الفصل السابع

طلقت أخي

وجمعنا الأقارب للصلح، وأي صلح هذا؟ أليس لنا أرض ولنا دخل؟ فما معنى الصلح إلا أن نحصل على هذا الدخل؟!

طلقت أخي، وانفصلت منه، وقد مضى عليَّ أكثر من عشر سنوات وأنا لا أعرفه، ولم أذكره إلا لأني قرأت نعيه في الجرائد.

وفي هذا الكلام قسوة، بل خشونة تأباها الرقة والذوق، ولكنه هو الحق، على الرغم من الأخلاق الإقطاعية التي لا تزال تلابسنا، وتوجِّه عواطفنا، وتطالبنا بالخضوع لنظام بطريركي في العائلة، وهو نظام قد أصبحت الظروف الجديدة تصرخ بإلغائه.

وأنا الآن أم؛ لي ثلاث بنات وولدان، وإني لأحاول جهدي ألا أقع في الأخطاء التي وقعت فيها أمي، وأحاول جهدي أن أمنع الولدين من الاستبداد بأخواتهما البنات كما استبد أخي بي وبأختي، وإني لأضرب لهم جميعًا المثل لما فعله أخي معي أنا وأختي؛ حتى يتعظوا، وحتى لا يحس أحد من الولدين أن من حقه أن يستبد بأخواته البنات، أو يجيز لنفسه أن يسرقهن كما فعل أخي بي وبأختي.

قرأت نعي أخي في الجرائد فتنهدت، ولكني أحسست انفراجًا؛ فإن بقاءه في الدنيا كان تحديًا للحق والشرف والحب والإنسانية، ولكنه مع ذلك كان، إلى حد ما، مظلومًا؛ لأن المجتمع الذي كنا نعيش فيه قبل ثلاثين وأربعين سنة كان يتجاوز عن الآخر الذي يسرق أخواته البنات، وكان يعده الوارث الأصيل للأبوين.

إن البنت حين تتزوج وتترك بيت أبويها، يجب أيضًا أن تترك كل ما في هذا البيت، وأنه ليس لها من حق في ثروة أبويها سوى هذا الحق الصوري الذي يتعيَّن في عقود الامتلاك.

ورثت عن أبويَّ نحو عشرة فدادين، وهذا غير حصتي في بيتنا الكبير في القاهرة، وكان أبي قد مات قبل زواجي بسنة، وماتت أمي بعد زواجي بثلاث سنوات، وكان زوجي رجلًا حييًّا، وكان يعمل موظفًا في إحدى الوزارات بمرتب يكفينا، كما كان يملك منزلين بالقاهرة يغلَّان لنا دخلًا سنويًّا معتدلًا؛ ولذلك لم أطالب والدتي أو أخويَّ بشيء من حقي طيلة حياتها؛ وذلك لأني كنت أحبها، وأحب أن تحس بأن ما ورثته أنا من أبي يجب أن يبقى لمتعتها، وأيضًا لأن زوجي كان حييًّا يعتقد أن ليس من الشهامة أن نطالب أمي وأخويَّ بدخلي وهو دون المئة من الجنيهات في السنة.

وماتت أمي، وقضيت أنا وأختي بمنزل أبويَّ نحو خمسة عشر يومًا نستقبل التعازي، وكانت أختي متزوجة مثلي، ولكن زوجها لم يكن على يسرٍ في العيش، وكانت أمي في حياتها تساعدها بالقليل الذي تحصل عليه من أخويَّ.

وقبل أن نغادر المنزل، أنا وأختي، تحدثنا إلى أخويَّ بشأن ما نملك في الأرض والبيت، وكان في البيت من الأثاث ما لا يقل ثمنه عن ألف جنيه، ولكننا لم نتحدث عنه بتاتًا وتركناه لأخوينا.

وإني لأذكر الامتعاض الذي بدا على وجه أخي الأكبر حين صارحناه، أنا وأختي، بأننا نحتاج إلى دخلنا من الأرض، وقد سلَّم أخي الأصغر بهذا الحق، ولكن أخي الأكبر لم يسلِّم به، وجعل يسوِّف، ويتعلل بأنه لا يعرف المستأجرين، وأن هذا الموضوع يمكن أن يؤجَّل.

وفهمت من التأجيل أنه لن يتجاوز الشهرين أو نحو ذلك، ولكن مضت تسعة شهور دون أن نجد أية نتيجة، وجاءتني أختي تشكو، وتقول إن ما كانت تحصل عليه من أمِّنا قد انقطع، وأنها في حاجة؛ لأن دخل زوجها صغير، وأن أولادها قد كثروا.

وقصدنا أنا وهي إلى أخي الكبير، وحادثناه في رفق وحب، ولكنه عارضنا في عنف، كأننا أغراب نريد الاستيلاء على ثروته بلا حق.

وجمعَنا الأقارب للصلح، وأي «صلح» هنا؟

أليس لنا أرض ولنا دخل؟ فما معنى الصلح إلا أن نحصل على هذا الدخل؟

ولكن كلمة «الصلح» كانت تعني شيئًا آخر عند أخويَّ الاثنين، وعند الأقارب، وكان الكلام كله يجري على هذا النسق: الصلح خير، الوفاق أحسن من الخلاف، بوسي رأسه، بوس رأسها!

ثم ينفضُّ السامر، ونعود أنا وأختي إلى بيتنا بلا نتيجة.

ولم نكن ننتزع خمسة أو عشرة جنيهات من أخي إلا بعد شجار، وكان يحاسبنا — إذا حاسبنا — على إيجار لا يزيد في المتوسط على أربعة وخمسة جنيهات للفدان، في حين كان هو يؤجِّره بنحو عشرين أو ثلاثين جنيهًا، وحاولنا بيع الأرض، فجعل يعرقل البيع، حتى لم يعد أحد من المجاورين يخاطبنا في البيع.

وكنا حين نشكو يقال لنا إنه فاتح بيت، وإننا يجب أن نتسامح معه، وكأن «فتح البيت» يعني أن يأكل هو أكثر مما نأكل نحن، وأن يقتني سيارة في حين أن أخته لا تجد القدرة على شراء الطعام الضروري لأطفالها.

وأخيرًا حدثت الكارثة: فإن زوج أختي مات، ولم يترك لها من المعاش سوى نحو سبعة جنيهات في الشهر، وكان أولادها خمسة: ولدان وثلاث بنات، أصبحوا جميعهم على الحضيض، أو ما يقارب ذلك.

وقصدتُ إلى أخي، وبسطت له حال أختنا، وتبرَّعت أنا بكل حصتي في ميراث أبويَّ لها، ورجوته بأن يعطيها حقها؛ حقها لا أكثر.

ولكنه تبرَّم، وزعم أن الأرض قد انحطَّت، وأن ريعها يقل عامًا بعد آخر، ولم أتمالك أن أقول هنا: ولماذا لا تبيع السيارة وتعطي أختك حقها؟

واستشاط هو من كلامي، فهبَّ يسبُّني ويهدد بأنه لن يدفع شيئًا، لا لي ولا لأختي.

حدث هذا منذ عشرة سنوات، وقد طلقته منذ تلك اللحظة ودخلت أنا وأختي معه في قضايا للقسمة، وللحصول على الإيجارات، وقد أنفقنا في هذه القضايا مئات الجنيهات وست سنوات من النزاع.

ونجحنا في الحصول على ميراثنا في البيت والأرض، ونجحنا في أكثر من ذلك، وهو أننا طلقناه؛ لأنه لم يكن أخانا.

أجل لقد طلقت أخي؛ لأني وجدت أن من حقي أن أحيا حياتي وأنا بعيدة عن هذه الشخصية المعاكسة المشاكسة، فضلًا عن حقي في ميراث أبويَّ.

وحين قرأت نعيه في الجرائد ذكرت المعاكسات التي لقيتها أنا وأختي منه كي ينهب حقنا بدعوى أنه «فاتح بيت»، وتنهدت، ولكني عجزت عن أن أقول: الله يرحمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤