آهٍ، ماذا يجدي؟

(١) الغبي الأعور

هم في غرفة الطعام. الأرضية اللامعة خالية إلا من بساط أمام خزانة الآنية الخزفية. لا يوجد أثاث كثير: مائدة طويلة، بعض المقاعد، البيانو، خزانة الآنية الخزفية. بالنسبة للنوافذ، جميع المصاريع الخشبية مغلقة. هذه المصاريع مطلية بلون أزرق كئيب، أزرق مائل إلى الرمادي. تقشَّر بعض الطلاء عليها، وعلى أُطر النوافذ. ساهمت جوان في تقشُّر بعضها، باستخدام أظافرها.

هذا يوم حار جدًّا في لوجان. يسبح العالم وراء المصاريع في ضوء أبيض؛ الأشجار والتلال القصية أصبحت مرئية، تسعى الكلاب للاقتراب من المناطق التي توجد بها مضخات المياه والبرك الصغيرة حول نافورات الشرب.

توجد هناك صديقة لأمهما. هل هذه هي المدرِّسة جاسي تول، أم زوجة ناظر المحطة؟ صديقات أمهما سيدات مفعمات بالحياة، في الغالب هن صديقات عابرات، متحررات ومستقلات في آرائهن، إن لم يكنَّ كذلك في أفعالهن.

•••

على المائدة، تحت المروحة، تفرِّق المرأتان أوراق اللعب وتحزران حظوظهما في الحياة. تتحدثان وتضحكان بطريقة تجدها جوان مثيرة، تآمرية. يجلس موريس على الأرض، يكتب في كراسة، يدوِّن عدد النسخ التي باعها ذلك الأسبوع من مجلة «نيو ليبرتي»، ومن دفع، ومن لم يدفع بعدُ. يبدو صبيًّا جلدًا وواثقًا، في الخامسة عشرة من عمره، مرح لكن متحفظ، يرتدي نظارة إحدى عدستيها داكنة اللون.

•••

عندما كان موريس في الرابعة من عمره، كان يتجول عبر الحشائش الطويلة في نهاية الفناء، قرب الجدول، وتعثَّر في جرافة حشائش كانت موضوعة هناك، أسنانها بارزة إلى أعلى، تعثَّر، فسقط على أسنانها، وجُرح حاجباه وجفناه بصورة سيئة، وأُصِيبت مقلتا عينيه بشدة. بقدر ما تستطيع جوان أن تتذكر — كانت رضيعة عندما حدث ذلك — صار لديه ندبة عميقة، وفقد إحدى عينيه، وأصبح يرتدي نظارة إحدى عدستيها داكنة اللون.

كان أحد المتشردين قد ترك الجرافة هناك. هكذا قالت أمهما، قالت للمتشرد إنها ستعطيه سندويتشًا إذا قام بإزالة الأوراق بالجرافة من تحت أشجار الجوز. أعطته الجرافة، وفي المرة التالية التي ألقت فيها نظرة عليه كان قد مضى، كان قد تعب من إزالة الأوراق، مثلما حزرت، أو غضب منها لسؤالها إياه العمل في المقام الأول. نسيت أن تذهب وتبحث عن الجرافة، لم يكن هناك رجل معها يساعدها في أي شيء. خلال أقل قليلًا من نصف عام، كان عليها تجاوز الأشياء الثلاثة التالية: ميلاد جوان، وموت زوجها في حادث سيارة (كان يشرب، مثلما ظنَّت، لكنه لم يكن ثملًا)، وتعثُّر موريس ووقوعه على الجرافة.

لم تصطحب موريس إلى أي طبيب أو إخصائي في تورونتو لإزالة أثر الندبة الكبيرة أو الحصول على استشارة منه حول عينه، لم يكن لديها مال، لكن ألم يكن بمقدورها اقتراض بعض المال (كانت جوان، أول ما بدأت تكبر، تتساءل حول ذلك)؟ ألم يكن بمقدورها الذهاب إلى أحد أندية الليونز وطلب المساعدة، مثلما يساعدون الفقراء في حالات الطوارئ؟ لا، لا لم يكن في مقدورها ذلك، لم تكن تعتقد أنها وأطفالها كانوا على نفس الدرجة من الفقر للأشخاص الذين كانت أندية الليونز تساعدهم. كانوا يعيشون في منزل كبير، كانوا مُلَّاكًا، يجمعون الإيجار من ثلاثة منازل صغيرة تقع في الجهة المقابلة من الشارع. لا يزالون يملكون مخزنًا لبيع الأخشاب، على الرغم من أنهم لم يكن لديهم فيه في بعض الأحيان إلا موظف واحد. (كانت أمهما تحب أن يُطلَق عليها الأم فوردايس، على غرار أرملة في أحد المسلسلات الاجتماعية الإذاعية، الأم بركينز التي كانت تمتلك أيضًا مخزن أخشاب.) لم يكونوا على نفس الدرجة من الحاجة التي كان عليها الفقراء الحقيقيون.

ما كان أكثر صعوبة أن تستوعبه جوان هو سبب عدم قيام موريس بعمل أي شيء. موريس يمتلك الكثير من المال الآن، ولم يعد الأمر متعلقًا حتى بالمال. يدفع موريس أقساط التأمين في برنامج التأمين الصحي الحكومي مثلما يفعل الجميع، يمتلك ما ترى جوان أنه أفكار يمينية جدًّا فيما يتعلق بالسياسات الحمائية، والمسئولية الفردية، وعدم ملاءمة معظم أنواع الضرائب، لكنه يدفع أقساط التأمين، ألا يبدو منطقيًّا له أن يحاول أن يحصل على شيء في المقابل؟ علاج أفضل لجفن عينه؟ واحدة من تلك الأعين الجديدة الاصطناعية التي تمكِّنها حساسيتها الشديدة من الحركة في تناغم مع العين الأخرى، وكأنها عين حقيقية؟ حتى يتم ذلك، عليه الذهاب إلى إحدى المستشفيات العامة، وبعض الجلبة والجدال والمناورة.

لا يتطلب الأمر سوى إقرار موريس برغبته في تغيير الواقع، ليس عارًا على الإطلاق أن يحاول المرء التخلي عن الوصمة التي طبعها القدر عليه.

•••

تشرب أمهما وصديقتها مزيجًا من الرم والصودا. هناك قدر من التساهل في المنزل ربما يُدهش معظم الأطفال الذين تذهب جوان وموريس إلى المدرسة معهم: أمهما تدخن، وتشرب مزيج الرم والصودا في أيام الصيف الحارة، وتسمح لموريس بالتدخين وقيادة السيارة بمجرد بلوغه الثانية عشرة. (لا يحب موريس الرم.) لا تشير أمهما إلى الحادثة الأليمة، تتحدث عن المتشرد والجرافة، لكن ربما صارت عين موريس الآن أيضًا شيئًا خاصًّا، تغذيهما بفكرة أنهما جزء من تركيبة مميزة، لا لأن جدهما أنشأ مخزن الأخشاب — تضحك على ذلك، تقول إنه لم يكن سوى مجرد حطَّاب ابتسم الحظ له، ولم تكن هي شخصًا ذا بال؛ جاءت إلى المدينة كموظفة في بنك — وليس بسبب منزلهما الكبير، البارد، المهمل، بل بسبب شيء خاص، سري، في عائلتهما الصغيرة. كان الأمر يتعلق بطريقة المزاح، والحديث عن الناس، يطلقون أسماءً خاصة — كانت أمهما قد ابتدعت معظمها — على كل من في المدينة تقريبًا، وهي تعرف الكثير من الشعر، منذ أيام المدرسة أو من مصادر أخرى، وهي تلصق بكل شخص بيتين من الشعر، يلخصانه بشكل عابث لا يُنسى. تنظر عبر النافذة وتُلقي بعض الشعر فيعرِّفان من كان يمر حينها. في بعض الأحيان، كانت ترفع صوتها في إلقاء الشعر وهي تقلِّب العصيدة التي يأكلونها من حين إلى آخر على العشاء والإفطار لأنها رخيصة.

نكات موريس غير مباشرة. لا يكف عن ذلك وترتسم على وجهه أمارات الخبث، وتتظاهر أمهما بأن صوابها يطير. في إحدى المرات، أخبرته أنه إذا لم يكف، فستفرغ سلطانية السكر فوق البطاطس المهروسة التي يتناولها. لم يفعل، ونفذت هي تهديدها.

هناك رائحة في منزل فوردايس، تأتي من الجص وورق الحائط في الغرف التي جرى إغلاقها، والطيور النافقة في المداخن غير المستخدمة، أو الفئران التي يجدون فضلاتها التي تشبه البذور في خزانة البياضات. الأبواب الخشبية في المداخل المقنطرة بين غرفة الطعام وغرفة المعيشة مغلقة، ولا تُستخدم إلا غرفة الطعام. يفصل فاصل قديم بين القاعة الجانبية والقاعة الأمامية، لا يشترون الفحم أو يصلحون المدفأة المتهالكة. يدفئون الحجرات التي يعيشون فيها عن طريق موقدين، مستخدمين في ذلك بقايا الأخشاب التي يأتون بها من مخزن الأخشاب. لا يُعدُّ أيٌّ من ذلك مهمًّا، لا يُعدُّ أيٌّ من حالات عوزهم وحرمانهم والصعوبات التي يمرون بها في حياتهم مهمًّا. ماذا يهم إذن؟ النكات والحظ، هم محظوظون أن كانوا نتاج زواج دامت السعادة فيه خمس سنوات وعبَّر عن نفسه من خلال الحفلات، وحفلات الرقص، ومن خلال المغامرات الرائعة، كل الأشياء التي تذكِّرهم بالماضي في كل مكان حولهم: تسجيلات الجرامافون، الفساتين المهترئة التي بلا طراز محدد، المصنوعة من مواد مثل كريب جورجيت مشمشي وحرير زمردي مموج، وسلة رحلات بها دورق فضي. لم تكن هذه السعادة من النوع الهادئ؛ كانت تتضمن الكثير من الشرب، ارتداء الملابس الأنيقة، مع الأصدقاء — معظمهم من أماكن أخرى، حتى من تورونتو — الذين ذهبوا الآن، ألمَّت بكثير منهم أيضًا المآسي، الفقر المفاجئ الذي كان سائدًا في تلك السنوات، تعقيدات الحياة.

•••

يسمعون الطارق يقرع الباب الأمامي بشكل يتعارض مع قواعد الذوق.

تقول أمهما: «أعرف، أعرف من يكون هذا … السيدة لوني باتلر، ماذا تظنون؟» تخلع حذاءها القماشي وتفتح في هدوء أبواب المداخل المقنطرة، دون إحداث أي صرير. تسير على أطراف أصابعها إلى النافذة الأمامية في غرفة المعيشة التي لم تعد مستخدمة، والتي تستطيع من خلال مصاريعها إلقاء نظرة سريعة ورؤية الشرفة الأمامية. تقول: «اللعنة! إنها هي.»

تعيش السيدة باتلر في أحد المنازل الثلاثة الأسمنتية على الجانب الآخر من الشارع، إنها مستأجِرة، شعرها أبيض، لكنها تسرحه لأعلى وتغطيه بقبعة مصنوعة من قطع متعددة الألوان من القطيفة، ترتدي معطفًا أسود طويلًا، لديها عادة إيقاف الأطفال في الشوارع وتوجيه الأسئلة إليهم: هل رجعتِ لتوِّك من المدرسة؟ لماذا تأخرتِ هكذا؟ هل تعرف أمك أنك تمضغين اللبان؟ هل تلقين أغطية الزجاجات في فناء منزلي؟

تقول أمهما: «اللعنة! لا يوجد شخص لا أرغب في رؤيته سوى هذه.»

ليست السيدة باتلر زائرة دائمة، تزورهم على نحو غير منتظم، مزعجة إياهم بقائمة طويلة من الشكاوى، وبعض الأخبار العاجلة المريعة. الكثير من الأكاذيب، وفي الأسابيع العديدة التالية، تمر على المنزل دون أن تنظر إليه، في خطوات واسعة سريعة ورأس بارز إلى الأمام مما ينزع كل المهابة عن معطفها الأسود. هي مشغولة البال ومنزعجة دائمًا وتمشي وهي تتمتم غاضبةً.

يقرع الطارق الباب مجددًا، وتسير أمهما في خفة إلى عتبة الباب في القاعة الأمامية، تقف هناك، على أحد جانبي الباب الأمامي الكبير يوجد لوح من الزجاج الملوَّن عليه تصميمات غاية في التعقيد حتى إنها لا تسمح برؤية ما وراءها، وعلى الجانب الآخر، حيث كُسر لوح من الزجاج الملوَّن (قالت أمهما: حدث ذلك في إحدى الليالي التي كنا نقيم فيها حفلة صاخبة)، يوجد لوح من الخشب. تقف أمهما على عتبة الباب تجأر، تجأر قائلة: «ياب، ياب، ياب»، مثل جرو غاضب صغير محبوس وحده في المنزل. تضغط السيدة باتلر برأسها المغطى بقبعة إزاء الزجاج وهي تحاول أن ترى ما بالداخل، لا تستطيع أن ترى أي شيء. ينبح الجرو بصوت أعلى، نوبة محمومة من النباح — هياج غاضب — وكأن أمهما تتلفظ من خلالها بكلمات «اذهبي بعيدًا»، «اذهبي بعيدًا»، «اذهبي بعيدًا»، «أيتها السيدة المخبولة»، «أيتها السيدة المخبولة»، «أيتها السيدة المخبولة»، «اذهبي بعيدًا، أيتها السيدة المخبولة، اذهبي بعيدًا».

تقف السيدة باتلر في الخارج لبعض الوقت في الحرارة الشديدة، تحجب الضوء عن الزجاج.

في زيارتها التالية تقول: «لم أكن أعرف قط أن لديك كلبًا.»

تقول أمهما: «لا نملك كلبًا … لم يكن لدينا كلب على الإطلاق، كنت أفكر في كثير من الأحيان أن أقتني كلبًا، لكن لم أفعل ذلك على الإطلاق.»

«حسنًا، أتيت إلى هنا في أحد الأيام، ولم يكن هناك أحد في المنزل، لم يأت أحد إلى الباب، وأكاد أقسم أنني سمعت صوت نباح كلب.»

ترد أمهما: «ربما تعانين من مشكلة في أذنك الداخلية … يجب أن تستشيري الطبيب.»

تقول أمهما لاحقًا: «أظن أنني أستطيع أن أتحول إلى كلب بسهولة بالغة … أظن أن اسمي سيكون سكيبي.»

•••

ابتدعوا اسمًا للسيدة باتلر: السيدة بانكلر، ثم السيدة بانكل، ثم أخيرًا السيدة كاربانكل. كان الاسم يلائمها، دون معرفة ماذا كانت كلمة «كاربانكل» تعني على وجه الدقة (والتي تعني «دملًا»)، رأت جوان أن الاسم كان يناسبها، اسم ارتبط بصورة لا تُنسى بشيء مكتل، جامد، مزعج، تصعب السيطرة عليه في وجه وشخصية جارتهم.

كان لدى السيدة كاربانكل ابنة تدعى ماتيلدا، لم يكن لديها زوج، فقط هذه الابنة. عندما جلس آل فوردايس عند الشرفة الجانبية بعد العشاء — كانت أمهما تدخن وكان موريس يدخن، أيضًا، كربٍّ للأسرة — كانوا ربما يرون ماتيلدا تأتي من الناصية الأخرى، في طريقها إلى متجر الحلوى الذي كان يظل مفتوحًا إلى وقت متأخر، أو للحصول على كتاب من المكتبة قبل أن تغلق أبوابها. لم يكن لديها أي أصدقاء، من ذا الذي يجلب صديقًا لبيتٍ السيدة كاربانكل ربته؟ في المقابل، لم تبدُ ماتيلدا وحيدة أو خجولة أو غير سعيدة، كانت ترتدي ملابس جميلة. كانت السيدة كاربانكل تقوم بالحياكة، في حقيقة الأمر، كانت تحقق دخلًا من هذا، تفصِّل وتوضِّب الملابس لمتجر جيلسبيز لملابس السيدات والرجال. كانت تلبس ماتيلدا ملابس باهتة الألوان، عادةً مع جوارب بيضاء طويلة.

قالت أمهما في رقة، وهي ترى ماتيلدا تمر: «رابونزل، رابونزل، أسدلي شعرك الذهبي … كيف يمكن أن تكون هذه الفتاة ابنة السيدة كاربانكل؟ أخبروني!»

تقول أمهما إن هناك شيئًا مريبًا في الأمر، لن تُدهش أبدًا — لن تُدهش «أبدًا» — إذا اكتشفت أن ماتيلدا ابنة أحد الأثرياء، أو ابنة سِفاح، وتتلقى السيدة كاربانكل مقابلًا لتربيتها. ربما، على الجانب الآخر، خُطفت ماتيلدا وهي طفلة، ولا تعرف شيئًا البتة عن الأمر. تقول أمهما: «تحدث مثل هذه الأشياء.»

كان جمال ماتيلدا، الذي أثار هذا الحديث، من النوع الآسر حقًّا مثل جمال الأميرات، كان جمالًا يشبه جمال الشخصيات في القصص المصورة: شعر طويل، متموج، سائب، بني فاتح تتخلله خصلات ذهبية، وقد كان يُطلق عليه شعر أشقر في الأيام الخوالي قبل أن تنتشر الصبغات التي تعطي الشعر ألوانًا اصطناعية شديدة الصفرة. بشرة بيضاء مائلة إلى اللون الوردي، عينان كبيرتان زرقاوان زُرقة خفيفة. ورد تعبير «رقة العاطفة الإنسانية» بصورة غامضة إلى ذهن جوان عندما كانت تفكِّر في ماتيلدا، كانت هناك رقة في زرقة عيني ماتيلدا، وبشرتها، ومظهرها العام. رقة وجاذبية وعطف، وربما غباء، ألا تملك كل تلك الأميرات في القصص المصورة غشاوة من الرقة، ستارًا من الغباء يلف جمالهن الأشقر، روحًا جُبلت على التضحية غير المبررة، والخيرية الدائمة؟ ظهر كل هذا في ماتيلدا عندما كانت تبلغ الثانية عشرة أو الثالثة عشرة. كانت في نفس عمر موريس، وفي نفس فصله في المدرسة، مع كل هذا، أبلت ماتيلدا بلًاء حسنًا في المدرسة؛ لذا لم يبدُ على الإطلاق أنها كانت غبية، كانت معروفة أنها بارعة في هجاء الكلمات.

جمعت جوان كل ما استطاعت من معلومات حول ماتيلدا وصارت تعرف كل رداء ترتديه، كانت تحاول أن تلتقيها، ونظرًا لأنهما كانتا تعيشان في المربع السكني نفسه، كان يحدث هذا كثيرًا. كانت جوان شديدة الإعجاب بماتيلدا لدرجة أنها كانت تلاحظ كل تغير طفيف تقوم به في مظهرها: هل انسدل شعرها فوق كتفيها اليوم أم أزاحته عن خديها؟ هل وضعت طلًاء واضحًا على أظافرها؟ هل كانت ترتدي البلوزة ذات اللون الأزرق الفاتح المصنوعة من الرايون التي توجد بها زخارف صغيرة حول الياقة، وهو ما كان يمنحها مظهرًا ناعمًا وعفويًّا، أم القميص القطني الأبيض المنشي، وهو ما كان يجعلها تبدو كطالبة ملتزمة؟ كانت ماتيلدا تمتلك عقدًا من خرز زجاجي، بلون وردي صافٍ، وكان يجعل جوان عندما تراه على عنق ماتيلدا الأبيض، تفرز عرقًا خفيفًا تحت إبطيها.

في إحدى المرات، ابتدعت جوان أسماءً أخرى لها، كان اسم «ماتيلدا» يستحضر في الذهن صورة الستائر الداكنة، أبواب الخيم رمادية اللون، امرأة عجوز ذات جلد مترهل. ماذا عن شارون؟ ليليان؟ إليزابيث؟ ثم، لم تعرف جوان كيف تحوِّل اسم ماتيلدا. بدأ يلمع مثل الفضة، كانت هناك حروف في الاسم من الفضة، الفضة غير المعدنية. كان الاسم يلمع الآن في عقل جوان مثل قطعة من الساتان.

كانت مسألة التحية غاية في الأهمية، وكان هناك عرق ينبض في عنق جوان بينما كانت تنتظرها. لا بد أن تتحدث ماتيلدا أولًا بالطبع، ربما تقول: «أهلًا»، وهي تحية خفيفة، تشي بالصداقة، أو «مرحبًا» التي كانت أكثر رقة وشخصية. كانت تقول من حين إلى آخر: «مرحبًا، جوان»، وهو ما كان يشير إلى اهتمام خاص واعتبار جاذب للانتباه من جانبها لجوان، الأمر الذي كان يؤدي إلى امتلاء عيني جوان في الحال بالدموع وكان يحمِّلها بعبء مخجل، حساس من السعادة.

•••

تضاءل هذا الحب، بالطبع، مثل التجارب وحالات الإثارة الأخرى. اختفى، وعاد اهتمام جوان بماتيلدا باتلر إلى الحالة الطبيعية. تغيَّرت ماتيلدا أيضًا، بحلول الوقت الذي كانت جوان فيه في المدرسة الثانوية، كانت ماتيلدا تعمل، حصلت على وظيفة في مكتب محامٍ، كانت موظفة صغيرة. أما وأنها الآن تحقق دخلًا، وأصبحت بعيدة جزئيًّا عن سيطرة أمها — فقط جزئيًا؛ إذ كانت لا تزال تعيش معها في المنزل — فقد غيَّرت من مظهرها، بدت كما لو كانت تريد ألا تكون مثل الأميرات وأن تصبح مثل الفتيات الأخريات: قصَّت شعرها قصيرًا، وصففته وفق الموضة السائدة آنذاك، بدأت في وضع المكياج، أحمر شفاه بلون أحمر برَّاق جعل شكل فمها يبدو أكثر صلابة، كانت ترتدي ملابس مثل تلك التي كانت ترتديها الفتيات الأخريات: جونلات طويلة، وضيقة، وبلوزات ذات أربطة فضفاضة عند العنق، وأحذية مثل أحذية راقصات البالية. فقدت شحوبها وعزلتها، حيَّت جوان — التي كانت تخطط للحصول على منحة دراسية لدراسة الفن وعلم الآثار في جامعة تورونتو — ماتيلدا هذه في تحفظ. واختفى آخر أثر من تقديسها لها عندما بدأت ماتيلدا تظهر بصحبة رفيق.

كان رفيقها رجلًا وسيمًا يكبرها بنحو عشرة أعوام، كان شعره خفيفًا وداكن اللون، وكان له شارب مخطوط وتعبير وجه غير ودود، مريب، متحدٍّ بعض الشيء. كان طويلًا جدًّا، وكان يميل نحو ماتيلدا، لافًّا ذراعه حول وسطها، أثناء سيرهما في الشوارع. كانا يسيران في الشوارع كثيرًا لأن السيدة كاربانكل كانت تكرهه بشدة ولم تكن تدعه يأتي إلى المنزل. في البداية، لم يكن لديه سيارة، لاحقًا، امتلك واحدة. كان يُقال إنه كان طيًّارا أو نادلًا في مطعم فاخر، ولم يكن معروفًا أين التقته ماتيلدا. عندما كانا يسيران، كانت ذراعه في حقيقة الأمر أسفل وسط ماتيلدا، كانت أصابعه الطويلة مستقرة على عظم وركها. بدا لجوان أن هذه اليد الجريئة المستقرة لها علاقة بالتعبير الكئيب والمتحدي المرتسم على وجهه.

لكن قبل ذلك، قبل أن تحصل ماتيلدا على وظيفة أو تقص شعرها، حدث شيء أظهر لجوان — التي كانت آنذاك ما زالت معجبة بشدة بماتيلدا — جانبًا أو أثرًا من جمال ماتيلدا لم تره من قبل. كانت ترى أن هذا الجمال كان يميزها — في لوجان، على أي حال — مثلما تميِّز الإعاقة الجسدية أو الإعاقة في الحديث صاحبها. كان الجمال يعزلها — ربما بدرجة أكبر — من عاهة خفيفة؛ حيث إنه قد يجري النظر إليه باعتباره تبكيتًا. بعد إدراكها ذلك، لم يكن مدهشًا جدًّا بالنسبة إلى جوان، على الرغم من أنه كان محبطًا، أن ترى ماتيلدا تفعل كل ما في وسعها للتخلص من هذا الجمال أو إخفائه بأسرع مما تستطيع.

•••

لا تخلع أبدًا السيدة باتلر — السيدة كاربانكل — التي تغزو مطبخهم مثلما تفعل كثيرًا، معطفها الأسود، وقبعتها القطيفة متعددة الألوان. تقول أمهما: حتى تتمسكان بالأمل، أمل أنها على وشك الرحيل، أنكما على وشك التحرر منها في أقل من ثلاث ساعات. أيضًا، حتى تغطي أي رداء مريع كانت ترتديه تحت المعطف. ولأنها ترتدي هذا المعطف، ولا تمانع في ارتدائه طوال أيام السنة، لم يكن عليها تغيير ردائها، تفوح رائحة منها، رائحة مشبعة بالكافور، رائحة مكتومة.

تصل وهي في منتصف حديث، يتدافع الكلام على لسانها بقوة، حول شيء حدث لها، شخص ما أغضبها غضبًا هائلًا، كما لو كان المرء يعرف عن يقين عمَّا أو عمَّن تتحدث. كان الأمر يبدو كما لو كانت حياتها بأسرها في نشرة الأخبار ولم يسعك أن تلحق بالخبرين الأخيرين. جوان شغوفة دومًا بالاستماع إلى نصف الساعة الأولى أو ما يقرب من ذلك من هذه الأخبار، أو هذا الخطاب المسهب، خاصةً من خارج الغرفة، بحيث تستطيع الانسحاب عندما يكون الكلام الذي تقوله السيدة كاربانكل مكررًا. وإذا حاولت أن تنسحب من مكان تستطيع السيدة كاربانكل رؤيتك فيه، فستسأل بالأحرى في سخرية: إلى أين أنت ذاهب في عجلة هكذا؟ أو ربما تتهمك أنك لا تصدقها.

تفعل جوان ذلك بالاستماع من غرفة الطعام، بينما تتظاهر بأنها تتدرب على عزف مقطوعة موسيقية على البيانو لحفلة الكريسماس في المدرسة. جوان في عامها الأخير من المدرسة الابتدائية الحكومية، وماتيلدا في عامها الأخير في المدرسة الثانوية. (سيترك موريس المدرسة، بعد الكريسماس، لتولي شئون مخزن الأخشاب.) إنه صباح يوم السبت في منتصف ديسمبر: سماء رمادية وطقس شديد البرودة. يُقام الليلة حفل الكريسماس الراقص للمدرسة الثانوية، الحفل الرسمي الوحيد في السنة، الذي سيُعقد في المستودع العسكري للمدينة.

كان مدير المدرسة الثانوية في القائمة السوداء للسيدة كاربانكل، هو رجل عادي يُدعى آرتشيبولد مور، ويُطلق طلابه عليه آرتشي بولز، أو آرتشي بولز مور، أو آرتشي مور بولز. تقول السيدة كاربانكل إنه لا يصلح مديرًا للمدرسة. تقول إنه يتلقى رشاوى ويعرف الجميع ذلك؛ لا يتخرج أحد من المدرسة الثانوية إلا إذا أعطاه مالًا.

تقول أم جوان: «لكن أوراق الاختبار تُصحح في تورونتو»، كما لو كانت مندهشة فعلًا. لفترة من الوقت، تستمتع بمحاولة جعل السيدة كاربانكل تسترسل في الحديث، من خلال بعض الاعتراضات والاستفسارات البسيطة.

تقول السيدة كاربانكل: «متآمرون معه … هم أيضًا.» تمضي تقول لو لم يكن الأمر يسير على هذا النحو من الرشوة، لم يكن هو نفسه ليتخرج من المدرسة الثانوية من الأساس. إنه غبي جدًّا، جاهل، لا يستطيع حل المسائل الرياضية على السبورة أو ترجمة النصوص اللاتينية. يجب أن يكون لديه كتاب به الكلمات اللاتينية والكلمات الإنجليزية المقابلة لها. أيضًا، منذ سنوات قليلة مضت، جعل فتاة حبلى.

قالت والدة جوان، على نحو متكلف: «عجبًا، لم أسمع بذلك قط!»

«عتِّم على الأمر. كان عليه أن يدفع مقابل ذلك.»

«هل كلَّفه ذلك كل الأموال التي جمعها من خلال الاختبارات؟»

«كان يجب جلده بالسوط.»

تعزف جوان على البيانو في رقة — تعزف مقطوعتها المفضلة والصعبة جدًّا «المسيح، حبور شوق الإنسان» — حيث إنها تأمل في أن تسمع اسم الفتاة، أو ربما كيف جرى التخلص من الطفل. (في إحدى المرات، تحدَّثت السيدة كاربانكل عن الطريقة التي يتخلص بها أحد الأطباء في المدينة من الأطفال التي تولد نتاج نزواته الجنسية.) لكن يبدو أن السيدة كاربانكل تقترب من الإفصاح عن سبب تذمرها من مدير المدرسة، وهو ما يبدو شيئًا يتعلق بحفل الرقص. لم ينظِّم آرتشيبولد مور الحفل الراقص كما ينبغي، كان يجب عليه أن يجعل جميع المشاركين يسحبون في قرعة أسماء شركائهم في الرقص، أو ربما كان يجب عليه أن يجعل الجميع بلا شركاء في الرقص، هذه أو تلك. على هذا النحو، تستطيع ماتيلدا الذهاب، ليس لماتيلدا شريك في الرقص — لم يطلب أحد الأولاد مراقصتها — وتقول إنها لن تذهب للحفل وحدها دون شريك. تقول السيدة كاربانكل إنها ستذهب للحفل، تقول إنها ستجعلها تفعل ذلك، سبب ذلك أن فستانها باهظ الثمن جدًّا، تعدِّد السيدة كاربانكل الأشياء التي اشترتها في هذا الشأن: الأربطة، التافتاة، الترتر، الشريط في منطقة صدر الفستان (الفستان بدون حمالات)، السوستة التي يبلغ طولها اثنتين وعشرين بوصة. صنعت هذا الفستان بنفسها، في ساعات عمل طويلة، وارتدته ماتيلدا مرة واحدة، ارتدته الليلة الماضية في مسرحية المدرسة الثانوية على المسرح في مقر مجلس المدينة، وهذا كل ما في الأمر. تقول إنها لن ترتديه هذه الليلة؛ لن تذهب لحفل الرقص لأن أحدًا لم يدعها للرقص. هذا خطأ آرتشيبولد مور المحتال، الزاني، الجاهل.

رأت جوان وأمها ماتيلدا الليلة الماضية. لم يذهب موريس — لا يرغب في الخروج معهما بعد ذلك في الأمسيات — سيستمع بعد ذهابهما إلى الراديو أو يدوِّن أرقامًا، ربما لها علاقة بمخزن الأخشاب، في كراسة خاصة. لعبت ماتيلدا دور عارضة أزياء يقع شاب في حبها. أخبرت أمهما موريس عندما عادت إلى المنزل أنه كان على حق عندما لم يأتِ؛ فقد كانت حفلة في منتهى السخافة. لم تتحدث ماتيلدا، بالطبع، بل ظلت ساكنة فترة طويلة، وبدت بمظهر رائع. كان الفستان رائعًا؛ فستانًا أبيض رائعًا يتلألأ عليه الترتر الفضي.

تقول السيدة كاربانكل لماتيلدا إن عليها الذهاب للحفل، سواء في وجود شريك رقص أم لا، عليها أن تذهب، عليها أن ترتدي فستانها وترتدي فوقه معطفًا وتخرج من المنزل عند التاسعة، سيغلق باب البيت حتى الحادية عشرة، عندما تذهب السيدة كاربانكل إلى النوم.

لكن لا تزال ماتيلدا تقول إنها لن تذهب إلى الحفل، تقول إنها ستكتفي بالجلوس في سقيفة الفحم في آخر فناء المنزل. لم تعد سقيفة فحم على أي حال، بل مجرد سقيفة. لم تعد السيدة كاربانكل قادرة على شراء الفحم مثلما لا يستطيع آل فوردايس.

تقول والدة جوان: «ستتجمد من البرد»، وهي تشعر بقلق حقيقي في الحديث للمرة الأولى.

تقول السيدة كاربانكل: «تستحق ذلك.»

تنظر والدة جوان إلى الساعة وتستأذنها وتقول إنها تذكرت توًّا موعدًا لها في الجزء العلوي من المدينة، يجب أن تحشو سنًّا، وعليها أن تسرع، عليها أن تعتذر للسيدة كاربانكل.

هكذا، يجري طرد السيدة كاربانكل — التي تقول: إن هذه هي المرة الأولى التي تسمع فيها عن حشو أسنان في يوم السبت — وتهاتف والدة جوان على الفور مخزن الأخشاب لتطلب من موريس القدوم إلى المنزل.

الآن، ها هو الشجار الأول — الشجار الحقيقي الأول — الذي تشهده جوان على الإطلاق بين موريس ووالدته، يظل موريس يقول لا، فهو لا يرغب في أن يفعل ما تريده أمه، يبدو كما لو لم تكن ثمة طريقة لإقناعه، لا توجد طريقة لإصدار الأوامر له. لا يبدو مثل صبي يتحدث إلى أمه، بل كرجل يتحدث إلى امرأة، رجل يعرف أكثر مما تعرف، رجل مستعد لجميع الحيل التي ستستخدمها حتى يستسلم.

تقول أمهما: «حسنًا، أعتقد أنك أناني جدًّا … أعتقد أنك لا تفكر في أحد إلا في نفسك، أشعر بخيبة أمل كبيرة فيك، كيف تريد أن تتصرف تلك الفتاة المسكينة مع أمها الخرقاء؟ تجلس في «سقيفة الفحم»؟ هناك أشياء سيفعلها الرجل المحترم في هذا الموقف، مثلما تعرف، كان والدك سيعرف ماذا سيفعل.»

لا يجيب موريس.

تقول أمهما في ازدراء: «لا يشبه الأمر التقدم إلى إحدى الفتيات بعرض زواج أو شيئًا من هذا القبيل، ماذا سيكلفك الأمر؟ … دولارين لكلٍّ منكما؟»

يقول موريس في صوت خفيض: إن الأمر ليس كذلك.

«هل أطلب منك كثيرًا أن تفعل ما لا تريد أن تفعل؟ هل أفعل ذلك؟ أعاملك كرجل ناضج، تتمتع بكامل الحرية. حسنًا، أطلب منك الآن أن تفعل شيئًا حتى تثبت أنك تتصرف حقيقةً مثل شخص ناضج وأنك تستحق الحرية التي تتمتع بها، وهكذا يكون ردك؟»

يسير الأمر على هذا المنوال لفترة، ويقاوم موريس. لا تعرف جوان كيف ستتغلب أمهما على موريس وتتعجب من أنها لا تستسلم. لا تستسلم.

«لست في حاجة إلى التذرع بأنك لا تستطيع الرقص، أيضًا، لأنك تستطيع، علَّمتك كيف ترقص بنفسي، أنت راقص ماهر!»

في النهاية، لا بد أن موريس قد أذعن لكلام أمه؛ حيث إن الشيء التالي الذي تسمعه جوان هو قول أمهما: «اذهب وارتد سترة نظيفة.» وقْعُ حذاء موريس عالي الرقبة ثقيل على السلالم الخلفية، وتناديه أمه قائلةً: «ستشعر بالسرور أنك فعلت ذلك، لن تندم!»

تفتح باب غرفة الطعام وتقول لجوان: «لا أسمع عزف بيانو هنا، هل أنتِ جيدة بما يكفي حتى تدعي التدرب على العزف؟ المرة الأخيرة التي سمعتك تعزفين فيها المقطوعة إلى آخرها كانت مريعة.»

تبدأ جوان في العزف مجددًا من البداية، لكنها لا تستمر في العزف بعد نزول موريس وصَفْقِهِ الباب، وتدير أمها، في المطبخ، الراديو، وتفتح الخزانات، وتبدأ في إعداد طعام الغداء. تترك جوان البيانو وتتجه في هدوء عبر غرفة الطعام، مرورًا بالباب إلى القاعة، حتى الباب الأمامي. تضع وجهها قبالة الزجاج الملوَّن. لا يستطيع المرء النظر خلال هذا الزجاج؛ لأن القاعة مظلمة، لكن إذا وجَّه المرء عينيه في الاتجاه الصحيح، فسيرى. هناك لون أحمر أكثر من أي لون آخر؛ لذا تختار أن تنظر من خلال اللون الأحمر، على الرغم من أنها جرَّبت النظر من خلال كل الألوان في حينها: الأزرق والذهبي والأخضر، وإذا كان ثمة إمكانية ضئيلة للنظر عبر أي لون، فلديها طريقة تستطيع من خلالها النظر عبره.

تحول المنزل الأسمنتي رمادي اللون الذي يوجد في الجانب الآخر من الشارع إلى اللون الأرجواني. يقف موريس عند الباب. يُفتح الباب، ولا تستطيع جوان أن ترى من فتحه، هل هي ماتيلدا أم السيدة كاربانكل؟ الأشجار العارية الجامدة وأجمة الليلك إلى جانب باب ذلك المنزل لونها أحمر داكن، مثل الدم. سترة موريس الصفراء الجميلة تبدو مثل بقعة لونها أحمر ذهبي، ضوء التوقف الخلفي للسيارة، عند الباب.

بعيدًا في داخل المنزل، تغني والدة جوان مع الراديو، لا تشعر بوجود أي خطر. بين الباب الأمامي، والمشهد في الخارج، وأمها التي تغني في المطبخ، تشعر جوان بعتمة، برودة، هشاشة وزوال هذه الحجرات المرتفعة شبه الخالية بمنزلهم. ليس إلا مكانًا عاديًّا شأنه شأن الأماكن الأخرى، لا يوجد ما يميزه، لا يمثِّل أي نوع من الحماية. تشعر بهذا لأنها تظن أن أمها ربما تكون مخطئة. في هذه الحالة — وفي غيرها من الحالات، فيما يتعلق بإيمانها وافتراضاتها — ربما تكون أمها مخطئة.

إنها السيدة كاربانكل. يستدير موريس وها هو يسير على الممشى وها هي تتبعه. ينزل موريس من على درجتي السلم إلى الرصيف، يسير عبر الشارع بسرعة جدًّا دون أن ينظر حوله. لا يجري، يضع يديه في جيبه، ويبتسم وجهه الوردي ذو العينين اللتين بهما احمرار شديد لادعاء أن أيًّا مما يحدث لا يفاجئه. ترتدي السيدة كاربانكل رداءها المنزلي البالي الفضفاض الذي لا يراها أحد فيه إلا نادرًا، شعرها الوردي مهوَّش مثل شعر امرأة ساحرة، تقف أعلى درجتي السلم وتصرخ في موريس، ما يجعل جوان تسمعها عبر الباب: «لسنا على هذا القدر من السوء بحيث نحتاج إلى ذلك الغبي الأعور ليصطحب ابنتي إلى حفل راقص!»

(٢) الجليد الكريستالي العالق

ترى جوان موريس وكأنه مقاول عندما تراه في الخارج أمام العمارة، يقطع الحشائش. يرتدي بنطال عمل لونه أخضر فاتح وقميصًا مربع النقش، وبالطبع نظارته ذات العدسة الداكنة. يبدو كرجل كفؤ، وحتى متسلط، لكن كشخص مسئول بالنسبة لشخص آخر. عند رؤيته وسط مجموعة من عماله (توسع من مجال تخزين الأخشاب إلى مجال الإنشاءات) ربما سيظن المرء أنه رئيس عمال، رئيس عمال يقظ، عادل، ذو طموح جدي لكنه محدود، ليس صاحب العمل، ليس مالك العمارة، وجهه مستدير وأصلع جزئيًّا، به سمرة حديثة، ونمش حديث ظاهر في مقدمة فروة رأسه، قوي البنيان، كتفاه آخذتان في الاستدارة، أو هل هكذا يبدو عندما يدفع آلة جز الحشائش؟ هل هناك هيئة تكون للعُزَّاب، العزَّاب الأبناء، العزَّاب الأبناء الذين يعتنون بآبائهم العجائز، خاصة الأمهات؟ هيئة مقيدة، صبورة تقترب من الهوان؟ تعتقد كما لو كانت على وشك زيارة أحد أعمامها.

هذا عام ١٩٧٢، وتبدو جوان نفسها أصغر سنًّا مما كانت عليه قبل عشر سنوات خلت: شعرها أسود، طويل، معقوص خلف أذنيها؛ تضع مكياجًا على عينيها وليس على فمها؛ ترتدي أثوابًا قطنية ناعمة وفضفاضة وزاهية الألوان أو سترات قصيرة خفيفة لا تغطي إلا بوصتين من فخذيها. لا تلفت النظر في تلك الملابس — تأمل ألا تلفت النظر — نظرًا لأنها امرأة طويلة، نحيلة الخصر، ورجلاها طويلتان، جميلتان.

ماتت أمهما. باع موريس المنزل وشيَّد، أو أعاد بناء، العمارة هذه ومباني أخرى. حول الأشخاص الذين اشتروا المنزل إلى دار لرعاية المسنين. كانت جوان قد أخبرت زوجها أنها تريد العودة إلى ديارها — أي إلى لوجان — لمساعدة موريس على الاستقرار، لكنها تعرف، في حقيقة الأمر، أن موريس سيستقر؛ في ضوء فهمه للأمور، كان موريس يبدو دومًا مستقرًّا. كل ما يحتاج جوان إليه هو أن تساعده في ترتيب بعض الصناديق وخزانة مليئة بالملابس، الكتب، الأطباق، الصور، الستائر التي لا يريدها أو لا يوجد لديه مكان لها وكان قد وضعها مؤقتًا في بدروم العمارة.

كانت جوان متزوجة منذ أربعة أعوام، كان زوجها صحفيًّا، يعيشان في أوتاوا. يعرف الناس اسمه، يعرفون حتى شكله، أو كيف كان يبدو قبل خمس سنوات، من صورته أعلى عمود في صفحة خلفية في إحدى المجلات. جوان معتادة على أن يجري التعرُّف عليها باعتبارها زوجته، هنا وفي أماكن أخرى. لكن في لوجان، تظل عملية التعرف عليها مصدر فخر خاص لها. لا يأبه معظم الناس هنا بالأسلوب الصحفي لزوجها، الذي يعتبرونه ساخرًا، أو بخياراته، لكنهم يشعرون بالفرح أن فتاة من هذه المدينة ترتبط بشخص مشهور، أو نصف مشهور.

تخبر زوجها أنها ستبقى هنا لمدة أسبوع. تصل مساء الأحد، في أواخر شهر مايو، وموريس يجز أول حشائش تظهر خلال العام. تنوي أن ترحل يوم الجمعة، وتقضي السبت والأحد في تورونتو. إذا اكتشف زوجها أنها لم تقضِ الأسبوع بالكامل مع موريس، فلديها قصة جاهزة للرد عليه؛ قصة عن قرارها، عندما تنتهي من مساعدة موريس، بزيارة صديقة لها تعرفها منذ أيام الجامعة. ربما يجب أن تذكر هذا الأمر لزوجها على أي حال، سيكون هذا أكثر أمانًا. تشعر بالقلق عما إذا كان بإمكانها أن تثق في صديقتها في هذا الشأن.

هذه هي المرة الأولى التي تفعل فيها شيئًا كذلك.

تقف العمارة راسخة في قطعة الأرض المبنية عليها، تُطل نوافذها على مساحة لانتظار السيارات أو على الكنيسة المعمدانية. كان ثمة سقيفة انتظار هناك، حتى يترك المزارعون جيادهم فيها أثناء القدَّاس في الكنيسة، مبنى من الطوب الأحمر، لا توجد شرفات، مبنى خالٍ من أي زخارف.

تحتضن جوان موريس، تشم رائحة سجائر، وبنزين، وقميصه الرقيق، المهترئ، المتعرِّق، فضلًا عن رائحة الحشائش المشذبة حديثًا. تصيح بصوت أعلى من صوت آلة جز الحشائش: «آهٍ، موريس، أتعلم ماذا يجب أن تفعل؟ … يجب أن تضع عصابة على عينك، ستبدو مثل موشيه ديان تمامًا!»

•••

تسير جوان كل صباح إلى مكتب البريد، تنتظر خطابًا من رجل من تورونتو، اسمه جون برولير. كتبت إليه وأعطته اسم موريس، واسم المدينة، ورقم صندوق بريد موريس. بدأت لوجان تتسع، لكنها لا تزال مدينة أصغر من أن تكون فيها خدمة توصيل الخطابات للمنازل.

يوم الإثنين صباحًا، لا تكاد تأمل في وصول أي خطاب. يوم الثلاثاء، تأمل في وصول خطاب. يوم الأربعاء تشعر أنها يجب أن تنتظر الخطاب. تشعر بخيبة الأمل كل يوم، كل يوم يطفو شعور بأنها جعلت نفسها تبدو كالحمقاء — شعور بالعزلة وبأنها غير مرغوب فيها — أكثر فأكثر إلى السطح. لقد صدقت وعد رجل عاهدها عندما لم يكن جادًّا فيما يقول. لقد فكِّر في الأمر مرة أخرى.

مكتب البريد الذي تذهب إليه مبنى جديد، منخفض، وردي الطلاء، ومشيَّد من الطوب. تم هدم المبنى القديم الذي كان يشبه القلعة. تتغير صورة المدينة كثيرًا، لا يجري هدم كثير من المنازل، لكن يجرى تطوير معظمها. طبقة خارجية من الألومنيوم، طوب معالج بالرمل المدفوع بالهواء، أسقف براقة، نوافذ واسعة من طبقتين، شرفات يجري هدمها أو ضمها إلى المنازل كأروقة. تختفي الأفنية الواسعة، المغطاة بالحشائش البرية — كانت في حقيقة الأمر قطع أرض مزدوجة — ويتم بيع الأراضي الزائدة ويجري البناء عليها. المنازل الجديدة محشورة بين المنازل القديمة، كلها منازل شبه حضرية في طرازها، عريضة ومنخفضة، أو متعددة المستويات. الأفنية منظَّمة ومخططة جيدًا، بها بقع لشجيرات الزينة، وأحواض الزهور المستديرة وهلالية الشكل. يبدو أن العادة القديمة لزراعة الزهور مثل الخضراوات، في صفوف إلى جانب البقول أو البطاطس، تختفي. يجري قطع كثير من أشجار الظل الكبيرة، ربما صارت عجوزة وخطرة. المنازل المتهالكة، الحشائش الطويلة، الأرصفة المشققة، الظلال الوارفة العميقة، الشوارع غير المرصوفة المليئة بالغبار أو برك المياه؛ كل هذا، وهو ما تتذكره جوان، غير موجود. تبدو المدينة مزدحمة، متضائلة، ممتلئة بالمباني الأنيقة، ومخططة إلى حد كبير. كانت مدينة طفولتها — لوجان تلك المدينة العشوائية الحالمة — تمر بمرحلة مختلفة، لم تكن سياجاتها الخشبية المائلة وجدرانها التي لفحتها الشمس وأعشابها المزهرة تعبيرًا دائمًا عما يمكن أن تكونه المدينة. وبدا الأشخاص مثل السيدة باتلر — المعتادة على ارتداء ملابس معينة، والموسوسة — مرتبطين بشدة بتلك المدينة القديمة ولم يعد من الممكن احتمالهم أكثر من ذلك.

•••

توجد غرفة نوم واحدة في شقة موريس، تركها لجوان، وينام هو على أريكة غرفة المعيشة. إن شقة مكونة من غرفتي نوم ستكون بالتأكيد أكثر ملاءمة في المناسبات التي يستقبل فيها زوارًا، لكنه ربما لا يعتزم استقبال زوار، زوار كثيرين، أو كثيرًا. كما لا يرغب أن يخسر الإيجار الذي يتحصَّل عليه من الشقة الكبيرة. ربما يفكِّر في أخذ إحدى شقق العزَّاب في البدروم، حتى يؤجر شقته الحالية أيضًا، لكن ربما يظنُّ أن ذلك سيكون صعبًا. سيبدو كنوع من الشح، وسيجذب الانتباه إليه. سيكون نوعًا من إرضاء الذات الذي من الأفضل تجنبه.

الأثاث الموجود في الشقة مأخوذ من المنزل الذي كان موريس يعيش فيه مع أمه، لكن لا يرجع معظمه إلى الفترة التي كانت جوان تعيش فيها في هذا المنزل. كلُّ ما كان يبدو كتحفة قديمة بيع، واستُبدل به أثاث حديث ومريح جدًّا تمكَّن موريس من شرائه بسعر الجملة. ترى جوان بعض الأشياء التي أرسلتها كهدايا عيد ميلاد، هدايا كريسماس، لم تتلاءم تلك الهدايا كثيرًا مع المكان، أو تثر جوًّا من البهجة مثلما كانت تأمل.

بطاقة تحمل صورة كنيسة القديس جايلز تذكرها بالعام الذي قضته هي وزوجها في بريطانيا، حنينها المربك إلى بلادها في فترة دراستها العليا وحبها العابر عبر المحيطات. وهنا على الصينية الزجاجية أعلى مائدة القهوة، معروض بطريقة أنيقة وبارزة كتابٌ كانت قد أرسلته إلى موريس، كتاب حول تاريخ الآلات، توجد فيه رسومات للآلات، وتصميمات ماكينات، منذ أيام ما قبل ظهور التصوير، منذ أيام الإغريق، والمصريين القدماء؛ وصور فوتوغرافية من القرن التاسع عشر إلى الوقت الحالي: آلات طَرق، آلات زراعية، آلات صناعية، مصورة أحيانًا من مسافات بعيدة، وأحيانًا إزاء الأفق، وأحيانًا عن مقربة ومن أعلى. تركِّز بعض الصور الفوتوغرافية على طريقة عمل الآلات؛ صور صغيرة وكبيرة على حد سواء، بينما تركِّز صور أخرى على إبراز الآلات لتبدو فخمة مثل القلاع أو مزعجة كالوحوش. تتذكر جوان قولها إلى الصديقة التي كانت بصحبتها في متجر الكتب: «يا له من كتاب رائع لأخي! … أخي مهووس بالآلات.» «مهووس بالآلات» كان ذلك هو ما قالته.

تتساءل الآن عن رأي موريس في هذا الكتاب: هل أعجبه على الإطلاق؟ لم يكن لينفر منه في واقع الأمر، ربما أصابه بالحيرة، ربما قلل من قيمته. في حقيقة الأمر، لم يكن مهووسًا بالآلات، كان يستخدم الآلات — كان هذا هو ما جعلت الآلات من أجله.

يصحبها موريس في جولات بالسيارة في أمسيات الربيع الطويلة، يصحبها في جولات حول المدينة وفي الريف؛ حيث ترى حقولًا شاسعة، وأفاقًا من الذرة أو البقول أو القمح أو البرسيم، وكيف أن تلك الآلات قد مكنت الفلاحين من زراعتها، وترى كذلك مروجًا شاسعة تشبه المتنزهات وكيف أن آلات جز الحشائش المدارة بمحرك سمحت بوجودها. تُزهر مجموعات من زهور الليلك فوق الأقباء في المزارع المهجورة. يجرى دمج المزارع، يخبرها موريس، يعرف قيمة ذلك. لا يقتصر الأمر على المنازل والمباني بل الحقول والأشجار، والأحراج والتلال التي تُستحضر في الذهن بقيم نقدية محددة وتاريخ القيمة النقدية الخاص بها، مثلما يُعرِّف كل شخص يُذكره باعتباره شخصًا يحقق دخلًا مرتفعًا أو لا. ليست هذه الطريقة في النظر إلى الأشياء مفضلة على الإطلاق في هذا الوقت خصوصًا، يُعتقد أنها جامدة وقديمة وقاسية ومدمرة. لا يعي موريس ذلك، ويستمر في حديثه المركز على المال على نحو يشي باستمتاع هادئ من جانبه، يلقي بإشارة خفية من آن لآخر، يسر الضحك في نفسه عندما يشير إلى صفقات محفوفة بالمخاطر أو إلى مصائب كبرى.

بينما تستمع جوان إلى موريس، وتتحدث قليلًا، تنجرف أفكارها في تيار مألوف ولا يقاوم، تفكِّر في جون برولير، عالم جيولوجيا، كان يعمل في شركة نفط، والآن يدرِّس (علومًا ومسرحًا) فيما يُعرف باسم مدرسة بديلة، وهي مدرسة تقدم تعليمًا غير تقليدي. كان شخصًا يحقق دخلًا مرتفعًا، أما الآن، فلا. التقته جوان في إحدى حفلات العشاء في أوتاوا قبل شهرين، كان يزور بعض الأصدقاء الذين كانوا أصدقاء لها أيضًا. لم تكن زوجته في صحبته، لكنه كان قد أحضر طفلين من أطفاله. قال لجوان إنها إذا استيقظت مبكرًا بما يكفي الصباح التالي فسيصحبها لرؤية شيء يُسمى «الجليد الكريستالي العالق» على نهر أوتاوا.

تتذكر وجهه وصوته وتتساءل عما يغريها في هذا الوقت في رجل كهذا، لا يبدو أن الأمر يتعلق كثيرًا بزواجها، يبدو زواجها رائعًا بما يكفي؛ تضافرت جهودها هي وزوجها معًا، من أجل تطوير لغة، وتاريخ، وطريقة مشتركة في النظر إلى الأشياء. يتحدثان طوال الوقت، لكنهما يتركان أحدهما الآخر وحدَه، أيضًا. كانت المصاعب والمشكلات التي طفت إلى السطح خلال السنوات الأولى من زواجهما قد تضاءلت أو اختفت.

يبدو أن ما تريده من جون برولير هو الشيء الذي ربما يريده شخص لم يكن له صوت مسموع في زواجه، وربما في حياته من قبل. ماذا عنه؟ لا تظن أنه ذكي على نحو خاص وليست متأكدة من أنه محل ثقة (زوجها ذكي ومحل ثقة). ليس حسن المظهر كزوجها، ليس «جذابًا» كرجل، لكنه يجذب جوان، وتظن أنه جذب نساء أخريات؛ بسبب قوته، نوع من الحدة، جدية بالغة، كلها مركِّزة على الجنس. لا تشبع رغبته بسرعة، ولا يمكنه تجاهلها بسهولة. تشعر بهذا، تشعر بالوعد الكامن في هذا، على الرغم من أنها ليست متأكدة من أي شيء.

بينما شُمل زوجها في الدعوة لإلقاء نظرة على الجليد الكريستالي العالق، كانت جوان هي التي ذهبت وحدها بالسيارة قاصدةً ضفة النهر. هناك قابلت جون برولير وطفليه وطفلي مضيفيه في فجر شتوي، متجمد، سماؤه وردية، مقيِّد للحركة بسبب الثلوج. حدثها عن هذا النوع من الجليد، عن طريقة تشكُّله أعلى المنحدرات النهرية دون أن يتجمد حتى الصلابة، وكيف عندما يُزاح فوق منطقة عميقة يتكوَّر في الحال في صورة كومة، في صورة رائعة. قال إن هذا هو السبب وراء اكتشاف مكان الحفر العميقة في قاع النهر. وقال: «انظري، إذا كنت تستطيعين الخروج وحدك — إذا كان هذا ممكنًا — فهل يمكن أن تخبريني؟ أريد حقًّا أن أراك. تعرفين أني أريد ذلك، أرغب في ذلك، جدًّا.»

ناولها قطعة ورق لا بد أنه كان أعدَّها سلفًا، مكتوب فيها رقم صندوق بريد لمكتب بريد في تورونتو. لم يلمس أصابعها حتى. كان أطفاله يثبون حوله، يحاولون جذب انتباهه. متى يمكن أن نذهب للتزلج؟ هل يمكن أن نذهب إلى متحف الطائرات الحربية؟ هل يمكن أن نذهب ونرى القاذفة لانكستر؟ (أضمرت جوان كل هذا لتخبر زوجها به، الذي كان سيستمتع بالاستماع إليه، بالنظر إلى مسالمة جون برولير.)

أخبرت زوجها بالفعل، وغاظها. قال: «أظن أن هذا الأخرق الذي يحلق رأسه مثل الراهب أُعجِب بك من أول نظرة.» كيف يعتقد زوجها أنها قد تقع في غرام رجل شعره آخذ في النحول ممشَّط فوق جبهته، كتفاه غير عريضتين ويوجد فراغ في أسنانه الأمامية، وله خمسة أبناء من زوجتين، ودخله غير كبير، يتحدث بطريقة متحذلقة وانفعالية، ولديه اهتمام معلن بكتابات آلان واتس؟ (حتى عندما حان الوقت الذي عليه فيه أن يصدق الأمر، لم يستطع.)

عندما كتبت إليه، أشارت إلى غداء، وشراب، أو قهوة، لم تخبره كم من الوقت كان فارغًا. ربما كان ذلك هو كل ما كان سيحدث، تحدث نفسها. ستذهب إلى زيارة صديقتها على أي حال. وضعت نفسها، وإن كان بحذر، تحت تصرف هذا الرجل. وهي متجهة إلى مكتب البريد، ومحققة في مظهرها في واجهات المتاجر، تشعر أنها متحررة، لكن في خطر. تفعل هذا، دون أن تعرف لماذا، لا تعرف سوى أنها لا تستطيع العودة إلى الحياة التي كانت تحياها أو إلى الشخص الذي كانت إياه قبل أن تذهب صبيحة ذلك الأحد إلى النهر. حياتها المؤلفة من التسوق والقيام بالأعمال المنزلية والمضاجعة الزوجية وعملها بنصف دوام في متجر الكتب بالمتحف الفني، وحفلات العشاء والإجازات ورحلات التزلج في كامب فورتشن؛ لا تستطيع أن تكون هذه حياتها فقط، ولا تستطيع الاستمرار في تلك الحياة دون هذا الأمر. تعتقد أنها تنتوي الاستمرار في حياتها، ومن أجل أن تستمر يجب أن تحافظ على هذا الأمر. ما هذا الأمر؟ البحث، بالنسبة إليها لا تزال تنظر للأمر وكأنه بحث.

إذا نظرنا للأمر على هذا النحو، فسيبدو ما هي عازمة عليه كنوع من عدم الاكتراث، لكن كيف يمكن أن يُشار إليها على أنها غير مكترثة بأي شيء، وهي تسير إلى مكتب البريد كل صباح في مثل هذه الحالة من الجبن، وترتجف وتحبس أنفاسها عند إدارة المفتاح في القفل، وتعود إلى شقة موريس شاعرة بالإجهاد، والحيرة، والعزلة الشديدة، إلا إذا كان هذا، أيضًا، جزءًا مما تبحث عنه؟

بالطبع، عليها أن تتوقف وتتحدث إلى الناس عن ابنها وابنتها وزوجها وحياتها في أوتاوا، عليها أن تتذكَّر أصدقاء المدرسة الثانوية وتتذكر طفولتها، وهو ما يبدو مملًّا ومزعجًا لها في مجمله. تبدو المنازل، وهي تمر عليها — أفنيتها المنظَّمة ونباتات الخشخاش اللامعة وزهور الفاوانيا اليانعة — مملة إلى درجة الاشمئزاز. ترى أن أصوات الأشخاص الذين يتحدثون إليها أجشة وغبية ومغرورة؟ تشعر كما لو أنها قد أُقصيت إلى ركن ما من العالم لم تصل إليه على الإطلاق الحياة والأفكار الحقيقية، صخب وحيوية السنوات القليلة الأخيرة. بينما لم تصل هذه الأشياء بشكل كامل إلى أوتاوا، أيضًا، هناك، على الأقل، يسمع الناس الإشاعات، يحاولون تقليد الآخرين، يعرفون أشياء عما يمكن أن يُطلق عليه تغييرات الموضة العميقة، والتافهة في نفس الوقت. (تسخر جوان وزوجها، حقيقةً، من بعض هؤلاء؛ أولئك الذين يتفاخرون باتباع الموضة، ويذهبون إلى مجموعات العلاج النفسي وإلى المعالجين الشموليين، ويتركون تناول المشروبات الكحولية ليتناولوا المواد المخدرة.) هنا، بالكاد يُسمع عن هذه التغييرات التافهة. عند عودتها إلى أوتاوا الأسبوع التالي، وإزاء شعورها بالحنان تجاه زوجها، وشغفها بأن يقضيا وقتهما في الحديث معًا، ستقول جوان: «كنت سأشعر بالامتنان إذا تطوع أحدهم وناولني ولو سندويتشًا من براعم البرسيم الحجازي. حقًّا، كان الأمر بهذا السوء.»

«لا، لا أملك مكانًا» هو ما ظلت جوان تردده بينما كانت هي وموريس يبحثان في محتويات الصناديق. هناك أشياء هنا كانت تعتقد أنها ستحتاج إليها، لكنها لا تحتاج إليها. «لا، لا أعرف أين سأضعها.» تقول لا لفساتين أمها للرقص التي من الحرير الرقيق والجورجيت الناعم، ستتمزق عندما يرتديها أي أحد، وكلير ابنتها لن تشغف بأيٍّ من هذا، تريد أن تصبح مدربة خيول. لا لكئوس الخمر الخمسة التي لم تنكسر، ولا للنسخ المغلفة بالورق الجلدي من كتب ليفر ولافر، وجورج بورو، وإيه إس إم هَتشينسون. تقول في حزن بينما يضيف موريس كل هذا إلى كومة الأشياء التي ستذهب إلى قاعات المزاد: «لدي أشياء كثيرة الآن.» كان آخر الأشياء التي فحصها هو البساط الصغير الذي كان موضوعًا على الأرض أمام خزانة الآنية الخزفية، بعيدًا عن الشمس، والذي لم يكن من المفترض السير عليه لأنه قيِّم.

تقول: «رأيت واحدًا مثل هذا تمامًا قبل شهرين … كان في متجر لبيع البضائع المستعملة، لم يكن حتى متجرًا لبيع التحف القديمة. كنت هناك أبحث عن كتب مصورة قديمة وملصقات لعيد ميلاد روب، رأيت واحدًا مثله تمامًا، في البداية لم أعرف حتى أين رأيته من قبل، ثم شعرت بصدمة بالغة، كما لو كان من المفترض أن تكون هناك قطعة واحدة منه فقط في العالم.»

يقول موريس: «كم كان الثمن الذي طلبوه مقابله؟»

«لا أعلم، كان في حالة أفضل.»

لا تفهم بعد أنها لا ترغب في أن تأخذ معها شيئًا إلى أوتاوا لأنها نفسها لن تمكث في المنزل هناك أكثر من ذلك. انتهى وقت ركم، واكتساب وترتيب، وتسوية أركان حياتها. (ستعاود حياتها مجددًا في سنوات لاحقة، وستتمنى أنها كانت قد أخذت كئوس الخمر على الأقل.) في أوتاوا، في سبتمبر، سيسألها زوجها إذا كانت لا تزال ترغب في شراء أثاث مصنوع من البامبو لوضعه في الغرفة الشمسية، وإذا كانت ترغب في الذهاب إلى متجر بيع الأثاث المصنوع من البامبو؛ حيث توجد تخفيضات على بضائع الصيف. ستشعر برجفة نفور آنذاك — لمجرد التفكير في البحث عن مقاعد وموائد، ودفع ثمنها، وترتيبها في الغرفة — وستكتشف في النهاية الأمر.

في صباح يوم الجمعة، كان هناك خطاب في صندوق البريد مكتوب عليه اسم جوان، لا تنظر إلى ختم البريد؛ تفتح الظرف في امتنان، وتمرر عينيها على الخطاب في نهم، تقرأ دون فهم، يبدو مثل الخطاب المسلسل. محاكاة ساخرة لهذا النوع من الخطابات، مزحة. يقول الخطاب إنها إذا لم ترسل نسخًا منه، ستحل بها «كارثة عظيمة»: ستتعفن أظافرها وستتسوس أسنانها، دمامل كبيرة في حجم القرنبيط ستظهر في كل مكان في ذقنها، وسيتجنبها أصدقاؤها. تُحدِّث جوان نفسها قائلة: ماذا عساه يكون ذلك؟ شفرة رآها جون برولير ملائمة ليبعث بها إليها؟ ثم يخطر لها أن تنظر إلى ختم البريد، وهكذا تفعل، فترى أن الخطاب وارد من أوتاوا، خطاب من ابنها، بداهةً. يحب روب مثل هذا النوع من المزاح، كان والده سيكتب بدلًا منه الاسم على المظروف.

تفكِّر في سرور ابنها عندما كان يغلق المظروف وفي حالتها عندما فتحته بسرعة.

خيانة وحيرة.

في وقت متأخر من فترة ما بعد الظهيرة، تفتح هي وموريس الخزانة الكبيرة التي كانا قد تركاها حتى النهاية، تُخرج مجموعة من ملابس السهرة، ملابس سهرة رجالية، لا تزال في غطائها البلاستيكي، كما لو لم يكن قد جرى ارتداؤها منذ تنظيفها. تقول: «لا بد أن هذه ملابس أبي … انظر، ملابس السهرة القديمة الخاصة بأبي.»

يقول موريس: «لا، هذه ملابسي.» يتناول السترة منها، يخرجها من الغطاء البلاستيكي، ويقف حاملًا إياها أمامه فوق ذراعيه. «هذه سترة السهرة الخاصة بي، من المفترض أن تكون معلَّقة في خزانة الملابس.»

تقول جوان: «لماذا اشتريتها؟ … من أجل حفل زفاف؟» بعض من الرجال الذين يعملون مع موريس يحيون حياة تتسم بالأبهة والمظاهر أكثر من حياته، ويدعونه إلى حفلات زفاف فخمة.

يقول موريس: «ذاك، وبعض المناسبات الأخرى التي يجب عليَّ الذهاب إليها مع ماتيلدا … حفلات رقص على العشاء، وغيرها من المناسبات التي تحتاج لارتداء ملابس في منتهى الأناقة.»

تقول جوان: «مع ماتيلدا؟ «ماتيلدا باتلر»؟»

«نعم، لا تستخدم اسم زوجها.» يبدو أن موريس يجيب على سؤال مختلف قليلًا، لا السؤال الذي كانت جوان تقصده. «بوضوح أكثر، لا أظن أنها تحمل اسم زوجها.»

الآن تسمع جوان مجددًا القصة التي تتذكر أنها سمعتها من قبل، أو قرأتها من قبل في خطابات أمها الطويلة المفعمة بالحياة. هربت ماتيلدا باتلر كي تتزوج رفيقها. تعبير «هربت» هو تعبير أمهما، ويبدو أن موريس يستخدمه في نبرة تأكيدية غير واعية، نوع من احترام الابن لأمه، كان الأمر كما لو كانت الطريقة الوحيدة التي كان يستطيع بها الحديث عن الموضوع، أو يمتلك حقًّا في الحديث عنه، من خلال لغة أمه. هربت ماتيلدا وتزوجت ذلك الرجل صاحب الشارب، واتضح أن شكوك أمها — اتهاماتها المبالغ فيها — تستند للمرة الأولى إلى بعض الحقائق. اتضح أن رفيقها متزوج من امرأة أخرى، كانت لديه زوجة في بلده إنجلترا. بعد أن ظل مع ماتيلدا ثلاث أو أربع سنوات — لحسن الحظ لم ينجبا أطفالًا — استطاعت الزوجة الأخرى، الزوجة الحقيقية، اكتشاف أمره. أُبطل زواجه بماتيلدا، وعادت ماتيلدا إلى لوجان، عادت لتعيش مع أمها، وحصلت على وظيفة في المحكمة.

تقول جوان: «كيف استطاعت أن تفعل ذلك؟ … من بين جميع الأشياء الغبية.»

رد موريس بينما تشوب صوته نبرة عناد أو عدم راحة: «حسنًا، كانت صغيرة.»

«لا أعني «ذلك»، أعني العودة مجددًا إلى منزلها.»

يقول موريس، فيما يبدو في غير سخرية: «حسنًا، كانت أمها موجودة … أظن أنها لا تعرف أحدًا غيرها.»

يقف أمام جوان، بعينه ذات العدسة الداكنة، والسترة مسجاة على ذراعيه مثل جثمان، ويبدو كئيبًا ومنزعجًا، تتدفق الدماء في وجهه وعنقه في غير تساوٍ، كما لو كانت بقعًا، يرتجف ذقنه قليلًا ويعض على شفته السفلى. هل يعرف أن نظراته تكشف عن خبيئة نفسه؟ عندما يبدأ في الحديث مجددًا، يتحدث في نبرة متعقلة، شارحة. يقول إنه يظن أن ماتيلدا لم يكن يهمها كثيرًا أين كانت تعيش. بشكل ما، وفق روايتها، كانت حياتها قد انتهت. وهنا ظهر هو — موريس — في الصورة. كان ذلك يرجع إلى أن ماتيلدا كان عليها الذهاب من حين إلى آخر إلى حفلات رسمية: مآدب سياسية، مآدب تقاعد. كان ذلك جزءًا من وظيفتها، وكان الأمر سيصبح مزعجًا لو لم تذهب، لكن كان الأمر مزعجًا أيضًا بالنسبة إليها أن تذهب وحدها، كانت في حاجة إلى رفيق. لم تكن تستطيع الذهاب في صحبة رجل يطمع فيها، ولا يفهم الأمور على حقيقتها، لا يفهم أن حياة ماتيلدا، أو جزءًا محددًا من حياة ماتيلدا، كان قد انتهى. كانت في حاجة إلى شخص يفهم الأمر برمته دون الحاجة إلى تقديم أي تفسيرات. يقول موريس: «وهو أنا.»

تقول جوان: «لماذا تفكر على هذا النحو؟ إنها ليست كبيرة جدًّا في السن، أراهن على أنها لا تزال جميلة، لم يكن خطؤها، هل لا تزال تحبه؟»

«لا أظن أنني في موضع يمكِّنني من توجيه أي أسئلة إليها.»

تقول جوان في صوت مستنكر محبب يدهشها، يبدو تمامًا مثل صوت أمها: «أوه، موريس … أراهن أنها لا تزال تحبه، لا تزال واقعة في غرامه.»

يذهب موريس لتعليق ملابس السهرة الخاصة به في إحدى الخزانات في الشقة، بانتظار أن تُلبَس عندما يتم استدعاؤه ليكون رفيق ماتيلدا في حفلات قادمة.

في الفراش تلك الليلة، وهي راقدة مستيقظة، ناظرة إلى ضوء الشارع الذي يلمع عبر الأوراق الغضة في الميدان، البرج القصير للكنيسة المعمدانية، كان هناك شيء تفكِّر فيه إلى جانب مشكلتها. (تفكِّر بالطبع في مشكلتها أيضًا.) تتخيل موريس وماتيلدا وهما يرقصان، تراهما في قاعات رقص فندق هوليداي إن، في ساحات الرقص في نادي الجولف، حيثما تُقام الحفلات الرسمية، مرتديَيْن ملابسهما الرسمية التي لا تتوافق مع الموضة، ويبدو شعر ماتيلدا مرشوشًا، مهوَّشًا على نحو رائع، ويبدو وجه موريس لامعًا بسبب العرق من الجهد الذي يبذله في الرقص، ربما لا يكون ذلك جهدًا، ربما يرقصان معًا جيدًا. متكافئان على نحو مذهل، كلٌّ منهما لديه عيوب يتمسك بها في عناد وأخرى يرغب في تغييرها، عيوب يستطيعان بسهولة التغاضي عنها أو إصلاحها، لكنهما لن يفعلا ذلك أبدًا. موريس واقع في غرام ماتيلدا — على هذا النحو العابس، غير المُشبع، المستمر طوال الحياة — وهي لا تزال في غرام شخص متزوج بأخرى، وهي غارقة بشدة في إحساسها بخطئها والعار الذي جلبته لنفسها. يرقصان في عقل جوان، في رزانة، وعبثية، ورومانسية. مَن سوى موريس — رغم كل شيء — الذي يمتلئ رأسه بتفاصيل الرهونات العقارية والعقود، يمكن أن يتضح أنه هذا الشخص الرومانسي جدًّا؟

إنها تحسده وتحسدهما.

كانت تحافظ على عادة الخلود إلى النوم على ذكرى صوت جون برولير: صوته المنفعل، الخفيض عندما كان يقول: «أرغب في ذلك، جدًّا.» أو كانت تتخيل وجهه؛ كان وجهًا ينتمي إلى العصور الوسطى، مثلما كانت تعتقد: طويلًا، وشاحبًا، ونحيلًا، والابتسامة التي كانت نفرت منها واعتبرتها ابتسامة تكتيكية، والعينين السوداوين اليقظتين، اللامعتين، اللتين لا يمكن تجاهلهما. لن يعمل خيالها الليلة؛ لن يفتح الأبواب أمامها إلى أراضٍ ضبابية بكر. لا تستطيع أن تتخيل نفسها في أي مكان إلا هذا المكان، على الفراش الوحيد الخشن في شقة موريس، في حياتها الحقيقية والظاهرة. لن يفلح شيء مما يفلح مع موريس وماتيلدا معها؛ لن يفلح إنكار الذات، الترفع عن الرغبات المكبوتة، قلة الحيلة المدعاة. لا يمكن إرضاؤها.

تعرف ذلك، وتعرف ما يجب أن تفعله. توجِّه تفكيرها إلى ما هو آتٍ، على نحو غير مقبول، مخزٍ، توجِّه تفكيرها إلى ما هو آتٍ، تتلمس شكل حبيبها التالي.

•••

لن يكون هذا ضروريًّا.

لعل ما نسيته جوان كليةً هو أن البريد يصل إلى مكاتب بريد المدن الصغيرة يوم السبت. ويوم السبت هنا ليس يومًا لا يصل البريد فيه. ذهب موريس ليرى ما في صندوق بريده؛ وناولها الخطاب. يحدد الخطاب موعدًا ومكانًا. خطاب مختصر جدًّا، وموقَّع بالأحرف الأولى لجون برولير فقط. كان هذا تصرفًا حكيمًا، بالطبع. هذا الاختصار، هذا الحذر، لا يسعد جوان على الإطلاق، لكن نظرًا لرغبتها في الراحة، في التغيير، لا تعير الأمر اهتمامًا كبيرًا.

تحكي لموريس القصة التي كانت ستقولها له حال وصول الخطاب في وقت مبكر عن ذلك. اتصلت بها صديقتها منذ أيام الجامعة لتتقابلا، والتي سمعت أنها هنا. بينما تغسل شعرها وتحزم أشياءها، يأخذ موريس سيارتها إلى محطة الوقود مخفَّض السعر شمال المدينة ويملأ الخزَّان بالوقود.

وهي تلوح لموريس مودِّعةً إياه، لا تلمح أي علامات ريبة على وجهه، ربما خيبة أمل قليلة. ها هي ترحل قبل يومين من الموعد المحدد وسيبقى هو وحيدًا ثانيةً، لن يقر بهذا الشعور، ربما تتصوره هي، تتصوره لأن لديها شعورًا بأنها تلوح مودعةً زوجها وأطفالها أيضًا، بل كل من يعرفها، إلا الرجل الذي ستلاقيه. يُخدع الجميع بمنتهى السهولة، ودون أخطاء. تشعر بشيء من الذنب، بالتأكيد. تتأثر روحها بشدة ببراءتهم، تدرك وجود انكسار لا يمكن إصلاحه في حياتها. هذا حقيقي؛ حزنها وشعورها بالذنب في هذه اللحظة حقيقيان، ولن يختفيا أبدًا، لكن لن يثنيها هذا عن الطريق الذي تسير فيه، أيضًا، هي مسرورة إلى حد كبير؛ تشعر أن لا خيار أمامها سوى المضي قدمًا في هذا الطريق.

(٣) روز ماتيلدا

ستذهب روث آن ليذرباي مع جوان وموريس إلى المقابر. تشعر جوان بالدهشة قليلًا إزاء هذا، لكن يبدو موريس وروث آن كما لو أنهما يأخذان الأمر على محمل التسليم. روث آن هي من تمسك حسابات موريس، كانت جوان تعرفها منذ سنوات، وربما كانت قد قابلتها من قبل. تنتمي روث آن إلى ذلك النوع من النساء حسن المظهر، متوسط الحجم، في منتصف العمر، الذي لا تتذكره. تعيش الآن في واحدة من شقق العزَّاب تلك في بدروم عمارة موريس. متزوجة، لكن زوجها هجرها منذ فترة طويلة. كاثوليكية؛ لذا لم تفكر في الحصول على الطلاق. هناك مأساة ما في حياتها — حريق منزل، طفل؟ — غير أنها احتملت الصدمة ولا تذكر الأمر.

كانت روث آن هي من جاءت ببذور زهور الياقوتية لتزرعها عند قبرَي والدَي جوان وموريس. كانت قد سمعت موريس يقول إنه من الأفضل أن تجري زراعة شيء ما هناك، وعندما رأت البذور مطروحة للبيع في السوبر ماركت اشترت بعضها. تراقبها جوان بعينيها، تقول في نفسها إن الزوجات — مثل روث — لطيفات لكنهن رابطات الجأش، وفيات لكنهن باردات. إلامَ هن وفيات؟

تعيش جوان في تورونتو الآن، كانت قد انفصلت عن زوجها منذ اثني عشر عامًا. تعمل مديرة لمتجر كتب متخصص في كتب الفن. وظيفة جيدة، وإن كان المقابل الذي تحصل عليه قليلًا؛ كانت محظوظة. هي محظوظة أيضًا (تعرف أن الناس يقولون إنها محظوظة، بالنسبة لامرأة في عمرها)؛ لأن لها حبيبًا، صديقًا في مقام الحبيب، وهو جيوفري. لا يعيشان معًا؛ يلتقيان في عطلات نهاية الأسبوع ومرتين أو ثلاث مرات خلال الأسبوع. جيوفري ممثل موهوب، مرح، متكيِّف مع حياته، فقير، يقضي إحدى عطلات نهاية الأسبوع كل شهر في مونتريال مع امرأة كان يعيش معها وطفلهما. في عطلات نهاية الأسبوع هذه، تذهب جوان لرؤية ابنها وابنتها اللذين كبرا وسامحاها. ابنها أيضًا ممثل، في حقيقة الأمر، كان هذا هو سبب التقائها بجيوفري. ابنتها صحفية مثل أبيها. ماذا هناك ليسامحاها عليه؟ كثير من الآباء ينفصلون، معظمهم تحطموا بسبب علاقات غرامية، في الوقت نفسه تقريبًا. يبدو أن جميع الزيجات التي بدأت في الخمسينيات دون أي هواجس، أو دون هواجس يمكن لأي أحد أن يعرفها، تصدعت في أوائل السبعينيات، مفضيةً إلى العديد من التعقيدات الضخمة، وغير الضرورية — مثلما يبدو الأمر الآن — والمبالغ فيها. تتذكر جوان تاريخ حبها دون أي شعور بالأسف، بل ببعض الدهشة. كان الأمر كما لو كانت قد ذهبت ذات مرة لممارسة رياضة القفز بالمظلات.

وفي بعض الأحيان، تأتي لزيارة موريس. في بعض الأحيان، تحث موريس على الحديث عن الأشياء نفسها التي كانت تبدو غير مفهومة ومملة وحزينة بالنسبة لها: الهيكل الغريب للدخل والمعاشات والرهونات العقارية والقروض والاستثمارات والإرث الذي يراه موريس أنه تقوم عليه حياة أي شخص؛ هذا يثير اهتمامها. لا يزال الأمر بالنسبة إليها بصورة أو بأخرى غير مفهوم، لكن وجوده لم يعد يبدو مثل الوهم. يطمئنها الأمر بطريقة ما. هي شغوفة بأن تعرف كيف يفكِّر الآخرون في الأمر.

هذه المرأة المحظوظة، جوان، بوظيفتها وحبيبها وجمالها الأخاذ — يلاحظها الناس الآن أكثر من ذي قبل في حياتها (لا تزال نحيفة مثلما كانت في الرابعة عشرة من عمرها، وتوجد بشعرها القصير جدًّا مسحة من الشعر الأبيض الفضي، الذي على شكل ذيل ثعلب) — تعي بوجود خطر جديد، تهديد كانت لا تستطيع تصوَّره عندما كانت أصغر سنًّا. لم تكن تتصور وجود مثل هذا الخطر حتى إذا وصفه أحد لها، ومن الصعب أيضًا وصفه. التهديد هو تهديد بحدوث تغيير، لكنه ليس من النوع الذي يمكن أن يحذر منه المرء. إنه يحدث هكذا؛ فجأة، دون سابق إنذار، تميل جوان إلى التفكير فيه بوصفه «حطام». حطام. يمكن أن ينظر المرء عبر الشارع، فيرى الظلال، الضوء، الجدران الطوبية، الشاحنة القابعة تحت شجرة، الكلب النائم على الرصيف، المظلات الداكنة في الصيف، أو كومة الثلوج الحائلة إلى اللون الرمادي؛ يمكن أن يرى المرء كل هذه الأشياء في انفصالها المؤقت، كلها متصلة بطريقة مزعجة، مرضية، ضرورية، لا يمكن وصفها. أو يمكن أن يرى المرء حطامًا. أمور عابرة، تنوع عبثي من الأمور العابرة. حطام.

تريد جوان أن تبعد فكرة الحطام عن تفكيرها، تنتبه الآن إلى جميع الطرق التي يبدو أن الناس تفعل ذلك من خلالها. التمثيل طريقة ممتازة — كانت قد تعلمت ذلك من خلال مرافقتها لجيوفري — رغم أن ثمة فجوات في التمثيل. في حالة حياة موريس أو نظرته إلى الأشياء، يبدو أن ثمة فرصًا أقل للفجوات.

•••

أثناء قيادتهما عبر الشوارع، تلاحظ أن كثيرًا من المنازل القديمة تعاود الظهور؛ الأبواب والأروقة التي كانت تمثِّل تعديلات حديثة ومنطقية قبل خمسة عشر أو عشرين عامًا تستبدل بها الشرفات والنوافذ المروحية التقليدية، شيء جيد حقًّا. تشير روث آن إلى هذا الملمح وغيره، وتوافقها جوان الرأي لكنها تعتقد أن ثمة شيئًا هنا متكلفًا، ومبالغًا فيه.

يوقف موريس السيارة عند أحد التقاطعات. تعبر امرأة عجوز الشارع في منتصف المربع السكني أمامهما. تعبر في خطوات واسعة الشارع قطريًّا، غير ناظرة إذا ما كانت هناك سيارة قادمة أم لا. مشية بخطى واسعة عازمة، غير عابئة، وحتى مزدرية، في شكل مألوف إلى حد ما. لا يهدد المرأة العجوز أي خطر؛ لا توجد سيارة أخرى في الشارع، ولا يسير أي شخص آخر، فقط فتاتان صغيرتان تركبان دراجتهما. المرأة العجوز ليست عجوزًا جدًّا، في حقيقة الأمر. تراجع جوان انطباعاتها باستمرار هذه الأيام حيال ما إذا كان الأشخاص عجائز أم غير عجائز جدًّا. تمتلك هذه المرأة شعرًا أبيض يصل إلى كتفيها وترتدي بلوزة فضفاضة وبنطالًا فضفاضًا رماديًّا. ثيابًا لا تناسب طقس هذا اليوم، يوم مشمس لكنه بارد.

تقول روث آن: «إنها ماتيلدا.» تنبئ الطريقة التي تتلفظ بها بكلمة «ماتيلدا» — دون لقب، في نبرة رفيقة، مستمتعة، باردة — بأن ماتيلدا شخص غريب الأطوار.

تصيح جوان قائلة، وهي تستدير تجاه موريس: «ماتيلدا! … هل هذه ماتيلدا؟ ماذا جرى لها؟»

تجيب روث آن، من المقعد الخلفي: «بدأت تتصرف بغرابة. متى كان ذلك؟ قبل عامين؟ بدأت في ارتداء ملابس غريبة وغير ملائمة، وكانت تظن أن الناس يأخذون أشياء من على مكتبها في العمل، وربما تقولين لها شيئًا رقيقًا جدًّا فترد في فظاظة، ربما يكون ذلك بسبب شيء في تركيبتها.»

تقول جوان: «تركيبتها؟»

يقول موريس: «الجانب الوراثي»، ثم يضحكان.

تقول روث آن: «هذا ما كنت أقصده … كانت أمها تقيم في دار رعاية المسنين لسنوات قبل أن تموت، كانت قد فقدت صوابها تمامًا، وحتى قبل أن تذهب إلى هذه الدار، كان الناس يرونها تنسل خلسة إلى الفناء، كان شكلها مفزعًا مثل الناس في عيد الهالوين. على أي حال، كانت ماتيلدا تحصل على معاش صغير عندما تركت الخدمة في المحكمة، لا تفعل شيئًا سوى التجول. في بعض الأحيان، تتحدث إلى الناس في ود مثلما يتحدث الناس بطريقة طبيعية، وفي أحيان أخرى لا تنبس بكلمة. لا تحسِّن مظهرها أبدًا، كانت أنيقة جدًّا من قبل.»

لم يكن يجدر بجوان أن تندهش على هذا النحو، أن تفاجأ بهذا الشكل. يتغير الناس، يختفون، ولا يموتون جميعًا حتى يختفوا. بعضهم يموت، جون برولير مات، عندما سمعت جوان بذلك، بعد عدة شهور من موته، شعرت بغصة، لكنها لم تكن غصة في مثل حدة الغصة التي شعرت بها عندما سمعت امرأة ذات مرة تقول لها في إحدى الحفلات: «جون برولير، نعم، أليس هو ذلك الرجل الذي كان يحاول دومًا إغواء النساء عن طريق أخذهن بعيدًا لتأمل إحدى الظواهر الطبيعية العجيبة؟ يا إلهي، كم هذا غير مريح!»

يقول موريس: «تمتلك منزلها … بعته إياها قبل خمس سنوات تقريبًا، ولديها هذا المعاش الضئيل، إذا استطاعت الصمود حتى تبلغ الخامسة والستين، فستكون على ما يرام.»

•••

يحفر موريس الأرض أمام شاهد القبر، وتغرس جوان وروث آن بذور زهور الياقوتية. تبدو الأرض باردة، لكن لم يكن هناك ثلج، تسقط أعمدة طويلة من أشعة الشمس بين أشجار الأرز المشذبة وأشجار الحور التي تصدر أصوات حفيف، والتي لا تزال تحمل الكثير من الأوراق الذهبية، على الحشيش الأخضر الكثيف.

تقول جوان، ناظرةً إلى الأوراق: «استمعا إلى هذا … إنه صوت مثل صوت الماء.»

يمزح موريس مع جوان، تزمجر جوان وروث آن معًا، وتقول جوان: «لم أكن أعرف أنك لا تزال تفعل ذلك يا موريس.»

تقول روث آن: «إنه لا يتوقف أبدًا.»

يغسلون أيديهم عند صنبور خارجي ويقرءون بعض الأسماء على شواهد القبور.

يقول موريس: «روز ماتيلدا.»

لبرهة، تعتقد جوان أن هذا اسم آخر قرأه، ثم تدرك أنه لا يزال يفكِّر في ماتيلدا باتلر.

يقول: «تلك القصيدة التي كانت أمي معتادة على وصفها بها … روز ماتيلدا.»

تقول جوان: «رابونزل … هذا ما كانت أمي تدعوها به. «رابونزل، رابونزل، أسدلي شعرك الذهبي».»

«أعلم أنها كانت تقول ذلك، كانت تقول «روز ماتيلدا» أيضًا، كان هذا مطلع قصيدة.»

تقول روث آن: «يبدو الاسم مثل غسول للجلد … أليس هذا غسولًا للجلد؟ روز إيمالشن؟»

يقول موريس في حزم: «آهٍ، ماذا يجدي؟» كان ذلك هو مطلع القصيدة. «آهٍ، ماذا يجدي؟»

تقول روث آن في مكر ودون خجل: «بالطبع، أنا تقريبًا لا أعرف أي قصائد.» ثم تخاطب جوان قائلةً: «هل يبدو هذا البيت مألوفًا لك؟»

تمتلك عينين جميلتين حقًّا، هكذا تعتقد جوان، عينين بُنِّيتين يمكن أن تبدوا رقيقتين وماكرتين في آن واحد.

تقول جوان: «بالتأكيد … لكنني لا أستطيع أن أحزر الأبيات التالية.»

•••

كان موريس قد خدعهن جميعًا بعض الشيء، هؤلاء النساء الثلاث: جوان، وروث آن، وماتيلدا. ليس موريس مخادعًا بطبعه — ليس أحمق على هذا النحو — لكنه يحتال على الأمور من حين إلى آخر. خدع جوان منذ وقت طويل، عندما بيع المنزل، حصلت على مبلغ يقل بألف دولار عما كان يجب أن تحصل عليه. اعتقد أنها ستعوِّض ذلك من خلال الأشياء التي اختارتها لتأخذها إلى منزلها في أوتاوا، ثم لم تختر أي شيء. لاحقًا، عندما انفصلا هي وزوجها، وكانت تعيش وحدها، فكَّر موريس في إرسال شيك لها، مشيرًا إلى حدوث خطأ في الحساب، لكنها حصلت على وظيفة، ولم يبدُ أنها في حاجة إلى المال. لم يكن لديها أدنى فكرة عما يمكن أن تفعل بالمال الذي تحصل عليه؛ كيف تستثمره. فصرف النظر عن الفكرة.

كانت الطريقة التي خدع روث آن بها أكثر تعقيدًا، وكانت تتعلق بإقناعها بأن تكون موظفة بدوام جزئي لديه رغم أنها ليست كذلك. أعفاه ذلك من تقديم مزايا مالية محددة لها، لن يُدهش إذا اكتشفت الأمر برمته، وتعاملت مع الأمر بطريقتها. كان ذلك ما كانت ستفعله؛ لن تقول أي شيء، لن تجادل، بل ستأخذ حقها منه. وطالما كانت ستأخذ حقها منه فقط — سيلاحظ سريعًا إذا كان الأمر كذلك فقط — لن يقول هو الآخر أي شيء. كانت هي وهو يعتقدان أنه إذا لم يكن المرء واعيًا لمصلحته، فلا يلومن إلا نفسه. كان يسعى للاعتناء بروث آن في نهاية المطاف على أي حال.

إذا اكتشفت جوان ما فعله، فربما لن تقول أي شيء أيضًا، إن المهم في هذا الأمر — بالنسبة إليها — لن يكون المال، لا تكترث كثيرًا بأمر المال، المهم بالنسبة لها هو: لماذا فعل هذا؟ ستظل حائرة حيال هذا السؤال وستشعر بسرور بالغ وهي تحاول اكتشاف حقيقة هذا الأمر. سيبقى هذا الأمر عن أخيها في عقلها مثل قطعة كريستال صلبة: شيء غريب، صغير، كاسر للضوء، كنز من مكان بعيد.

لم يخدع ماتيلدا عندما باعها المنزل، فقد حصلت على المنزل بسعر جيد جدًّا، لكنه أخبرها أن سخَّان المياه الذي كان قد ركَّبه قبل عام أو ما يقرب من ذلك كان جديدًا، وبالطبع لم يكن جديدًا، لم يشترِ قط أجهزة جديدة أو مواد جديدة عندما كان يقوم بتجديد الأماكن التي كان يمتلكها. ومنذ ثلاث سنوات في يونيو، في حفل رقص على العشاء في فندق فالهالا إن، قالت ماتيلدا له: «تعطَّل سخان المياه، عليَّ أن أستبدله.»

لم يكونا يرقصان في ذلك الوقت، كانا يجلسان إلى مائدة مستديرة، مع بعض الأشخاص الآخرين، تحت مظلة من البالونات الطافية، كانا يحتسيان الويسكي.

قال موريس: «ليس من المفترض أن يحدث ذلك.»

قالت ماتيلدا باسمةً: «هذا إذا كان جديدًا … أتعرف فيم أفكر؟»

ظل ينظر إليها، منتظرًا ما ستقول.

«أعتقد أننا يجب أن نرقص مرة أخرى قبل أن نحتسي أي شراب آخر!»

رقصا، كانا دومًا يرقصان في سهولة معًا، وعادةً بشكل لافت، لكن هذه المرة، كان موريس يعتقد أن جسد ماتيلدا كان أكثر ثقلًا وجمودًا مما كان عليه دائمًا؛ كانت استجاباتها متأخرة، ثم مبالغ فيها. كان غريبًا أن يبدو جسدها غير مستجيب عندما كانت تبتسم وتتحدث إليه بمثل هذه الحيوية، وتحرِّك رأسها وكتفيها مع كل إشارة للإعجاب. كان هذا، أيضًا، جديدًا، غير مُعتاد منها على الإطلاق من قبل، كانت ترقص معه عامًا بعد عام في مرونة حالمة وبوجه جاد، لا تكاد تتحدث إليه، ثم بعد أن تتناول بعض الكئوس، كانت تتحدث إليه عن همومها الدفينة، همومها التي كانت دومًا واحدة: رون، الرجل الإنجليزي، كانت تأمل في أن تتلقى أي أخبار منه. مكثت هنا، عادت إلى هنا، حتى يعرف كيف يعثر عليها. كانت تأمل، كانت تشك، في أن يطلق زوجته. كان قد وعدها، لكنها لم تكن تثق به. تلقت منه بعض الأخبار مؤخرًا. قال إنه يتنقل من مكان لآخر، وإنه سيكتب إليها مجددًا. كتب إليها. قال إنه سيبحث عنها. ترسل الخطابات إلى كندا، من مدن مختلفة، بعيدة، لكنها لم تتلقَّ عنه أي أخبار. كانت تتساءل عما إذا كان لا يزال حيًّا، كانت تفكر في الاستعانة بوكالات تحقيق خاصة، قالت إنها لم تكشف عن ذلك لأحد إلا موريس، كان حبها مصدر عذابها، وهو ما لم يكن مسموحًا لأحد بأن يطَّلع عليه سواه.

لم يقدِّم موريس إليها نصحًا قط، لم يضع يده عليها ليواسيها إلا عندما كان ذلك ملائمًا، وعندما كانا يرقصان، كان يعرف على وجه الدقة كيف يجب أن يتعامل مع ما تقول. لم يكن يشفق عليها، كان يكنُّ احترامًا لجميع الخيارات التي كانت تتخذها.

كان صحيحًا أن نبرة الحديث كانت قد تغيرت قبل تلك الليلة في فندق فالهالا إن، صارت نبرتها لاذعة وساخرة أكثر، وهو ما كان يؤلمه ولم يكن يلائمها. لكن كانت تلك هي الليلة التي شعر فيها بانكسار بينهما، توافقهما الطويل، وتناغمهما الواضح في الرقص، كانا مثل الأزواج الآخرين الذين هم في منتصف العمر، يتظاهران بالحركة في خفة وفي سرور، خائفين من أن تضيع عليهما اللحظة التي يعيشانها. لم تذكر رون، وموريس بالطبع لم يسألها. كانت فكرة قد بدأت تتشكَّل في رأسه أنها قد رأته أخيرًا. كانت قد رأت رون أو سمعت أنه مات. رأته، هذا هو الأرجح.

قالت غائظةً إياه: «أعلم كيف ستدفع لي مقابل هذا السخَّان … يمكنك أن تجلب بذورًا للمرجة الخاصة ببيتي! متى كانت آخر مرة جرى نثر بذور لتلك المرجة؟ تبدو مريعة؛ تنتشر فيها نباتات اللبلاب الأرضي. أود أن يكون لدي مرجة مشذبة. أفكر في عمل بعض التجديدات في المنزل. أرغب في تركيب مصاريع بلون عنابي حتى أكسر حدة اللون الرمادي الذي يغلب على المنزل. أرغب في تركيب نافذة كبيرة في جانب المنزل. سئمت النظر إلى دار رعاية المسنين. أوه، موريس، هل تعرف أنهم قطعوا أشجار الجوز التي كنت تزرعها؟ قاموا بتسوية الفناء، ووضعوا سياجًا حول الجدول!»

كانت ترتدي فستانًا طويلًا، يشخشخ، لونه أزرق برَّاق. كانت ثمة أحجار زرقاء وسط حلقات فضية تتدلى من أذنيها. كان شعرها شاحب اللون وجامدًا، مثل حلوى غزل البنات. كانت هناك ندوب في لحم عضديها، كانت رائحة الويسكي تفوح منها. كان عطرها، ومكياجها، وابتسامتها تشي جميعًا له بالزيف، والعزم، والبؤس. كانت قد فقدت الاهتمام بمصدر عذابها. كانت قد فقدت القدرة على الاستمرار مثلما كانت. وفي حماقتها البسيطة، الآخذة، كانت قد فقدت حبه.

قالت: «إذا أتيت الأسبوع القادم ومعك بعض بذور الحشائش وأريتني كيف أبذرها، فسأمنحك شرابًا … بل سأعد لك عشاءً، أتحرج عندما أدرك أنك خلال كل هذه السنوات لم تتناول أي شيء على مائدتي.»

«عليك أن تحرثي الأرض بالكامل وتبدئي في زراعة الأرض من جديد.»

«أحرثها! إذن، لماذا لا تأتي يوم الأربعاء؟ أم أنك تقضي أمسيتك في ذلك اليوم مع روث آن ليذرباي؟»

كانت ثملة، سقطت رأسها على كتفه، وشعر بالكتلة الصلبة في قرطها تندفع مخترقة سترته وقميصه إلى لحمه.

في الأسبوع التالي، أرسل أحد العمال لديه لحرث وبذر مرجة ماتيلدا، بلا مقابل. لم يمكث العامل طويلًا. وفقًا لرواية العامل، خرجت ماتيلدا وصرخت فيه طالبةً منه الابتعاد عن أرضها، وسألته عما كان يظن نفسه فاعلًا في أرضها، وقالت إنها تستطيع العناية بفنائها، وطلبت منه الانصراف فورًا.

«الانصراف فورًا» كانت هذه كلمة تذكِّر موريس أن أمه كانت تستخدمها، وكانت أم ماتيلدا تستخدمها، أيضًا، في أيام العافية والعداوات الخالية. السيدة باتلر، السيدة كاربانكل. «انصرف حالًا من هنا أيها الغبي الأعور.»

لم يرَ ماتيلدا لبعض الوقت بعد ذلك، لم يقابلها صدفة، إذا كان هناك أمر يجب عمله في المحكمة، كان يُرسل روث آن. تلقَّى أنباء عن التغييرات التي كانت تتم، ولم تكن تغييرات تتعلق بالمصاريع العنابية أو تجديد المنزل.

•••

تقول جوان فجأةً بينما كانوا عائدين إلى الشقة: «آهٍ، بمَ يفيد العرق المسيطر؟!» بمجرد وصولهم، تذهب إلى خزانة الكتب، خزانة الكتب نفسها القديمة ذات الواجهة الزجاجية، لم يبِعْها موريس، على الرغم من أن ارتفاع الخزانة كان لا يتناسب مع غرفة المعيشة، تجد كتاب أمها «مختارات من الشعر الإنجليزي».

تقول: «الأبيات الأولى»، منتقلة إلى نهاية الكتاب.

تقول روث آن: «اجلسي واستريحي، لماذا أنت هكذا؟» حاملةً مشروبات فترة ما قبل المساء. يتناول موريس ويسكي وماءً، وتتناول جوان وروث آن الرم البيضاء والصودا، صار حب هذا الشراب مبعثًا على المزاح والرابطة المأمولة بين المرأتين اللتين تدركان أنهما ستحتاجان شيئًا.

تجلس جوان وتشرب وهي مسرورة، تمرر أصبعها على الصفحة، تتمتم قائلةً: «آهٍ، ماذا، آهٍ، ماذا …»

يقول موريس: «آهٍ، والقوام السماوي!» في تنهيدة ارتياح وشعور عظيم بالرضا.

كانا قد تعلما أن تكون هناك خصوصية لشخصيتهما، حدَّثت جوان نفسها دون أي شعور بالندم. أبيات الشعر، الرشفة الأولى من الكحول، الضوء المتأخر لما بعد ظهيرة يوم بشهر أكتوبر ربما يجعلها تشعر بالسلام الداخلي، بالراحة. كانا قد تعلما أن يعيرا انتباهًا خاصًّا، حساسًا لأنفسهما، وهو ما جعلهما يحصلان على أي شيء كانا يريدانه، كان ذلك الحب أو المال، لكن ليس الأمر صحيحًا برمته، أليس كذلك؟ موريس قد جرى تهذيبه كثيرًا في مسألة الحب، وأصبح معتدلًا فيه، وهكذا كانت هي فيما يتعلق بالمال؛ ففي الأمور المالية، ظلت خرقاء.

ثمة مشكلة، رغم ذلك، عقبة في متعتها غير المتوقعة، لا تستطيع العثور على البيت. تقول: «ليس هنا … كيف لا يمكن أن يكون هنا؟ كان كل شيء أمي تعرفه هنا في هذا الكتاب.» تتناول كأسًا أخرى، على نحو ما يتناول أصحاب الأعمال، ثم تحدِّق في الصفحة، ثم تقول: «أعرف! أعرف!» وفي ثوانٍ معدودة، تعثر على ما تريد؛ تقرأ عليهما في صوت مفعم بالمشاعر الحية:

«آهٍ، ماذا يجدي العرق الرفيع؟
آهٍ، والقوام السماوي!
وكل الفضائل، والشمائل،
يا روز آيلمر — روز ماتيلدا — التي كنت تحظين بها!»

كان موريس قد خلع نظارته. قام بذلك الآن أمام جوان، ربما بدأ القيام بذلك من قبل أمام روث آن. يحكُّ الندبة كما لو كانت تثير الهرش. عينه مظلمة، تتخللها خطوط رمادية، يصعب النظر إليها. تحت غشاء الندبة، تبدو عينه جامدة مثل خوخة مجففة أو حجر.

يقول موريس: «هكذا إذن … إذن، لم أكن مخطئًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤