مقدمة

سيرة شبه ذاتية

منذ مطلع النهضة العربية الحديثة مع بدايات القرن التاسع عشر ونحن ندرك جيدًا أن التجديد يكاد يكون فرض عين على المعنيين بالفكر فينا. والمقصود بالتجديد البحث في بعث وتحديث وتنهيض وتنمية معاملات أصالتنا، أو بمصطلح أفضل وأكثر حيوية وحركية وتطورية نقول: تحديث معاملات خصوصيتنا الحضارية.

وعلى مدار القرن العشرين كان فرض التجديد يزداد وجوبًا وإلحاحًا؛ لمواجهة المستعمر ورياح التغريب العاتية، ثم لتوطيد وتدعيم الثورات القومية وحركات التحرر الوطني التي أينعت وازدهرت مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين. إنها نفس الحقبة التي شهدت أخطر تحدياتنا الحضارية طرًّا، وأكثرها وبالًا، غُرس العدو الصهيوني في قلب الوطن العربي معززًا ومدعمًا بتأييد الحضارة الغربية التي تملك عناصر القوة والتقدم والعلم والحداثة، ومدعمًا بنموذجها الحضاري ذاته، ليزداد فرض التجديد إلحاحًا، لا سيما بعد أن حططنا السلاح وسلكنا طريق المفاوضات والمواجهة المباشرة. ثم يشهد العقد الأخير طوفان العولمة يندفع مهددًا باكتساح كل الخصوصيات الحضارية، فيفقد العالم الإنساني ثراءه وتنوعه وتعدديته، ولا يبقى إلا النموذج الغربي الأمريكي. وفي مواجهة العولمة يغدو فرضُ التجديد أكثر وجوبًا من كل ما سبق. هكذا فَرَضَ القرن العشرون قضية التجديد علينا، فرضًا متواترًا يزداد إلحاحًا. وها هو ذا القرن ينصرف عنا ويودعنا ليكون مثمرًا أن نلقي نظرات شمولية عامة لتقييم وسبر حصائله، وحصائل الأعلام الذين ساهموا في توجهاته الكبرى.

ومن منطلق الإحساس بخطورة قضية التجديد في حضارتنا لكي تتواصل فيها عوامل النماء، والتقدم والازدهار، دون أن تتماوه حدودها وتَتَميَّع شخصيتها، دون أن تتحول إلى ظل باهت للآخر الغربي وتندثر خصوصياتها بحرائر العلَم الأمريكي ونجومه الزاهية. من هذا المنطلق يتقدم الكتاب بمحاولة لتعيين الأبعاد الفلسفية العميقة، وأيضًا تطويرها وتفعيلها عند واحد من رواد التجديد في النصف الأول من القرن العشرين، وهو الشيخ أمين الخولي، فتتكشف أمامنا آفاق فلسفية رحيبة يمتد إليها إسهامه الفكري.

•••

ومع هذا يبدو من الملائم طرح صورة عامة للإطار الخاص الذي تخلقت فيه سطور هذا الكتاب.

فقد كان لدي بطبيعة الحال تصوري لأمين الخولي، كإنسان فذ الشخصية، وكعالم لغوي لا يُشق له غبار، وكأستاذ من جيل الرواد الذين اضطلعوا بعبء تمصير الجامعة، وكمفكر هو واحد من التجديديين العِظام. وكنت طبعًا قد قرأت له وعنه بعض الشيء، في إطار قراءاتي الغزيرة المتنوعة، وقد دربني عليها أبي الطبيب النطاسي — رحمه الله وأكرم مثواه بقدر ما ملك من كريم الشمائل — وعلمني كيف أقتنص رحيق الحياة وآفاق الثراء الباذخ من صفحات الكتب. ومنذ بواكير الصِّبا لا يمر عليَّ يوم دون أن أفتح كتابًا.

وأعترف بأنني لم أكن أتوقف إزاء قضية التجديد ومجدديه وضرورته الحضارية، وأبعاده الفلسفية وتشغيلها في منظومتنا الثقافية، لم أكن لأتوقف بإزاء هذا منذ البداية وحتى لقائي الحقيقي الواعد بأمين الخولي.

بدايةً، واصلت تفوقي الدراسي، وكنت من أوائل الثانوية العامة، وتحت تأثير الافتتان بعالم الثقافة والفكر والفلسفة التحقت بكلية الآداب العريقة التي تعتز كثيرًا بأمين الخولي في الصف الأول من روادها، حين كان تاريخ النهضة العربية وقيم الحرية والاستقلال وتحديث العقل العربي، يُسجل من قاعاتها الأثيرة ذات العطاء الجزل للأمة.

بيد أنني تخصصت في واحد من أحدث فروع الفلسفة: فلسفة العلم، التي تُفلسف ظاهرة العلم الحديث فتبحث في منهجه ومنطقه وخصائص المعرفة العلمية وشروطها وطبائع تقدمها وكيفياته وعوامله … على الإجمال، التفكير في الإبستمولوجيا؛ أي في نظرية للمعرفة العلمية، ثم العلاقة بينها وبين المتغيرات المعرفية الأخرى، والعوامل الحضارية المختلفة. هكذا تتقدم فلسفة العلم بوصفها تقنينًا لأصلاب أشد عناصر الحضارة الغربية إيجابية وفاعلية واتقادًا؛ أي العلم الحديث.

وحين كنت — ولا أزال — أبذل قصارى العزم في تمثل فلسفة العلوم واستيعابها ونقلها للمكتبة العربية بأفضل ما أستطيعه، كنت أحسب في هذا — بما يحمله من مقولات للتحديث والعقلنة والتقدم المطرد — ردًّا لدَيْن ماء النيل على شراييني وخلاياي، وتعبيرًا كافيًا عن التزامي إزاء الثقافة العربية، التي أراها دائمًا تمثيلًا لوحدة حضارية واحدة أبقى من كل متغيرات السياسة وألاعيبها وترهاتها. هكذا انصرفت بمجامع نفسي وتفكيري إلى الفلسفة الغربية وميراث الحضارة الغربية وأصول العلم الغربي الحديث، وعوامل نشأته وتناميه وتقدمه المطرد في الحضارة الغربية. وكنت في حالة تصالح تام مع نموذجها الثقافي الذي بدا لي خيار التقدم المطروح وليحاكيه من شاء تقدمًا، خصوصًا بعد أن انتهى الاستعمار واجتثت ثورة يوليو المباركة جذوره. وزاد من هذا التصالح أنني قضيت شطرًا من طفولتي في أوروبا، وتفتحت عيناي على ظلالها الوارفة وتلقيت تعليمًا في مدارسها ورأيت قطوفها الدانية رؤية العين، وترددت عليها فيما بعد. زادني هذا انكبابًا على إيجابيات الثقافة الغربية، فاستقطرت مني صدر الشباب، واندفاعته المتحمسة، عشر سنوات أو يزيد وأنا غارقة حتى الأذنين في الفكر الغربي، ولا ألتفت إلى واقعي، إلى الأنا، إلى الذات، إلى موطئ القدم الذي قُدِّر له أن يواجه المحن تلو المحن. وكانت المحصلة أن أنشغل فقط بإشكاليات مطروحة في الفكر الغربي، وأعرف عن الحضارة الغربية ومسارها وأعلامها أضعاف أضعاف ما أعرفه عن الحضارة العربية، وأدرس من نصوصها كل ما أستطيعه بينما لا أتعامل مع نصوص التراث العربي إلَّا لمامًا، وبقدر ما يفيد كهوامش لفكرة أعالجها في التراث الغربي. من هنا خرجت كل أبحاثي وأعمالي، بل ومقالاتي حتى نهاية الثمانينات، وكل سطورها محصورة حصرًا داخل أطر الفكر الغربي، ولا تكاد تتمايز عنه إلا في أنها مكتوبة باللغة العربية!

حتى كان مطلع التسعينيات والهيئة العامة للكتاب مضطلعة بإصدار مجموعة الأعمال الكاملة لأمين الخولي، ووجدتني متورطة في هذا، ولم ألقَ مفرًّا. انشغلت في عملية تجميع الأصول وإعدادها للنشر، ومراجعة مستنسخات الطباعة، وكتابة نبذة الغلاف، وما إليه. وكما هو معروف، مراجعة المستنسخات أسخف شيء، ولعلها الفصل الوحيد السخيف المضجر في تجربة التأليف التي تظل بكل المقاييس أروع التجارب الإنسانية طرًّا. لكن مراجعة المستنسخات هنا كانت بالنسبة لي فتحًا مبينًا. لقد قرأت بدقة — وبعيون أصبحت مدربة — كل أعمال أمين الخولي، وأذكر على وجه التحديد كتابيه «المجددون في الإسلام» و«مناهج تجديد»، وأيضًا مجموعة محاضرات مخطوطة غير منشورة، كانت في مكتبة أبي تحت عنوان «كتاب الخير»، وهي محاضرات في تاريخ فلسفة الأخلاق من الفكر الشرقي القديم حتى العصر الحديث، ألقاها أمين الخولي في أعقاب عودته من ألمانيا عام ١٩٢٧. وفي هذه المحاضرات يدافع الخولي ببسالة عن نظرية التطور لتشارلز دارون، والفلسفة التطورية مع هربرت سبنسر وليزلي ستيفن وأمثالهما! وقد قدمتُ «كتاب الخير» إلى المجلس الأعلى للثقافة، لتنشره مطبعة دار الكتب لأول مرة عام ١٩٩٦، في إطار أعمال الندوة التي أقامها المجلس «أمين الخولي: الأصالة والتجديد» في أبريل من ذلك العام. وخرج «كتاب الخير» مصحوبًا بدراسة كتبتها كتقديم له، يتضمنها هذا الكتاب أيضًا الفصل الأول بعد إضافة وتنقيح.

«المجددون في الإسلام» و«مناهج تجديد» و«كتاب الخير» فعلت بي فعلة أمين الخولي بتلامذته، ومن يقترب من الجذوة المضرمة في عقليته وفي أسلوبه لطرح الأفكار القادر على تثوير كل خلجة بعقل المتلقي، في خضم وابل من المنهجية والرصانة والدقة والعمق والاستنارة التي تفيض بها أعمال الخولي. وأنا أتتبع أمين الخولي في جولاته بأنحاء التراث وصولاته لتجديده، كنت أستجمع فرائد كنز مذخور من الأصول المنهجية للنظرة الحضارية التي لا تنفصل أبدًا عن ذاتها وعن تراثها، ما دامت تراه قابلًا للتجديد والتطوير. وأدركت كم كان بصري حسيرًا.

وكانت تلك فاتحة لسلسلة من الزلازل والتوابع سوف تتصدع لها ثوابت في عقليتي وفي منظوري وأسلوبي للتفكير. لقد تزامن معها كارثة الخليج الكابية التي اهتزت لها الأركان وتبعها ما سُمي بالنظام العالمي الجديد — إثر الانهيار المدوي للاتحاد السوفيتي — ليعني تنظيم العالم وفقًا لقيم ومصالح أمريكا، ولماذا لا نقول؛ وأيضًا مصالح إسرائيل؟! تدفق طوفان الحيرة من عيون ابنيَّ وطلابي، توالت تساؤلاتهم القَلِقة الموجعة، وقد فجرتها أزمة الخليج التي اختلط فيها العدو بالصديق بالشقيق: ما القومية؟ ما العروبة؟ ما الوطن؟ من نحن؟ هل ستبقى هذه الأمة؟ هل انتهى عصر الاستعمار؟ أيهما أقسى: الاستعمار الأوروبي البائد أم الاستعمار الأمريكي الراهن المجلوب جلبًا؟

وفي الإجابة على هذا لم أكن أملك إلا وَقْد اللهيب وحمم البركان بين ضلوعي، ما دمت أؤمن دائمًا بأن القومية العربية أشد حقيقية من الهواء الذي نتنفسه معًا، ومن التاريخ الذي عشناه معًا والكتاب الذي نقرؤه معًا، وقيم الحياء الجميل، ولهفة الأمومة، ومنزلة الأخ الأكبر، والانتماء للأسرة، التي نحياها معًا، والفيلم المصري الذي نشاهده معًا، والأغنية التي نستمع إليها معًا والشعر العربي الذي نردده معًا …

وكأن الله شاء أن يزداد الجرح القومي في النفس إيلامًا، فأحصل في عام الطوفان وكوارث المعمعان عام ١٩٩١ على جائزتين من الطرفين المتناحرين، جائزة العلماء العرب الشبان من مؤسسة عبد الحميد شومان الفلسطيني في الأردن، وجائزة الإبداع الفكري بين الشباب العربي من الكويت. يتقاتل الطرفان، ويجتمعان على تقدير خاص لكتابي «مشكلة العلوم الإنسانية»، تأكيدًا على أن البحث العلمي العربي كالإبداع الفكري العربي لن تقف في وجهه الحدود المصطنعة، ولو كانت بضراوة الأسلاك الشائكة وحقول الألغام. ويلتقي تقدير الطرفين المتقابلين وفي صلب الزمن العصيب، تجسيدًا لثابت باقٍ يعلو على كل الكوارث ومؤامرات الفرقة، ومصداقًا لقول أستاذ الأجيال الدكتور زكي نجيب محمود: «العروبة ثقافة لا سياسة»، وهذه الأولى — الثقافة عند الله وعند الناس خير وأبقى.

تبدو المتغيرات والوقائع آنذاك وكأنها تريد أن تعصف بهذا الثابت الباقي، وتؤكد أن سؤال القومية والهوية وخيار التقدم الحضاري ليس محسومًا كما كنت أتصور، ومن ثم بدا لي الموقف الفكري القاصر على ميراث التقدم الغربي، والمنبت الصلة بتعيُّنات واقعنا ومشاكله التي تستلزم المعالجة … ذاك الموقف ليس مجرد بصر حسير، بل هو جريمة في حق الوطن، وكانت أزمة نفسية وعقلية طاحنة.

مثلت الأصول المنهجية التي استقيتها من صُحبتي لأمين الخولي طوق نجاة ومرشدًا لتدارك ما فاتني. ورحت أستقبل بفعالية بالغة مؤثرات نفر من أساتذتي العِظام ذوي الطَّرح الأبعد لإشكاليات التجديد في الفكر العربي الحديث، وقرناء لهم في أنحاء شتى من الوطن العربي، وأيضًا مؤثرات نفر من تلامذتي النابهين من شباب الباحثين الجادين في أطروحات الفكر العربي الحديث ومناقشاتهم المستفيضة. هكذا تجمعت عوامل عديدة فشهدت التسعينيات منحنى حادًّا في طريقة تفكيري وأبعاد معالجاتي وطرحي لما أخرجته من أعمال.

وتظل فلسفة العلم دائمًا هي البوصلة الموجهة لعقليتي ومسار أبحاثي. ومن حُسن الطالع أن توَاكَب مع هذا تطور ملحوظ في فلسفة العلم إبان العقود الأخيرة من القرن العشرين، يتلخص في أنها انتقلت من وضع مبتسر — استمر طويلًا — يولي ظهره لتاريخ العلم ولدوره في تمكيننا من فهم ظاهرة العلم فهمًا أعمق، فضلًا عن دفع معدلات التقدم العلمي، ويكتفي بالنسق العلمي المنجز الراهن، ويفلسفه بما هو كذلك على أساس النظرة إليه من الداخل، أو النظرة إلى النسق العلمي في حد ذاته. انتقلت فلسفة العلم من هذا إلى وضع مستجد يرتكز على الوعي بتاريخ العلم، فيفلسف العلم في ضوء تطوره التاريخي، وعبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية، مما يعني تطورًا ذا اعتبار في منطلقات وحيثيات وعوامل النظرة الفلسفية إلى العلم. وهذا التطور في الواقع هو تكامل النظرة إلى العلم من الداخل مع النظرة إليه من الخارج؛ أي باختصار نظرة فلسفية أشمل لظاهرة العلم، ترتكز — كما أشرت — على الوعي بتاريخه. وباستيعاب هذا البعد الجديد سرعان ما علمتني فلسفة العلم أن تاريخ العلم — وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات — هو التاريخ الحقيقي للإنسان وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد.

من هنا سهل عليَّ اتخاذ الخطوة الأولى للخروج من ذلك الموقف الحسير، بل بدت واجبًا أكاديميًّا، وهي أن أمد نطاق معالجاتي المصمتة لظاهرة العلم الحديث الأوروبية إلى المرحلة الأسبق منها، والمفضية منطقيًّا وتاريخيًّا إليها؛ أي مرحلة تاريخ الرياضيات والعلوم عند العرب. فانكببت بعزم أكيد على نصوص من تراثنا متصلة بالحركة العلمية التي كانت قمة الازدهار والعطاء في عصرها الوسيط، واكتشفت — لأول مرة — في الحضارة الإسلامية عقلًا مبدعًا باذخ العطاء، وعالمًا هائجًا مائجًا يفيض زخمًا وثراءً. ورحت أطرح السؤال: كيف وصل إلى طريق مسدود؟ وكيف يمكن مواصلة ما انقطع؟ فتعود معاملات أصالتنا قوة دافعة للتقدم والازدهار والسؤدد، وإزالة ما يعتريها من وهن أو تصلد. في هذا الإطار خرجت أعمالي في التسعينيات وقد أصبحت إيجابيات الحضارة الغربية أدوات لدفع تقدمنا الحضاري وليس مجرد تراتيل نرددها. والهمُّ ينطلق من إشكاليات يطرحها واقعنا نحن الحضاري. وضمن هذا السياق خرجت الفصول التي تمثل كتابًا عن الآفاق الفلسفية لفكر أمين الخولي التجديدي.

•••

كانت السطور السابقة التي أفاضت واستفاضت — رغمًا عني — ضرورية لكي توضح أن قراءتي لأعمال أمين الخولي — التي كانت هي الأخرى رغمًا عني — لم تأتِ مجرد اطلاع وتلقٍ لأفكار وأطروحات، وهل يُستطاع التلقي السلبي لأفكار أمين الخولي؟ واتضح كيف كانت بدايات ثورة في تفكيري، ثورة منهجية تعني استملاك أدوات جديدة للبحث والنظر، فيخرج إنجاز مختلف يحمل أبعادًا لم تكن مطروحة فيما سبق.

من هنا لم يقتصر هذا الكتاب على مجرد عرض لبعض الأبعاد والآفاق الفلسفية للتجديد التي حاولت تعيينها واستكشافها في فكر أمين الخولي، ويحملها الباب الأول من هذا الكتاب — بفصليه — تحت عنوان «منهاج»، بل كان لا بد من إردافه بالباب الثاني الذي يحمل آفاق محاولاتي لتطبيق بعض من فرائد هذا المنهاج، لتفعيلها وتطويرها، طبعًا بمصاحبة أدوات منهجية ومعرفية أخرى، لم تكن مطروحة في زمان الخولي، في النصف الأول من القرن العشرين. ألم يطرح أمين الخولي معادلته الشهيرة: التلميذ = الأستاذ + الزمن؟!

في المحاولات التطبيقية المنصبة على الهم الراهن، بدا لي أن جنوحات وترديات الفكر السلفي المتطرف الذي بلغ حد الإرهاب راجعة إلى أنه يفتقد على وجه التحديد أسسًا منهجية حرص أمين الخولي — بوصفه شيخًا أصوليًّا — على إرسائها وترسيخها. وبتطوير وتعميم هذا كانت أول محاولات التطبيق المطروحة في الباب الثاني، الفصل الثالث، وهي مواجهة عامة أو حوار مع الفكر المتطرف.

ثم أعقبتُه بفصل تالٍ، هو تطبيق لتأكيد أمين الخولي على أن الإسلام دين العقل والتفكير يدفع للنظر العلمي في الكون و«قادر على تحرير العقل والعلم أكمل حرية يمكن أن تتحقق» فيستوعب على الرحب والسعة ظاهرة العلم. لكن الإسلام «هدي وإرشاد» و«ليس البتة درسًا في الفيزياء أو الكيمياء» و«لا يقصد إلى شيء في العلم الرياضي أو الطبيعي» بتعبيرات الخولي الذي رفض بشدة وبحسم التناحر والجدل السطحي بين مضامين النظريات العلمية وبين النصوص القرآنية، لافتًا الأنظار إلى أن الأولى متغيرة متطورة، والثانية مطلقة ثابتة.

لقد كان الخولي في طليعة الرافضين لما يسمى بالتفسير العلمي للقرآن، وأكد أن «إنكاره من كبريات قضايا المنهج الأدبي للتفسير» الذي أسسه ودعا إليه، كما سنرى. ومن أجل طرح تطبيق أشمل يوضح أن هذا هو قمة الاستنارة الدينية، أتى الفصل الرابع عن «التفكير العلمي والعلاقة بينه وبين الاستنارة الدينية».

إذن عقائد الإسلام موجهات للحضارة، بدلًا من الخوض الظاهري العقيم في التفاصيل العلمية المتغيرة، فكيف السبيل إلى جعلها موجهات لتوطين ظاهرة العلم الحديث ذاتها في ثقافتنا مجددًا، تأكيدًا على أن الإسلام في كل عصر هو دين العقل والعلم؟ هذا هو أهم سؤال حاولت الإجابة عليه إجابة مستفيضة في كتابي «الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل»، وقد نال جائزة البحوث المستقبلية في الإنسانيات من جامعة القاهرة، ويتلخص مضمونه في الفصلين الأخيرين من الباب الثاني. والمسألة في جملتها تطبيق لأخطر وأهم المبادئ المنهجية التي طرحها أمين الخولي: «أول التجديد قتل القديم بحثًا وفهمًا ودراسة.»

فقبل العمل على تجديد أصولنا الحضارية من أجل توطين العلم الحديث في ثقافتنا مجدَّدًا، لا بد من محاولة الإجابة على السؤال: لماذا وصلت الحركة العربية العلمية الزاهرة في الماضي إلى طريق مسدود؟

ومنهاج الإجابة على هذا السؤال يقتضي «قتل القديم بحثًا وفهمًا ودراسة»، كما حاولت أن أفعل في الفصل الخامس من هذا الكتاب عن «الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في الفكر العربي»، ثم أعقبه فصل سادس يتلمس طريق التجديد من أجل توطين العلم الحديث في ثقافتنا المعاصرة.

وبعد، فإن بعض فصول هذا الكتاب — باستثناء الأول والثالث — أوراق ألقيت في مؤتمرات وندوات ثقافية، وجميعها قبعت فُرادى حبيسة الأدراج. أما خروجها معًا في إطار متكامل ومتحاور الأطراف يشكل متن هذا الكتاب، فالفضل كل الفضل في ذلك يعود إلى المفكر المستنير رجب البنا، الذي يقود بثقة واقتدار دفة دار المعارف لتظل دائمًا هرمًا من أهرامات مصر الشامخة.

لقد تفضل سيادته بخبرته المكينة في الإنجاز الفكري وفي صناعة الكتاب على السواء، وأشار عليَّ بفكرة هذا الكتاب، وبث في نفسي الحماس لإعداده وإنجازه، حتى خرج في صورة أعتز بها حقًّا، وتحملني مزيدًا من الامتنان لسيادته.

وفقنا الله جميعًا لما فيه خير الثقافة العربية.

منيل الروضة في ديسمبر ١٩٩٩.

د. يُمنى طريف أمين الخولي
أستاذ الفلسفة بآداب القاهرة
وعضو لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤