الخاتمة

لا بدَّ من هذا الإقرار أن الوهن المسيطر على الفلسفة العربية عمومًا، وعلى فلسفة الرئيس خصوصًا، ناجم عن نقصٍ في الثقافة والتفكير الطليق، فأساس الفلسفة العربية الفلسفة اليونانية، لا بل إن الفلسفة العربية ليست سوى شرح للفلسفة اليونانية، وهل يستطيع إنسان أن يشرح مؤلَّفًا أعجميًّا ويفك معضلاته دون أن يطالع كتابه في اللغة التي كتبه فيها؟!

هذا ما لا نظنه؛ فالفلاسفة الأعارب قد حاولوا شرح الفلسفة اليونانية دون أن يكون للأكثرية الساحقة منهم أدنى إلمام باليونانية، فضلُّوا سواء السبيل وخبطوا خبْط عشواء؛ لأنَّ الترجمات التي عوَّلوا عليها في شروحاتهم كانت مشوَّهة ممسوخة؛ ولذا أتت فلسفتهم في الغالب مبتورة مفكَّكة الأوصال.

لقد كان لزامًا على هؤلاء الحكماء أن يدرسوا اليونانية قبل أن يقتبسوا من حكمائها ويُعلِّقوا عليهم. وهذا لم يكن صعبًا عليهم؛ لأن أغلب أساتذتهم السريان كانوا يتقنون تلك اللغة العلمية الجميلة، بيد أنَّ العربي من طبيعته ينفر من الجهود العقلية، ولا يصبر على كبت رغائبه؛ ولذلك خسر كثيرًا، واستحق الملامة والعذْل.

والشيء الثاني الذي أعاق الفلسفة العربية عن التحليق في سماء الإبداع، هو خلْط الفلاسفة بين الفلسفة والدين، فلقد سها بَالُهم عن أنَّ الدين مصدره الوحي، والفلسفة لا تؤمن إلا بالعقل المجرَّد، ولو كانوا توقَّفوا عند توفيقهم بين الفلسفة والدين لكانت المصيبة محتملة، ولكنَّهم أرادوا أن يُخضعوا الحقائق الدينية للنور الطبيعي، لا بل إنهم في بعض الأحايين قد أفرغوا وسعهم في رفع الحقيقة الفلسفية إلى مستوى أعلى من الحقيقة الدينية كما صنع ابن رشد؛ ولهذا باءوا بالفشل.

نحن لا ننكر أن فلاسفة المغرب قد طرقوا هذا الموضوع، إلا أنهم توقَّفوا أخيرًا إلى وضع حدٍّ فاصلٍ بين العقل والدين، فميَّزوا أولًا بين العقل والوحي، ثم أبانوا أن العقل السليم لا يناقض الوحي، كما أنه لا يستطيع إثبات أسراره إثباتًا لا مردَّ عليه، فتراث الفلسفة الكامل يؤخذ من العقل؛ أي إن الفلسفة لا تُسَلِّم إلَّا بما يقر النور الطبيعي، ويقيم البرهان على وجوده. أما الدين فهو بعكس ذلك يقوم على الوحي؛ أي على كلام الله؛ فالعقائد التي لا يستطيع العقل إدراكها واردةٌ في كلم وعبارات لا تتمكَّن قوى الإنسان بذاتها أن تسبر كنهها، إنما يجب علينا أن نؤمن بها إيمانًا يسهِّله العقل؛ فالفيلسوف إذن يُفتِّش دائمًا عن مبادئ برهانه في تضاعيف العقل، واللاهوتي يحوِّل أنظاره في برهنته إلى الوحي.

هذا هو الفرق القائم بين العقل والوحي، وهذه هي الحدود التي تفصل بين الفلسفة والدين، أما أكثر فلاسفة العرب فإنهم مع كل أتعابهم لم يتوصَّلوا إلى هاته النتائج الحكيمة.

•••

إن فلسفة ابن سينا بمجمل تقسيمها لا تختلف أبدًا عن تقسيم أرسطو؛ ولذا نراها آخذةً بعضها برقاب بعض، ولكن إذا أُخذت كل نظرية بمفردها فقلَّما تلمس تشابكًا محكَمًا بينها وبين تاليتها.

يدرس الرئيس أولًا المنطق فيحلِّله بحسب خطة أرسطو والشارح بورفير، ثم يبدأ بالطبيعيات فيلقي عليها نظرات سطحية تلائم معارف بيئته وعصره، وعلم النفس عند الشيخ لا ينقل عن الطبيعيات؛ بل هو جزءٌ من أجزائها، وفيه يتكلَّم عن الأنفس النباتية والحيوانية والعاقلة، متطرِّقًا إلى قواها وميزاتها، ويتلو درس النفس تحليل للعقل وسائر الإدراكات، ورغم الدرس العميق فإننا لم نجد تمييزًا أساسيًّا بين النفس والعقل كما أشار كارا دي فو في كتابه أساطين الفكر الإسلامي (ص٣٣)، وبعد أن يدرس العقل البشري ينتقل إلى الموجود أو العلم الكلِّي، فيبحث فيه الموجود المطلق والموجود النسبي بطريقةٍ مطلقة والعقول الصادرة عن الأول ببراهين وبينات استقرائية بصورة تُقرِّب من الأسلوب الرياضي، وأخيرًا يُكلِّل فلسفته بالأبحاث الزهدية التي لم يمارس منها شيئًا، ولم يكتبها إلا حبًّا للكتابة فقط.

إنَّ فضل ابن سينا الوحيد على العلم هو أنه جمع في صدره شتات الحكمة والطب، وهضم نتاج المفكِّرين الأقدمين بقدر ما سمحت له الظروف، وزاد عليها ورقاها كما رأيت فيما قلناه سابقًا.

جاء الشيخ الوجود في منتصف ازدهار العلوم العربية؛ فأفرغ ما ولدته العقول العربية، وما نقلوه عن الأمم الغربية من الآراء والاختبارات في العلم والفلسفة والطب، ورتَّبها في موسوعات وكتب ورسائل منظَّمة تنظيمًا منطقيًّا دقيقًا لا غبار عليه في أكثر الأوقات، فعاشت تعاليمه أدهارًا، وذاع ذِكرُه بين علماء المشرق والمغرب، ودرست مؤلَّفاته ومحصت، وحكم عليها الشهرستاني بما يلي:
طريقة ابن سينا أدق عند الجماعة، ونظره في الحقائق أغوص.١

نحن لا ننكر أنَّ ابن سينا قد أخذ معظم نظرياته الفلسفية عن الفارابي، إلا أنَّ الفارابي قد أجمل القول إجمال المُمَهِّدين، والرئيس فصَّل كلامه تفصيل الشارحين؛ فزاده وضوحًا وتقريبًا من الأذهان وصقلًا ونحتًا، حتى إنه بهذه المحسِّنات الخارجية حجب بصيته وشهرته اسم السابق والممهِّد، واستحق أن يسمِّيه الشهرستاني «علَّامة فلاسفة العرب».

•••

وقبل أن أمسحَ القلم لا أرى بدًّا من الإشارة إلى حُكمٍ على ابن سينا تجرَّأ عليه به ابن سبعين الأندلسي، مع أنَّ هذا الحُكم بمجمله بعيدٌ عن الحقيقة؛ فإننا نورده هنا تفكهة للمُطالع؛ وليعرف ما يولِّده التحامل، قال:
إن ابن سينا مموِّهٌ مسفسطٌ كثيرُ الطنطنة قليلُ الفائدة، وما له من التأليف لا يصلح لشيء، ويزعم أنه أدرك الفلسفة المشرقية ولو أدركها لتضوَّع ريحها عليه … والشفاء أجلُّ كتبه، وهو كثير التخبُّط، مخالفٌ للحكيم، وأن خلافه له لممًا يُشكر عليه؛ فإنه بيَّن ما كتبه الحكيم، وأحسن ما له في الإلهيات «التنبيهات والإشارات»، وما رمزه في «حي بن يقظان»، وما ذكره فيها هو من مفهوم النواميس لأفلاطون وكلام الصوفية.٢

من كلِّ ما قلنا ينتج أن الفلسفة العربية هي فلسفة امتصاص وامتزاج عقلي؛ لأنَّها جميعًا تقريبًا مقتبسة من القديم، كما أنَّ فلسفة الشيخ الرئيس ليست برمَّتها مغلوطة؛ بل إن فيها الجيِّد والرديء، أمَّا القضايا الصحيحة التي لا تزال تُلقَّن في كليات أوروبا الكاثوليكية فأهمها الآتية: حالات الجواهر الثلاثة؛ قبل الكثرة، وفي أثناء الكثرة، وبعد الكثرة، والتمييز التام بين الوجود والجوهر في الكائنات المحدودة، وحدوث النفس وخلودها، ونظرية الإمكان والوجوب، وأقواله في الخير والشر، وغير ذلك مما يطول بنا شرحه.

عسى اليوم يتحرَّر الفكر العربي من عقاله، ويعطي العالم فلاسفة أفذاذًا نابغين، والسلام.

١  انظر كتاب الملل والأهواء والنحَل، جزء ٣، ص٩٣.
٢  راجع كتاب ماسيون الآنف الذكر، ص١٢٨ وما يليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤