الفصل الخامس عشر

إلى المعاش

أربعون سنة من عمره وهو قاعد إلى مكتبه يؤدي الأعمال التكرارية الكتابية كل يوم، وكانت ساقاه قد عرفت الروماتزم، وكان قلبه قد تضخَّم بالشحم، وكان فمه خلوًا من سنٍّ طبيعية.

كان حسن أفندي موظفًا بمكتب البريد في كفر الزيات، وكان قد قارب سن المعاش؛ فهو يتوق إلى اليوم الذي يجد نفسه فيه حرًّا لا يرتبط بمواعيد الصباح وبعد الظهر بالمكتب؛ وذلك حين يحال على المعاش.

وكان يتردد على المكتب صعلوك من أولئك الصعاليك الشعراء الذين يجولون في شوارع المدن، ويتسكَّعون على أبواب المكاتب والمتاجر، ولم يكن يملك قرشًا واحدًا، ولكنه كان يعرف جميع الذين يملكون القروش في كفر الزيات؛ يزورهم ويأكل على موائدهم و«يقترض» بعض نقودهم، ولم يكن أحد من هؤلاء المتيسرين يكره لقاءه؛ لأنه كان على الدوام يحمل من الأخبار، ويروي من النكات، عن أعيان البلدة ما يجعله محببًا إلى القلوب.

وكان هذا الصعلوك، الذي كان يسميه جمهور عارفيه «غراب»، يتردد أيضًا على حسن أفندي، وكان يفرض عليه الضريبة التي يفرض مثلها على من يعرفهم في كفر الزيات، وكان عقب انتهاء العمل في مكتب البريد، حين يخرج حسين أفندي إلى القهوة، يوافيه هناك ويقعد إليه يتحدث معه عن السياسة والقيل والقال.

وكان غراب شاعرًا وفيلسوفًا معًا؛ فقد انتهى إلى أنه يستطيع أن يستغل مواهبه في الحديث، ومعارفه عن العيش، كي يعيش هو، ونجح في ذلك؛ فإن وجباته كانت مكفولة، كما كانت ملابسه محفوظة له عند جميع الذين يشترونها، فما هو أن يمر عليها عام أو عامان حتى يكون هو قد «استعارها» منهم، ولكن العارية عنده لا تعود إلى صاحبها!

ولم تكن غزواته مقصورة على كفر الزيات؛ فإنه كان أحيانًا يسأم المقام فيها ويخرج منها إلى زيارة «أصدقائه» في دمنهور، وكفر الدوار، وطنطا، وشربين، وغيرها، وكان أحيانًا يسير إلى هذه المدن على قدميه بين الحقول، وأحيانًا يركب القطار.

وكان يصف نفسه بأنه «شاعر»؛ لأنه كان من ناحية يروي أبياتًا رائعة لحافظ وشوقي، ومن ناحية أخرى كان يؤلف أبياتًا من الشعر موزونة، أو كالموزونة، بحيث يحوي البيت أحماضًا تلسع وتكوي إحدى الشخصيات التي تكون قد بخلت عليه.

ولم يكن يفوته عدد من الجرائد أو المجلات التي تستحق القراءة؛ فإنه كان يستعيرها ويُعنى بردِّها، على خلاف عاداته في الاستعارة.

وأصبح غراب شخصية مغبوطة عند البعض، ومحتقرة عند البعض، أو كان أصدقاؤه يحتقرونه، ولكنهم كانوا يكنُّون له حسدًا؛ لأنه يعيش ويستمتع بالدنيا بلا كدٍّ وبلا مواعيد وبلا مسئوليات وبلا هموم.

•••

وأتمَّ حسين أفندي الستين، وأحيل على المعاش، وودَّع زملاءه في المكتب وخرج، وتلقاه غراب وهنأه، ودعا له بطول العمر، وقصد الاثنان إلى القهوة حيث قعدا أكثر من ساعتين، وكان حسين أفندي فرحًا بهذه الحياة الجديدة، وكان يمنِّي نفسه أيام العمل بالمكتب بأنه سيحيا عقب الإحالة على المعاش كما يحيا غراب، بل إنه سوف يستمتع بشيخوخته أكثر من غراب؛ لأنه لن يحتاج إلى أن يذل ويستجدي الطعام والشراب كما يفعل غراب.

ولكنه كان يقارن بينه وبين غراب، مع فارق كان يجهله؛ ذلك أن غراب، الذي كان قد تجاوز الستين، كان لا يزال شابًّا في صحة الجسم وتنبُّه العقل؛ فإن حياة الصعلكة والتجوال التي عاشها كانت بمثابة الرياضة البدنية والذهنية التي تديم الشباب، أما هو فقد قضى أربعين سنة من عمره وهو قاعد إلى مكتبه يؤدي الأعمال التكرارية الكتابية كل يوم، وكانت ساقاه قد عرفت الروماتزم، وكان قلبه قد تضخَّم بالشحم، وكان فمه خلوًا من سنٍّ طبيعية!

وكان حسين أفندي أيضًا يعجز العجز كله عن أن يؤدي أي عمل يشغل به حياته بعد المعاش؛ فلم يكن أمامه غير الترداد على القهوة طيلة النهار وبعض الليل، يتأمل المارة، أو يلعب ألعاب الحظ السخيفة.

ومع أنه كان فرحًا ببلوغه سن التقاعد، فإنه لم يمضِ عليه ثلاثة شهور حتى كان قد سئم هذا الركود، فكان يستيقظ في الصباح، ويقعد على سريره، وينظر ساهمًا إلى جدار الغرفة ويقول: هل هذه حياة؟ إلى أين أخرج؟ إلى القهوة؟ وماذا أفعل؟ كما فعلت أمس وكما سوف أفعل في الغد؟ في كل يوم؟ أتأمَّل المارة ولعب الطاولة؟ وهل أبقى على هذه الحال إلى أن أموت؟ عشر سنوات؟ عشرين سنة؟ هذا هو البؤس!

وجعل يتأمل حال غراب؛ إن غراب نشيط، نحيف، طروب، يتنقل من قهوة إلى قهوة، ويؤانس الناس ويضاحكهم، وهم يقدمون له الطعام والشراب راضين، بل هو ينتقل من بلدة إلى أخرى ضيفًا على كل من يلاقيه، والجميع يحبونه ويستخِفُّون ظله، أما هو فإنه مقيد بالروماتزم لا يستطيع أن يمشي مئة متر حتى يكون قد لهث وعرق.

إنه بلا شك أصغر سنًّا من غراب، إذا كان العمر يقاس بالسنين، ولكن غراب يستمتع بالشباب كما لو كان في سن العشرين.

ثم يعود إلى نفسه وهو في حسرة الأسف ويقول: لماذا لم أتعلم فنًّا أو تجارة أمارسها وأشغل بها وقتي؟ لماذا لم أتعوَّد الرياضة حتى أستعد لهذه الشيخوخة؟ أنا لست في المعاش، أنا في المرض!

وخرج ذات صباح مبكر وقصد إلى القهوة التي لم يكن الخادم قد هيَّأ كراسيها بعد، فانتحى إلى كرسي متطرف، وقعد يجترُّ سأمه في ذهول، وإذا بغراب يحيِّيه تحية الصباح في ضحك كأنه عصفور يغرد، وأخبره بأنه مسافر إلى دمنهور لقضاء يومين أو ثلاثة أو أسبوع، لا يعرف.

وبعد أن شرب غراب معه القهوة نهض وسلَّم مودِّعًا.

وتأمَّله حسين أفندي وهو يسير في خفَّة وسرعة، كأنما يرقص، وكأنه لا يحس أثرًا لشيخوخته، فامتلأ قلبه غيظًا من نفسه وحسرة عليها، ثم صمت وحاول أن يفكر.

وبعد قليل، قال كأنه يخاطب شخصًا آخر:

– كنت موظفًا محترمًا، وكان هو صعلوكًا شحاذًا، أما الآن فإني طريد الدنيا وهو خطيبها؛ إنه ينتظر الحياة وأنا أنتظر الموت!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤