الفصل العاشر

هل أقرَّ ابن سينا بأن الله يعرف الجزئيات؟

أم حَصَر معرفته تعالى في الكلِّيَّات فقط؟

انقسم مؤرِّخو فلسفة ابن سينا فئتين؛ فئة تقول بأن ابن سينا أنكر على الله معرفته للجزئيات، وأثبت أن معرفته لا تتعدَّى إلى الكليات، وفي طليعة هذه الفئة الصارمة الغزالي الشهير، لا بل إن بعض النقَّاد غَالَى في هذا الأمر وقال: إذا خُيِّل لأحد أن الرئيس يبرهن في بعض الأحايين على أن الله يعرف الجزئيات، فيجب شرح وتطبيق هذه البينات شرحًا وتطبيقًا يلائم مقتضيات نظريته الصدورية.

والفئة الثانية تناقض الأولى على طول الخط، وتفرغ وسعها لتُظهر أرسطو الإسلام بمظهر المتديِّن الورِع، وتُبرهن على أنه قد أعلن أن الله يعرف كل ما في السموات والأرض حتى أدق الجزئيات، ولعلَّ أشد النقاد العصريين حماسةً في إثبات هذه القضية المطران نعمة الله أبو كرم الماروني في المقدمة التي علَّقها على الترجمة اللاتينية لإلهيات النجاة، وأصدرها مطبوعةً عن رومية ١٩٢٦.

أما نحن فإننا نميل إلى شرح كلام الشيخ شرحًا مبنيًّا على الإمعان والرويَّة، موضِّحين أن المسألة لا يمكن أن تتفق تمامًا مع هذين التخريجين، وإذا كانت الطرق التي نهجها ابن سينا في تقرير نظريته تفتقر إلى المنطق الموزون والوضوح السديد، فهذا ليس معناه أنه أنكر على الله سبحانه معرفته للجزئيات، كما أنه ليس معناه أيضًا أنه سلَّم بهذا الأمر.

•••

يَعتبر ابن سينا أن التسليم بأي تركيب أو تعدُّد في واجب الوجود هو من الجهل بالمكان الأعلى، ومن جهةٍ أخرى يعتقد أن الله «يعقل كل شيء، ولا يعزب عنه شيء شخصي، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات، ولا في الأرض. وهذا من العجائب التي يحوج تصورها إلى لطف قريحة.»١ إذن إن الصعوبة عند كل من يسلِّم بهذا هي في التوفيق بين البساطة السامية، وإدراك الأمور الجزئية في واجب الوجود.

في حلِّ هذه المسألة العويصة يثبت الشيخ أنه لا يجوز أن يعقل الله الأشياء من الأشياء؛ لئلا تكون ذاته إمَّا متقوِّمة بما يعقل؛ وبالتالي يكون تقوُّمها بالأشياء، وإما عارض لذاته أن تعقل فلا تكون واجبة الوجود من جميع نواحيها.

ولكن هل يَعقل واجب الوجود الأشياء بصورتها الذهبية؟

عن هذا يجيب فيلسوفنا بالإنكار أيضًا؛ لأن هذه الصورة الذهبية تتغيَّر «عقلًا زمانيًّا متشخِّصًا»، فيكون الله متغير الذات، فضلًا عن أن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما ندركها من حيث هي محسوسة، ونتخيَّلها بآلة متجزئة؛٢ لأن هذه المعرفة تأتي إلينا من الخارج، والخارج يتغيَّر بتغير الزمان والمكان، الأمر الذي لا يمكننا أن نسلِّم بوجوده في الله سبحانه وتعالى، وقبل أن يختم ابن سينا كلامه في هذا الخصوص يقول: «كما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقضٌ له، كذلك إثبات كثير من التعقلات.»٣

إذن كيف يستطيع الله أن يعرف الجزئيات؟

إن الرئيس يشرح ذلك شرحًا لذيذًا لا ينقصه الابتكار والتفرد بالرأي، فبعدما نفى عن الباري كل تعدد وكل امتزاج بالخلائق قال ما معناه: أمَّا كيف يَعقل واجب الوجود الأشياء؛ فإنه إذا عقل ذاته، وعقل أنه مبدأ كل موجود، عقل أوائل الموجودات وما يتولَّد عنها، ولا يوجد شيء من الأشياء إلا بأمره وإذنه، وعليه فإذا كان واجب الوجود يعلم الأسباب ومطابقاتها فيعلم ضرورة ما تتأدى إليه وما بينها من الأزمنة، وما لها من العودات؛ لأنه ليس يمكن أن يعلم تلك ولا يعلم هذه، فيكون مدركًا للأمور الجزئية من حيث هي كلية، أعني من حيث لها صفات، وإن تخصَّصت بها شخصًا فبالإضافة إلى زمان متشخِّص أو حال متشخِّصة.٤

ظهر إذن مما سبق أن الرئيس يعتقد أن الله يدرك الجزئيات، ولكن من ذاته الشاملة ومن أسباب الجزئيات عينها.

•••

بَقِي علينا أن نوضِّح علاقة العقل الإلهي البسيط كذاته بالأشياء المركَّبة والمتعددة القابلة القبْلية والبعْدية. ويلوح لأول وهلة أن ابن سينا يبذل وسْعه لكي يحلَّ هذه المسألة كما حلَّ السابقة.

إن واجب الوجود في نظر فيلسوفنا بمقدار ما يعرف ذاته معرفةً كاملةً يعرف الأشياء معرفةً كاملةً، وإذا سلَّمنا بهذا يلزمنا أن نُسلِّم أيضًا بكونه تعالى يعرف صفاته وكمالاته معرفةً كاملةً؛ وبالتالي يعرف فعله وقوته.

وغنيٌّ عن البيان أن ابن سينا يردِّد في إلهياته أن الله هو المبدأ الأول للموجودات بأسرها، وأن قوته وفاعليته تمتدان إلى كل درجة من درجات الحقيقة؛ فإذن يلزم أن تمتدَّ معرفته إلى كل درجة من درجات الحقيقة.

وإذ قرَّر أن الله يعرف الأشياء بمقدار ما يعرف ذاته؛ نظرًا لكونه يعرف فعله وقوته، نراه يضيف على ما تقدَّم مبرهنًا أن الله هو مبدأ جميع الأشياء، ولكن ليس كل الأشياء تصدر عنه بنظام واحد؛ بل بعضها يشتق عنه مباشرةً والبعض الآخر بواسطة، وخصوصًا الموجودات الفاسدة فإنها تصدر عن البسائط غير الفاسدة، فينتج من ذلك أن الله يرى في ذاته قبل كل شيء المخلوقات التي لا تقبل الانحلال، ويرى المخلوقات أو الموجودات التنويه بالأغيار؛ أي بعللها الخاصة، وبعبارةٍ أدق: إن الله يعقل البسائط بذاته؛ لأنه عقْل وعاقل ومعقول جوهري، وبما أن الأشياء المركَّبة تصدر عن البسائط، وهو تعالى يعرف البسائط معرفةً تامَّة، بان أنه يعرف المركَّبات بعللها الخاصة التي هي البسائط. وهذا كما لا يخفى تحليل عميق؛ ولكي يقرِّب نظريته هذه من الأفهام يضرب للدارس مثلًا غريبًا، وهو:
افترض أن زيدًا من الناس عالم نابغة يعلم الحركات السماوية كلها بمقدرة تفوق الوصف، فهو بالوقت نفسه يعلم كل كسوف وكل اتصال وانفصال جزئي يكون بعينه، ولكن على نحوٍ كليٍّ، فيخبرك بالكسوف الفلاني قبل حدوثه بزمان طويل، ولا يبقى عارضًا من عوارض ذلك الكسوف إلا يعلمك إياه، فعندئذٍ يكون علمه كليًّا؛ لأن هذا المعنى قد يجوز أن يحمل على كسوفات كثيرة كل واحدةٍ منها تكون حاله تلك الحال، إلا أنَّه يعلم بنوع ما أن ذلك الكسوف لا يكون إلا واحدًا بعينه، فيكون أن فيلسوفنا يبني نظريته هذه على هذا المبدأ: «إذا وقعت الإحاطة بجميع الأسباب في الأشياء ووجودها انتقل منها إلى جميع المسببات.»٥

إن العقل النظري في الإنسان هو السبب الوحيد للعقل العملي والإرادة هي التي تُحرِّك أعضاءنا للعمل، فتكون القوة غير الإرادة فينا.

أما واجب الوجود فليس محتاجًا إلى شيء من ذلك؛ لأن عقله وإرادته وعلمه وصفاته هي ذاته. من هذا ينتج:

أن القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلًا هو مبدأ للكل لا مأخوذًا عن الكل، ومبدأ بذاته لا متوقِّف على وجود شيء. (نفس الصفحة)

وهذا حقيقي؛ لأن الله يعرف ذاته ووجوده وما هو مبدأ له حتى إنه يرى وجوده فائضًا في الوجود؛ فإذن الله يعرف بجوهره؛ لكونه العلَّة الأولى الشاملة نظام الموجودات بأسرها وفيض جوده فيها.

•••

وبعد هذا نرى من المناسب أن نأتي على رأي القدِّيس توما في هذا الموضوع نفسه؛ لنعلم أن بين هذين الفيلسوفين اتفاقًا على بعض المبادئ الأولية؛ ولنطلع أيضًا على غموض وإسهاب الفيلسوف العربي ووضوح وإيجاز الفيلسوف اللاتيني، ولعلَّ هذا راجع إلى عقلية الاثنين التي تختلف عن بعضها اختلافًا شاسعًا.

إن ابن أكوينيا في المجلَّد الأول من خلاصته اللاهوتية (بحث ٢١٤) قد كرَّس الفصل الحادي عشر لدرس هذه المسألة، وبعد أن أورد الصعوبات التي تقف سدًّا بوجه الباحث على جاري عادته في تلك الخلاصة المنقطعة النظير، أخذ يبرهن على أن الله يعرف الجزئيات:
  • (١)

    إن الله يعرف الجزئيات؛ لأن جميع الكمالات الموجودة في المخلوقات موجودة وجودًا سابقًا في الله على وجهٍ أعلى، ومعرفة الجزئيات كمال لنا؛ فإذن من الضرورة أن الله يعرف الجزئيات.

  • (٢)

    إن الكمالات المتقسِّمة في الموجودات السفلى موجودة في الله على حال البساطة والوحدة؛ فإذن وإن كُنَّا ندرك بقوة الكلِّيَّات والمجرَّدات، وبقوة أخرى الجزئيات والماديَّات، إلا أن الله يدرك الأمرين بعقله البسيط.

  • (٣)

    لمَّا كان الله عِلَّة جميع الأشياء بعلمه، كان علمه مسيطرًا على جميع الأشياء؛ لأنه بمقدار ما هو علَّة للجميع بمقدار ذلك هو عالم بالجميع، ولا يغيب عن معرفته السامية أدنى شيء مما في السموات والأرض وتحت الأرض.

هذه هي البراهين التي أثبت بها القديس توما أن الله يعرف الجزئيات، وهي كما لا يخفى مكينة، عميقة، واضحة، مقنعة، فيكون الاثنان — أي أرسطو الإسلام وأرسطو النصرانية — متفقَين على أن الله بمقدار ما هو علَّة لجميع الموجودات بمقدار ذلك هو عالم بجميع الموجودات، وبعبارة فلسفية محكَمة: عموم علم الله على قدر عموم علِّيته.

أما في بيان كيفية ذلك فقد اختلفا؛ لأن القديس توما يبرهن على أن تحليل ابن سينا غير كافٍ وبراهينه غير وافية؛ لأن الجزئيات تستفيد من العلل الكلية صورًا أقوى مهما تقارنت بعضها ببعض لا تتشخَّص إلا بالمادة الشخصية، وعلى هذا لو عرف فلكيٌّ جميع الحركات الكلية التي في السماء فينتج أن الكسوف من حيث هو كسوف لا يعرفه؛ فإذن على الوجه المذكور يلزم أن الله ليس يعرف الجزئيات في جزئيتها، وبمثال آخر: لو عرف عارف أن بطرس ابن زيد، فلا يعرفه على هذا النحو من حيث هو هذا الإنسان، وكذلك فإن الله لو عرف الجزئيات في عللها؛ فإنه لا يعرفها في جزئياتها — أي من حيث هي هذه.

وبعد أن بيَّن القديس توما عدم كفاءة نظرية ابن سينا في كيفية معرفة الله للجزئيات أخذ يشرح نظريته بإيجاز لطيف ووضوح أخَّاذ، هاك ألفاظه معرَّبة على أصلها اللاتيني:

لمَّا كانت قدرة الله الفاعلية تعم لا الصور التي منها تستفاد حقيقة الكلي فقط بل المادة أيضًا … كان من الضرورة أن علمه يعم أيضًا الجزئيات التي تتشخص بالمادة؛ لأنه لمَّا كان يعلم الأشياء المغايرة له بماهيته من حيث إن ماهيته هي شبه الأشياء أو مبدؤها الفاعلي، فمن الضرورة أن تكون ماهيته مبدأً كافيًا لمعرفته جميع مصنوعاته لا بالعموم فقط بل بالخصوص أيضًا، وكذا حكم علم الصانع لو كان علمه مصدرًا للشيء كله لا لصورته فقط.

مما قلناه نستنتج أن النقص المستولي على نظرية ابن سينا متأتٍّ من عقم نظريته الكونية أو الاشتقاقية؛ فالقدِّيس توما يستمد قوة برهانه من أن الله يعرف الجزئيات من قدرته تعالى الشاملة البسائط والمركَّبات. أما ابن سينا فإنه قد استمدَّ أيضًا قوة برهانه من قدرة الله القدوسة، ولكن بما أن قدرته لا تعم في نظره المركَّبات، فقال بكون الله يعرف الجزئيات من البسائط التي هي علل المركَّبات أو الجزئيات الخاصة. وهذا هو الوهن الوحيد المسيطر على هذه النظرية التي لا تنكر معرفة الله للجزئيات؛ ولذا لا يجوز لكل مفكِّر منصف أن ينسب إلى الرئيس أمير فلاسفة المشرق كونه أنكر على الله معرفته للجزئيات، كما أنه أيضًا لا يجوز له أن يثبت كون ابن سينا أقرَّ معرفته تعالى للجزئيات إقرارًا لا يشوبه زلل، ولا يعتريه إبهام.

هذا ما عنَّ لنا إبداؤه من الرأي في هذه المسألة الدقيقة، فعسى أن نكون قد أدَّينا بعض الخدمة!

١  النجاة، ص٤٠٤.
٢  النجاة، ص٤٠٤.
٣  نفس المصدر والصفحة.
٤  النجاة، ص٤٠٤.
٥  النجاة، ص٤٠٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤