الفصل الخامس

قتل القديم بحثًا

الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في التراث العربي١

علم الطبيعة دائمًا ذو موقع استراتيجي، موضوعه هو مجمل حلبة عالم العلم التي تصب فيها شتى فروع العلم، فيتربع العلم الفيزيوكيماوي على صدر نسق العلم الحديث، كجسده وجذعه وإنجازه الأعظم، بغض النظر عن تقاناته التي شقت أجواز الفضاء — حقيقة لا مجازًا.

وفلسفة الطبيعة هي السلف المباشر للعلم الفيزويوكيماوي الحديث، وأي تفهم لأصوله في العصور القديمة والوسيطة، يستدعي تفهمًا للأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في إطار الحضارة المعنية ومجمل بنيتها المعرفية.٢

وبالنسبة للتراث العربي، فقد أتى في جملته — ككل وكفروع — كنتيجة لمعلول محدد هو الثورة الثقافية العظمى التي أحدثها نزول الوحي وظهور الإسلام في المجتمع البدوي القبلي.

وقد كان علم الكلام هو أول دائرة معرفية ترسمت حول الوحي، إنه نبتة أصيلة نشأ قبل عصر الترجمة — قبل التأثر بالفلسفة اليونانية — كأول محاولة لتجاوز النص الديني وإعمال العقل البشري في تفهمه وإثبات مضامينه، فكان بحق أوسع وأهم المجالات لما أسماه محمد عابد الجابري «العقلانية العربية الإسلامية»، أو أنه — كما رأى الشيخ مصطفى عبد الرازق — الفلسفة الإسلامية الشاملة حتى لعلم أصول الفقه بكل تألقه المنهجي.

ومن ثم فعلى الرغم من أن منظور عصرنا يبدي سلبيات جمة في علم الكلام، تفرضها المهام المنوطة به في إطار الحدود الحضارية والقصورات المعرفية لذلك العصر البعيد، فإنه تبقى إيجابية علم الكلام العظمى في أنه تشكل للعقل العربي الصميم. والحق أنه لم يكن إلا ممارسة للتفكير الفلسفي في القضايا التي أثارها نزول الوحي في المجتمع العربي، اتخذت شكل البحث في العقائد لأنه الشكل الأيديولوجي المتفاعل والمثير للقضايا الفكرية.٣ لقد كان بمثابة الفلسفة الإسلامية الخاصة التي شقت الطريق ومهدته للفلسفة الإسلامية العامة أو الحكمة.
فلئن كان كل من الكلام والفلسفة طريقًا مستقلًّا نسبيًّا في سياق الحضارة الإسلامية، فإن الحدود بينهما مموهة إلى حد ما. لقد استفاد علم الكلام كثيرًا في مراحله المتأخرة من أتون التفلسف العقلاني، من المنطق، فكان ينمو ويتطور، ينضج … ينضج، فنضج حتى احترق — كما يقول الأقدمون،٤ وتنبعث من رماده عنقاء الفلسفة. «ومن القرن السادس الهجري حتى القرن الثامن أصبحت موضوعات علم الكلام هي نفسها موضوعات الفلسفة»،٥ ولا شك أن المعتزلة لهم دور خاص في توجيه الفكر الكلامي الإسلامي إلى طريق يؤدي في النهاية إلى التفلسف الذي عاش طور الحضانة تحت جناحهم — بتعبير حسين مروة، وقد أسهب ابن خلدون — على الرغم من أشعريته — في إيضاح هذه القضية والمجرى الذي شقه المعتزلة بين الكلام والفلسفة.
فلم تكن الفلسفة إلا تطويرًا لعلم الكلام، ظهرت بعد أن استوفى نضجه، لتمثل دائرة أو مرحلة فكرية أعلى من مرحلة التمهيد الكلامي، أصبح الفكر والواقع مهيئين لها. وكانت الفلسفة أكثر اتصالًا بسيرورة العقل البشري، وفي حل عن التمثيل الأيديولوجي الصريح — إن كانت بالطبع لن تتحلل من روابطها به — فتميزت عن الكلام بأنها أولًا انطلقت من المفاهيم والمضمون الفكري لا من القضايا المثارة في المجتمع النص بصورة مباشرة، وثانيًا لم تتخذ من عقائد الدين مسلَّمة أو قاعدة مباشرة للبحث.٦

•••

خلاصة ما سبق أن نتوقف عند الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في التراث العربي، كما تشكلت على أيدي المتكلمين، ثم نتتبع نمو الأصول على أيدي الفلاسفة لنصل إليها مع أولئك الطبائعيين الذين نتفق على أنهم العلماء العرب القدامى.

•••

وعلى خلاف الظن الشائع احتلت الطبيعيات في علم الكلام مكانًا فسيحًا في صدر المسرح الفكري، ولئن لم تكن الطبيعة من المشكلات الكبرى أو العناوين التقليدية للمصنفات الكلامية، فإنها منبثة في كل هذا، حتى شهدت مع المتكلمين زخمًا وثراءً.

وكما أشار دي بور، غلب النظر في الطبيعة على المعتزلة الأولين، حتى أن أبا عمرو الجاحظ (+ ٢٥٥ﻫ) وهو من رواد النزعة الطبيعية في علم الكلام الاعتزالي، ومن المعالم البارزة في تاريخ الثقافة العربية لم يفُته التأكيد على أن العالم الحق يجب أن يضم إلى دراسة الكلام دراسة العالم الطبيعي، وكان هو نفسه يصف دائمًا أفاعيل الطبيعة.٧
فالطبيعيات هي العالم، أو كما قال الجويني إمام الحرمين: «هي كل موجود سوى الله تعالى»٨ وملكوته وملائكته، هي عالم الشهادة، بتعبير معاصر هي الكون الفيزيقي، وبتعبير المتكلمين هي اللطائف.
وثمة أسلوبان لتناول علم الكلام، إما النظر إليه كفرق، وإما النظر إليه كموضوعات. بهذا الأخير يمكن تصنيف الموضوعات إلى ستة، هي: التوحيد، القدر، الإيمان، الوعيد، الإمامة ثم اللطائف أي الطبيعيات. الإلهيات (= العقليات) تشمل التوحيد والقدر، والسمعيات (= النقليات) تشمل الإيمان والوعيد والإمامة.٩ أما اللطائف؛ أي الطبيعيات، فموضوعها الجسم والحركة والمادة في الزمان والمكان؛ أي العالم الفيزيقي عالم العلم الطبيعي. وقد كانت الطبيعيات لطائف — كما أوضح عابد الجابري — لأنها «دقيق الكلام» الذي هو مجال العقل وحده، مقابل «جليل الكلام» أي العقائد التي يُفزع فيها إلى كتاب الله.

على هذا الأساس انشغل المتكلمون الرواد — كما أشرنا — باللطائف، فكانت بداية اشتباك العقل الإسلامي بالعالم الفيزيقي، وبداية التفكير في الطبيعة، إنه بزوغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني المهيمن، مما يسهم في تفسير زخم الدفع العلمي الذي جعل الحضارة الإسلامية تنفسح للحركة العلمية وتحمل لواءها طوال العصور الوسطى. وهذا يوضح ولماذا كانت العلوم عند العرب تتدفق في إطار الأيديولوجيا السائدة وتحت رعاية ومباركة السلطة الحاكمة، وليس ضدها بالمواجهة والصراع الدامي معها كما كان الحال بالنسبة للعلم الحديث في أوروبا.

وسوف يفسر لنا أيضًا لماذا كان العلم العربي معلولًا ومفعولًا وليس علة فاعلة في تشكيل البنية المعرفية الإسلامية، ولماذا استنفد ذلك الدفع ذاته، وبلغت الحركة العلمية الثرية الدافقة طريقًا مسدودًا، ولم يقدر له التواصل والنماء في العصر الحديث، بل أسلم الحصيلة والراية إلى أوروبا لتقوم بهذا الدور.

فقد انحل العالم الطبيعي على أيدي المتكلمين إلى جواهر وأعراض مأخوذة من المذهب الذري القديم،١٠ وأصبحت الجواهر والأعراض هي الأنطولوجيا الكلامية أو أساس تصورهم للطبيعة،١١ فعن طريقهما أثبت المتكلمون هدفهم، وهو أن العالم متغير، لتوالي الأعراض عليه، وبالتالي حادث؛ أي مخلوق لله.
دليل الحدوث، أي كون العالم الحادث المخلوق دليلًا على وجود الله وقدرته وعلمه الشاملين وحكمته وحياته، ذلك ما سلَّم به المتكلمون، بل المسلمون جميعًا، فلم يكن العالم بالنسبة للمتكلمين إلا علامة على وجود الله، على ما ورائه. «إنما سُمي «العَلَم» عَلَمًا لأنه إمارة منصوبة على وجود صاحب العلم. فكذلك «العالَم» بجواهره وأعراضه وأجزائه وأبعاضه دلالة دالة على وجود الرب سبحانه وتعالى،١٢ كلمة «عالَم» مشتقة أصلًا من العلم والعلامة، وفي أصلها اللغوي البعيد من الحسي: العُلام أي الحناء لما يترك من أثر باللون. والعلامة ما تترك في الشيء مما يعرف به. ومن هذا العَلَم، لما يعرف به الشيء أو الشخص كعلم الطريق، وعلم الجيش «الراية»، وسُمي الجبل علمًا لذلك، ومنه علمت الشيء أي عرفت علامته وما يميزه، ونقيضه الجهل. وتكون بعد ذلك المعاني الخاصة والاصطلاحية في «العلم».١٣ لم ترد لفظة «العالَم» ولا لفظة الطبيعة في القرآن الكريم أبدًا، وردت فقط في صيغة الجمع: العالمين — ربما على سبيل التأكيد — ثلاثًا وسبعين مرة. هذا غير «العالِمين» — بكسر اللام — من العلم بالشيء التي وردت ثلاث مرات.»١٤

وكانت المشكلة المحورية للطبيعيات الكلامية هي العلاقة بين الله وبين العالمين، أو العالم أو الطبيعة، والتي اتخذت مبدئيًّا شكل الإيجاد والخلق من العدم، إحداث المحدث، هذا العالم، وهذا ما يتبلور في دليل الحدوث. وبصرف النظر عن عبقرية اللغة التي تطابق بين العلم والعالم وتجعلهما من نفس المصدر نجد دليل الحدوث هو في جوهره قياس الغائب على الشاهد، وهو شكل من أشكال الاستدلال العلمي الإمبيريقي، إنه ينطلق من المحسوس إلى المعقول، فتمتد له خطوط في صلب التيار العلمي البازغ من ثنايا الفكر الديني، الذي جعل البحث في الطبيعة يغلب على المتكلمين الأوائل. لكن دليل الحدوث ذاته بتوغله في الدوائر المغلقة كان من العوامل التي أدت إلى انفصال علم الكلام عن البحث في الطبيعة — بعد انتهاء عصور الازدهار، وإجهاض الفكر العلمي البازغ وإسقاطه من الحساب وسيادة الفكر الديني وحده.

الدوائر المغلقة لدليل الحدوث تتمثل في أن الطبيعيات ليست إلا سلمًا للعقائد، خادمة للإلهيات وليس للإنسان، في حين أن الإنسان هو الذي يحيا في الطبيعة، وهو الذي يحتاج لترويضها وتطويعها. الطبيعيات ليست مطلوبة في حد ذاتها للتفهم والتفسير — كإشكالية إبستمولوجية — المطلوب فقط استخدامها كوجود أنطولوجي حدوثه يدلل على وجود الله.

ظل دليل الحدوث دائمًا إطار الطبيعيات الكلامية ككل وكأجزاء، مما جعل الإلهيات هي النهاية والغاية، مثلما كانت قبلًا هي البداية والمنطلق، وزخم الدفع في دائرة مغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس.

•••

وإذا تتبعنا مسار التراث العربي في تطوره إلى الفلسفة أو الحكمة، وجدنا الطبيعة ومباحثها عند الفلاسفة أكثر وضوحًا وتميزًا منها عند المتكلمين. فقد سلموا جميعًا بأنها قسم من أقسام الحكمة الثلاثة: العقليات والطبيعيات والإلهيات.

ثم تفرعت إلى فروعها عند كل منهم، أفردوا لها مصنفات أو رسائل أو فصولًا. إنها أصبحت عنوانًا للبحث وموضوعًا محوريًّا للحديث.

ولئن ناقش نفر من أهل الاعتزال فكرة خلق القديم، فقد سلم المتكلمون جميعًا — من أولهم لآخرهم — بأن العالم حادث. بدأ الفلاسفة بالتسليم بهذه القضية، لكن بوصفها محل نظر ومحتاجة لبرهان «الكندي».١٥ وتحت تأثير فلسفة الإغريق الذين عجزوا تمامًا عن تصور الخلق من العدم، وتأكيد أرسطو أن العالم قديم غير مخلوق، راح فلاسفة الإسلام يتلمسون سبل التعامل مع أطر قضية حدوث العالم لجئوا إلى الفيض١٦ والصدور كبديل «الفارابي وابن سينا»،١٧ ثم رفض ابن رشد هذا البديل وأسرف في تبيان أن العالم قديم ومخلوق، في فلسفته الطبيعية الأنضج نسبيًّا من حيث هي المركب الشامل في تلك الصيرورة الجدلية: محدثة – فيض – قديمة.١٨

في كل هذه التوترات المتتالية، ظلت الطبيعة قابعة دائمًا في قلب الأنطولوجيا المتجهة أولًا وأخيرًا نحو المتجه الإلهي، نحو الثيولوجيا؛ أي إنه لا فرق جوهري بينها وبين الطبيعيات الكلامية.

•••

وأخيرًا، بل أولًا يبقى أولئك الذين يتحملون المسئولية المباشرة للتراث العلمي العربي، المعروفون باسم الطبائعيين، وكأن ثمة مصادرة على إبقائهم خارج دائرة الفلسفة التي كانت آنذاك تحوي كل الإسهام العقلي ذي الاعتبار.

فضلًا عن أن المتكلمين عدوهم زنادقة ملحدين، ولئن كانت أفكارهم الفلسفية غير مترابطة وغير نسقية، ربما لاهتمامهم أكثر بالوقائع التجريبية، وهم أنفسهم نادرًا ما واتتهم الجرأة على أن يعتبروا أنفسهم فلاسفة، فإن المسائل الفلسفية فرضت نفسها عليهم، بحيث إن إسهامهم الفلسفي جزء تكميلي لتاريخ العلم ولتاريخ الفلسفة.١٩ فضلًا عن تمركز دورهم في تشكيل الطبيعيات الإسلامية وتأصيلها فلسفيًّا.

في وقت مبكر — منذ القرن الثاني — وقع رائدهم التجريبي الشهير جابر بن حيان في إسار إيمانه الطاغي بحيوية الطبيعة وكل شيء فيها، بل رآها عاقلة مريدة، والكواكب قوى حية علوية تمارس تأثيرها، الفرق بينها وبين الله هو دخول المادة فيها. ولعل إفراط جابر في حيوية الطبيعة والتنجيم — وهو الذي يتصدر باكورة الاهتمام الإسلامي التواق بالطبيعة — هو الذي أدى إلى ثبوتهما المزعج في الطبيعيات الإسلامية، فلا ننسى دور علوم الأوائل وما حملته من تيارات غنوصية وهرمسية.

أما في القرن الرابع الهجري، حين بدأ هؤلاء الطبيعيون في التميز كفئة، أو كدائرة من الدوائر التي ارتسمت حول الوحي، في هذا القرن آمن بحيوية الطبيعة والتنجيم الطبيب العالم أبو بكر الرازي، وكان إيمانه بالغ الحماس. لقبه المتكلمون بالملحد الكبير الخارج عن الروح الإسلامية، والحق أنه «تبنى موقف الحرانيين تبنِّيًا كاملًا.»٢٠ وهم مدرسة ظهرت في حران، انتهت إلى تجسيم الله، ودخلت في إطار الصابئة. وتحمل أقوى تأكيد بحياة الأجرام السماوية، وتصرفها في شئون الطبيعة والحياة والبشر، وتغلغلت في التراث الإسلامي. تأثر بها الكندي وإخوان الصفا — كما بدا فيما سبق — وابن سينا، وينسب إليهما عابد الجابري ما حملته الفلسفة المشرقية من عناصر هرمسية وغنوصية أدت إلى انتقال البيان إلى العرفان.

ويكاد يكون الرازي أكمل تمثيل لتلك الفلسفة الحرانية، أنكر مثلهم المعجزات والنبوة لأن الناس سواسية في إمكان الاتصال بالعالم العلوي، عن طريق تطهير النفس ومفارقة المحسوسات، وقال بقدمائهم الخمسة: الهيولي، والصورة أو النفس، والزمان، والمكان، والحركة وكلها لا متناهية، وكل لا متناهٍ قديم، والخلق من العدم مستحيل. الخلق حدث من اشتياق النفس إلى الهيولي. ابن الرازي يسخر نظرية الفيض ذات الأصول المثالية، لكن التطور النسبي لمنجزات العلوم الطبيعية في عصره عمومًا وعلى يديه خصوصًا، مكَّنه من توجيه نظرية الفيض توجيهًا ماديًّا أكثر.

بصفة عامة، ابتعد هؤلاء العلماء عن طريق المتكلمين، وتلمسوا طريق الفلاسفة. تولوا عن فيثاغورث والفيض، وساروا مع الأرسطية عمومًا وبصفة غير ملزمة، وعلى الرغم من أن اهتمامهم كان بالوقائع المادية وما ينجم عنها من آثار، وعنايتهم فقط بدراسة الطبيعة وظواهرها المادية، فإنهم جميعًا «جاوزوا الطبيعة والعقل والنفس في أبحاثهم، وارتقوا إلى ذات الله فجعلوه العلة الأولى أو الصانع الحكيم الذي تتجلى حكمته، ويتمثل إحسانه في مخلوقاته»٢١ نفس التوجه الإلهي ونفس الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية.
فيستهل البيروني — مثلًا — مبحثًا هندسيًّا خالصًا بأنك إذا تحققت من ماهية الهندسة تعرف نسبة الأجناس والكمية ومقدار المزروع والمكيل والموزون، وما بين مركز العالم في أقصى المحسوس منه … «ثم ترتقي بواسطة التدريب بها من المعالم الطبيعية إلى المعالم الإلهية.»٢٢
ولعل ابن الهيثم المعاصر للبيروني في ذلك القرن الباذخ العطاء — الرابع الهجري — خير من يمثل موقف العلوم الطبيعية، لنلقاه يرفض طريق المتكلمين، ويبرهن على أن دليل حدوث العالم عندهم فاسد. فالعالم قديم أزلي أبدي، لكنه يخضع للخلق المستمر، تمامًا كما رأى ابن رشد. ولابن الهيثم «مقالة في إبانة غلط من قضى أن الله لم يزل غير فاعل ثم فعل.» وأيضًا ينقسم العلم معه انقسامًا ثلاثيًّا إلى رياضي وطبيعي وإلهي. وعن فضل علم الهندسة «فإن به وبالمنطلق يوصل إلى علم الأمور الطبيعية، التي هي الحكمة، ومبادئها وعللها وأسبابها، وإلى علم الأمور الإلهية، ويوقف بذلك على حكمة الله تعالى ذكره، في هيئة السماء والأرض وما بينهما فلزم بذلك الباري الإله تعالى، حكيمًا قادرًا خبيرًا.»٢٣
هكذا تحيط الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية بالطبيعيات الإسلامية من كل صوب وحدب، لتنصب في المتجه الإلهي، حتى انصبت جهود الطبيعيين أنفسهم فيه. لم يعُق هذا حملهم للواء التجريبية طوال العصور الوسطى؛ لأن بحوثهم العلمية — كما أشار برتراند رسل — اتصلت بالوقائع الجزئية دون القوانين الكلية، فضلًا عن الأنساق العلمية؛ أي إنهم كانوا تجريبيين أكثر مما ينبغي.٢٤

كانت الطبيعة بؤرة من بؤر اهتمام المتكلمين، ووضعها الفلاسفة قبل الإلهيات، ثم ظهر الطبائعيون المتكرسون لها، ولكنها كانت في كل حال متجهة نحو الألوهية، مما جعلها قابعة في نظرية الوجود، وبعيدة عن نظرية المعرفة التي هي مجال التنامي والصيرورة والفعالية الإنسانية. لهذا لم يُقدر لها تواصل تاريخي؛ ولهذا أيضًا لم يعنِ الطبائعيون بصياغة أنساق علمية، واقتصرت جهودهم العلمية والإمبيريقية الجادة على صياغة القوانين الجزئية. ولكن — كما هو معروف — كانت هذه الجهود مقدمات ضرورية لنسق العلم الحديث، بحكم التواصل التاريخي لحركية العلم.

وأخيرًا، تجمل الإشارة إلى أن المتجه الإلهي وإن استوجب القطع المعرفي في عصرنا هذا، فإنه صنع الملامح الخاصة للطبيعيات الإسلامية في ذلك العصر الوسيط، فلا هي انساقت مع مادية القبل سقراطيين المتطرفة، ولا مع مادية أرسطو المعدلة، إلى آخر المدى. وعلى الرغم من استفادتها من الفيثاغورية والأفلاطونية والأفلوطينة، أيضًا لم تنسق معها إلى آخر المدى. فهذه فلسفات مثالية تحرم العالم الطبيعي من الوجود الموضوعي. وهذا ما لا يمكن أن تفعله الفلسفة الإسلامية. قد تحرمه من استقلاله، أما وجوده الموضوعي فلا؛ لأن العالم الطبيعي فعلًا متعينًا للقدرة الإلهية. مما يوضح أن العرب أسرفوا في استغلال وتسخير التراث اليوناني، لكن كل هذا في إطار تصوراتهم وثوابتهم الحضارية.

وكان التراث العربي الإسلامي تيارًا مستقلًّا في النظر إلى العالم الطبيعي، استوعب ذينك الطرفين: المادية/المثالية، وتجاوزهما إلى مركب جدلي أشمل. لم يكن محض انتقاء بينهما، أو توفيق لهما مع الشريعة، كان خطوة في طريق تطور الفكر الطبيعي، عرفت كيف تقطعها دون أن تخرج عن إطارها المثالي، وتوجهها اللاهوتي الذي فرضته ظروف العصر.

وأخيرًا نرجو لهذا العرض المقتضب أن يكون قد أبان عن مواطن القوة التي خلقت التراث العلمي العربي الزاخر، مثلما أبان عن مواطن الضعف التي تبرر لماذا كان عرضة للتوقف والانحسار بفعل عوامل عديدة داخلية وخارجية.

١  ألقي في: «الندوة الدولية للتراث العلمي العربي» التي عقدها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة في ٢٢–٢٤ يونيو ١٩٩٦، في إطار الاحتفالات باختيار القاهرة عاصمة ثقافية إقليمية لمنطقة العالم العربي لعام ١٩٩٦.
٢  See: William Leiss, The Domination of Nature, McGill-Queen’s University Press, Monterial, 1994.
وقارن: حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية، جزءان، دار الفارابي، بيروت، الطبعة السادسة ١٩٨٨.
٣  قارن: محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، دار الطليعة، بيروت، ط١، ١٩٨٤، ص١٣٤ وما بعدها، ص٣٤٧ حيث صب الجابري هذه القضايا في الإطار السياسي فقط.
٤  هذا التشبيه مأخوذ من تقسيم الأقدمين علومهم إلى ثلاثة أقسام: علم نضج واحترق وهو النحو والأصول، وعلم نضج وما احترق وهو علم الفقه والحديث، وعلم لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير. أمين الخولي، مناهج تجديد، سلسلة الأعمال الكاملة، ج١٠، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٥، ص٢٢٩.
٥  د. حسن حنفي، دراسات إسلامية، الأنجلو، القاهرة، ١٩٨١، ص١١٠.
٦  حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الفارابي، بيروت، ط٤، ١٩٨١، ص١١ وما بعدها، ص٢٧–٣٠.
٧  ج. دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ١٩٣٨، ص٦٢، ٦٣. وفي منهاج الجاحظ والأبعاد العلمية فيه، انظر الدراسة الرصينة «منهج تفكير الجاحظ» أمين الخولي، مناهج تجديد، م.س. ص٢٦١–٢٨٢.
٨  الجويني (إمام الحرمين عبد الملك)، لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة، تحقيق د. فوقية حسين محمود، المؤسسة العامة للتأليف والنشر، القاهرة، ١٩٦٥، ص٧٦.
٩  د. حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، ج١: المقدمات النظرية، مكتبة مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨، ص١٥٥ وما بعدها.
١٠  الجوهر الفرد حجر الزاوية والممثل الرسمي للطبيعيات الكلامية، وأصوله في المذهب واضحة، حتى إن هنري كوربان يعرِّف الكلام بأنه مدرسة فلسفية تقول بمبدأ الذرة! هنري كوربان، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة عارف تامر ونصير مروة، بيروت، ١٩٦٥، ص١٦٩.
١١  عن تفاصيل الجواهر والأعراض الكلامية، انظر مثلًا: ابن متويه الحسن، التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض، تحقيق د. سامي نصر وفيصل عون، دار الثقافة، القاهرة، ١٩٧٥. رسائل العدل والتوحيد، تحقيق د. محمد عمارة، دار الهلال، القاهرة، ١٩٧١، ج١، ص١٧٠ وما بعدها. أبو رشيد سعيد بن محمد النيسابوري في التوحيد، تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ١٩٦٩. ابن حزم الأندلسي، الأصول والفروع، تحقيق د. محمد عاطف العراقي وسهير أبو وافية وإبراهيم هلال، دار النهضة العربية، ١٩٧٨، ج١، باب الكلام في الأجساد والجواهر والأعراض، ص١٤٦ : ١٧١. وقارن: يُمنى طريف الخولي، الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل، دار الثقافة، القاهرة ١٩٩٥، ص٧٥–٨٢.
١٢  الجويني، لمع الأدلة، ص٧٦.
١٣  أمين الخولي (معد)، معجم ألفاظ القرآن الكريم، ج٥، مجمع اللغة العربية، القاهرة، ١٩٦٨، ص٢٤٠-٢٤١.
١٤  المرجع السابق، ص٢٤٨–٢٤٥.
١٥  انظر: رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط٢، ١٩٥٠، القسم الأول، ص٢٥ وما بعدها.
١٦  أسرف إخوان الصفا بالذات في تمثل نظرية الفيض والاهتمام بها. رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء، دار صادر، بيروت ١٩٥٧، ج٢، الرسالة ٢٢، ص٢٨٧.
١٧  انظر: ابن سينا الشيخ الرئيس، الإشارات التنبيهات، مع شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، ١٩٥٧، القسم الثاني: الطبيعيات. رسائل في الحكمة والطبيعيات، مطبعة الجوائب، قسطنطينية، ١٢٩٨ﻫ.
١٨  لمزيد من التفاصيل: د. يمنى طريف الخولي، الطبيعيات في علم الكلام، ص١٠٣–١٣٠.
١٩  Roshdi Rashed, Concievability, Imaginability and Provability in Demonstrative Reasoning in Fundamenta Scientiae, Vol. 8, No. 3-4 Brazil 1987. P. p. 241–256. P. 242. وانظر الترجمة العربية في يمنى الخولي، في الرياضيات وفلسفتها عند العرب، دار الثقافة، القاهرة ١٩٩٤، ص٧٣.
٢٠  محمد عابد الجابري، نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط٦، ١٩٩٣، ص١٢٩. ويقول دي بور: إن الرازي كان يحارب على أكثر من جبهة، منها جبهة الدهريين، فهو إذن لم يكن ملحدًا كما نعته المتكلمون. انظر: الدفاع النبيل عن الرازي وإيمانه: د. مصطفى لبيب عبد الغني، منهج البحث الطبي، دراسة في فلسفة العلم عند أبي بكر الرازي، دار الثقافة، ص١٩٩٦، ص١٩٥–٢٣٠.
٢١  ج. دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة د. أبو ريدة، ص١٢٨.
٢٢  أبو الريحان البيروني، استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها، تحقيق د. أحمد سعيد الدمرداش، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، سنة ١٩٦٥.
٢٣  الحسن بن الهيثم، ثمرة الحكمة، تحقيق د. عبد الهادي أبو ريدة، بدون ناشر، القاهرة ١٩٩١، ص٣٣.
٢٤  Bertrand Russell, The scientific Outlook, George Allan & Unwin, London, 1934. P. 21-22.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤