عبد الغفار مكاوي

شاعر الفلسفة

بقلم  حسن طلب

في الرابع والعشرين من ديسمبر، ودَّعتِ الحياة الثقافية علَمًا من أعلامها الكبار، هو الدكتور عبد الغفار مكاوي (١٩٣٠–٢٠١٢م)، الذي أثرى بإبداعاته ومؤلفاته وترجماته الساحة الأدبية والفلسفية، منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وحتى قُبيل رحيله؛ حيث صدرت آخر أعماله وأحدثها «مصر وكلمات أخرى»، ضمن سلسلة كتاب «إبداع»، العدد ٢١، شتاء ٢٠١٢م.

نذر عبد الغفار مكاوي حياته للأدب والفلسفة، فعاش راهبًا يؤمن بأن رسالته الخالدة هي أن يبحث عن الحقيقة بين ما جادت به تأملات الفلاسفة والحكماء في كل العصور، وبين ما أوحت به أخيلة الأدباء بكل اللغات. غير أن رحلة البحث عن الحقيقة عند من خبروها من أمثال الدكتور عبد الغفار مكاوي، لم تكن مجرد نزهة عابرة في طريق مأمونة واضحة المعالم، بل هي لون من المجاهدة الصوفية التي تتقلب بصاحبها بين شتى المقامات والأحوال، وقد تستغرق تلك الرحلة العمرَ كله، دون أن يظفر طالب الحقيقة بشيء، اللهم إلا عذوبة الرحلة وعذابها. وهذا هو ما يقوله «مكاوي» عن الحقيقة التي أرَّقَتْه، في مفتتح دراسته الطويلة التي قدم بها لترجمته لنصوص «مارتن هيدجر M. Heidegger» (١٨٨٩–١٩٧٦م)، بعنوان «نداء الحقيقة»: «ما الحقيقة؟ أين نجدها؟ وكيف نعرفها؟ بأي سهم نريش طائرها الأبيض المستحيل؟ أي قفص يتسع لآفاقها البعيدة، وأسفارها العديدة في البلاد والأجيال؟ ما هي معانيها المختلفة باختلاف المذاهب والمدارس …»

هي أسئلة لا يملك عشَّاق الحقيقة سوى أن يطرحوها على أنفسهم وعلى القراء، ليست لديهم إجابات جاهزة يقدمونها، لا لأنهم عاجزون، بل لأن الحقيقة أشملُ من أن يستوعبَها جوابٌ واحد، وأقدس من أن يحصرها مذهب، وأوسع من أن تتسع لها رحلة العمر المحدودة، إنها النور الذي يندُّ دائمًا عن مدى البصر وعمق البصيرة، فليس لعقول الفلاسفة أن تحيط به تمامًا، هيهات!

لهذا السبب كان الأدب عامة، والشعر بالذات، ظهيرًا للفلسفة ونصيرًا، فكثيرًا ما لجأ الفلاسفة إلى الشعراء يستلهمون حدوسهم ويلتمسون العون، أو كما يقول «مكاوي» في المقدمة المشار إليها أعلاه: «إننا جميعًا نفزع إلى بيت أو قصيدة من الشعر، نستشهد بها حين تتأزم مواقفنا في الحياة، أو نعجز عن التعبير عن مكنون مشاعرنا، فالشعراء أصحاب رؤية، وكلماتهم لآلئ بحر التجربة البشرية، وكم أبيات قليلة كشفت — كالبرق الخاطف — عن خبرة أجيال طويلة، وكم لخَّصت، في حكم قليلة، ما عجز الفيلسوف عن قوله في مجلدات ضخمة. ولقد طالما لجأ الفلاسفة أنفسهم إلى صور الشعر ورموزه وتشبيهاته واستعاراته، حين انطلقوا إلى مجال الفكر الخالص، وعجزت أجنحة الرؤية والعيان عن التحليق إليه.»

هكذا انفرد عبد الغفار مكاوي بين أساتذة الفلسفة الكبار، بقدرته على تحقيق المصاهرة بين الشعر والفلسفة، دون افتعال، أو انحياز يجور على أحد طرفي المعادلة. لنستمع إليه وهو يحاول النفاذ إلى قلب «أفلاطون» في كتابه البديع: «المنقذ» فيقول نظمًا في أول سطور المقدمة:

أجمَعَ أمرَهْ.
صمَّمَ أن يتحدَّى قدرَهْ،
أن يأخذَ معهُ سرَّهْ.
الرحلةُ كانت خطِرَة،
والمحنةُ مُرَّة.
ما ضرَّ إذا أخفق مَرَّة!
فليُعِدِ الكَرَّة،
وليحملْ للعالَمِ فكْرَة
فالفكرةُ إنْ كانتْ حُرَّة؛
فستصبحُ فعلًا أو ثوْرَة.

أما آخر كلمات تلك المقدمة الفلسفية/الشعرية، العقلانية/الوجدانية المبتكرة، أو بالأحرى خاتمة تلك الرحلة الصعبة في الإبحار بين ضفتي الشِّعر والفلسفة، فتجيء منظومة هكذا:

لا عاصمَ بعد اليومِ من الطوفان،
يا بلَدي.
يا حظِّي العاثر،
أنتَ الخاسر؛
إن لم تلجأ لسفينةِ نوح،
يسلِمُها الموجُ الهادر
والملاحونَ الفقراءُ
إلى الشُّطآن.
والرُّبَّانْ
أطهَرُ من أطهَرِ إنسان؛
عينٌ ترعَى النجمَ الساهِرْ
في أفقِ العدلِ يلوحْ،
يا بلَدي،
ويُردُّ إليكِ الرُّوحْ.
وحياةُ الروحِ حِوارْ.
نعم، حياة الروح كما عاشها «مكاوي» حوار طويل ممتع، حوار لا ينتهي إلا ليبدأ، فهو حوار بين الشعر والفلسفة، بين الوجدان والعقل، بين الخيال والواقع، بين المستحيل والممكن. إنه حوار لا يتَّسع له عصر معين أو زمن محدود، ولهذا سافر «مكاوي» في مغامرته الروحية الكبرى عبر العصور، وتقلَّب بين الأزمنة والأمكنة ينشد ضالته أو معشوقته الأثيرة: الحقيقة، فمن حكمة الرافدين حيث بحث عن «جلجامش» وجذور الطغيان، إلى حكماء الصين القديمة، حيث توقف عند «لاو تزو» ونقل إلى العربية كتابه «الطريق والفضيلة»، الذي يعده أحب الكتب إلى قلبه، ثم إلى الحكماء اليونانيين السبعة وفلاسفة ما قبل سقراط، ومن بعدهم أفلاطون وأرسطو، لينزل في سلم الزمن إلى العصور الوسطى، ويقف عند «بوئيثيوس A. M. S. Boethius» (٤٨٠–٥٢٤م) في عزائه للفلسفة، ثم إلى العصور الحديثة ليتأمل أهم نصوص «ليبنتز G. W. Leibnitz» (١٦٤٦–١٧١٦م)، وينقل إلى العربية كتابه الأهم «المونادولوجيا»، ثم ينتقل إلى «كانط I. Kant» (١٧٢٤–١٨٠٤م) فينقل كتابه «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق»، الذي ألفه الفيلسوف الكبير عام ١٧٨٥م ليكون تمهيدًا لكتابه الأساسي: «نقد العقل العملي» الذي صدر بعد ثلاث سنوات. وتستمر الرحلة لتتشعب بها الدروب في متاهات الفلسفة المعاصرة، فمن الوجودية وأعلامها: «هيدجر» و«كامي A. Camus» (١٩١٣–١٩٦٠م) و«ياسبرز K. Jaspers» (١٨٨٣–١٩٦٩م)، إلى رواد فلسفة الحياة من أمثال «ماكس شيلر M. Sheler» (١٨٧٤–١٩٢٨م) و«دلتي W. Delthey» (١٨٣٣–١٩١١م) و«برجسون H. Bergson» (١٨٥٩–١٩٤١م)، ثم إلى أقطاب «مدرسة فرانكفورت» في ألمانيا، مع غيرهم من أصحاب النزعة المثالية والميول الصوفية، مثل «شتروفه»، الذي تتلمذ عليه «مكاوي» في ألمانيا، ونقل إلى العربية في سبعينيات القرن الماضي كتابه الشيق العميق: «فلسفة العلو-الترانسندنس»، وهو الكتاب الذي أعادت طبعه الهيئة العامة للكتاب العام الماضي.

أما لو وقفنا عند ما قدمه «مكاوي» من دراساتٍ وترجماتٍ شعريةٍ وأدبية، فلن نجده أقل أهمية، فهو يضارع كمًّا وكيفًا ما قدمه في مجال الفلسفة الخالصة، بل ويتسع أيضًا زمانيًّا ومكانيًّا، كما كان الحال في النتاج الفلسفي، فمن الشاعرة اليونانية «سافو»، إلى «جوته» و«بوشنر» و«بريخت» والرمزيِّين من أعلام «ثورة الشعر الحديث».

رحم الله عبد الغفار مكاوي؛ لقد كان نسيجَ وحده في حياتنا الثقافية، لا بنتاجه الفلسفي والأدبي الغزير والأصيل فحسب، وإنما أيضًا بإبداعاته القصصية والمسرحية، وبروحه السمحة وتواضعه الجمِّ، وما أحرانا — نحن تلامذته ومحبيه — أن نعي الدرس الذي لقَّنَنا إياه بجدِّه وصَبرِه، وصمته وبُعده عن الأضواء، وأن نعيد تقديم تراثه للأجيال الجديدة؛ لتجد فيه المثال الحي على الدقة والعمق والصدق، في زمنٍ عزَّت فيه هذه القيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤