الفصل السادس

أول التجديد

من منظور فلسفة العلوم الطبيعيات في علم الكلام الجديد١

نتفق في لقائنا هذا على الهوية الإسلامية، والإطار الإسلامي كمنقذ لنا من الانسحاق الحضاري والضياع الثقافي في طوفان ما نعانيه من تخلف وعوز وتراجع وتمزق وتبعية، شريطة أن يكون إطارًا قادرًا على التلاؤم مع روح العصر المتأزم بإشكالياته الخاصة، والناهض في وجه تحدياته المستجدة. من هذه الفكرة المبدئية البسيطة ينطلق المشروع التركيبي الضخم لإقامة علم الكلام الجديد.

والأطروحة التي أتقدم بها الآن تهدف إلى انضباط وضع الطبيعيات في منظومة علم الكلام الجديد المعاصر لعصر أميز ما يميزه أنه جعل الطبيعة والسيطرة عليها واستغلالها وتسخيرها الحلبة الأولى لمعركة التفوق بين الحضارات. وكان من الضروري جعل فلسفة العلوم المدخل لهذا باعتبارها التمثيل العيني والرسمي، وأيضًا الوحيد للتفكير المعاصر في الطبيعة، إن رمنا قهرًا لتحدياتنا وتقدمًا نريد من علم الكلام الجديد أن يكون الإطار الأيديولوجي له.

ومجرد البحث في علم الكلام الجديد يعني ضمنًا استيعاب وتجاوز علم الكلام القديم، استيعابه لأنه التراث الذي يمثل المخزون النفسي والنسيج الشعوري والبناء القيمي، ثم نتجاوزه لأنه نتج عن ظروف تاريخية انتهت وتخلقت ظروف مباينة تمامًا. إن جدلية الاستيعاب/التجاوز هي القادرة على شق طريق علم الكلام الجديد.

في هذا الطريق السائر قدمًا لن تكون علاقة حاضر علم الكلام بماضيه علاقة اتصال سلبي تجعل الماضي فاعلًا، والحاضر مفعولًا فيه، والأقدمون أوصياء علينا في الإجابة على تساؤلات لم يطرحها عصرهم، ولعلها لم تدُر بخلدهم. وهي أيضًا ليست علاقة انفصال بائن تجعل الحاضر منبت الجذور وكأنه ناشئ عن فراغ. إنها جدلية الانفصال/الاتصال المنبثقة عن جدلية الاستيعاب/التجاوز، ليمثلا الأداة الفعالة في يد علم الكلام الجديد. وتتحول هذه الأداة إلى سلاح ماضٍ قادر على الحسم والإنجاز، إذ يبلغ علم الكلام مركبهما الشامل الذي يعني وضع «القطيعة المعرفية»، وهي تعني أن تنفض اليد تمامًا من مرحلة انتهت، ومن مسلماتها ومصادرها ومناهجها، ونحط الرحال على مرحلة جديدة بمسلمات ومصادرات ومناهج ملائمة لها.٢ من هنا — من الانتقال الجذري إلى مرحلة أو دورة جديدة، نخلص إلى أن القطيعة المعرفية مناظرة لوظيفة علم الكلام الجديد التي أسماها «د. حسن حنفي» الانتقال من التنوير إلى التثوير أو من العقيدة إلى الثورة، خصوصًا إذا أخذنا الدلالة السيمانطيقية للفظ الثورة في أصوله اللغوية الإنجليزية، لا العربية، حيث تعود ثورة إلى ثار بمعنى هاج وماج. أما في الإنجليزية فتعني Revolutionary ثوري جذري ودوار، ثورة Revolution، وأيضًا دورة كدورة الجرم السماوي في مداره، نجد مصطلح الثورة لا يجعل الرفض هياجًا انفعاليًّا ومفاجئًا، بل هو تقدم مكثف شديد الفعالية، انتقال جذري إلى مرحلة أعلى آن أوانها، لانتهاء المرحلة السابقة واستنفاد مقتضياتها.٣ وهذا هو المنشود من علم الكلام الجديد.

إذن نخلص إلى وضعية لهذا العلم مسلحة بالقطيعة المعرفية. على أن القطيعة المعرفية الآتية عبر الطريق الجدلي من المفاهيم الأساسية في فلسفة العلوم المعاصرة. فهكذا ابتدعها «باشلار» ليبلور الوضع التقدمي بعد ثورة العلم العظمي في مطالع القرن العشرين، ثورة النسبية والكوانتم والفيزياء الذرية التي قوضت عالم نيوتن الميكانيكي، ومسلمات الفيزياء الكلاسيكية، وانطلقت بمفاهيم ومناهج مناقضة تمامًا لتتضاعف معدلات التقدم العلمي في متوالية. من هنا تمثل القطيعة المعرفية أداتنا للربط، بل والتفاعل بين طبيعيات علم الكلام وفلسفة العلوم.

وتجد القطيعة المعرفية لعلم الكلام الجديد بيانها وإعلانها في أن الهدف من العلم القديم، والغاية التي يجتهد كي يصلها هي إثبات العقيدة. وقد حُسمت هذه القضية، وانتهى زمان أو على الأقل خطر اللجاج فيها من قبل العقائد المخالفة، وأصبح الوضع معكوسًا في مرحلتنا الحضارية، فالعقيدة المثبتة هي نقطة البدء التي يسلم بها ويسير على أساسها علم الكلام الجديد. وبعد أن كان الإنسان والعالم المخلوق فيه مقدمة لإثبات وجود الله الواحد أصبح الله الأحد والعالم الخالق إياه مقدمة مثبتة نجاهد كي ننتهي منها إلى إثبات حضور الإنسان المسلم في تيار التاريخ. على هذا الأساس يتحدد موضوع الطبيعة في علم الكلام الجديد.

بداية، الدليل — أي دليل — هو معرفة أي إبستمولوجيا. ولكن لأن دليل الحدوث أهم الأدلة على وجود الله، والحادث هو الجسم الطبيعي فقد احتلت الطبيعيات مكانًا فسيحًا في علم الكلام القديم، بوصفها صلب نظرية الوجود.٤ وفي مرحلة اكتمال العلم في القرنين السابع والسادس الهجريين بلغت نظرية الوجود نصف العلم، وتضم مباحث المبادئ العامة والجواهر والأعراض، لا سيما الأخيرين، فهما بنية الوجود والقطاع الأعظم من نظرية الوجود الحاوي للطبيعيات إثباتًا لوجود بارئها الأحد.٥

هكذا رسم المتجه الإلهي طريقًا سائرًا من المعرفة إلى الطبيعيات إلى الإلهيات، أو من الإبستمولوجيا إلى الأنطولوجيا إلى الثيولوجيا، فتقوقعت الطبيعيات في قلب الأنطولوجيا — نظرية الوجود — وانقطعت الصلة أو كادت بينها وبين الإبستمولوجيا — نظرية المعرفة — التي تكرست للاستدلال على العقائد وإثباتها.

وها هنا في أنطولوجية الطبيعيات الكلامية تكمن المهمة التي توجب القطيعة المعرفية، فثمة خطر يتمثل في أن الطبيعيات المعاصرة؛ أي النظريات الفيزيائية ذات دلالة أنطولوجية أي وجودية، أو منصبة على الوجود، فالتحقق الواقعي للفرض والإنصات لوقائع الوجود هو ما يميز العلم التجريبي الحديث. فهل سندخل في لجاج حول التقارب والتلاقي الأنطولوجي بين الجانبين. إن هذا يجعلنا ننشغل بالمحتوى المعرفي والمضمون الإخباري للنظريات، في حين أن المحتوى في نسق العلم يمثل المتغير الخاضع دومًا للاختبار والتكذيب والتصويب، ومن ثم التقدم العلمي المتتالي، مما يجعل العلم بناء صميمًا طبيعته الصيرورة والتغير، والبقاء فقط للمناهج القوية المثمرة الولود لكل ما يترى من تغير وتقدم. إن البقاء للجهاز الإبستمولوجي — أي المعرفي — الذي هو موضوع فلسفة العلوم.

فلنستوعب من تراثنا كيف يبزغ التفكير الطبيعي العلمي من ثنايا الفكر والإطار الديني،٦ ثم نتجاوزه محدثين القطيعة المعرفية للطبيعيات القديمة كي نتمكن من نقل المبحث برمته من الأنطولوجيا إلى الإبستمولوجيا، لتغدو الطبيعيات موضوعًا لجهاد العقل العلمي الضاري والنبيل في طريق التقدم المستمر. فبهذا تضطلع بدورها في إثبات حضور الإنسان المسلم.

ولكن نظرية علم الكلام الجديد أو جهازه الإبستمولوجي هو في جوهرة تخطيط أيديولوجي. فهل سننقل الطبيعة من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا. إن التفكير العلمي الطبيعي له جهازه الإبستمولوجي الخاص به والمطروح في فلسفة العلوم؛ والمطلوب أن نبحث عن حلقة الوصل بينه وبين نظرية علم الكلام الجديد لينضبط وضع الطبيعيات في منظومته.

ويمكن أن نجد هذا في منطوق تعريف حسن حنفي للعلم تعريفًا فينومينولوجيًّا بوصفه دراسة بنائية فلسفية للإنسان من حيث هو إنسان، وتحليل أبعاده ووصف وجوده، فما يحدث في العالم الخارجي لا يمكن فهمه ومعرفته إلا من خلال الإنسان.

وهنا هنا نجد حلقة الوصل والمدخل المفضي إلى أحدث التطورات في فلسفة العلوم الطبيعية ومناهجها. فقد انهار المنهج الاستقرائي الذي يقوم على الملاحظة ثم تعميمها في فرض واختباره. ولا حاجة إلى الإنسان المبدع الخلاق، وأصبح المنهج المعاصر هو المنهج الفرضي الاستنباطي الذي يهبط من الفرض إلى وقائع التجريب، فلن يبدأ البحث العلمي إلا بفرض يبدعه العالم الموهوب، يتلوه فرض آخر أنجح وهكذا في متوالية التقدم. فليس العلم اكتشافًا لحقائق مطلقة، بل محض سلسلة من فروض ناجحة.

كما يقول «هيزينبرج» النظريات الفيزيائية المتوالية حلقات في سلسلة الحوار بين الإنسان والطبيعة. وإذا كان عالم نيوتن آلة ميكانيكية تسير في مسارها المحتوم وفقًا لقوانينها المطرودة بفعل عللها الداخلية في مكان وزمان مطلقين بإزاء أي مراقب في أي وضع كان، لتختفي فعالية الذات الإنسانية، بل ووجودها، تحقيقًا لموضوعية موهومة، فإن عالم النسبية ليس هكذا البتة، ولا بد من خلق أو على الأقل تحديد منظور وسرعة المراقبة. ولا تتأتى الملاحظة أصلًا في عالم الكوانتم (الكمومية) بغير فرض يبدعه العقل ويستنبط منه وقائع الملاحظة. وهكذا أدرك العلم المعاصر أنه نشاط إنساني بحت، وأصبحت فصول المسرحية العلمية تنبثق من قلب الواقع الإنساني بحدوده المعرفية، من خلال الإنسان. إن العلماء — كما أشار نيلز بور — ليسوا فقط المراقبين أو المشاهدين، بل هم أيضًا الممثلون والمخرجون والمؤلفون لملحمة العلم،٧ فحق قول مارجوليس إن العلوم الفيزيائية محض مغامرة إنسانية.٨

فهل يستطيع علم الكلام الجديد أن يفسح لنا الحلبة ويلقي في روعنا العزائم والجسارة لخوض أمثال هذه المغامرات؟

١  ألقي في ندوة «نحو علم كلام جديد» التي عقدتها الجمعية الفلسفية المصرية بالاشتراك مع أقسام الفلسفة بالجامعات المصرية، من ٢–٤ ذي الحجة ١٤١١، الموافق ١٥–١٧ يونيو ١٩٩١ في كلية أصول الدين، وتحت رعاية شيخ الأزهر. وهذه الورقة تحوي تخطيطًا عامًّا ونظرًا للعوامل التي ذكرتها في المقدمة، عكفت بعد ذلك على تطويرها وتنقيحها حتى خرجت المعالجة المتكاملة في كتابي «الطبيعيات في علم الكلام».
٢  لتوضيح مفهوم القطيعة المعرفية، انظر: غاستون باشلار، العقلانية التطبيقية، ترجمة د. بسام الهاشم، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، ١٩٨٧، ص٥١٨٧ وما بعدها.
٣  أبو بكر الرازي، مختار الصحاح، المطبعة الأميرية، القاهرة، ١٩٠٥، ص١٠٤. والمقري الفيومي، المصباح المنير، المطبعة الأميرية، القاهرة، ص٥٥٢. ولمفهوم الثورة كمقولة علمية: Bernard Cohen, William whewell and The Concept of Scientific Revolution, in: Essays in Memory of Imre Lakatos, ed. By R. S. Cohen & P. K. Feyerabend & M. W. Wartofsky, Boston studies in the philosophy of Science, Vol. 19, D. Reidel Publishing Co. Dordrecht, Holland, 1976. P. 55.
٤  انظر مثلًا: النيسابوري «أبو رشيد سعيد بن محمد»، في التوحيد، تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة ١٩٦٩. ص٤٥٧ وما بعدها. الإمام يحيى بن الحسين، رسائل العدل والتوحيد، تحقيق د. محمد عمارة، الجزء الأول، دار الهلال، القاهرة، ١٩٧١. ص١٧٤ وما بعدها.
٥  لما كانت الطبيعيات في علم الكلام قد انحلت إلى جواهر وأعراض، فإن أفضل عرض لها: ابن متويه «الحسن»، التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض، تحقيق د. سامي نصر لطف الله ود. فيصل بدير عون، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٧٥.
٦  د. حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، المجلد الأول: المقدمات النظرية، مكتبة مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨. ص٦٢٧-٦٢٨.
٧  فيريز هيزبنزج، الطبيعة في الفيزياء، ترجمة د. أدهم السمان، دار طلاس، دمشق، سنة ١٩٨٦. ص٢١. ولتفصيل هذا الانقلاب في طبيعة التفكير العلمي ومفهوم المنهج العلمي، انظر: د. يمنى الخولي، العلم والاغتراب والحرية في مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ١٩٨٧. الفصلين الخامس والسادس.
٨  Maragolise, Joseph, Science without Unity: Reconciling the Human and Natural Sciences, Basil Blackwell, Oxford, 1987. P. 17.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤