الفصل الرابع

التفكير العلمي

والعلاقة بينه وبين الاستنارة الدينية١

مهما تمخضت مسالك العلماء في النهاية — أو في تطبيقاتها — عن إنجازات تلغي الزمان والمكان، كالسفر بسرعة الصوت والتواصل بسرعة الضوء، وغزو الفضاء والذرة وتحويل مجاري الأنهار، اخضرار الصحاري، ومقاومة الأمراض، ومداواة العاهات الجسدية والنفسية والاجتماعية، تتابع أجيال الحاسوب، ثورة الهندسة الوراثية واستنساخ الكائنات الحية، مهما تحققت إنجازات تتضاءل بجوارها معجزات الأساطير، فسيظل المغزى الأعظم لمسلك العلماء أنه بلورة مستصفاة وتجسيد متعين لتعقيل السير نحو الهدف، لطريقة التفكير المثمرة السديدة الملتزمة بالواقع والوقائع، والتي تُعرف باسم التفكير العلمي.

وكل لحظة تشهد بتصديق مستديم على أن التفكير العلمي هو أنجح وسيلة امتلكها الإنسان للسيطرة على واقعه. إنه السبيل إلى الظفر المبين في خضم عالم الواقع ومشكلاته.

لذلك نلاحظ أن التفكير الرياضي يُنعت أساسًا بأنه تفكير منطقي، أما التفكير العلمي بألف ولام التعريف، فهو أسلوب التفكير المتعين والمتجسد في العلوم التجريبية؛ أي العلوم الإخبارية التي هي منظومة متوالية من الأبحاث الممنهجة، تنتج وتعيد إنتاج وتصوب وتنقح وتدقق وتعمم … المعرفة التي تضطلع بالوصف والتفسير والتنبؤ ثم السيطرة على ظواهر العالم الواقعي المعاش والمشترك بين الذوات أجمعين. هذا العالم الواقعي المعاش هو المعامل الأولي للحضارة، ولمجرد حضور الإنسان في هذا الكون، لكن تتوالى في إثره سائر الأبعاد والخصوصيات والعموميات والآفاق الحضارية.

العلوم الإخبارية التي تضطلع بهذا العالم الأولي الفيزيقي عديدة، فيزيوكيماوية وحيوية وإنسانية، فروعها شتى ومناهجها أو أساليبها التجريبية التخصصية تعد بالعشرات، ثم يأتي التصور الفلسفي العام لصلب التفكير العلمي ليقف على المعالم المحورية والثوابت البنيوية في شتى متغيرات الممارسات العلمية، ليعطينا الأساس العام أو خلاصة التفكير العلمي وفحواه، فيما يُعرف بالعقلانية التجريبية.

•••

التفكير العلمي هو العقلانية التجريبية، هو — كما ذكرنا — تجسيد لطريقة التفكير المثمرة السديدة الملتزمة، للعقل حين يرسم سبلًا موجهة ناجحة، حين ينطلق بمجمل طاقاته وقدراته أقصى انطلاقة في محاولاته الجسورة لوضع الفروض العلمية، لكنها دونًا عن كل انطلاقات العقل ملتزمة بالواقع — بما تنبئ به التجربة — لتتعدل الفروض أو تُقبل أو تُلغى وفقًا له … أسلوب التفكير العلمي التجريبي ينصت لشهادة الحواس ومعطيات الوقائع، فتعين موضع الخطأ والكذب في الفرض حين يتعارض معها، يتم تصحيحه والبحث عن فرض جديد متلافٍ لذلك الخطأ، يُعرض بدوره على محكمة التجريب، ويتم تعديله بفرض جديد. وهكذا دواليك في متوالية لتقدمٍ لا يتوقف أبدًا، حتى ليكاد يكون البحث العلمي هو التمثيل العيني لمقولة التقدم.

كل إجابة يتوصل إليها العلم تطرح تساؤلات أبعد، فيؤدي كل تقدم إلى تقدم أعلى. ومهما علونا في مدارج التقدم لن تغلق المعامل أبوابها، ولن ينتهي البحث العلمي أبدًا، بل يزداد حمية ونشاطًا في سعيه الدءوب المتخطي دومًا لحاضره، مغيرًا إياه.

فليس العلم بناءً مشيدًا من حقائق قاطعة، بل هو نسق من فروض ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة. كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوة أبعد منه، في صيرورة تغير مستمر إلى الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر.

في خضم هذه الحركية التقدمية تقوم وقائع التجريب بدور ناقد قاس لا يعرف الرحمة حين تعيينه لمواضع الخطأ، دور الفيصل والفاروق بين الصدق والكذب، القاضي الحاتم ذي الحكم الموجب النفاذ. إنها مسئولية عسيرة أمام الواقع والوقائع، الاضطلاع بها هو أسلوب التفكير العلمي، فهو التآزر الجميل المثمر الخصيب بين العقل والتجريب، الفهم والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، إنه العقلانية التجريبية.

هكذا يستقي التفكير العلمي أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضاري والنبيل، لكنه ينصب في قلب البناء الحضاري ليس البتة كتقنية خاصة بذوي الاحتراف، بل كبلورة للتفكير المثمر السديد الملتزم — كما ذكرنا — بالواقع والوقائع، لتعقيل السير نحو الهدف. فضلًا عن أن التفكير العلمي يعني الالتزام بقيم منشودة في التعامل مع الواقع المتعين، قيم من قبيل التخطيط والتفكير الممنهج والإبداع والتنافس لحل المشاكل في تعددية الرأي والرأي الآخر، ثم الالتجاء لمحك الواقع المشترك بين الذوات أجمعين للفصل بين المتنافسين. والأهم من هذا نجد البحث الدءوب عن الأخطاء والقصورات الكائنة في كل محاولة إنسانية، والمجال المفتوح دومًا للنظرية أو المحاولة الأقدر والأجدر والتقدم الأعلى والاقتراب المستمر مما هو أفضل. وهذا يعني الاحتمالية والنسباوية والراهنية المؤقتة لأية خطوة تتم أو إنجاز يحرز.

لكل هذا كان التفكير العلمي هو أنجح وسيلة امتلكها الإنسان في التعامل مع الواقع، على المستويين العلمي والعملي. لكن لنضع خطًّا بل خطوطًا تحت لفظة «الواقع».

فلئن امتلك أسلوب التفكير العلمي كل هذه الفعاليات، فلا ننسى أبدًا أنه في كل مستوياته — أي العلمية والعملية — ينصب على العالم الواقعي أو الكون الفيزيقاني. وإذا كنا قد اتفقنا على أن هذا العالم الواقعي أو هذا المستوى من الوجود هو الأولي المُعاش المشترك بين الذوات، فإنه بالتأكيد ليس المستوى الأوحد لوجود الإنسان، بل يتميز الإنسان عن أي موجود آخر بتعدد مستويات الوجود التي تتراوح بينها أبعاد تجربته الوجودية الفريدة الثرية. وبخلاف العالم الواقعي الفيزيقي ثمة العالم الممكن والمرجو، عالم ما ينبغي أن يكون، عالم العاطفة والوجدان، عالم القيم والمُثل، عالم الفن الاستطيقي، العالم الميتافيزيقي، العالم الأيديولوجي، وأخيرًا عالم الغيب.

إذن فليس في العالم الواقعي الفيزيقي وحده يحيا الإنسان، وبالتالي ليس بالعلم وحده يحيا الإنسان، بل بتآزر سائر أبعاد تجربته الحضارية العلم والدين والفلسفة والقيم والفن والأيديولوجيا … الحضارة الراشدة الناضجة تعني تفتح وتفاعل وتآزر سائر هذه الأبعاد، ما دامت جميعها تهدف إثراء الإنسان ووجودًا أكثر اكتمالًا وأكثر إشباعًا. ولا شك أن الصراع بين جانبين أو أكثر من جوانب الحضارة يعني قصورًا وأزمة يجب العمل على تجاوزها. بعبارة مباشرة، نتفق جميعًا على الاحتياج الحضاري للعلم والدين معًا، وليس مجديًا البتة التضحية بأيها على مذبح الآخر.

هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإنه مثلما تبدت لنا فعاليات التفكير العلمي، فقد تبدت أيضًا سماته التي تتبلور في الاختبارية والقابلية للتكذيب والنسباوية والاحتمالية. ومن الواضح أنها تتناقض تمامًا مع سمات التفكير الديني التي تتبلور في التسليم والتصديق والمطلقية واليقين.

إذن تنتهي الآن إلى اختلاف طبيعة التفكير العلمي عن طبيعة التفكير الديني، مع التسليم باحتياج الحضارة الإنسانية إلى كلا الأفقين: الدين والعلم.

على هذا الأساس نناقش قضية علاقة التفكير العلمي بالاستنارة الدينية. ولن نخوض الآن في محاولات لتعريف وتحديد مفهوم الاستنارة الدينية، وقد أعطانا أمين الخولي تمثيلًا عينيًّا لها، ونكتفي بالاتفاق على الأساس العام للاستنارة في كل صورها، الذي يعني النظر بعين الاعتبار للعقل الإنساني ولقدراته وإمكانياته المتوالية دومًا، وبالتالي الانفتاح على متغيرات الواقع، والقدرة على الاستماع للرأي الآخر. هذا في مقابل الدوجماطيقية — أي التطرف — التزام الطرف الأقصى الواحد والوحيد وإنكار كل ما عداه، والانغلاق على قطعيات متصلبة عمياء، أو على ظاهر النصوص الدينية.

لا شك أن النص هو محور الارتكاز في كل أفق ديني، سواء أكان منغلقًا أو مستنيرًا. لكن الاتجاه المستنير لإيمانه بقدرة العقل وبتغير الواقع، يتعامل مع النص الديني بمناهج قادرة على التحديث وبعث الحياة فيه، ليتجدد مع كل جديد ويغدو ملائمًا لكل العصور، ولكل الأزمنة والأمكنة، فيكون الدين رسالة شاملة حقًّا. وكما لاحظنا في الفصل السابق حين اضطلع أمين الخولي بهذه الأطروحة لامس حدود الهيرومنيوطيقا. إذن تفرض الهيرومنيوطيقا نفسها علينا الآن مجددًا. الهيرومنيوطيقا في أصوله القديمة — كما ذكرنا — هي علم تأويل الكتب المقدسة، لكنه قفز قفزة هائلة عبر المناهج المعاصرة، وأصبح الآن نظرية عن الخبرة الحية بالنص. لقد أصبحت علم فهم وقراءة النصوص على إطلاقها، لكن تظل تكتسب أهمية خاصة في النصوص الدينية والتراثية؛ لأن القراءة الهيرومنيوطيقية ينصهر فيها النص والقارئ معًا، الماضي والحاضر في علاقة متجددة هي موقف أنطولوجي (أي وجودي) للقارئ المفسر، كما أنها جزء من تاريخ النص.٢ ثمة حوار مستمر مع النص يجعله مفتوحًا دائمًا لفهم جديد وتأويل جديد، وبالتالي تغدو النصوص معاصرة دومًا، لكل من يقرؤها مُجددًا فهي لا تقول الحقيقة، بل تفتح علاقة أو علاقات مع الحقيقة.٣ كل عصر يدخل في العلاقة الموائمة لحيثياته، فيتحدث النص بلغة الحاضر دائمًا، حاضر كل قارئ له، ولا يفقد النص علاقته بالواقع الحي أبدًا.
لقد نضجت الهيرومنيوطيقا وترعرعت بفضل آباء اللاهوت الليبرالي في القرن التاسع عشر، نذكر منهم الرائد البروتستانتي العظيم فردريش شلايرماخر F. Schleirmacher (١٧٦٨–١٨٣٤) الذي أكد — كما عبر عن ذلك تلميذه المعاصر باول تيليش P. Tillich (١٨٨٦–١٩٦٥)، أكد شلايرماخر أن الدين ليس سرًّا ملغزًا، وليس ثمة لغة قدسية وضعت بين دفتي كتاب، ولا شأن للعقل بها، بل إن «اللغة الدينية لغة عادية تتغير تبعًا للقوى التي تعبر عنها»٤ … حتى ظهر عام ١٩٦٠ كتاب «هانز جيورج جادامر» الخطير، وهو «الحقيقة والمنهج» لتستوي الهيرومنيوطيقا علمًا له مدارسه واتجاهًا واسعًا مارس سيطرة طاغية على الأجواء الثقافية ومدارس النقد الأدبي في العقدين الأخيرين٥ … إنه علم يقوم على إلغاء التباعد بين القارئ والنص مهما تقادم به الزمن، بل ينبعث النص حيًّا في أفق كل متلق له، فيبقى معينًا لا ينضب أبدًا وإمكانية متجددة دومًا.

إن الهيرومنيوطيقا التي نشأت أصلًا في أعطاف اللاهوت، وترعرعت في أفياء البروتستانتية تكاد تكون تمثيلًا منهجيًّا للاستنارة الدينية، ولقدرة الدين، الذي يرتكز دائمًا على النص، قدرته على الانبثاق مجددًا مع كل طلعة شمس، وقدرته على البقاء والاستمرار وأداء المهام الروحية المنوطة به، مهما تعمقت متغيرات حضارية أخرى، على رأسها العلم. مما يعضد موقف الاستنارة الدينية، ويطرحها كهدف متاح ذي طريق ممنهج أو مرسوم. وإذا نظرنا نظرة عميقة تعود إلى الأصول، وأخذنا في الاعتبار أن النص الديني في حضارتنا العربية يمثل الأساس المكين للمنطلقات القيمية والتوجهات الحضارية، أمكنا عن طريق القراءة المتجددة للنص أن نعمل على تجذير وتوطين ظاهرة العلم الحديث في أصوليات حضارتنا. وسنعالج هذه القضية فيما بعد، في الفصل الأخير.

•••

ونعود الآن إلى السؤال المُلح، فمع التسليم بالاختلاف بين التفكير العلمي والتفكير الديني، وبالاحتياج لكليهما، أولًا: ما هي علاقة الاستنارة الدينية بالتفكير العلمي؟ وثانيًا: كيف يمكنها الاستفادة من أبعاده؟

الإجابة على هذا في أن الموقف الديني المستنير موقف حضاري راشد، يدرك خاصية الاستقلال والتميز التي يتسم بها العلم والبحث العلمي والتفكير العلمي. فقد ترسمت شرائع العلم ونواميسه، وتعقدت آلياته وشق طريقه المظفر كفعالية إنسانية مستقلة، بمعنى أنها تحمل في صلب ذاتها حيثياتها وإمكانيات تناميها وفاعلية عوامل تقدمها المطرد، في طريقها ذي المعالم الواضحة.

المعالم الواضحة تعني إحكام المشروع العلمي فيرتكز في شتى ممارساته على أصوليات منهجية، ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة، ترسم للمشروع العلمي تخومًا واضحة، مما يكفل تآزر الجهود العلمية، فتمثل متصلًا صاعدًا، يواصل صعوده أو تقدمه باستمرار، غده أفضل من يومه مثلما كان يومه أفضل من أمسه، فتمثل كل ممارسة من ممارسات العلم إضافة لرصيده، أو بالأحرى لرصيد الإنسانية.٦
إن استقلالية البحث العلمي هي أخص خصائصه، حتى إن معيار العلم، وهو معيار القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب يفرق بين ما هو علمي وما هو غير علمي، يرسم حدودًا صارمة حول العلم وقضاياه، فكل ما لا يقبل الاختبار التجريبي والتكذيب لا يعد علمًا؛ أي لا يحمل مضمونًا معرفيًّا وقدرة تفسيرية عن العالم التجريبي، وهي حدود لن يتخطاها ما لا يحمل هذه الوظيفة المحددة للعلم الطبيعي؛ أي لا تتخطاها قضايا الدين والميتافيزيقا والفلسفة والفن والمشاريع الأيديولوجية والأخلاق المعيارية، بعضها أهم وأعلى من العلم وأكثر فعالية، لكنها ليست علمًا Science، فهي غير قابلة للاختبار التجريبي والتكذيب، وليس مطلوبًا منها أن تقبله؛ لأنها تقوم بوظائف أخرى، وليس بوظيفة العلم التي تتجسد عينيًّا في السيطرة على الظاهرة الطبيعية. معيار التكذيب شهادة الصلاحية للقيام بهذه الوظيفة، إنه معيار العلوم الطبيعية، وفي نفس الوقت الخاصة المنطقية المميزة إياها. إلى كل هذا الحد تفرض المعرفة العلمية الطبيعية استقلالها.

موقف الاستنارة الدينية هو الذي يعترف بهذه الاستقلالية، ويدرك أنه لم يعد مجديًا ولا مقبولًا ولا حتى معقولًا أية ملاحقة للعلم أو مصادرة أو تهميش له، أو محاولة لفرض الوصاية عليه. فندع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، ما للعلم للعلم، وما للدين للدين. وينفسح المسرح الحضاري للعلم والدين معًا.

هذا الواقع المنشود ليس حلمًا طوباويًّا، بل شهده التاريخ في بعض من أينع مراحله، فلئن شهدت بدايات العلم الحديث طغيان الكنيسة ومعاركها الدامية معه، لا سيما في القرن السادس عشر، وشهد القرن التاسع عشر اكتمال تصور العلم للكون كآلة ميكانيكية مغلقة تسير بفعل العلل المادية والقوانين الحتمية، مؤكدًا أنه لا إله ولا نفس ولا روح؛ أي شهد ذلك القرن طغيان العلم على الدين وجوره على إيمان العلماء. نقول لئن حدث هذا وذاك، فبينهما نجد القرن السابع عشر، حيث أحرز نجاح العلم الطبيعي خطًى جوهرية بلغت الذروة في إنجلترا التي اكتمل فيها نسق الفيزياء الكلاسيكية على يد إسحق نيوتن ومواطنيه، حتى يُلقب مؤرخو العلم القرن السابع عشر بعصر تفجر العبقرية الإنجليزية.٧ وليس غريبًا أن نجاح حركة الإصلاح الديني واكتمال تحقق البروتستانتية كان أيضًا في إنجلترا آنذاك. وعوامل نجاح الحركتين — الفيزياء الكلاسيكية والإصلاح الديني البروتستانتي — تشترك في الثورة على السلطة الدينية المتصلبة، وليس على الدين نفسه، بل من أجل الدين. وكما أشار مؤرخ الأفكار «فرانكلين باومر»، اعتقد «فرنسيس بيكون» مع جهابذة الجمعية الملكية — التي تضم أساطين العلوم الطبيعية — أنهم يدرسون توراة الطبيعة، وأن للعلم روافد دينية جياشة تكشف قدرة الله التي تتجسم في خلائقه. غير أن هذا الاعتقاد لم يحُل دون قيام «بيكون» بحماية العلم من تدخل اللاهوت.٨ هذا هو المطلوب دائمًا.

أما عن كيف تستفيد الاستنارة الدينية من أبعاد التفكير العلمي، فالاستفادة تكمن في تحقيق هذا الهدف؛ أي الاعتراف باستقلال العلم.

لقد انجلت طبيعة التفكير العلمي الحقة إثر انهيار الآلة الميكانيكية الكلاسيكية المغلقة كتصور للكون، وذلك باقتحام عالم الذرة والإشعاع على مشارف القرن العشرين وانبثاقة النظرية النسبية، وميكانيكا الكوانتم، هذه الطبيعة التي تبدت لنا آنفًا في قابلية العلم الدائمة للتكذيب والاحتمالية والنسباوية والتغير والتقدم المطرد، حتى قيل إن العلم «شيء حي» بمعنى أنه بناء صميم طبيعته الصيرورة، هو نسق متتالي التوالد والتنامي والتغير. فالقابلية للتكذيب تعني أن العلم يحمل في صلب طبيعته إمكانية التصويب والتقدم المستمر، حتى أن منطق العلم منطق تصحيح ذاتي؛ لذلك ينتهي «جاستون باشلار» (١٨٨٤–١٩٦٢) — شيخ فلاسفة العلم في فرنسا — إلى أن العلم يتنكر دائمًا لما ينجزه، من حيث دأبه على اختباره ونقده وتصويبه. فالعلم لا يخرج من الجهل؛ لأن الجهل ليس له بنية، العلم يخرج من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق.٩ وهذا التصحيح المستمر هو الذي يكفل التقدم المستمر، حتى كانت التقدمية هي صلب طبيعة العلم التي تجعله شيئًا حيًّا وليس البتة بناءً متكاملًا. إن الوجود المتعين صنيعة الله، والعلم المتنامي صنيعة الإنسان. الوجود قديم والعلم حادث، الوجود ثابت والعلم متغير، الوجود باق والعلم نام، الوجود حتم والعلم حرية، الوجود مفعول فيه والعلم فاعلية، الوجود كينونة والعلم صيرورة.١٠
إن أدركت الاستنارة الدينية هذا الواقع المتقد المتغير المتميز للعلم، أمكنها استيعاب العلم كفاعلية إنسانية متنامية ومستقلة، وأدركت عبثية التوقف عند هذه النظرية أو تلك، وتطابقها أو تناقضها مع هذه الإشارة أو تلك في النصوص المقدسة. فبدلًا من النزاع الضاري والعقيم الذي خاضته الكنيسة لتناقض بعض نظريات العلم الحديثة مع ظاهر النصوص الدينية، نجد كثيرين اليوم يستنفدون جهدًا أشد عقمًا للتوقف عند تشابه بعض النظريات مع ظاهر النصوص الدينية.١١

كلا الاتجاهين عقيم، الاتجاه المثمر هو المستنير الذي يدرك استقلالية العلم ويعترف بها، ويعرف أن طريق العلم يختلف عن طريق الدين، وكل الطرق في تشعبها وتوازيها وتكاملها، تؤدي إلى حضارة إنسانية ثرة.

•••

وأخيرًا لنا أن نطالب التفكير العلمي بمثل هذه الاستنارة، وأن يعترف هو الآخر باستقلالية وحرمة المجال الديني، ويدرك حدود وقصورات التفكير العلمي، ولا يتهور في نفي ما يتجاوزها.

ويحضرنا في هذا الصدد فيلسوف العلم المتمكن «بول فييرآبند» (١٩٢٤–١٩٩٤) الذي تساءل بدهشة: هل العلم الغربي المجيد مطية للعقم والخواء والإجداب ونفي ما عداه من جوانب حضارية أخرى؟ إن حرمنا الإنسان منها أصابه تصحر وجفاف لا يطاق.

واستغل فييرآبند تمكنه من ظاهرة العلم وفلسفته وتاريخه، ليؤكد أن العلم ليس كل شيء وليس معرفة فائقة تقهر كل ما عداها، بل هو تقليد ضمن تقاليد حضارية أخرية، أهمها الدين، وثمة أيضًا الأعراف وحكمة الشعوب وثقافات العالم الثالث. وأكد فييرآبند أن المجتمع الحر حقًّا لا يقوم على نظرية جزئية هي النظرة العلمية فقط، أو على عقلانية واحدة هي العقلانية العلمية، بل يقوم المجتمع الحر على تعددية التقاليد، وسيادة روح التعاون بينها، وأيضًا التعاون بين الأمم جميعًا، وليس سيادة الغرب فقط.١٢

لأن الإنسان في حاجة إلى العلم وإلى الدين، فهو في حاجة لاعتراف كليهما بالآخر، والاستقلالية والاحترام المتبادل بينهما، تلك هي الاستنارة الدينية والعلمية على السواء.

١  ألقي في مؤتمر «الاستنارة الدينية والتفكير العلمي» الذي عقدته إدارة الدراسات والحوار بالهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية. في٢–٤ سبتمبر ١٩٩٧ بالإسكندرية. وقد افتتحه فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، ووزير الأوقاف الدكتور محمود حمدي زقزوق، أستاذ الفلسفة الإسلامية المرموق. وألقِي هذا البحث في حضورهما الكريم، لقي استحسانهما المشكور.
٢  Robert Audi (ed.), The Cambridge Dictionary of Philosophy, 1995 P. 323.
٣  علي حرب، نقد النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، ١٩٩٣، ص١٤.
٤  Paul Tillich, Theology of Culture, ed. By R. C. Kimball, Oxford University Press, 1959. P. 48.
٥  وقارن: د. يُمنى طريف الخولي، الوجودية الدينية: دراسة في فلسفة باول تيليش، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨. See: Lewrwnce K. Schmidt (ed.), The Specter of Relativism, Evanston, Illinois, U. S, 1995.
٦  د. يُمنى طريف الخولي، مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط٢، ١٩٩٦، ص١٨-١٩.
٧  G. J. Crowther, A short History of Science, Methuen Educational, L. T. D, London, 1969. P. 91.
وقد صدرت له ترجمة عربية بعنوان: قصة العلم، ترجمة يمنى الخولي وبدوي عبد الفتاح، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ١٩٩٧.
٨  فرانكلين ل. باومر، الفكر الأوروبي الحديث، ج١: القرن السابع عشر، ترجمة أحمد حمدي محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٨، ص٧٨.
٩  جاستون باشلار، الفكر العلمي الجديد، ترجمة د. عادل العوا، مراجعة د. عبد الله عبد الدايم، منشورات وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي، دمشق، سنة ١٩٦٩، ص٩٣.
١٠  د. يُمنى طريف الخولي، من منظور فلسفة العلوم: الطبيعيات في علم الكلام، من الماضي إلى المستقبل، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٥، ص١٤٠.
١١  في الإسلام يحدث هذا كثيرًا جدًّا كما هو معروف، ويحدث أيضًا في المسيحية، انظر مثلًا: القس أمير جيد، المسيحية وفلسفة العلم، دار الثقافة المسيحية، القاهرة، د.ت. ص٨٨ وما بعدها.
١٢  P. Feyerabend, Against Method: Outline of An Anarchistic Theory of Knowledge, Revisd edition, Verso, London, 1992. P. 245.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤