الفصل التاسع

كيف أثبت ابن سينا حدوث الكون

ما هو نصيب نظريته من الصحة؟

الكون ما أبهاه مجملًا ومفصَّلًا!

كل شيء فيه يذكِّي العقل، وينمِّي المعارف، ويُحيِّر الألباب، ولا آخذ بالقلوب مثل تعاليمه!

لكن هل هو قديم أم حديث؟

وإذا كان حديثًا فكيف خلقه الله؟

أسئلة عويصة أشغل الجواب عنها من جملة من أشغل، علماء ما وراء الطبيعة منذ ظهور هذا العلم إلى الوجود، وهي نفسها قد جالت في رأس ابن سينا، وأهابت به لكي يحاول الإجابة عليها علميًّا.

(١) وضعية الرئيس

قبل كل شيء يجب إيضاح لفظتي قديم وحديث كما يفهمهما أرسطو الإسلام؛ فالقديم على ضربين: بحسب الذات وبحسب الزمان، إن القديم بحسب الذات هو الذي ليس لذاته مبدأ هي به موجودة، والقديم بحسب الزمان هو الذي لا أول لزمانه، والحديث أيضًا على وجهين: أحدهما هو الذي لذاته مبدأ هي به موجودة، والآخر هو الذي لزمانه ابتداء، وقد كان وقت لم يكن فيه،١ فأرسطو كان يعتقد أنَّ العالم قديم يثبت إلى الأبد، وأن الحركة فيه أزلية كالزمان إلا أنها تفتقر إلى محرِّك رئيسي يدفعها إلى العمل، وقدمية العالم ليست بحسب الذات بل بحسب الزمان؛ أي لا أول لابتدائها، فيتبع ذلك أنَّ العالم بحاجة في قدمه إلى مبدأ يستند إليه، إلى فعلٍ محض لا قوة فيه، إلى محرِّك أول يحرِّكه ولا يتحرَّك معه؛ لأنه إذا تحرَّك انتقل إلى الشر، الأمر الذي نُنَزِّه الله عنه.

تجاه هذا الرأي الذي تأثَّر به الشيخ الرئيس كثيرًا نرى الدين الإسلامي كالدين المسيحي من هذا القبيل، يقول بأن الله تعالى برأ العالم من العدم وأبدع كل شيء في إبداعًا فعليًّا.

وقف ابن سينا حيال هذين الجوابين وحار في إبداء رأيه: إن اتبع رأي الفيلسوف بعجره وبجره ابتعد عن أصول الدين وصار متزندقًا، وإن اتبع قول القرآن ناقض معلِّمه الفيلسوف الذي — كما يقول الشهرستاني: «كان يتعصَّب له، وينصر مذهبه ولا يقول من القدماء إلا به.»٢ وسار على خطة المتكلِّمين، وابتعد عن حظيرة الفلسفة؛ لأن طريقة المتكلمين جدلية تؤاخذ الخصوم بلوازم مسلَّماتهم،٣ عندئذٍ عزم الشيخ على إتمام المشروع الذي بدأ به أستاذه الفارابي؛ أي الجمع بين الفلسفة والدين، فأخذ مواد المتقدمين وصقلها، ثم سبكها بنظرية عجيبة غريبة.

(٢) أساس نظرية الصدور

أما المبادئ التي عوَّل عليها الرئيس في تقرير نظريته الصدورية Emanation فنوجزها بما يأتي:
  • أولًا: إن الواحد من حيث هو واحد لا يوجد عنه إلا واحد، والحال أن الله تعالى واحد من كل الوجوه كما أنبأ سابقًا؛ فإذن لا يمكن أن يصدر عن الله الواحد إلا واحد، ولا تستثنى من ذلك الوحدة العقلية أيضًا.
  • ثانيًا: إن التعقل في الجواهر المفارقة مقارن للإبداع، فإذا قلنا: إن الجوهر المفارق الفلاني قد تعقَّل شيئًا ما فكأننا نقول إنه قد أبدع ذاك الشيء نفسه.
  • ثالثًا: ما ليس واجب الوجود بذاته يكون ممكنًا بذاته واجبًا بغيره، وبما أنه لا يوجد سوى واجب وجود واحد فينتج أن كل ما هو بمعزل عن واجب الوجود لا يملك إلا وجودًا ممكنًا.

وإذا مزجنا هذه المبادئ مزجًا محكَمًا وأفرغناها على الله وباقي العقول المفارقة يصدر عنها الكون على المنوال الآتي:

(٣) جرم هذه النظرية

إن الله إذا عقل ذاته صدر عنه العقل الأول الذي لا يقدر أن يكون إلا واحدًا؛ لأن من الواحد لا يشتق إلا الواحد، وعندما يعقل العقل الأول الله يصدر عنه عقل ثانٍ، ولمَّا يعقل ذاته تشتق من تعقله لها نفس الفلك الأول وجسمه؛ فالنفس تصدر عن الوجوب الكامن في ذات العقل الأول، والجسم يصدر عمَّا في العقل الأول من الإمكان، فهناك إذا مثلث يفيض عن العقل الأول العقل الثاني والنفس والفلك الأول، ثم إن هذا العقل الثاني واجب بالأول ممكنٌ بذاته؛ فيصدر من تعقله للأول عقل ثالث، ومن تعقله لذاته يصدر نفسًا وجسمًا، ولا يزال هذا التعقُّل يُنتج عقولًا ونفوسًا وأفلاكًا حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر مدبِّر عالم الكون والفساد؛ فالأمور السماوية إذن تؤلِّف سلسلة كل حلقة منها تتضمَّن ثلاثة أشياء؛ فالله لا يبدع إلا العقل الأول. أما العقل الأول فيبدع ثلاثة أشياء: العقل الثاني والنفس والفلك، والعقل الثاني يبدع ثلاثة أشياء: العقل الثالث ونفسه وفلكه، وهكذا إلى أن يصل الصدور إلى فلك القمر وكرة الهواء المحيطة بالأرض.٤
قال ابن سينا: «إن المعلول (الأول) بذاته ممكن الوجود، وبالأول — أي بالعلَّة الأولى — واجب الوجود، ووجوب وجوده بأنه عقل وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول ضرورةً، فيجب أن يكون فيه من الكثرة معنى عقله لذاته ممكنة الوجود في حدِّ نفسها، وعقله وجوب وجوده من الأول المعقول بذاته وعقله الأول، وليست الكثرة له عن الأول؛ فإنَّ إمكان وجوده أمر له بذاته لا سبب الأول؛ بل له من الأول وجوده، ثم كثرة أنه يعقل الأول ويعقل ذاته كثرة لازمة؛ لوجوب حدوثه عن الأول.»٥

فتكون النقطة الجوهرية في نظرية ابن سينا الاشتقاقية — إذا جازت لنا هذه التسمية — هي أن العقل الأول واجب بالإله؛ لكي يكون له قوة تمكِّنه من إصدار موجود روحاني، وممكن بذاته ليقدر على إبراز جسم هيولاني.

(٤) مصادر هذه النظرية

اقتبس ابن سينا من أرسطو: «أن فوق العالم إلهًا، وأن هناك أفلاكًا ذات حركات مستديرة، وأنها تتحرَّك تحت تأثير العقول، وأن العالم قديم.»، وأخذ عن أفلاطون وبلوتن: «أن الكثير لا يصدر عن الواحد، وأن الإله يعقل ذاته ويعقل الأشياء على الوجه الكلي، وأن عقله لذاته يولِّد العقل الأول، وأن العقل يتأمل الواحد ويعود إليه.»، وتناول عن الفارابي قوله في المدينة الفاضلة: «يفيض عن الأول وجود الثاني، فهذا الثاني هو أيضًا جوهر غير متجسِّم أصلًا، ولا هو في مادَّة فهو يعقل ذاته ويعقل الأول … فما يعقل الأول يلزم عنه وجود ثالث، وبما هو متجوهر بذاته التي تخصُّه يلزم عنه وجود السماء الأولى.»، فعجن ابن سينا هذه الآراء وأضاف إليها تعاليم بعض المنجِّمين والطبيعيين؛ لأن هؤلاء كانوا يجدون للأجرام العلوية أفعالًا وآثارًا في هذا العالم مختلفة تدل على اختلاف طبائعها، ولولا ذلك لما كان قال في نجاته وغيرها نظير هذه الأقوال: «إن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالفعل الذي يحاذي صورة الفلك» (ص٤٥٥).

من هذه التلميحات نعرف كم هي طفيفة ناحية الإبداع في نظرية الصدور عند ابن سينا، وكيف أنها لا تستحق الاهتمام حتى في العصور الغابرة؛ لأن الغزالي قد وضعها في مصافِ التعاليم الزائفة، وخاطب صاحبها مع أصحاب المذاهب الفاسدة بهذه اللهجة القاسية:
ما ذكرتموه تحكُّمات، وهو على التحقيق ظلمات فوق ظلمات لو حكاه الإنسان في نومه عن منامٍ رآه لاستدلَّ به على سوء مزاجه.٦

(٥) بين ابن سينا والقديس توما

معلوم أن الرئيس بنظرية الصدور قد أراد التوفيق بين الفلسفة والدين كما صنع من بعده القدِّيس توما الأكويني، ولكن هل توفق في مهمته هذه؟

إن أرسطو الإسلام بنظريته هذه المليئة بالأشباح والكثيرة التمويه قد رجع بصفقة المغبون؛ لأن فيها ما يناقض الفلسفة والدين: فما يناقض الفلسفة قوله بأن العقل الأول الصادر عن الله ممكنٌ بذاته وواجبٌ بالإله، فمن أين جاء هذا الإمكان؟ وكيف تولَّد الوجوب؟ إن الرئيس لا يجيب عن هذه المسألة، ومما يعاكس الدين قوله بصدور العقل الأول عن الله …

أما أرسطو النصرانية فإنه كان أكثر تأدُّبًا وأعمق تفكيرًا من الشيخ، فميَّز بدء بدء بين العقل والإيمان، فبموجب القوى العقلية لا يمكن أن نقيم البرهان على حدوث العالم من جهته؛ لأن مبدأ البرهان هو الحد بالماهية، وماهيَّة العالم تحتمل البرهانين القديم والحديث.

وكذلك لا نقدر أن نقيم البرهان على حدوث العالم من جهة العلَّة الفاعلة التي تفعل بالإرادة؛ لأن إرادة الله لا يستطاع البحث عنها بالعقل إلا بالنظر إلى ما يريده الله بالضرورة المطلقة، وما يريده الله بالنظر إلى المخلوقات، فليس يريده بالضرورة المطلقة، فإذن لا نستطيع بقوة العقل الطبيعي أن نعرف هل أن الله خلق العالم قبل الزمان أم بعده؟ أما بحسب الإيمان فيتحتَّم علينا أن نعتقد أن العالم حديث؛ لأن الله كشف إرادته الإلهية للإنسان بالوحي الذي إلى ذراعه يستند البشر؛ فإذن يكون حدوث العالم عقيدة إيمانية، ولا يمكن إثباته بطريقة البرهانية، وهكذا دقَّق ابن أكوينيا بين الفلسفة والوحي بهذه القضية.

كذلك قد أنحى القديس توما على ابن سينا باللائمة، وأبطل زعمه القائل بأن الجوهر الأول المفارق المخلوق من الله خلق جوهرًا آخر بعده؛ لأن العلَّة الثانية الآلية لا تشترك في فعل العلَّة العالية إلا من حيث تساعد على وجه التهيئة بشيء خاص لها على مفعول الفاعل الأصيل. ألا ترى أن المنشار بالخاصة التي له يصدر من قطعة الخشب صورة الكرسي التي هي مفعول خاص للفاعل الرئيسي، والمفعول الخاص لله الخالق هو ما يكون سابقًا على جميع ما سواه وهو الوجود المطلق؛ فإذن لا يمكن لخليقة أن تخلق لا بقوتها الخاصَّة، ولا بوجه الآلية والاستخدام.

أمَّا التوفيق بين المبدأ القائل بأن عن الواحد لا يصدر إلا واحد، وبين مقدرة الله على إيجاد الكثرة، فيكون على هذا النمط أن الفاعل بالطبع يفعل بالصورة التي هو بها موجود، والتي هي في الواحد واحدة فقط؛ ولذا ليس يفعل إلا واحدًا فقط. أما الفاعل الإرادي كالله في مخلوقاته فيفعل بالصورة المعقولة؛ فإذن لمَّا كان تعقُّل الله أمورًا كثيرة لا ينافي وحدانيته وبساطته؛ بل يجعله أكثر كمالًا وأسمى مقامًا يلزم أنه — وإن يكن واحدًا — يقدر أن يصنع أشياء كثيرة، وبهذا القدر كفاية لقومٍ يعقلون.

١  النجاة، ص٣٥٥.
٢  انظر هامش كتاب الملل والنحَل، جزء ٣، ص٦٠.
٣  راجع المنقذ من الضلال، ص٨٠.
٤  راجع كتاب أفلاطون إلى ابن سينا لجميل صليبا، ص٦٦ و٦٧.
٥  النجاة، ص٤٥٣ و٤٥٤.
٦  تهافت الفلاسفة، ص٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤