان السفينة؟»

قالت جينين: «رائع، احتمال بعيد لكن رائع.»

وجدت أن عمر الربان معقول، كان في الرابعة والخمسين. كان متزوجًا، لكن كانت زوجته قد عادت إلى برجن. لديه ثلاثة أطفال، بالغون أو قريبون من ذلك. لم يكُن هو نفسه نرويجيًّا بل كان اسكتلنديًّا، وُلِدَ في أدنبرة. كان قد خرج إلى عالم البحار في عمر السادسة عشرة وصار ربَّانًا على هذه الناقلة منذ عشرة أعوام حتى الآن. عرفت جينين كل ذلك عن طريق سؤاله. قالت له إنها ستكتب مقالة لإحدى المجلات عن سفن نقل الركاب (ربما تقوم بذلك فعلًا)، اصطحبها في جولة حول السفينة، بما في ذلك قمرته. ظنَّت أن في ذلك إشارة طيبة.

كانت قمرته غاية في النظافة والنظام. كانت هناك صورة فوتوغرافية لامرأة بدينة، حسنة المظهر ترتدي سترة ثقيلة. كان الكتاب الذي يقرؤه من تأليف جون لو كاريه.

قالت باجز: «لن يمنحها فرصة الإيقاع به. هو أكثر حذرًا منها. اسكتلندي حذِر.»

لم تكن آفريل قد فكَّرت للحظة في إفشاء أسرار جينين، إن كانت تلك أسرارًا على الإطلاق. كانت معتادة على سرد جميع المعلومات التي حصلت عليها، جميع الحكايات المثيرة — في المنزل في شقة شارع هورون، في الكابينة على ظهر السفينة — إلى باجز. كانت تخبرها بكل الحكايات. كانت باجز نفسها رائعة في حث الآخرين على إخراج ما لديهم، كانت تتلقى أسرارًا خطيرة معقدة من مصادر غير محتملة. حتى الآن بقدر ما تعرف آفريل، لم تحتفظ بأي شيءٍ سرًّا.

قالت باجز إن جينين كانت نوعًا من البشر مألوفًا لها. واجهة برَّاقة من الخارج وكارثة من الداخل. قالت لآفريل إن من الخطأ الاقتراب منها كثيرًا، لكنها تظل هي نفسها شخصية ودودة إلى حَدٍّ كبير. حكت لجينين قصصًا كانت آفريل قد سمعتها من قبلُ.

أخبرتها عن والد آفريل، الذي لم تَصِفْهُ بالأحمق أو المحب، بل بالتافه العجوز الحذِر. كان عجوزًا بالنسبة لها، في الأربعينيات من عمره. كان طبيبًا في نيويورك. كانت باجز تعيش هناك، كانت مغنية شابة تحاول أن تشق طريقها. ذهبت إليه تشكو من التهاب بالحلق، الحلق الملتهب هو مصدر القلق الأكبر في حياتها.

قالت باجز: «العين، والأذن، والأنف، والحلق. كيف كان لي أن أعلم أنه لن يتوقف عند ذلك؟»

كانت لديه عائلة. بالطبع. جاء إلى تورونتو، لمرة واحدة، في مؤتمر طبي. رأى آفريل.

«كانت تقف في سريرها، وعندما رأته أطلقت صراخًا مشئومًا. قلت له: هل تعتقد أنها أخذت عني صوتي؟ لم يكن مزاجه يسمح بالمزاح. أخافته. هذا التافه العجوز الحذِر. أظن أنه لم يخطئ إلا في تلك المرة.

أستخدم دومًا لغة السباب. أحبها. كنت أحبها قبل أن تصبح شيئًا شائعًا جدًّا بوقت طويل. عندما بدأت آفريل في الذهاب إلى المدرسة، هاتفتني المعلمة وطلبت مني المجيء لأتحدث معها. قالت إنها قلقة حيال بعض الألفاظ التي كانت تستخدمها آفريل. عندما كانت آفريل تقصف قلمها أو تكسر أي شيء، كانت تقول: «أوه! اللعنة!» أو ربما كانت تقول: «أوه! تبًّا!» كانت تقول أي شيء كانت معتادة على سماعه مني في المنزل. لم أُحَذِّرْهَا من ذلك قط. كنت أظن أنها ستدرك ذلك. لكن كيف لها أن تدرك ذلك؟ آفريل المسكينة. كنت أمًّا بالغة السوء. لم يكن ذلك هو أسوأ ما في الأمر. هل تظنين أنني اعترفتُ بالأمر لتلك المعلمة وقلت لها إنها سمعت هذه الألفاظ مني؟ بالطبع لا! كنت أتصرف كسيدة مجتمع. أوه، يا عزيزتي. أوه، أقدِّر تمامًا إخبارك إياي بالأمر. أوه، يا عزيزتي. أنا شخص فظيع. كانت آفريل تعرف ذلك دومًا. أليس كذلك، يا آفريل؟»

قالت آفريل: بلى.

•••

في اليوم الرابع، توقفت باجز عن الذهاب إلى غرفة الطعام لتناول العشاء.

قالت: «ألاحظ أن بشرتي تتحول إلى اللون الرمادي بعض الشيء حول أنفي في ذلك الوقت. لا أريد أن أخذل الأستاذ الجامعي. ربما لا يكون متيَّمًا هكذا بالنساء الأكبر سنًّا مثلما يقول.»

قالت إنها أكلت ما يكفي في الإفطار والغداء. وأضافت: «كان الإفطار دومًا أفضل الوجبات لديَّ. وهنا أتناول إفطارًا عظيمًا.»

عادت آفريل من العشاء معها كعكات وفواكه.

قالت باجز: «رائع، سأتناولها لاحقًا.»

كان عليها أن تنام مستندة إلى شيء ما.

قالت آفريل: «ربما لدى الممرضة أسطوانة أكسجين.» لم يكن هناك طبيب على متن السفينة، لكن كان هناك ممرضة. لم تُرِدْ باجز أن تأتي الممرضة. لم تكن في حاجة إلى أكسجين.

قالت عن نوبات السعال التي تنتابها: «ليست سيئة، ليست سيئة مثلما تبدو. مجرد نوبات بسيطة. كنت أتساءل: هي عقاب عن ماذا؟ بالنظر إلى أنني لم أدخن قط. حدثت نفسي أن ذلك ربما يرجع إلى غنائي في الكنيسة وعدم إيماني؟ لا. أعتقد ربما بسبب أغنية «صوت الموسيقى». ماريا. الله يكرهها.»

•••

كانت آفريل وجينين تلعبان البوكر في الأمسيات مع الفنان والمساعد الأول — النرويجي الجنسية — للربان. كانت آفريل تذهب إلى سطح السفينة بضع مرات لتطمئن على باجز. كانت باجز نائمة أو تتظاهر بأنها نائمة، الفواكه والكعكات إلى جانب فراشها لم تمس. كانت آفريل تخرج من اللعبة مبكرًا. لم تكن تذهب إلى الفراش مباشرةً، على الرغم من أنها فعلت كل ما في وسعها كي تتعب ويُلِحَّ عليها النعاس بشدة بحيث لا تستطيع حتى فتح عينيها. كانت تنسل إلى الكابينة لأخذ الكعكات التي لم تُؤكل، ثم تخرج إلى سطح السفينة. كانت تجلس إلى المقعد الذي يوجد تحت نافذة الكابينة. كانت النافذة مفتوحةً دومًا على مصراعيها في نسيم الليل الدافئ الساكن. كانت آفريل تجلس هناك وتأكل الكعكات في هدوء بقدر ما تستطيع، وهي تقضَم في حذر الحافة المقرمشة اللذيذة. كان هواء البحر يجعلها جوعانة مثلما كان من المُفترض أن يكون الأمر. إما هذا أو أن ما يجعلها جوعانة هو التوتر الناجم عن وجود شخص واقع في حبها بالقرب منها. في ظل هذه الظروف كان وزنها يزداد عادةً.

كانت تستطيع سماع صوت نفس باجز؛ اضطرابات وتوقفات قصيرة، ونوبة تسارع غير منتظمة، وتعثُّر، وشخير، ولهاث سريع. تستطيع سماع باجز وهي نصف نائمة، وهي تتقلب وتصارع وتتحامل على نفسها صعودًا في الفراش. تستطيع رؤية الربان، عندما خرج من قمرته للسير قليلًا. لم تعرف إذا ما كان قد رآها. لم يبدُ ذلك على الإطلاق. لم ينظُر جهتها قط. كان ينظر إلى الأمام. كان يمارس بعض التمارين، ليلًا، عندما لا يكون مضطرًّا أن يتبادل الأحاديث مع أحد. ذهابًا وإيابًا، ذهابًا وإيابًا، قريبًا من سياج السفينة. ظلت آفريل ساكنة، شعرت وكأنها مثل ثعلب يختبئ في أحد الأدغال. حيوان ليلي، تراقبه. لكن لم تظن أنه سيجفل إذا ما حركَّت ساكنًا أو نادته. كان متنبهًا لكل شيء على متن السفينة، بالتأكيد. كان يعلم أنها هناك، لكنه كان يتجاهلها تأدبًا، أو لشعوره الذاتي بالثقة.

كانت تفكِّر في خطط جينين للإيقاع به، واتفقت مع باجز أنها خُطَطٌ مصيرها الفشل. ستشعر آفريل بالإحباط إذا لم تَؤُلْ تلك الخطط إلى الفشل. لم يبدُ ربَّان السفينة بالنسبة إليها رجلًا يريد أن يزعجك، أو يتملقك، أو يستثيرك، أو يهاجمك. لا يبدو أي من تصرفاته كأنها تقول لك: «انظري إليَّ.» «استمعي إليَّ.» «اعجبي بي.» «امنحيني نفسك.» لا شيء على الإطلاق من ذلك. تدور أشياء أخرى في خلده. السفينة، البحر، الطقس، الحمولة، الطاقم، الالتزامات التي عليه الوفاء بها. يجب أن يكون الركاب مسألة عادية بالنسبة إليه. حمولة من نوع آخر، تتطلب نوعًا آخر من الاهتمام. كسول أو مريض، شهواني أو حزين، فضولي، غير صبور، مراوغ، منعزل؛ كل هذا رآه من قبل. سيعرف أشياء عن هؤلاء على الفور، لكن ليس أكثر مما يحتاج أن يعرف. ربما يعرف عن جينين قصة قديمة.

كيف حدد الوقت الملائم للدخول؟ هل ضبط التوقيت؟ هل حسب خطواته؟ كان شعره مائلًا إلى البياض وظهره مستقيمًا، وبه بدانة في جسده حول منطقة الوسط، لا تشي بالإفراط بل بسلطة هادئة. لم تفكِّر باجز في أي اسم له. بينما كانت قد أشارت إليه بالاسكتلندي الحذِر، لم تهتم بأكثر من ذلك فيه. لم يكن ثمة علامات واضحة حياله، كانت تستطيع باجز الإمساك بها، لا وجود لأي محاولات للاستعراض، لا وجود لأي طبقات برَّاقة تترقَّق عند أول اختبار. كان رجلًا قد تشكَّل قبل وقت طويل، لا رجلًا يصنع نفسه لحظة بلحظة وباستخدام أي شخص يجده خلال عملية تشكله.

قبل ليلة واحدة من ظهور الربان، سمعت آفريل غناءً. سمعت باجز تغني. سمعت باجز تنهض وتعدِّل من وضع جسدها في الفراش وتبدأ في الغناء.

في بعض الأحيان في الشهور الأخيرة، كانت باجز تغني جملة أثناء أحد الدروس، كانت تغني في صوت خفيض للغاية، بحذر شديد، ولحاجتها إلى الغناء، لتبين شيئًا. لم تكن تغني هكذا الآن. غنت في خفة، مثلما كانت معتادة أثناء تدريباتها، محافظةً على كامل قوة صوتها للعرض النهائي. لكنها كانت تغني في صدق وبطريقة جيدة، في عذوبة كاملة، أو شبه كاملة.

كانت تغني: «سترى يا عزيزي.» مثلما كانت معتادة على الغناء عندما كانت ترتب المائدة أو تنظر خارج نافذة الشقة إلى الأمطار، مؤديةً فاصلًا غنائيًّا خفيفًا كان يُمكن تأديته بثراء أكثر إن أرادت. ربما كانت تنتظر شخصًا ما في تلك الأوقات، أو تبغي سعادة غير محتملة أو فقط تتمرَّن من أجل حفل غنائي.

«سترى يا عزيزي،
إذا أصبحت مطيعًا،
أي علاج رائع
أحتفظ به لك!»

كانت رأس آفريل قد ارتفعت إلى أعلى عندما بدأ الغناء. كان جسدها قد تضام، مثلما يحدث لها في الأزمات. لكن لم يُنادِهَا أحد، ظلت في مكانها. بعد لحظة الانزعاج الأولى، شعرت الشعور نفسه، الشعور نفسه الذي كانت تشعر به دومًا، عندما كانت أمها تغني. تنفتح الأبواب على مصراعيها، مباشرةً، كان ثمة فضاء مضاء في الخلفية، بصيص من العطف والجدية. فرح مرغوب، مبارك، وجدية، أحد تجليات العطف التي لا تسأل أي مقابل. لا تستطيع سوى قبول هذا الأمر البرَّاق. الذي غيَّر كل شيء، ثم عندما تتوقف باجز عن الغناء يختفي ذلك الشيء. اختفى. بدا كما لو أن باجز نفسها أخذته بعيدًا. كانت باجز تستطيع أن تشير إلى أن الأمر لم يكن سوى خدعة، لا أكثر من ذلك. ويمكنها أن تشير إلى أنك لست إلا أحمق إذا لاحظت هذا الشيء. إنها هبة كانت باجز ملزمة بتقديمها إلى الجميع.

هناك. هذا هو كل ما في الأمر. أنت مرحب بك.

لا شيء مميَّز.

كانت باجز تمتلك هذا السر الذي كشفت عنه، ثم تولت حجبه تمامًا عن آفريل، مثلما حجبته عن الآخرين.

«لا تتمتع آفريل بأذن موسيقية، شكرًا للرب.»

ظهر الربان على سطح السفينة بمجرد انتهاء باجز من الغناء. ربما كان قد استمع إلى المقطع الأخير من الغناء أو كان ينتظر في أدب — في الخفاء — حتى تفرغ باجز من الغناء. مضى، وكانت آفريل تراقبه، كالمعتاد.

كان بمقدور آفريل أن تغني في رأسها. لكن حتى في رأسها لم تكن تغني قط الأغاني التي تغنيها باجز. لم تُغَنِّ أيًّا من أغاني زرلينا، أو مقاطع غناء السوبرانو في الأنشودات الدينية، ولا حتى «وداعًا نوفا سكوتيا» أو أيًّا من الأغاني الشعبية التي كانت باجز تسخر من العواطف المفرطة فيها على الرغم من أنها كانت تغنيها على نحو ملائكي. كان ثمة ترنيمة تغنيها آفريل. لم تكد تعرف من أين جاءت. لم يكن من الممكن أن تتعلمها من باجز. كانت باجز تكره الترنيمات عمومًا. لا بد أن آفريل تعلمتها من الكنيسة عندما كانت طفلة، وكان عليها أن تذهب في صحبة باجز عندما كانت تغني غناءً منفردًا.

كانت الترنيمة تبدأ هكذا: «الرب راعٍ.» لم تكن آفريل تعلم أنها جزء من أحد المزامير، لم تذهب آفريل إلى الكنيسة كثيرًا حتى تعرف المزامير. لم تكن تعرف معنى جميع الكلمات في الترنيمة، التي كانت — مثلما كان عليها أن تقر — مليئةً بالأنانية المفرطة، والانتصار الصريح — وخاصةً في إحدى الآيات — نوعًا من الشماتة الطفولية:

ترتب قدامي مائدة،
تجاه مضايقي.

كم كان صوت عقل آفريل ينشد في حبور، وأمان، ولاعقلانية هذه الكلمات، بينما كانت ترقب الربان يتمشَّى أمامها، ولاحقًا، عندما كانت هي نفسها تسير في أمان إلى سياج السفينة:

إنما خير ورحمة يتبعانني
كل أيام حياتي،
وأسكن في بيت الرب
إلى مدى الأيام.

كان غناؤها الصامت يلف القصة التي كانت تتلوها لنفسها، قصة كانت تزيد من أحداثها كل ليلة على سطح السفينة. (كانت آفريل تحكي لنفسها قصصًا. بدت عملية الحكي بالنسبة إليها حتمية مثل الحلم.) كان غناؤها حاجزًا بين العالم في ذهنها والعالم الخارجي، بين جسدها وتدافع النجوم، المرآة السوداء لمنطقة شمال الأطلنطي.

•••

توقفت باجز عن الذهاب إلى تناول الغداء. كانت لا تزال تذهب إلى الإفطار، وكانت في حالة نشاط آنذاك، ولمدة ساعة أو ما يقارب ذلك بعدها. قالت إنها لا تشعر أن حالتها تسوء، كانت متعبة من الاستماع والكلام. لم تُغَنِّ ثانيةً، على الأقل عندما كانت آفريل تستطيع سماعها.

•••

في الليلة التاسعة، التي كانت آخر ليلة تخرج فيها، قبل أن ترسو السفينة في مدينة تيلبري، أقامت جينين حفلة في كابينتها. كانت كابينة جينين أكبر وأفضل كابينة على ظهر السفينة. قدَّمت شامبانيا، كانت قد جلبتها لهذا الغرض، وويسكي وخمرًا، بالإضافة إلى الكافيار والعنب، وكميات ضخمة من السلمون المدخن وشرائح اللحم، والجبن، والخبز، من المطبخ. قالت: «أنا أُبَذِّرُ كثيرًا، أحلِّق عاليًا من السعادة. سأتجول في أوروبا، حاملةً حقيبة على ظهري، وأسرق البيض من مزارع الدجاج. لا آبه. سأحتفظ بعناوينكم. وعندما أنفق كل ما لديَّ، سآتي لأقيم معكم. لا تضحكوا!»

كانت باجز تنوي الذهاب إلى الحفلة. كانت قد ظلَّت في الفراش طوال اليوم، ولم تذهب حتى لتناوُل الإفطار، كي تحافظ على قوتها. نهضت واغتسلت، ثم استندت على الوسائد لوضع زينتها. تزينت على نحو طيب، عيناها وباقي الأشياء. مشَّطت شعرها ورشت عطرًا عليه. لبست فستانها الرائع الذي ترتديه عند الغناء منفردةً، الذي كانت آفريل قد صنعته؛ فستان مستقيم القص، طويل، حريري بلون أرجواني داكن، تُزيِّن أكمامه الواسعة خيوط من الحرير باللونين الوردي والفضي متغيري الدرجة حسب الضوء.

قالت باجز: «لونه باذنجاني.» استدارت حتى ترى اتساع الثوب التدريجي عن حاشية الفستان. جعلتها الاستدارة تفقد توازنها، فجلست.

قالت: «لا بد أن أطلي أظافري … سأنتظر قليلًا. أشعر بتوتر شديد.»

قالت آفريل: «أستطيع أن أقوم بذلك عنك.» كانت قد رفعت شعرها بالدبابيس إلى أعلى.

«هل تستطيعين ذلك؟ لا أظن ذلك. لا أظن أنني سأذهب. على الرغم من استعدادي. أظن أن الأحرى بي أن أمكث هنا وأستريح. غدًا، يجب أن أكون في أفضل هيئة. النزول من السفينة.»

ساعدتها آفريل على خلع فستانها وغسل وجهها وارتداء ثوب النوم مرة أخرى. ساعدتها على الرقاد في الفراش.

قالت باجز: «هذه جريمة ضد الفستان؛ ألَا أذهب؟ يستحق هذا الفستان أن يُرى. لا بد أن ترتديه. ارتديه. من فضلك.»

بينما لم تكُن آفريل تظن أن اللون الأرجواني يناسبها، انتهى بها المطاف بالتخلي عن فستانها الأخضر وارتداء فستان باجز. ذهبت عبر البهو إلى الحفلة، تنتابها مشاعر الغرابة، والتحدي، والعبثية. كان كل شيء على ما يرام، كان الجميع في كامل أبهته، بعضُهم كان يرتدي ملابس مهندمة جدًّا. حتى الرجال كانوا في كامل أبهتهم بشكل أو بآخر. كان الفنان يرتدي سترة بذلة سهرة قديمة، وبنطال جينز، وكان الأستاذ الجامعي يرتدي سترة بيضاء من النوع الفضفاض إلى حَدٍّ ما، والتي يبدو معها مثل أصحاب المزارع المتأنِّقين. كان فستان جينين أسود اللون وقصيرًا، وكانت ترتدي جوارب سوداء شفافة، وتتقلَّد مجموعة كبيرة من المجوهرات الذهبية. كانت ليزلي ترتدي فستانًا من الحرير الرقيق الصقيل، تزينه ورود حمراء ووردية اللون إزاء خلفية كريمية اللون. عند مؤخرتها، كان الفستان محزومًا في صورة وردة هائلة، ظل الأستاذ الجامعي يربِّت، ويجذب، ويرتِّب بتلاتها حتى تكون في أبهى صورة. كان يبدو كما لو كان مبهورًا بها للمرة الأولى. كانت تبدو مسترخية وفخورة، يتورد وجهها من حمرة الخجل.

سأل الأستاذ الجامعي آفريل: «ألن تأتي أمك إلى الحفل؟»

أجابت آفريل: «الحفلات تضجرها.»

قال: «لاحظت أن أشياء كثيرة تضجرها … لاحظت ذلك في الفنانين، وهو أمر مفهوم. عليهم التركيز أكثر على أنفسهم.»

قال الفنان: «من هذه؟ تمثال الحرية؟» ممررًا يديه على الحرير في فستان آفريل. «هل ثمة امرأة في الداخل على الإطلاق؟»

كانت آفريل قد سمعت أن الفنان كان يتحدث عنها مع جينين مؤخرًا، متسائلًا إذا ما كانت سحاقية، وإذا لم تكن باجز أمها، بل مجرد حبيبة غنية، غيورة.

قال: «هل هذه امرأة أم كتلة كبيرة من الخرسانة؟» لامسًا الحرير عند ردفها.

لم تأبه آفريل. كانت هذه هي الليلة الأخيرة التي كانت ستراه فيها. كانت تحتسي الخمر. كانت تحب احتساء الخمر. كانت تحب احتساء الشامبانيا على وجه الخصوص. كانت تجعلها تشعر لا بالإثارة بل بالضبابية والتسامح.

تحدثت إلى مساعد الربان الأول الذي كان مخطوبًا إلى فتاة من منطقة الجبال ولم يظهر حيالها إلا اهتمامًا ودودًا، وهو ما راقها كثيرًا.

تحدثت إلى الطاهية، وهي امرأة جميلة كانت تدرس اللغة الإنجليزية في المدارس الثانوية النرويجية وكانت تعتزم الآن أن تعيش حياة فيها مخاطرة أكثر. كانت جينين قد أخبرت آفريل أنه كان يعتقد أن الطاهية والفنان يتضاجعان، وكان ثمة طابع تحدٍّ ساخر في ود الطاهية جعل آفريل تعتقد أن ذلك ربما يكون أمرًا صحيحًا.

تحدثت إلى ليزلي، التي قالت إنها كانت عازفة لآلة هارب. كانت عازفة هارب شابة تعزف أثناء وجبات العشاء في أحد الفنادق، ولمحها الأستاذ الجامعي وهي تعزف في خلفية من نبات السرخس. لم تكن طالبة مثلما كان الناس يظنون. لكن بعد أن تزوَّجا، جعلها الأستاذ الجامعي تحصل على بعض الدورات الدراسية لتطور عقلها. كانت تقهقه وهي تحمل كأس الشامبانيا وتقول: إن الأمر لم ينجح. كانت تقاوم عملية تطوير العقل، لكنها كانت قد تخلَّت عن عزف الهارب.

تحدثت جينين إلى آفريل في صوت خفيض وخاص قدر استطاعتها. قالت: «كيف ستستطيعين التعامل معها؟ ماذا ستفعلين في إنجلترا؟ كيف ستركب القطار؟ هذا أمر مهم.»

قالت آفريل: «لا تقلقي.»

قالت جينين: «لم أكن صريحة معك. عليَّ أن أذهب إلى الحمام، لكنني أريد أن أخبرك شيئًا عندما أرجع.»

أملت آفريل ألا تعتزم جينين البوح بالمزيد من الأسرار عن الفنان أو تقديم المزيد من النصائح عن معاملة باجز. لم تفعل. عندما خرجت من الحمام، بدأت تتحدث عن نفسها. قالت إنها ليست في عطلة قصيرة مثلما زعمت. بل هجرها زوجها، هجرها سعيًا وراء امرأة غبية شديدة الجاذبية كانت تعمل موظفة استقبال في المحطة. كموظفة استقبال، تضمن عملها طلاء أظافرها وإجابة الهاتف من آنٍ إلى آخر. رأى الزوج أنه وجينين يجب أن يَظَلَّا أصدقاء، وأنه سيأتي إلى زيارتها، يتناول الخمر بنفسه ويتحدث عن الأساليب المغرية التي تمارسها عشيقته. كيف كانت تجلس في الفراش، عاريةً — تفعل ماذا يا ترى؟ — تطلي أظافرها. كان يرغب في أن تضحك جينين معه وتواسيه على هذه العلاقة التي يفكر فيها جيدًا قبل الدخول فيها. وهكذا فعلت، فعلت جينين ذلك. مرة أخرى، فعلت ما كان يريد واستمعت إلى حكاياته وشاهدت الخمر وهو ينفَد. قال إنه يحبها — جينين — كما لو كانت الأخت التي لم يوجد له مثلها قط. أما الآن، كانت جينين عازمة على اقتلاعه من الجذور من حياتها. كانت تريد أن تطير. كانت تريد أن تعيش حرة.

كانت لا تزال تضع عينيها على الربان، على الرغم من أن الساعة بلغت الحادية عشرة. رفض تناول الشامبانيا وكان يشرب الويسكي.

كانت الطاهية قد جلبت صينية عليها أقداح من القهوة لأولئك الذين لا يحتسون الخمر أو الذين يرغبون في أن يفيقوا مبكرًا. عندما حاول أحدهم أخيرًا أن يتناول قدحًا منها، كانت الكريمة في القهوة قد بدأت تفسد، ربما بسبب البقاء لفترة طويلة في غرفة دافئة. دون أن يبدو عليها أي ارتباك، أخذت الطاهية الصينية بعيدًا، وهي تَعِدُ بأن تأتي بقهوة جديدة. قالت: «ستكون طيبة عند وضعها على الكعك في الصباح، مع إضافة سكر بني، على الكعك.»

قالت جينين إن أحدهم أخبرها ذات مرة أنه عندما يفسد اللبن يمكن أن تَشُكَّ أن هناك شخصًا ميتًا على متن السفينة.

قالت جينين: «كنت أعتقد أن هذا نوع من الخرافات، لكنه قال إن الأمر ليس كذلك؛ فهناك سبب. الثلج. يتم استخدام كل الثلج الموجود لحفظ الجسد؛ لذا يفسد اللبن. قال إنه يعرف أن ذلك حدث بالفعل، على متن سفينة كانت تبحر في منطقة استوائية.»

سُئل الربان، مزحًا، عما إذا كان ثمة أي مشكلة من هذا النوع على متن السفينة.

قال لا، على حد علمه. قال: «لدينا مساحات كبيرة للتبريد.»

قالت جينين: «على أي حال، أنتم تدفنون الموتى في البحر، أليس كذلك؟ يستطيع المرء أن يتزوج أو يُدفن في البحر، أليس كذلك؟ أم هل حقًّا تقومون بحفظ الموتى في الثلاجات وترسلونهم إلى ديارهم؟»

قال الربان: «نفعل ما تمليه علينا كل حالة.»

سُئل، إذا كان قد حدث هذا له بالفعل، فهل كان يجري حفظ الميت أو يتم دفنه في البحر؟

«شاب صغير ذات مرة، أحد أفراد الطاقم، مات جراء التهاب حادٍّ في الزائدة الدودية. لم نكن نعرف له أهلًا؛ لذا دفناه في البحر.»

قالت ليزلي، التي كانت تضحك بصوت عالٍ على أي شيء: «هذا تعبير مضحك، عندما تفكِّر فيه، دفناه في البحر.»

قال الربَّان: «في مرة أخرى … في مرة أخرى، كان الميت سيدة.»

ثم حكى لجينين وآفريل، وعدد من الركاب الآخرين ممن كانوا يقفون على مقربة منه، قصة. (لم تسمع ليزلي القصة؛ حيث قد أخذها زوجها بعيدًا.)

قال الربان: في إحدى المرات على متن هذه السفينة، كان ثمة أختان تسافران معًا. كان ذلك في خط سير مختلف، قبل سنوات قليلة، إلى جنوب المحيط الأطلنطي. كان يبدو أن هناك فرقًا بين الأختين في العمر يبلغ عشرين عامًا، لكن كان ذلك يرجع فقط إلى أن إحداهما كانت مريضة جدًّا. ربما لم تكن أكبر سنًّا كثيرًا، ربما لم تكن الأكبر على الإطلاق. ربما كانت كلتاهما في الثلاثينيات من العمر. لم تكن أي منهما متزوجة. كانت الأخت التي لم تكن مريضة جميلة جدًّا.

قال الربَّان: «أجمل امرأة رأيتها على الإطلاق.» متحدثًا في نبرة جادة، كما لو كان يصف منظرًا أو مبنى.

كانت جميلة جدًّا، لكن لم تكن تُعِرْ أحدًا أي انتباه، إلا أختها التي كانت ترقد في الكابينة مصابة فيما يبدو بمرضٍ في القلب. كانت الأخت الأخرى معتادة على الخروج ليلًا والجلوس على المقعد خارج نافذة كابينتهما. ربما كانت تسير إلى حاجز السفينة وتعود، لكنها لم تكن تبعد كثيرًا عن النافذة. ظنَّ الربَّان أنها كانت في مرمى السمع، حال كانت أختها في حاجة إليها. (لم يكن هناك طبيب على متن السفينة في ذلك الوقت.) كان يستطيع رؤيتها هناك عندما كان يخرج في مشيته الليلية المتأخرة، لكنه كان يتظاهر بأنه لا يراها؛ نظرًا لأنه ظن أنها لم تكن ترغب في أن يراها أحد، أو أن تلقي التحية على أحد.

لكن في إحدى الليالي، عندما كان يسير مارًّا بها، سمعها تناديه. كانت تنادي في صوت خافت لدرجة أنه كان بالكاد يسمعها. اتجه إلى المقعد، وقالت: «أيها الربان، أنا آسفة، أختي ماتت لتوها.»

أنا آسفة، أختي ماتت لتوها.

قادته إلى الكابينة، وكانت محقة تمامًا. كانت أختها ترقد على السرير المجاور للباب. كانت عيناها نصف مفتوحتين، كانت قد ماتت لتوها.

قال الربان: «كانت الأشياء شبه مبعثرة، على النحو الذي تكون الأمور عليه في بعض الأحيان في مثل تلك الحالات. ومن خلال الطريقة التي استجابت بها للأمر عرفت أنها لم تكن في الكابينة عندما وقع الأمر؛ كانت في الخارج.»

لم ينبس الربان أو المرأة ببنت شفة. بدآ في العمل معًا لترتيب الأشياء، وغسلا الجسد، ومدداه، وأغلقا العينين. عندما انتهيا، سألها الربان عمَّن يجب أن يبلغه بالأمر. قالت المرأة: لا أحد. لا أحد. قالت: لا يوجد أحد إلا نحن الاثنتين. سألها الربان: إذًا هل ستدفنين الجثمان في البحر؟ قالت: نعم. قال: غدًا؟ غدًا في الصباح؟ قالت: لماذا يجب علينا أن ننتظر؟ هل نستطيع أن نقوم بذلك الآن؟

بالطبع كانت تلك فكرة جيدة، على الرغم من أن الربان لم يكن ليحثها على ذلك ما لم تقُل ذلك بنفسها. كلما قل عدد الركَّاب الآخرين — أو حتى طاقم السفينة — الذين هم على دراية بوجود حالة وفاة على متن السفينة؛ كان ذلك أفضل. كان الطقس حارًّا، صيفًا في جنوب المحيط الأطلنطي. قامَا بلف الجسد في إحدى الملاءات، وحملاه عبر النافذة، التي كانت مفتوحة على مصراعيها لدخول الهواء. كان جثمان الأخت الميتة خفيفًا، ضعيفًا. حملا جثمانها إلى سياج السفينة. ثم قال الربان إنه سيذهب ليأتي بحبل ليربط الجثمان في الملاءة بحيث لا تنفصل عنه عندما يقذفانه. قالت: ألا يمكننا أن نستخدم أوشحة؟ ثم هرولت إلى الكابينة وجاءت حاملةً مجموعة من الأوشحة التي كانت جميلة جدًّا. ربط الجثمان في الملاءة بهذه الأشياء وقال إنه سيذهب ليأتي بالكتاب المقدَّس؛ ليقرأ على الجثمان صلوات الموتى. ضحكت المرأة وقالت: ما فائدة الكتاب المقدس هنا؟ المكان مُظلم تمامًا. كان يرى أنها كانت تخشى أن تُترك وحدها مع الجثمان. كانت محقة — أيضًا — في أن المكان كان مظلمًا جدًّا بما لا يسمح بالقراءة. كان يستطيع إحضار كشاف. لم يعرف إذا ما كان قد فكَّر في ذلك من قبلُ قط. لم يرغب حقيقةً في أن يتركها، لم تعجبه الحالة التي كانت عليها.

سألها عمَّا يجب أن يقوله إذًا؛ بعض الصلوات؟

قالت: قل ما شئت. فتلا الصلاة الربانية، لم يذكر إذا ما كانت قد شاركته الصلاة أم لا. ثم قال شيئًا مثل: أبانا المسيح، باسمك نواري هذه المرأة في الأعماق، رحماك بروحها! شيء من هذا القبيل. أمسكا بالجسد ثم ألقياه من فوق السياج. لم يُحدث الجثمان ضجة كبيرة عندما أُلقِي في الماء.

سألت إذا ما كان هذا هو كل ما في الأمر، وأجابها بالإيجاب. كان عليه أن يملأ بيانات بعض الأوراق ويكتب شهادة الوفاة. سأل: ما كان سبب الوفاة؟ هل كانت نوبة قلبية؟ تساءل في نفسه عن أي ذهول كان فيه بحيث لم يَسَلْ عن ذلك قبل ذلك.

قالت: بل قتلتُها.

صرخت جينين قائلة: «كنت أعلم! … كنت أعلم أنها حادثة قتل!»

اصطحب الربان المرأة إلى المقعد تحت نافذة الكابينة — المُضاءة مثلما في الكريسماس — وسألها عمَّا كانت تعني. قالت إنها كانت جالسة هنا، حيث هي الآن، وسمعت نداء أختها. كانت تعلم أن أختها كانت تمر بنوبة. كانت تعلم ماذا لديها، كانت أختها في حاجة إلى حقنة. لم تتحرك البتة. حاولت أن تتحرك. بعبارة أخرى: ظلت تفكِّر في التحرُّك، رأت نفسها تذهب إلى الكابينة، وتُخرج الحقنة، رأت نفسها تفعل ذلك، لكنها لم تكن تتحرك. جاهدت نفسها أيَّما جهاد لتتحرك، لكنها لم تتحرك. جلست كالحجر. لم تكن تستطيع الحركة مثلما لا يستطيع المرء الحركة بعيدًا عن مصدر خطر ما في الأحلام. كانت جالسة تستمع حتى علمت أن أختها ماتت. ثم جاء الربان فنادته.

أخبرها الربان أنها لم تقتل أختها.

قال: ألم تكن أختها ستموت على أي حال؟ ألم تكن ستموت قريبًا جدًّا؟ إذا لم يكن الليلة، فقريبًا جدًّا؟ قالت: أوه! نعم. ربما. قال الربان: لا ليس ربما، بل بالتأكيد. ليس ربما، لكن بالتأكيد. كتب النوبة القلبية سببًا للوفاة في شهادة الوفاة، وذلك كل ما في الأمر.

قال: عليك أن تهدئي الآن. سيكون كل شيء على ما يُرام.

قالت المرأة: نعم. كانت تعلم أن هذا الجانب من الأمر سيسير على ما يرام. قالت: لست آسفة. أعتقد أن عليك تذكُّر ما فعلت.

قال الربان: «ثم ذهبتْ في اتجاه سياج السفينة … وبالطبع ذهبت معها، لأنني لم أكن متأكدًا ماذا كانت تعتزم أن تفعل، وأنشدت ترنيمة. كان هذا هو كل ما في الأمر. أظن أن ذلك كان هو كل مساهمتها في الصلوات. كانت تغني بصوت لا تكاد تسمعه، لكنني كنت أعرف الترنيمة. لا أستطيع تذكُّرها، لكنني كنت أعرفها جيدًا جدًّا.»

غنَّت آفريل آنذاك: «إنما خير ورحمة يتبعانني كل أيام حياتي.» بصوت خفيض ولكن واثق، وهو ما جعل جينين تعانقها، وتصيح قائلةً: «حسنًا، شامبانيا يا سالي!»

اندهش الربان للحظة. ثم قال: «أعتقد أنها ربما كانت هذه.» اعتقد أنه ربما كان قد أفصح عن شيء ما — جانب من قصته — لآفريل: «ربما كانت هذه.»

قالت آفريل: «هذه هي الترنيمة الوحيدة التي أعرفها.»

قالت جينين: «هل كان هذا هو كل ما في الأمر؟ ألم يكن هناك ميراث يتصارعان عليه أو رجل يتنافسان عليه؟ أليس كذلك؟ أعتقد أن الأمر لم يكن مثلما يحدث على شاشة التليفزيون.»

قال الربَّان: لا، لم يكن الأمر مثلما يحدث على شاشة التليفزيون.

كانت آفريل تعتقد أنها تعرف بقية القصة. كيف لها ألا تعرف بقيتها؟ كانت هذه قصتها. كانت تعرف أن بعد فراغ المرأة من إنشاد الترنيمة، أخذ الربان بيديها بعيدًا عن سياج السفينة. ورفع يديها إلى فمه وقبلهما. قبَّل ظهر يديها، ثم راحتهما؛ يديها اللتين كانت قد أدَّتا الصلاة توًّا على المتوفاة.

في بعض نسخ القصة، كان هذا هو كل ما فعله، كان هذا كافيًا. في نسخ أخرى، لم يكتفِ بذلك. وهكذا الأمر بالنسبة لها. ذهبت معه إلى الداخل، عبر الممر إلى الكابينة المُضاءة، وهناك ضاجعها على الفراش نفسه الذي وفق روايته كانا قد أزالا ملاءاته ونظَّفاه، مُلقِين مَن كانت ترقد فيه وإحدى ملاءاته إلى قاع المحيط. استلقيا على هذا الفراش لأنهما لم يستطيعا الانتظار حتى يذهبا إلى الفراش الآخر تحت النافذة، اندفعا بقوة في عملية المضاجعة التي استمرت حتى الفجر والتي كانت ستكفيهما حتى ما تبقى من حياتيهما.

في بعض الأحيان، كانا يُطفئان الأنوار، في بعض الأحيان لم يكونا يعبئان بذلك.

تلا الربان القصة كما لو كانت الأم والابنة أختين، وكما لو كان قد انتقل بالسفينة إلى جنوب الأطلنطي، وكما لو كان قد ترك النهاية مفتوحة — فضلًا عن إضافة تفاصيل من عنده — لكن آفريل كانت تعتقد أن القصة التي رواها هي قصتها. كانت القصة التي كانت تحكيها لنفسها ليلة وراء ليلة على سطح السفينة، قصتها شديدة السرية، ها هي تُروى لها مجددًا. كانت هي مَن ألَّفتها، وأخذها هو عنها، ورواها، بطريقة آمنة.

إن اعتقادها بأن هذا يمكن أن يحدث جعلها تشعر بالخفة والتميُّز والتوهج، مثل سمكة مضيئة في الماء.

•••

لم تمُت باجز في تلك الليلة. ماتت بعد أسبوعين، في المستشفى الملكي في أدنبرة. كانت قد نجحت في بلوغ هذه المسافة، على متن القطار.

لم تكن آفريل بصحبتها عندما ماتت. كانت على مسافة مربعين سكنيين منها، تأكل بطاطس مشوية في أحد مطاعم الوجبات السريعة.

كانت إحدى الملاحظات المفهومة الأخيرة التي قالتها باجز عن المستشفى الملكي هي تلك التي قالت فيها: «ألا تبدو مثل «العالم القديم»؟»

كانت آفريل — التي خرجت لتتناول طعامها بعد أن مكثت في غرفة المستشفى طوال اليوم — قد اندهشت لتجد أن الشمس لم تَغِبْ بَعْدُ، وأن كثيرًا من الأشخاص الممتلئين بالحيوية الأنيقين كانوا في الشوارع، يتحدثون الفرنسية والألمانية، وربما لغات أخرى كثيرة لم تستطع التعرُّف عليها. في كل عام في هذا الوقت، كانت مدينة الربان تقيم مهرجانًا.

•••

أحضرت آفريل جثمان باجز إلى ديارهما في تورونتو في طائرة، وأقامت لها جنازة عُزفت بها موسيقى فخمة. وجدت نفسها تجلس إلى كندي آخر كان عائدًا من اسكتلندا، شاب كان قد شارك في مسابقة جولف شهيرة للهواة ولم يُبْلِ بلاءً حسنًا مثلما كان يتوقع. جعل الفشل وفقدان العزيز كلاهما يعطفان أحدهما على الآخر، واندهش كلاهما ببساطة شديدة من جهل الآخر بعالم الرياضة وعالم الموسيقى. وحيث إن الرجل كان يعيش في تورونتو، كان من السهل عليه أن يشارك في الجنازة.

خلال وقت قصير تزوَّجا هو وآفريل. بعد فترة، صارا أقل تعاطفًا وأقل اندهاشًا، وبدأت آفريل تعتقد أن السبب الأساسي وراء اختيار زوجها هو ظنها أن باجز كانت ستعتقد أن اختيارها كان اختيارًا أخرق. انفصلا.

التقت آفريل رجلًا آخر، رجلًا أكبر بكثير منها، مدرس مسرح في مدرسة ثانوية ومخرج مسرحي. كانت موهبته يمكن أن يعول عليها أكثر من حسن نيته، كان أسلوبه فظًّا، ووقحًا بطريقة مزعجة، وساخرًا. كان يأسر الآخرين أو يثير نفورهم الكبير منه. كان يحاول النأي بنفسه عن الأمور المعقدة المتشابكة.

رغم ذلك، أجبرهما حمل آفريل على الزواج. كان كلاهما يأمل في إنجاب فتاة.

لم تَرَ آفريل مرة أخرى أيًّا من الأشخاص الذين كانوا على متن السفينة، أو تسمع عنهم.

•••

قبلت آفريل عرض الربان. كانت بريئة ومحظوظة. كانت تلمع مثل سمكة متلألئة، في فستانها الحريري داكن اللون.

تبادلت هي والربان التحية قبل الذهاب إلى كابينتها للنوم. تلامست يداهما في تحية رسمية عابرة. وارتعش جلد يديهما عند تلامسهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤