الدمعة السادسة: دموع أوديب

بكائية في تسعة مشاهد

الشخصيات

  • أنتيجونا (ابنة أوديب).

  • أوديب.

  • جوكاستا.

  • تريزياس.

  • كريون.

  • بوليبوس (ملك كورنثة)، ميروب (ملكة كورنثة): والدا أوديب بالتبني.

  • رسول من كورنثة.

  • الراعي.

  • الجوقة.

  • الهولى.

(تبدأ البكائية بعد انتحار جوكاستا وفقء أوديب لعينيه وقبل مغادرته طيبة.)

(فاجأني وجهه الحزين الملطخ بالدم، وأنا أستقل الطائرة التي أقلتني من أرض وطني إلى مكانٍ آخر. ثم ظل يلاحقني حتى كتبت هذه البكائية المسرحية، أعلم أن الإقدام على كتابة «أوديب» مغامرة لا تخلو من التهور، بعد عشرات المحاولات من سوفوكليس إلى اليوم. لكنها سطور من وصيتي للإخوة والأبناء إلى وطني، حتى لا يصبح الغدر هو قانون الحياة فيه، ويسقط القناع الأسود الذي وضعه الانتهازيون ولصوص الحرية والعلم والضمير على وجه مصر النبيل.)

(تبدأ البكائية بعد انتحار جوكاستا وفقء أوديب لعينيه وقبل مغادرته طيبة.)

١

(المشهد ساحة جرداء أمام سور طيبة، ترتفع فيها درجات أشبه بدرجات مسرح قديم مهجور. على اليمين كتلة بشرية مظلمة من عجائز المدينة، ونسائها الثكالى، تظهر أو تتوارى كلما دعت الضرورة، تصدر عنها تهويمات تحلق في الفضاء كسحابة غائمة، ولا نتبين أطيافها إلا حين يدخل معها أوديب في حوار أو يشتبك معها في جدال يتردد صوتها المعتم العميق قبل دخول أوديب، تسبقه ابنته أنتيجونا التي جرت مذعورة، واستندت إلى حجرٍ كبير.)

الجوقة : أوديب. اخرج اخرج يا أوديب. غادر طيبة يا أوديب.
أوديب (يندفع داخلًا يتحسس الطريق بعد أن سبقته أنتيجونا ولاذت بحجرٍ كبير) : ابنتي. ابنتي. أين أنت يا حبيبتي؟ لماذا تركت يدي؟ أمسكتها ونزلت بي الدرج، فلماذا تركتها؟ يدي التي فقأت عيني. أين أنت؟ هاتي يدك. تعالي يا صغيرتي.

(أنتيجونا تبكي.)

أوديب (يقترب منها) : لا تتخل عني يا حبيبتي. أنت عيني الثالثة لم يبق لي سواك. تعالى (يتخبط بين الأحجار).
الجوقة :
اخرج اخرج يا أوديب.
غادر طيبة يا أوديب.
لِمَ لا تسرع نحو المنفى؟
لِمَ تتلكأ عند السور؟
أوديب : ها هي المدينة تطاردنا. ترسلنا للمنفى بعد أن نبذتنا وتخلت عنا. تبكين يا حبيبتي؟ المدينة قاسية يا صغيرتي. عمياء لا تبصر مثل أبيك. أما زلت تحنين إليها يا ابنتي؟ أتنتظرين رفيقاتك في اللعب؟ ألم تتوقعين أن تظهر أختك «اسمينا» من وراء الشجر لتغمض عينيك بيديها، وترن ضحكتها وتجلجل كأجراس القطعان اللاهية فوق رأسك المتعب الصغير؟ لا. لا تنتظري أحدًا. لا تتوقعي أن يفاجئك أحد أو يشد ثوبك أحد، حتى كلبك الأبيض تخلى عنك. لم يبق لك سواد ولم يعد لي سواك.
الجوقة :
أواه إني إن أرثي لك أبكي من أجلك يا أوديب.
يا أتعس رجل نظرته عيني،
يا من تتخبط وحدك في ظلمات الليل،
وخطاك تقودك للظلمات الأبشع
في «هاديس» حيث تقيم مع الأشباح،
ومن ذهب إليه لا يرجع.
أنتيجونا (تبكي) : أبي. أبي.
الجوقة :
وا حسرتاه! صوت من هذه التي تصرخ وتئن؟
أهذه ابنتك التي طالما شهدتها معك،
ورأيتك تداعبها وتحملها على صدرك،
عندما كنت تواجه سكان طيبة،
أو تقدم الأضاحي والبحور الطيبة الرائحة
على مذبح الآلهة المقدسين؟
وا حسرتاه عليك يا ابنتي.
كم يتقطع قلبي من أجلك.
ومن أجل أبيك الذي صار أخاك.
أوديب : لا تصدقيهم يا حبيبتي. لا تصدقيهم.

(أنتيجونا يزداد نشيجها.)

أوديب : لقد أطلقوا الكذبة وصنعوها، ثم جاء هؤلاء العجائز فصدقوها وروجوها. ماذا أسمع! هل يبكون الآن علي؟
الجوقة :
آه إني أبكي من أجلك يا أوديب.
أبكي ابنتك المسكينة وبقية بناتك وأخواتك.
لكن أمطار دموعي على طيبة لن تجف.
طيبة التي أنقذتها ذات يوم،
وحكمتها بقوة الحقيقة القوية،
حتى ظننت أنك أسعد إنسان،
حين كنت أراك على العرش
وحولك أبناء طيبة وبناتها،
كالحملان عندما تلتف حول الراعي الطيب
الذي خلصها من الذئاب،
لكن أمطار دموعي على طيبة لن تتوقف،
وإن كنت أعلم أنها لن تروي شجرة عمري الذابلة،
ولن تعيد الخضرة إلى شجرة طيبة،
التي هوت بفروعها وأوراقها في الهوة الدامية.

(أنتيجونا يرتفع نشيجها، يعثر أوديب أخيرًا عليها.)

أوديب : ها أنا أمسك يدك التي فرت من يدي (يقبلها ويغمرها بدموعه) صدقي دموعي الدامية، ولا تصدقي دموعهم. صدقيني يا حبيبتي.
أنتيجونا : أبي. أبي.
الجوقة :
بل قولي أخي أخي.
آه يا أنتيجونا!
أي مصير ينتظرك يا ابنتي!
أوديب : ابنتي. حبيبتي. لا تصدقيهم. هؤلاء الذين يذرفون دموع الأفاعي والتماسيح عليك وعليَّ. هم الذين هللوا وصفقوا عندما رأوني على عرش طيبة. هم الذين لم يتحركوا عندما رأوا الكذبة تحاك حول رقبتي، واللعنة تدبر في الخفاء لتدمرني وتدمر أسرتي.
الجوقة :
واهًا لطيبة التي تندثر وتنهار في الهاوية.
البذور تخيب أمل الزراع وتموت في الأرض التي حرثها والقطعان تصم آذانها عن نداء الراعي، وتهلك في مراعيها، والعقم يقتل نساءها ويودي بالأحياء من أطفالها.
وإعصار الوباء الذي اجتاحها وعصف بأهلها قد صمم ألا يخرج منها حتى تغادر أسوارها.
أوديب :
ها أنا أغادرها يا أبناء كادموس المخدوعين،
تسحبني ابنتي من يدي إلى مصيرٍ مجهول.
ابنتي التي ترددون أنها أختي وابنتي،
وسيخرج معي الإعصار ليدخل إعصار آخر،
ليشيع أبناؤكم وأحفادكم طاغية آخر.
الجوقة :
اخرج اخرج يا أوديب.
احمل دنسك. لا تتلفت للأسوار.
ألق به في ماء البحر، وطهر نفسك أو في النار؛
علَّ إلهًا يرحم طيبة يرفع عنها هذا الرجس، ويمحو منها هذا العار.
أوديب : سمعت يا حبيبتي؟ رجس هو أبوك وعار. والمدينة التي ولد فيها كما ولدت تتطهر منه، لم يكفها دم أمك ولا دم عيني. فأنا الرجس الذي قررت أن تنفيه حتى لا تتلقاه الأرض ولا المطر المقدس ولا الضوء الحبيب، لكني أسألهم فاسمعيني. كيف يكون رجسًا من أنقذ المدينة من الوباء؟ كيف يدنسها من حل اللغز فصعق الهولى قبل أن تولدي أنت وأخواتك؟ لا تبكي يا حبيبتي. لا تبكي يا صغيرتي. جففي دموعك واسمعيني. قبل أن نغادر هذه الأرض عليك أن تسمعيني. اتركي أباك المسكين يفتح قلبه لك، قلبه الذي طالما ضمك إليه حين كنت تبكين ولا تسكتين حتى تعبثي بشعر لحيته. دعيه يدافع عن نفسه أمامك. دعيه يبرر تهمته التي ألصقها به الذئاب والكلاب والعناكب التي نسجت مؤامرتها في الظلام. لا تتلفتي لهؤلاء الشيوخ المخدوعين الخداعين. سيسمعونني إذا شاءوا، وإذا شاءوا ينصرفون. أنت وحدك التي أريد أن تسمعني وتفهمني. أنت وحدك يا حبيبتي الصغيرة. أتنظرين إلى المدينة الغافية من بعيد؟ لا تنتظري شيئًا ولا أحدًا. «اسمينا» تلعب هناك ولا تكترث بشيء. ربما تقطف الزهور من بستان القصر لتزين جيدها الناصع المغرور. ربما تعبث مع رفيقاتها وتتسلى بإلقاء كتبها في الجدول الصغير. ربما تغازل شابًّا من وراء سور البستان. أخويك تنتظرين؟ لن يجيبك أحد مهما ناديت. إنهما يجربان ألعاب الشباب، أو يتصارعان على عادتهما خارج المدينة. الرفاق يتفرجون عليهما ويصفقون. ورأساهما العنيدان تثقلهما أحلام المجد، وتعصف فيهما رياح الرعونة الهوجاء. اسمعيني يا حبيبتي. اسمعي آخر كلماتي، لا يهمني أن ينتهي العالم كله، لا يعنيني أن تشير إلى جميع المدن كأني ضبع ضارٍ أو ذئب ملعون، لا يهمني أن أخرج من طيبة كغرابٍ مشئوم، كل ما أريده أن تعرفي الحقيقة، والحقيقة أن أباك لم يدنس بإرادته ولن يدنس، لقد دفع الثمن قبل أن تسحقه الأسطورة وتسحق أسرته، هل تسمعونني أنتم أيضًا أيها الشيوخ؟ أين أنتم؟ لماذا غاب صوتكم؟ أوديب المنقذ يتكلم. أوديب الطاهر يتطهر. يدفع التهم التي صدقتموها بعد أن صنعتموها، نعم أيها الشيوخ، اسألوا أنفسكم مرة واحدة: ألم تكن رغبته في المعرفة هي التي دنسته؟ ألم يصمم أن يعرف نفسه فأحرقها وجلب عليها الخراب! إنه لا ينتظر جوابكم إنه يقف أمامكم الآن، ويسأل نفسه. لا يبالي إن سمعتموه أو انصرفتم عنه. أنتيجونا وحدها.
أنتيجونا : أبي. أبي.
أوديب : أنت وحدك وحدك يا حبيبتي التي يريد بحديثه، وعلى صدرك وحدك تسقط دموع ذكرياته. فاسمعيني يا حبيبتي، كوني عيني الثالثة، وانظري معي في سطور الماضي، الماضي الذي أفتحه الآن أمامك. أمامك أنت وحدك.
أنتيجونا : أبي. أبي (تبكي).
الجوقة (في صوتٍ رهيب) : تكلم يا أوديب.

٢

أوديب : انظري يا ابنتي تري أباك يشتعل بنار الشباب، يحوم كالفراشة حول أنوار الحكمة، يسأل الكتب التي يلتهمها فتصمت أو تنطق كلمات لا تُفهَم. إنه يتنقل في قصر أبيه وأمه في كورنثة ولا يكف عن السؤال. يتجول في شعاب الجبل والوادي، ويتطلع للنجوم ولا يكف عن السؤال. يختلط بالناس في السوق والجبل والحقل والمعبد، فيشير إليه الجميع: هذا هو الحالم الذي سيعيش ويموت وعلى شفتيه سؤال، وذات يوم تحداني أحد الشبان هل تستطيع يا ابن الملوك أن تبارز بالحربة وبالسيف كما تبارز بالأسئلة والألغاز؟ ثبتُّ عيني في عينيه وقلت: لو كانت كل الألغاز كهذا اللغز لهان الأمر. قال ساخرًا وهو يمتشق سيفه: ولكنه يحتاج إلى الشجاعة. قلت وأنا أجرد سيفي وأفاجئه بطعنةٍ في صدره: إن كان هذا هو الحل فخذ! ارتمى على الأرض وهو يصيح: قتلتني ولم تحل اللغز! أقبل الرفاق فمنعوني من الإجهاز عليه. قالوا: مخمور لا يفيق دائمًا يجرح غيره، فاتركنا الآن نداوي جرحه. قلت: لن أتركه حتى يكشف عما في صدره، حتى يتكلم عما يقصده باللغز. تأوه من الألم وصاح: تعرف كل الأشياء، ولا تعرف نفسك. تسأل عن كل الأشياء، ولا تسأل من أنت. اندفعت نحوه وأنا أهتف: هل تسأل من أنا، وهل تعرف أنت أنَّ أنينَ المذبوح: آه! إني أتألم من جرحي، لكني أتألم لك. لست ابن أبيك. جريت إلى القصر كمن لدغته أفعى، واندفعت إلى حجرة أبي فوجدته راقدًا على فراش المرض مفتوح العينين. صعد بصره، وقال: ولدي؟ أشفقت عليه فلم أنطق. أشار بيده النحيلة، فاقتربت منه وطالعت على وجهه الطيب المكدود آثار الصراع مع العلة القديمة. ابتسم وقال: ماذا يريد البريء الجريء؟ ماذا يريد حبيب الفقراء والحكماء؟ قلت: وأخشى أن أخرجه من شفتي اعتدل في فراشه وهو يتأوه من الألم: ماذا يضنيك يا ولدي؟ كتاب تبحث عنه ولا تجده في خزانتي التي أتيت عليها؟ قلت: بل سؤال أكتمه منذ سنين، حتى أثاره اليوم شاب مخمور تصارعت معه. ضحك وقال: مخمور؟ تتلقى منه سؤالًا أو تنتظر جوابًا؟ أنت يا أوديب؟ قلت: أبي. من أنا؟ رفع حاجبيه دهشة: من أنت؟ ألم أنطق باسمك؟ تلعثمت وأنا أشهد التجاعيد التي تتلوى على وجهه: لا. لا. أقصد … ربت على كتفي وضمني إلى صدره: أنا أعرف قصدك أكثر منك. الحكيم الصغير مثلك لا يسأل عن شيء زائل. ها أنا ذا أموت يا ولدي، وعندما يقترب الموت لا يبقى غير سؤالٍ واحد: ما الإنسان؟ هذا هو السؤال الأكبر يا ولدي. أما من أنت، فهذا أمر واضح. لم أملك عيني من الدمع. لم أستطع أن أتحكم في صدري الذي أخذ يعلو ويهبط. أردت أن أصرخ: أقصد من أمي؟ ومن أبي؟ هل أنا حقًّا ابنك وهل أنت حقًّا أبي؟ لكنني لم أقو على إخراج كلمةٍ واحدة. ورفعت رأسي عن صدره جففت دموعي. قلت: ربما يستطيع العراف في دلفي أن يجيبني. قال متعجبًا: العراف في دلفي؟ هل يعرف من أنت سواك؟ اذهب يا ولدي. اذهب إلى فراشك. لقد توغل الليل. والليل يفرخ مسوخ الأسئلة السوداء. اذهب يا ولدي، فالفجر ينتظرك. قلت وأنا أقبله: أذهب يا أبي حتى لا يطول انتظاره. ضحك وهو يتابعني بعينيه الكليلتين. لم يدر أنه يراني لآخر مرة، وأنني سأسمع بعد ذلك عن موته دون أن أراه. نزلت على سلم القصر مسرعًا. كان تصميمي على الخروج هو الذي يحث خطاي. ولم أكد أهبط الدرجات، حتى أحسست بثقل يشل قدمي، ويقبض على صدري. رجعت مرة أخرى، فأسرعت إلى حجرة أمي، فتحت الباب عليها فوجدتها نائمة. تأملت الوجه الطيب الذي طالما ضمني إليه. هل يمكن أن أغضب الآلهة، فأفزعه من نومه، وأسأله: أأنت وجه أمي؟ أغلقت الباب برفق، ورجعت أهبط الدرجات بين دهشة الحراس وابتسامهم، وعندما وقفت على الباب الخارجي لم أستطع أن أتلفت ورائي. كان السؤال الكبير يجذبني إليه ويناديني. وكنت أحلم أن أسمع الجواب على لسان العراف، فاندفعت على الطريق الطويلة بلا تردد.
الجوقة :
الطريق إلى دلف طويل شاق،
لكن طريق الآلهة محفوفة بالضباب.
ها أنت تقف أمام المذبح وتلقي السؤال.
إني أتخيلك يا أوديب ولا أكتم الخوف والإعجاب.
تكلم. ماذا حدث هنالك مما أجهل؟
ماذا كان جواب العراف؟
أوديب : أجل أيها الشيوخ. لم أجد الجواب. لم يأذن لي أحد بالدخول إلى المعبد. أوقفوني على الأبواب، وأنا الذي كانت الحراس تفتح لي الأبواب. قلت لهم: ابن ملك وملكة يمد يديه بالسؤال. وقالوا: بيدٍ خالية حتى من الماء والزاد؟ قلت: تركت كل شيء، وجئت أقف على الأعتاب. قالوا: أين هداياك وأين عطاياك؟ أين الأضحية وأين القربان؟ قلت: إن وجدت الجواب فسوف تغمركم هداياي. قالوا: أي جواب وعلى أي سؤال؟ قلت: سؤال الأسئلة أيها الكهان. من أنا؟ ما أصلي ومصيري؟ ومن الإنسان؟ فاجأني صوت يخرج من جوف المذبح: رجل لا يكف عن السؤال. تقدم يا أوديب! يا قاتل أبويك ويا من تنجب من الرحم الذي خرجت منه. ارتعش القلب، ورفرف مذعورًا في صدري، صحت بمن ناداني:
سخف ما قلت وحق الأرباب! لن أرجع أبدًا للقصر، ولن تبصر عيني الأم ولا الأب. تضاحك صوت النبوءة، حتى ارتجت جدران المعبد: قَدْ قُدِّرَ من قبل عليك. لن ينفعك رجوع، لن يجديك هروب. أذعن للقدر ومن نسج خيوطه! صحت: ومن نسج خيوطه؟ إله هذا أم نصف إله قاسي القلب؟ ملكًا أصبح أم قاتلًا؟ ردد الصوت: الملك القاتل يُقتَل بعد قليل أو ينفى.

ركبت موجات النبوءة المضطربة، واجهت البحر الثائر كالربان القادر، أرعدت وأبرقت وأرسلتْ صواعق غضبي: ومن قال إني أسعى للملك وقد تركته وراء ظهري؟ إنني عابر سبيل، إذا صح كلام المخمور فإني لقيط صار ابن ملك وعاد ابن الملك، فصار شحاذًا، قلت لك لقد تخليت عن الملك. رد قائلًا: تخليت عن ملك لا تستحقه، وستحصل على ملكٍ لا تريده. صحت بأعلى صوتي: إنما أريد أن أحل اللغز. قال الصوت: ستحله يا أوديب ولن تحله. اشتد بي الغضب، فقلت: من حق الإنسان أن يكذب نبوءة ليصدقها العقل. رد الصوت: هذا من حق العقل، لكن القلب له شأن آخر. والنبوءة قد تصدق وتكذب. قلت: ولكن يجب أن تُفهَم ضحك الصوت: لا تتعجل ستفهم يا أوديب، لكن بعد فوات الوقت. ضربت جدار المذبح بيدي وصحت: بل أفهم وأحل اللغز.

تمدد الصوت في أذني كظل الوحش الرابض في الغابة: ألم أقل لك؟ ستحل اللغز ولا تحله. وستقضي على الوباء وتسبب الوباء. ستجلس على عرش المدينة وتدمر المدينة. وستقتل الوحش، وتصبح وحشًا يقتله وحش. اذهب يا أوديب. اذهب يا أوديب قدرك لن تفلت منه. صحت: وسؤالي؟ هل أذهب قبل أن تجيب عليه؟ قال الصوت مودعًا: وستذهب أنت وأذهب مثلك وعلى الشفتين سؤال. هذا قدرك يا أويب، هتفت يائسًا لكني سأتحدى القدر. سأتحداه. جلجلت الضحكات: اذهب وتحداه. صحت: وإلى أين أذهب؟ إلى أين؟ دوت الضحكة كالزلزال: إلى طيبة. إلى طيبة. ضربت الأرض بقدمي وبكيت وضحكت: طيبة؟ ماذا أفعل في طيبة؟ إنك لم تجب على سؤالي. طاردتني الضحكة: اذهب لتجيب عليه بنفسك. اذهب. اذهب.
الجوقة :
خفية هي أسرار الآلهة،
كامنة كالشجرة داخل البذرة الصغيرة،
والويل لك إن حاولت أن تشد الشجرة قبل الأوان.
ضع البذرة في الوعاء المقدس،
تعهدها بالماء والضوء والهواء.
لا تخف إن تعرضت للأمطار والأخطار،
وعندما تغمرك الشمس فجأة وبلا انتظار،
ستجد المأوى في ظل الشجرة الكبيرة.
أوديب : ليس صحيحًا ما تقولون. فقد غمرتني الشمس ولم أجد الظل، ولا المطر، ولا المأوى. وعندما استبد بي الدوار ورحت أحترق ويتصاعد مني البخار كأنني فحمة ملتهبة، جلست تحت صخرة على جانب الطريق الضيق ذي الشِّعاب الثلاث. الجبل أمامي صخر والوادي حولي قفر. والجوع مع الغضب الحارق في جوفي جمر. وغفوت قليلًا، ثم فتحت عيني على أصوات قريبة مني. كان في الأفق غبار، وموكب صغير يجرح الأقدام على الطريق المترب الخانق بالبخار لمحت نساء وأطفالًا ورجالًا يحملون متاعهم القليل على أكتافهم. فقراء هؤلاء الناس، مزارعون أو رعاة مما تنبت الأرض من أشواك. مروا عليَّ وتوقفوا ليستريحوا في ظل الصخرة الكبيرة التي كنت أحتمي بها، سألني شيخ عجوز: إلى أين يا بني؟ قلت: مسافر يا عمي. قال شاب يبدو على وجهه الإعياء: الطريق طويل. حذار أيها الشاب. قلت: اطمئن إني أعرفه وأعرف هدفي. قال الشيخ: سافر كما تشاء، لكن لا تتهور. قلت: ماذا تقصد؟ قال: لا تقترب من طيبة. سألت: أهي قريبة من هنا؟ قال الشاب: أقرب مما تظن قدماك، وأبعد مما يتصور عقلك. رفعت عيني إلى الشيخ فنظر إليَّ وقال: نحن من أبناء طيبة. لم نخرج منها كما يخرج الناس من الأبواب. لقد تسللنا من ثغرةٍ في السور. قاطعه الشاب: بل حفرناها بأظافرنا في الظلام! قلت: ولماذا لم تخرجوا من أبوابها؟ تعجب الشيخ وقال: وهل يخرج أحد من طيبة أو يدخلها؟ ألم تسمع يا ولدي بالهولى؟ ألم تسمع بالوباء؟ قلت: الهولى؟ والوباء؟ ماذا أسمع؟ قال الشاب: منذ أن ظهرت العذراء ذات المخالب، وهي تتربص بالداخل والخارج. تطرح عليه اللغز، ثم تقتله. قلت: اللغز؟ ما هو هذا؟ ماذا تقصد؟ قال الشيخ: لا أقصد شيئًا يا ولدي. نحن فقراء لا نحل الألغاز، نجونا من الوباء بمعجزة. ونبحث عن أرضٍ نتنفس فيها الهواء. أنا وهؤلاء الصغار. هيا يا أولادي. هيا يا أولادي. ناديت عليه قبل أن يغيبهم الجبل عن بصري: كلمني عن الهولى. صف لي الوباء. انصحني يا شيخ! تردد صوته قبل أن يختفي: حذار يا ولدي. حذار لا تذهب إلى طيبة! لا تذهب إلى طيبة! رحت أفكر فيما قال، فلم أهتد إلى شيء، هل غادرت مدينتي وملكي لأحل ألغاز الناس أم لأحل لغزي؟ وسقطت على صدر آلهة النوم وقتًا لا أعرف مداه، ثم صحوت على قرقعة عجلات على الطريق الوعر. ناديت فلم يجبني أحد. وقفت وتعرضت للعربة فلم يكترث أحد. هتفت بأبناء الإنسان فلم يرد إنسان. ولسعني سوط ألهب رأسي وكتفي فصحت: أيها الفجرة! أما من لقمة أو جرعة ماء لعابر سبيل؟ صاح صوت المنادي: مل عن الطريق أيها الكلب! وقفز من العربة ثلاثة رجال سود الوجوه. لم أدر إلا وقد أنزلت بهم ذراعي صاعقة من نار، رفعت وجهي للشمس وهتفت: شكرًا يا رب الأرباب زيوس! كدت أجدف باسمك، لكنك أطلقت صواعقك من يدي وذراعي. وتناهى إلي صوت وقور جذبني إليه احتواني: من أنت أيها الشب المتهور؟ نظرت في داخل العربة فرأيت شيخًا جذبتني كذلك نظرة عينيه واحتوتني. تأملتها لحظة وارتعشت. آه يا ابنتي! ما الذي جعلني أرتعش في تلك اللحظة؟ ما الذي جعل تلك اللحظة تسطع كشرارة البرق في ليل العمر؟ قلت في غضب: ومن أنت أيها الشيخ؟ قال الرجل في هدوء: أنا الذي يسألك: من أنت يا ولدي؟ صحت دون أن أنتبه إلى الكلمة الأخيرة: وأنا ضيعت ملكي بحثًا عن جواب هذا السؤال. قال العجوز: لكنك لم تنطق بسؤالك. صحت غاضبًا: وهل سأجد الجواب لدى عجوز مثلك؟ إني أسأل ما الإنسان؟ تفكر العجوز قليلًا وقال: وتريد أن تقابل الهولى؟ وتضيع ملكك لتفوز بملكٍ آخر؟ وتحل اللغز لتقضي على الوباء؟ اذهب يا ولدي اذهب! هتفت: بل تذهب أنت أيها العجوز أعرَّاف أنت تهرف بالنبوءات أم قائد عصبة من اللصوص الذين صعقتهم بعون رب الصواعق؟ قال الرجل وهو يشير بسوطه: لا تتهور يا ولدي لا تتكبر. اسمع قولي: عد من حيث أتيت. قلت وأنا أتحداه بعصاي: ليس قبل أن تقول لي من أنت؟ تضرع بصوتٍ باك: أنا الهارب من نبوءة قديمة ليسأل إله هذه الأرض نبوءة جديدة، حاذر يا ولدي وارجع، حاذر يا ولدي. قلت: عراف كاذب. شأنك شأن العراف الآخر. لن أرجع لأبوي ولن أخشى النبوءة. قال العجوز: وتصمم على حل اللغز؟ قلت: حتى الموت. لوح بالسوط، وقال: هذا السوط سيمنعك رأفةً بك. صعدت إلى العربة، ورأسي يحترق بنار الغضب ونار الشمس: وأنا أنزعه منك، وأنزع منك الروح إذا زدت. هجمت عليه وشددت السوط من يده، وفي لمح البصر وقع الشيخ على الأرض، فشجت رأسه على حجرٍ كان قد أوقف العجلة عن السير. وحين انحنيت عليه لأساعده على النهوض التقيت بعينيه. آه يا حبيب! ليتني ما نظرت إلى هاتين العينين! هزتني الرعشة التي ظلت طول العمر تزلزلني، نفذت نظرته كالسكين بقلبي. لا لا. عانقت القلب كموجة ضوء أو ماءٍ صاف. آه يا ابنتي! لن أنسى تلك النظرة أبدًا. لن أتخلص من تلك الرعشة أبدًا. وها هي ذي تعاودني الآن. تعاودني وترج أعضائي المتصلبة وشعراتي البيض. تجيش وترتفع وتدمدم وتتدفق من عيني. اعذريني إن بكيت الآن أمامك. اعذريني إن بكيت.
أنتيجونا : أبي. أبي. أبي.
أوديب : حبيبتي. أنت أيضًا يا صغيرتي، أتبكين على أبي أم تبكين على أبيك؟!

٣

الجوقة :
الهولى تقف على أسوار مدينتنا
تتربص بالداخل والخارج منها.
وحش يربض في مخبئِه أم عذراء فاتنة الوجه؟
لا نعرف شيئًا لم نرها أبدًا.
لكن حدثنا عنها الآباء وحدثنا الأجداد.
قال الكاهن ما قال وحذرنا منها.
قالت رسل الملك ابتعدوا عنها
وتغنى الشعراء بأغنية
راحت كل الناس ترددها؛
أغنية غامضة لا أفهمها
ولهذا أعرض عن أسرار الغيب وأشغل نفسي
بأمور العيش وما ألمسه بيدي
وما تنظره عيناي.
أما أنت فأشفق منك عليك،
لو كنت رأيتك يا مسكين لناديت: لا تتهور!
ارجع يا أوديب! ارجع بالفرس الجامح من حيث أتيت
ارجع يا أوديب!
أوديب : لا لن أرجع أبدًا. ولو سمعتكم أيها الشيوخ ما ترددت عما صممت عليه. لقد خرجت ولن أعود. حيًّا أو ميتًا لن أعوز، كم حللت الألغاز الصغيرة، وأجبت على الأسئلة البسيطة. كم قرأت في كتب الحكماء، وتحيرت مع أسرار الشعراء، لكني اليوم أواجه لغز الألغاز والأشرف لي أن أحله أو أموت على الأسوار.
تقدمت وتقدمت. بدت قمم الجبل من بعيد، وأشباح تماثيل الآلهة المقدسة. ثم برزت الأسوار وظهرت الأبواب الحديدية. سرت وسرت. وعاصفة تدوم في قلبي، ويضطرب لها جسدي كالطير التائه في الريح. هل أدق على الباب؟ هل أعلو السور وأنظر؟ أين أجد مخبأها وكيف أواجهها؟ هل أناديها: اخرجي أيتها الهولى التعسة! أم أترضاها بالكلمات الحلوة: ابرزي من خدرك أيتها العروس؟ هل أعثر على خيطٍ يهديني إليها أم تلتف حولي خيوط العنكبوت؟ ليكن ما يكون. ولتلتف خيوط القدر كما شاءت حول رقبتي. فأنا أحمل قدري في صدري، ولن أتركها تخنقني. ولماذا سافرت وغامرت؟ ولمن خُلِقت الجرأة والجسارة؟ ألم تُخلَق للإنسان؟ ألم أخرج بحثًا عنه؟ وإذا خذلته في قلبي فأين ألقاه؟ وفجأة وأنا أتجول أمام السور سمعت الصوت. لم يكن خشنًا ولا عميقًا مظلمًا كأصوات النبوءات. كان رقيقًا يوشك أن يخرج من فم إناء:

– تتقدم أو لا تتقدم؟ إني أراك حائرًا.

– بل أتقدم. لقد تركت ملكي وأرضي ولن أعود.

– إلا بعد أن تحل اللغز؟ أليس كذلك؟

– نعم. هذا ما أنويه.

– وهل تعرف الثمن أيها الشاب؟

– أعرفه وأريد الآن أن أعرفك.

–تعرفني؟ يالك من جريءٍ متهور!

– هذا ما أطلقوه عليَّ، وقد صممت أن أخترق السور أو أموت عليه. هيا أرني وجهك.

– ولا تخاف؟!

– لا أنكر خوفي.

– ألم يحكوا لك عن الهولى؟

– وعن عذراء لها مخالب مقوسة.

– ولا تخاف أن تنشب المخالب في رقبتك لتشرب دمك، لا تخاف أن تطأك بقدميها وتسحق جسمك الهش، لا تخاف.

– أخاف. أخاف. قلت هاتي ما عندك.

– إذًا أدر وجهك نحوي أيها الشاب الجميل.

– لن يصعقني جمال وجهك.

– لا تجزم بشيءٍ قبل أن تراه.

– ولن تخنقني خيوطك.

– حتى لو كان فيها خيطك؟

– لن أتركه يلتف عليَّ.

– إذا لم يلتف عليك الآن فسيخنقك غدًا.

– تعودت ألا أفكر في الغد. اللحظة هي ما يعنيني. هيا!

– من سبقك كانوا مثلك.

– وأعلم أين هم الآن. في جوفك.

– جمال وجهك لا ينبئ عن قسوة قلبك.

وبرز الوجه من المخبأ الصخري. وجه أجمل من أفروديت، حزين كقمر شاحب أو شمس غاربة. تنبعث منه أشعةُ حُسنٍ طاغٍ. سألت نفسي: وجه هذا أم فخ؟ خاطبتها في همس: ما أجمل هذا الوجه! هل يمكن أن يكون لصاحبه قلب قاسٍ ويد قاتلة؟

– تأمله، ثم احكم.
أوديب : أوشكت أن أغرق في الجمال الذي نسجته ألحان جميع الشعراء، لكنني أفقت كالغريق وحولت وجهي سريعًا، حتى لا يجذبني فتنهشني المخالب. ضحكت واستمرت في الضحك وقالت:
الهولى : لا تنظر وجهي. انظر يدي.
أوديب : لا وجهك ولا يديك. هاتي اللغز!
الهولى : ألا تتطلع لمن حاصرت طيبة، وصنعت الوباء، وسفكت دماء الأبطال؟ ألا تحب أن ترى العنكبوت التي غزلت خيوط القدر الفظيع، وأوقعت فيها المدينة البائسة؟
أوديب : لا أصدق. لا أصدق.
الهولى : ألم تعرف من قبل أن وجه الغدر ساحر جميل، أن يد الخديعة ناعمة الجلد والأظافر، أن قلب الظلام ساكن عميق، أن خيوط الكذب رقيقة دقيقة؟
أوديب : سأمزق هذه الخيوط.
الهولى (تقترب منه) : وتمزق ضلوعي؟
أوديب (مبتعدًا) : ألم تنسجي بها القدر الفظيع؟ ألم تنثري بها بذور الموت والعقم والجدب والفناء؟ ألم تحولي طيبة …
الهولى : أنا؟ يد واحدة تصنع هذا؟! إنك تعطيني قوة لا أملكها، تنسب لي شرفًا لا أستحقه. ما زلت غريرًا أيها الشاب. آه! نسيت لم تقل لي اسمك.
أوديب : وكيف غاب عن لوح قدرك؟ ألم تنسجي خيوط قدري؟
الهولى : كم تضحكني! كانوا مثلك مغرورين.
أوديب : لكني لست مثلهم. هاتي لغزك.
الهولى : قبل أن تريني وجهك؟ قبل أن تقبلني؟
أوديب : أقبل الأفعى في نابها؟ أُدخِل قدمي في جحرها؟
الهولى : سامحتك الآلهة! لست مخيفة إلى هذا الحد (تبكي).
أوديب : دموع الأفاعي. أعرفها جيدًا فلا تخدعيني.
الهولى : وهل تعرف أنني مخدوعة؟
أوديب : والوباء؟ والجدب والموت والخراب؟ وطيبة التي تنكفئ على بؤسها كجثة عجوز؟
الهولى : لو منحتني قبلة واحدة لعرفت أني لست مثلها جثةً ولا عجوزًا.
أوديب : تعلمت من الأموات أكثر مما تريدين، لن تخدعيني أيتها اﻟ…
الهولى : الأفعى والعذراء والكلبة المغنية، ألا أستحق مع ذلك قبلة منك؟
أوديب : بأي حق؟
الهولى : لأنك لو حللت اللغز فسوف تقتلني.
أوديب : أوتقتلينني، ليس في هذا جديد.
الهولى : لا تفرح قبل الأوان.
أوديب : لم آت لأفرح أو أحزن. أتيت لأحل اللغز.
الهولى : تتعجل موتك أو موتي، لم أعرف أحدًا قبلك فقد الصبر إلى هذا الحد.
أوديب : وسترين أنني لم أفقد الشجاعة.
الهولى : فلماذا تتردد؟
أوديب : عن أي شيء؟
الهولى : شجاع وغبي، دائمًا ما يجتمعان في واحد. ألا تساوي التضحية من جانبي؟
أوديب : ما هي هذه التي تساوي تضحيتك؟
الهولى : القبلة الصغيرة أيها الغبي.
أوديب : وما الفائدة إذا كنت ستموتين؟
الهولى : أموت على صدر المنقذ من الوباء، أهذا شيء قليل؟
أوديب : خدعة جديدة؟ لقد تعلمت ممن سبقوني.
الهولى : ستعرف أنك لم تتعلم ما يكفي.
أوديب : لا يهم، سيعرفه شيخ شاب شعره، وانحنى ظهره.
الهولى : وبكت عيناه بحور الدم. وارتكب أفظع ما يرتكب إنسان أو حيوان.
أوديب : لن يكون أفظع مما ارتكبته أنت.
الهولى : ما زلت تعطيني قوة لا أملكها. تنسب لي شرفًا لا أستحقه. القبلة أولًا.
أوديب : اللغز أولًا.
الهولى : وإذا حللته وقتلتني.
أوديب : ربما فكرت في تقبيلك.
الهولى : إنني لا أتسول أيها المغرور، ولو قتلتني فلن أموت.
أوديب : لغز آخر؟
الهولى : لأنني أبعث دائمًا من جديد، كلما عصف الوباء بمدينة وجدتني أقف على سورها. أسأل نفس السؤال، وأنتظر نفس الجواب، فإذا حله البطل شب وباء آخر في أجساد البشر وأرواحهم، وظهرت مرة أخرى على السور، ستقتلني أيها الشاب، ولكنني لن أموت. ستقتلني ولن أموت.
أوديب : أوتقتلينني وأحيا في بطلٍ آخر.
الهولى : وسنلتقي من جديد، ويومها لن أطالبك بشيء؛ لأنك ستكون عجوزًا بلا أسنان.
أوديب : إذًا فأجلي طلبك إلى ذلك الحين.
الهولى : لأقبل قبرًا؟ لأعانق جثة؟ القبلة يا أوديب!
أوديب : اللغز أولًا.
الهولى : عنيد كالصخر مثل كل الأبطال، شجعان وأغبياء.
أوديب : أعدك ألا أحرمك منها.
الهولى : تتعجل موتك أو موتي، لا بأس، يبدو أن القدر قد دبر كل شيء، أن تكون البطل أوديب، وأكون أنا الضحية، التفت إليَّ يا أوديب، لست كريهة إلى هذا الحد، لست قبيحة كما صوروا لك، وعندما تعرف …
أوديب : عرفت كل شيء.
الهولى : مغرور وجميل، هل عرفت هذا أيضًا من الكتب؟
أوديب : ماذا تقصدين؟
الهولى : إنني لست كما صوروني، إنني الضحية التي يقدمها كل الأبطال. إن الأبطال كذلك يصبحون ضحايا.
أوديب : تنظرين للمستقبل.
الهولى : بل للماضي.
أوديب : وأنا لا أنظر إلا للحاضر، لا أشعر إلا بالواجب، لا أفكر إلا في الإنقاذ، طيبة تنتظر أيتها العذراء، طيبة تحتضر وستموت إن لم تقدمي اللغز.
الهولى : وأنا سأموت إذا استطعت أن تحله (تبكي).
أوديب : لكنك ستعودين.
الهولى : وسنلتقي كما قلت لك. ويومها لن أطالبك.
أوديب : أعدك أن أعطيها لك، لكنك لن تخدعيني، هاتي لغزك أولًا.
الهولى : ألا تلتفت إليَّ على الأقل؟
أوديب (يلتفت ثم يدير وجهه بسرعة) : الأفضل أن يصعقني لغزك، على أن يصعقني جمالك.
الهولى : لن أتركك تلح عليَّ، قل أيها الشاب العنيد المغرور، قل يا من عرفت وفكرت وصممت، يا من حللت كل الألغاز، ولم يبق سوى هذا اللغز (في صوت غامض) ما هو ذلك الذي يحبو في الصباح على أربع، ويسير في الظهر على اثنتين، ويتوكأ في المساء على ثلاث؟ ما هو هذا أيها الجميل البريء؟ ما هو أيها الغبي العنيد؟
أوديب (ضاحكًا بصوتٍ عال) : ها! ها! ها!
الهولى : وتضحك أيضًا؟ إنك أول من يضحك.
أوديب : كانوا يرتعشون أمامك، كانوا ينتفضون من الرعب.
الهولى : مني أيضًا، ومن اللغز.

(أوديب يضحك، يزداد ضحكه.)

الهولى : وتصر على ضحكك؟ هل عرفته؟
أوديب :
أرأيت يا أوديب؟ هذا ما جئت تبحث عنه.
هذا ما تركت من أجله ملكك وأرضك وشعبك.
هذا من تبحث عنه، هذا من تبحث عنه.
الهولى : من؟ من يا أوديب؟
أوديب : أيتها الهولى، أيتها الهولى، هو من يقف أمامك.
الهولى : يقف أمامي؟ ما أكثر من وقف أمامي!
أوديب : هو من تنظرين ولا ترين، من تسمعين ولا تفهمين، من تخدعين ولا تعرفين.
الهولى : وهو من يخدع نفسه، من لا يعرف نفسه.
أوديب : وهو كذلك أحيانًا.
الهولى : بل في كل مكانٍ وزمان. من؟ من؟
أوديب : أما زلت تسألين؟ اسمعي إذًا. هو الإنسان.
الهولى : حقًّا يا أوديب، لم يعرفه أحد قبلك، آه! آه!
أوديب : معذرة، لم أقصد أن أوذيك.
الهولى : لن ينفعني اعتذارك، إنني أموت (تتهاوى مصعوقة).
أوديب : وأنا لا أنسى وعدي (يسرع إليها ويقبلها) آه يا ابنتي! وكانت شفتاها باردتين، قبلتها وأنا أصرخ، حتى الجمال يموت أيضًا، وارتفع صراخي وأنا أحمل جثتها بين يدي: أوديب، أوديب أحقًّا حللت اللغز؟ أحقًّا حللت اللغز؟!

٤

أوديب : «هل أنا في هاديس؟ أتلفت؛ حولي أشباح وظلال، خلفي أشباح وظلال، أم أنا في طيبة؟ طيبة ذات البوابات السبع؟ لا لا إني أنكر عيني، عيني تنكر ما تبصره. هذا قبر. هذا قبر. قلبي يرتجف من الرعب» هذا يا ابنتي ما قلته لنفسي، وأنا أخطو أول خطوة على الطريق. لا بد أنني هبطت إلى العالم السفلي. لا بد أنني أخطأت الطريق. أتكون الهولى حلمًا أو وهمًا من أوهامي؟ هل أنا حقًّا من حل اللغز؟ من كشف قناع السر عن الإنسان، وها هو يسعى للإنسان؟ مر على ذلك اليوم الذي لا أنساه … ساعديني يا ابنتي كي أتذكر. ساعدوني أيها الشيوخ يا من كنتم حينئذٍ صبية وشبابًا، حاولوا أن تتذكروا.
الجوقة :
نحن نذكرك يا أوديب.
يا من أقبلت لتنقذنا من الوباء،
يا من مزقت خيوط اللغز فهوت العنكبوت.
سقطت في هاديس فابتلعتها كلبة الجحيم،
وتعالت صيحتها في آذان المنكوبين.
أوديب : أجل أيها الشيوخ. لا بد أن صيحاتها أيقظت الأموات. والأموات بُعِثوا من القبور. ارتفع صوت بعد صوت، وانطلق رسول بعد رسول، وأقبلت الحشود من كل اتجاه. كالغربان الجائعة حطت من كل سماء. يتعثر جسمي في أشلاء تصدم عيني الأوراق الصفراء تجرحها الأشجار العجفاء، يمدون إليَّ الأيدي والأعين والأعناق. يتفحم نور في قلبي يشتعل سؤال: أنتم أبناء الإنسان؟ من يقف على قدميه ويرفع رأسه. يشمخ بجبينٍ عالٍ نحو الشمس. ويمد يديه إلى الأنجم، يسرج منها مصباح الأمل، يضيء ظلام الأرض. إخوتي أبنائي! ما الذي جعلكم تدبون على الأرض كالديدان والحشرات؟ أي لص خطف منكم النار التي أتاكم بها جدكم الشجاع؟ وتردون أيها الشيوخ وتقولون:
الجوقة :
ليس لصًّا واحدًا، بل لصوص عديدون سرقوا منا النار، وسرقوا النور ربطونا إلى الصخور، وسلطوا علينا النسور، حتى صرنا صخرًا وحجارة.
أوديب :
واكتفيتم بالبكاء والأنين؟
ووقعتم مشلولين عاجزين،
تفقأ الجوارح عيونكم ولا تتحركون،
تأكل النسور أكبادكم ولا تنطقون؟
الجوقة :
دعونا الآلهة وصلَّيْنا،
أرسلنا الرسل إلى المعبد وسألنا.
النبوءة قالت: لعنة
والكاهن فسر ما قالته النبوءة،
قلب عينيه المطفأتين وقال:
قدر حل بطيبة
لن يرفعه إلا قدر مثله.
دنس ملعون لوث طيبة،
ويطهره دنس مثله.
أوديب :
قدر، دنس، لعنة!
كلمات لا أفهمها.
الجوقة :
نحن كذلك لم نفهمها؛
فصبرنا وسكتنا.
أوديب :
وعجزتم عن حلِّ اللغز فسلمتم،
واستسلمتم للذل فمُتُّم.
الجوقة :
رحنا ننتظر المنقذ
حتى جئت.
أوديب : ويلي منكم! ويلي منكم! هل ينقذكم إلا أنتم؟
الجوقة :
هل تصرح لغزًا آخر يا أوديب؟
أنت المنقذ أنت،
أنت البطل وأنت الملك،
وأنت الراعي يا أوديب.
أوديب : بل إنسان لا يتميز عنكم يقف على قدميه، ويطلب منكم أن تقفوا فوق الأرض تكونوا أنتم.
الجوقة :
بل أنت البطل المنقذ،
والملك القائد والراعي الملهم.
أوديب : وتعالت الأصوات كهدير البحر وقصف الرعد: البطل المنقذ. الملك القائد. الراعي الملهم. يا أوديب تقدم! يا أوديب تقدم!
كان الموكب قد التأم، وانضمت إليه حشود وحشود. انتفض الموتى الذين أهلكهم الجَدْب والجوع، فأخذوا ينادون ويغنون: البطل المنقذ. الملك القائد والراعي الملهم. الجموع تشير إليَّ وتهتف: يا من حل اللغز تقدم. وأنا أسأل نفسي: هل حللت لغزًا لأواجه ألغازًا؟ أقتلت الهولى لأجد أمامي آلافًا أخرى؟ وتنضم إلى الجموع أمواج من الحرس تزف الموكب، ووفود من النبلاء وأعيان المدينة. ويبدو القصر من بعيد، ترفرف فوقه الأعلام والزينات يسطع بأنوار المشاعل في وهج الشمس. ويشق الصفوف وجه مهيب تطل منه عينان صارمتان: مرحبًا يا أوديب! أسأله: وتعرف اسمي؟ فيرتفع صوته: النبوءة صدقت يا ولدي. حتى اسمك لم يغب عنها. أتلفت للرجل المهيب، وأسأل: ومن أنت؟ فيضحك الشيوخ ويقولون:
الجوقة :
نعم ضحكنا. قلنا يا أوديب،
هل يجهل أحد سيد طيبة؟
من يرعى الأمن ويحكم فينا بالعدل؟
من تنام المدينة بإذنه وتصحو بإذنه؟
هل يجهل أحد كريون؟
أوديب : هل أنت الملك؟
كريون : بل جئت أسلمك مقاليد الملك.
أوديب : وبيد من كانت قبلي؟
كريون : بيد من ذهب ولم يرجع، ولهذا وضعني هؤلاء الشيوخ بدلًا منه.
أوديب : هل ذهب قبل ظهور الوباء؟ وانطلق صوت أجش عميق، ألتفت إلى مصدره فأرى شيخًا أعمى يتقدم نحوي وصبيًّا يسحبه من يده.
الشيخ الأعمى : النبوءة صدقت يا ولدي. فلماذا تسأل؟
أوديب : يسأل من يريد أن يعرف؟
الشيخ : ألم تشبع من السؤال؟ ألم تحل اللغز؟
أوديب : والآن أسمع ألغازًا أخرى.
الشيخ : اتركها للقدر يجيب عليها، النبوءة ستجيبك عنها. الأسطورة مسطور فيها.
أوديب : القدر؟ النبوءة؟ الأسطورة؟ هل أقتل هولى كي تُبعَث أخرى؟ الآن.
كريون : الآن تؤجل أسئلتك، تجلس فوق العرش وتحكم.
الشيخ : وأباركك وأضع التاج على رأسك.
أوديب : أنا لم آتِ لأحكم.
الجوقة : أنت الحاكم منذ اليوم.
أوديب : وسكتُّ وأخذت أنظر إليكم يا أهل طيبة. نظرت للرجل المهيب والشيخ الأعمى فعرفت. ثم أنشأت أقول بصوتٍ عالٍ: أنا لم آت لأحكم. جئت لأتعلم منكم، وأعلم أن الحاكم لا يتحكم. أن السلطة لا تتسلط لا تظلم. والحاكم إنسان منكم لا لغز مبهم. اسألوا أنفسكم يا أهل طيبة: من ذلك الذي يحبو في الصباح على أربع ويسير في الظهر على اثنتين ويتوكأ في المساء على ثلاث؟ لقد صعقت الهولى حين أجبتها: هو الإنسان. لم يتصور أن يعرف إنسان نفسه. لم يتصور أن يملك قدره. أن يحل اللغز، ويحطم الأسطورة. لقد حللت اللغز يا أهل طيبة، وجئت لكي تحلوا ألغازكم. مزقت نسيج الأسطورة التي التفت حول رقبتي، وجئت لتمزقوا أساطيركم. ليس الإنسان دودة، ولا إلهًا، انظروا إلى قلوبكم تجدوه. قفوا على أقدامكم تعرفوه. أطلقوه من أقفاص صدوركم. علموه كيف يغني ويحب ويعمل ويفرح. علموه ألا ينخدع بقفص ولا يأمن لصياد. عشتم أمواتًا، فتعالوا نتحدى الموت. سقطتم في الهاوية، فهيا نبدأ من الصفر. أهلككم الوباء فلتكونوا وباء عليه. أنا لم آت لأحكم أو أتحكم، بل جئت لأبدأ معكم منذ اليوم. لم آت لأصبح هولى أخرى.
الجوقة : أنت قتلت الهولى يا أوديب. أنت قضيت على الوباء يا أوديب.
أوديب : يمكن أن تزحف هولى أخرى. مئة أو ألف. يمكن أن يذهب وباء ويأتي وباء أشد، فلنبدأ منذ اليوم، فلنبدأ منذ اليوم.
الجوقة : فلنبدأ يا أوديب. فلنبدأ يا أوديب.
أوديب : وأشار كريون بيده، فاحتبس الصوت الهادر، والتفت إليَّ وقال:
كريون : بل تبدأ منذ الغد. المنقذ يحتاج إلى الراحة. اذهبوا الآن أيها الشيوخ والأبناء والزوجات والبنات. أم الملك فيدخل الآن إلى القصر، فالجائزة الكبرى تنتظره.
الجوقة : بل جاءت بنفسها يا كريون ها هي ذي تتقدم منه، ما أسعده بالزوجة والملكة! ما أسعدها به! أما نحن فنذهب ونعود صباح الغد.
كريون : أختي؟ ها هو ذا المنقذ والملك الزوج. أما نحن فنذهب أيضًا. هيا يا تريزياس. هيا يا أبناء مدينتنا هيا. هيا.
أوديب : آه يا ابنتي! كيف أنسى هذه اللحظة؟ نظرت فرأيت سيدة جليلة تقف أمامي وتبتسم. لماذا شعرت بالرهبة والحنان؟ لماذا أحسست أنني أريد أن أقبلها وأن ألقي رأسي على صدرها، وأغيب في أحضانها، لماذا اشتعل دمي، وارتجف قلبي في آنٍ واحد؟ لا بد أن عيني قد زاغت فلم أر شيئًا ولم أحس أحدًا، حتى أفقت على قبلة تُطبَع على جبيني ويد تضغط على ذراعي، وصوت دافئ يمتد إليَّ ويقتادني: يا ملكي وولدي الحبيب، لقد غابت الشمس وذهب الجميع ألا ندخل إلى القصر؟

٥

أوديب : وازداد شعوري بالرهبة حين وقفت على باب المخدع. كانت أمك قد أخذتني من يدي ودارت بي في أبهاء القصر وحجراته وشرفاته وتجدد عندي الإحساس بأني في هاديس أخرى. إني والمرأة الجليلة الممتلئة التي تسير بجانبي شبحان تائهان. لن يلبث أن يهبط إلينا الملك الزوج الغائب، فيقبض على صدري ويسألني: ماذا تفعل في بيتي؟ كيف تفكر في الدخول إلى مخدعي وتدنيس فراشي؟ بل كدت أتخيل نفسي أمام محكمة الآلهة الذين يثبتون في عيونهم، ويهزون رءوسهم وخطوت إلى داخل المخدع، فارتفع وجيب القلب، وزاغ البصر وتاه. كنت أستند إلى الجدار حين أقبلت علي ومدت يدها، فأخذت يدي وهمست في حنان.
جوكاستا : مضطرب أم خجلان؟
أوديب : لا أدري. إحساس لا يمكنني وصفه.
جوكاستا : هل كنت تتوقع جائزة أخرى؟
أوديب : أنا لم أتوقع شيئًا.
جوكاستا : ويظل البطل بلا جائزة؟ ألم تعده النبوءة بزواج الملكة؟
هل يمكن أن تبخل طيبة على من قتل الهولى وخلصها من الوباء؟
أوديب : طيبة لم تبخل عليَّ إن كنت قد أعطيتها شيئًا، فما زال عليَّ أن أعطيها.
جوكاستا : يبدو يا أهل كوزنثة إنكم مختلفون عنا. أم إنك زهدت في المكافأة بعد أن رأيتني؟
أوديب : ماذا تقصدين؟
جوكاستا : ربما كنت تنتظر شيئًا آخر.
أوديب : قلت لك لم أنتظر شيئًا، قلت لك.
جوكاستا : إنك أعطيت وتعطى، لكن عطايانا …
أوديب : تكلمي أفصحي عما تريدين.
جوكاستا : لعلك توقعت امرأة أخرى. عذراء في مثل سنك وشبابك حلوة الوجه، لم تنبت في رأسها شعرة بيضاء (تبكي).
أوديب : تبكين يا … (تضع رأسها على صدره فيضمها إليه.)
جوكاستا : جوكاستا. حتى اسمي لم تسأل عنه. (تقبله) أنا أيضًا كنت شابة يا أوديب.
أوديب : قُبْلَتُكِ تقول: وما زلت.
جوكاستا : أعلم أني في عمر أمك.
أوديب (يقبلها) : وزوجتي وحبيبتي.
جوكاستا : وأين هو؟ لا بد أنه الآن شاب قوي. هل يتجول مثلي في أرجاء الكون؟ هل أمرته نفسه أن يحل لغزًا آخر ويقتل وحشًا آخر يتربص بمدينة أخرى؟ هل …
جوكاستا : هل … هل … الآن أصدق ما سمعته عنك.
أوديب : وماذا سمعت؟
جوكاستا : أنك لا تكف عن السؤال. هل تنسى أن السؤال يلد أسئلة أخرى، أن كل جواب يحمل بذرة سؤال جديد؟ هل تعلم يا صغيري المسكين؟
أوديب : أعلمه؟ إني أحياه. وهل جاءني إلى هنا شيء سواه؟
جوكاستا (ضاحكة) : لا شيء؟! حتى الجائزة التي بين يديك؟
أوديب (يقبلها) : لم تتكلمي. أين ذهب صغيرك الآخر؟ مع أبيه؟
جوكاستا : ليته ذهب معه في ذلك اليوم. لو فعل لتغير حالي، لكن النبوءة شاءت أمرًا آخر.
أوديب : دعينا الآن من النبوءة.
جوكاستا : وكيف أنساها؟ كيف نسي ما حدث؟ (تبكي) سأل الآلهة فقال الكاهن.
أوديب : تريزياس!
جوكاستا : وكيف عرفت؟
أوديب : أكملي ماذا قال؟
جوكاستا : أنذره أن الطفل سيقتله يومًا، لم يكتفِ بهذا.
أوديب : ماذا؟ ماذا قال؟
جوكاستا : ولم اللهفة؟ آه يا أوديب. لا أدري إن كان عليَّ أن أضحك أو أبكي.
أوديب : عليك أن تكملي.
جوكاستا : لكي تعرف، دائمًا تريد أن تعرف. قال ويتزوج أمه.
أوديب : ولهذا أمرته النبوءة أن يتخلص منه.
جوكاستا : ولم يكتف بهذا، ما أبغضه من زوج! ما أتعسه من أب!
أوديب : وتلعنينه أيضًا؟
جوكاستا : بل أستمطر اللعنات عليه، لا أقوى حتى أن أذكر اسمه.
أوديب : يستحق اللعنة من يتخلص من ابنه.
جوكاستا : ويستحقها مرتين من يشيع بين الناس أن أمه هي التي تخلصت منه. إنها هي التي سلمته لمن يلقيه وحيدًا في الجبل، وحيدًا بين أنياب الوحوش وجوارح الطير (تبكي).
أوديب (يربت على كتفيها ويضمها لصدره) : معذرة يا جوكاستا انسي ما قلت.
جوكاستا : وتساعدني على النسيان؟
أوديب (يقبلها) : وتساعدك بنات وأبناء تعوضك عنه، وحنان أبيهم.
جوكاستا : تحتاج إليه أم حرمت منه، عشرين سنة يا أوديب.
أوديب : يا زوجتي وأختي وأمي وحبيبتي.
جوكاستا : يا زوجي وأخي وولدي وأبا عيالي (يضحكان).
أوديب : وضحكنا في تلك الليلة وبكينا. وعرفنا معنى الحب، ومعنى الجسد، ومعنى الخوف، ومعنى الأمل، وداعبناهم حتى طلع الصبح. وظللنا نداعبهم كلما ولد لنا ولد أو بنت. جاء أخواك أولًا يا ابنتي. كم فرحنا بهما وكم دللتهما ولعبت معهما لعبة الفارس والحصان. كم تابعناهما وهما يكبران ويتصارعان على ركوب الخيل ورمي الرمح. وكم حاولت أيضًا حين كبرت أن تهدئي نزواتهما وتعقدي الصلح بينهما دون فائدة. آه يا صغيرتي! كنت دائمًا أمًّا صغيرة. نموت أمام أعيننا، ونما معك ضميرك الذي عذبك كثيرًا، وسوف يعذبك يا ابنتي. وشعرت بأنك مسئولة عن أخويك، وعن أختك التي لا تكترث بشيء، إلا أن تنظر في المرأة، وتتأمل حسن ملامحها في ماء النبع وتنسج قصص الحب مع الصبية والخلان. إلا أنت يا حبيبتي. إلا أنت.
أنتيجونا : أحبك يا أبي. أحبك يا أبي.
أوديب : وهل كنت أعيش بغير الحب؟ هل كنت بغيرك أنت سأُدعَى بين أهالي طيبة بالأب؟ هذا هو أوديب الزوج الصالح، هذا هو أوديب الأب. في كل مكان أظهر فيه تطرق سمعي نفس الكلمات: أوديب الراعي. أوديب الأب. أوديب المنقذ من فم الموت. وكما تعلمت مني الحب علمتنيه. رحت أنثر بذوره في كل أرض. أذهب للزُّرَّاع وأغرس معهم بذر الحب وبذر الحب. ينمو الزرع ويورق، يزدهر ويثمر، يجري حبًّا في حب أذهب للصناع، فأسألهم وأحاورهم، أعمل معهم، أنسج، أطرق، أنجر، أبني الحب على الحب، يأتي الشعراء إليَّ فأستقبلهم، أسمع منهم، وأردد معهم حبًّا في حب. تزدهر قلوب الناس وتثمر. تزدهر عقول الحكماء وتثمر. يرتفع بناء بعد بناء، يعمر بالحب وينبض بالحب وتولد فيه أطفال الحب. رفعت الديون عن الزراع، أخرجت المساجين من السجون. علمت الحراس أن يحرسوا المدينة لا أن يفترسوها كالذئاب. حرستهم من أنفسهم ومن الأعداء داخل المدينة وخارجها. أما اللصوص والمذنبون فوضعتهم أمام ضمير الشعب. وجعلت القانون هو السيد. وجعلت الكل يشارك في أمر الكل. والبحارة تشترك مع الربان. وسفينتنا تبحر آمنة في البحر الآمن ترسو في شط الأمن. وتوافد علينا الرسل من المدن الأخرى وهتفوا هذه طيبة أخرى. وأقبل الغرباء من البر والبحر، وتعجبوا: طيبة تحيا المعجزة الكبرى. حتى الشتاء خجل أن يقيم بيننا وحلَّ علينا ربيع دائم. وكلما مررت بإنسان في الشارع، أو في المصنع، أو في الحقل، أو المسرح هتف سعيدًا: أوديب الراعي، أوديب الأب. بل كان البعض ينادي: يا قديس. بفضلك صارت طيبة بستان الحب وحصن الأمن. بستان الحب وحصن الأمن، حتى كان صباح غابت فيه الشمس وضاع النور. كان الهمس يدور وراء ظهري، لكنني كنت أستقبل الغد، ولا أتلفت للأمس، أواجه النور ولا أهتم بالظلال التي تمد الخناجر في ظهري. كنت قد لاحظت أن أمك تكثر من التطلع من الشرفة في قلق. تجمعكم يا ابنتي وتضمكم وتقبلكم وتمنعكم من اللعب خارج القصر. وحين كنت أعود مرهقًا في المساء أو أداعبكم وأرفعكم إلى صدري تحذرني من تدليلكم وهي تهمس خائفة: ماذا يخفي لكم القدر؟ ماذا يخفي لنا؟ أضحك من خوفها وأهزأ بقدرها فتقول: نمت الشعرات البيض على مفرقك وما زلت كما أنت. أضحك بصوتٍ عالٍ، وأسأل: من؟! فتجيب وهي تقبلكم وتأخذكم إلى الفراش: نزق وجريء وبريء أهوج، لا تدري ماذا يجري حولك أو خلفك. يزداد ضحكي وأقبلكم قبل النوم: أنا لا أنظر حولي أو خلفي. ألم تعرفيني بعد يا أمي وأم عيالي؟ تتجهم. ترسل نظرات قاتمة، تنكفئ على أحزان القلب وتسكت.
لكن الهمس بدأ يشتد يومًا بعد يوم. وأبشع من الهمس أن يشيح الناس بوجوههم عنك، بدلًا من أن يحيوك ويفرحوا بك. وذات ليلة فاجأنا فيها برد وعواصف وظلام لم نألفه طوال السنوات العشرين. كنت راجعًا إلى القصر بعد جولتي اليومية في شوارع المدينة وأسواقها. لم أكن قد انتبهت إلى الفتور الذي قابلني به الناس. عزوته إلى الصقيع الذي حاصر البشر والبيوت والقطعان في الحقول، وتوقفت قليلًا عند بوابة القصر لأخلع سترتي الثقيلة، وأسلمها للحارس. أشاح بوجهه بعيدًا، تمتم بأصواتٍ مبهمة.

حسبته يرد تحية المساء، فسألته:
أوديب : ما لك يا ولدي؟

(الحارس: صمت.)

أوديب : لم لا تتكلم؟
الحارس : الأفضل ألا أتكلم.
أوديب : ولماذا يا حارس؟ اهمس إن شئت بأذني.
الحارس : يكفي ما في طيبة من همس.
أوديب : وبماذا تهمس طيبة؟
الحارس : لا لا أقدر.
أوديب : حذرني إن كنت أمينًا. انصحني.
الحارس : ما زلت أمينًا يا أوديب. ادع كريون وتريزياس.
أوديب : أدعوهما؟ لماذا؟
الحارس : إن كنت تريد التحذير أو النصح.
تركته وأخذت أدور حول القصر. كريون وتريزياس؟ لم يتفوه باسمهما اليوم؟ أوَلم يلزم كريون داره؟ أو لم يتخلَّ بنفسه عن الحكم ويسلمه إليَّ ليفرغ لتأملاته ورعاية ماشيته وقطعانه؟ والشيخ الأعمى؟ هل خرج من المعبد ليبث السم؟ ألم يعكف هناك على صلواته ولم يرني وجهه مرة واحدة؟ ماذا يحدث يا أوديب؟

ماذا يحدث حولك ووراء ظهرك يا أوديب؟

ورجعت بخطواتٍ متثاقلةٍ إلى القصر. كنت أقف على أول الدرج عندما لمحت صبية في مثل سنك، لم تكد تراني حتى ولت هاربة. جريت وراءها. أمسكتها من يدها وأخذت أطمئنها. تذكرت أنها رفيقة لعبك. أنك كثيرًا ما دعوتها معك إلى حجرتك لتريها عرائسك. سألتها:
أوديب : ماذا بك يا ابنتي؟ لماذا تقفين في البرد والظلام؟ لماذا خفت مني؟
الصبية : دعني! دعني!
أوديب : لن أدعك حتى تتكلمي.
الصبية : اسأل غيري. طيبة كلها تهمس.
أوديب : سمعت هذا من الحارس. وبماذا تهمس؟
الصبية : أنك … أنك …
أوديب : تشجعي. قولي.
الصبية : أنك قاتل والدك الشيخ.
أوديب : قاتل والدي الشيخ؟ وماذا أيضًا؟
الصبية : أنك دنست مدينتنا.
أوديب : أنا يا حبيبتي؟ الأب والراعي والقديس؟
الصبية : لما دنست فراش أبيك.
أوديب : وماذا يا صبية؟ تكلمي.
الصبية : لا لا أقدر.
أوديب : بل تقدرين، قولي ما سمعت.
الصبية : وتزوجت بأمك.
أوديب : أمي؟
تركت يدي يدها، رأسي تسقط كالحجر على الأرض. هربت الصبية مذعورة، وما هي إلا لحظات، حتى رأيتك قادمة من حديقة القصر تتلَفَّتِين حولك. ناديتك: صاحبتك ذهبت يا أنتيجونا تعالي. تعالي يا حبيبتي. وقفت أمامي كتمثال صغير. فتحت عينيك دهشة، ثم أخفيت وجهك بين يديك وصحت هاربة: لا، لا، لا ترني وجهك! لا ترني وجهك!

عندها بكيت وأنا أسأل نفسي: هل رجع الوباء؟ هل رجع الوباء؟

٦

أوديب : آه يا ابنتي! لا تريدين أن تري وجهي. الحارس أيضًا لا يريد. المدينة تتنكر لي. وسقف البيت وجدرانه تنهار على رأسي. ولبثت جالسًا على الدَّرَج طول الليل. الجميع نائمون في حضن الليل الهامس بالأخطار. أنا وحدي مؤرق الجفون. أأنا حقًّا دنس يا طيبة؟ هل يمكن أن يدنس نور الشمس الأشجار والأحياء؟ ألم تسموني الأب والراعي والقديس؟ أحقًّا قد خرجت عن طاعة الآلهة، وازدريت قوانينها المقدسة وسقطت في الكبر والغرور؟ ماذا ينتظرك يا أوديب؟ أي مصير يتربص ببناتك وأولادك؟ ماذا يحدث لمدينتك المسكينة؟ تردد في أذني نداء جوكاستا من الشرفة. لا بد أن القلق دفعها لأن تطل منها، وتهمس في سمع الليل المسود الوجه أوديب! أين أنت أوديب! ولكن ما أكثر الهمس في هذه الأيام والليالي! وحين أقبلتم أيها الشيوخ بنسائكم وأولادكم كنت ما أزال ممددًا على الدرج. أتأمل مصيري على مرايا النجوم. لمحت الذبول على وجوهكم والضنى في أعينكم. ورأيت أغصان الزيتون في أيديكم. وعرفت أنكم جئتم تستجيرون بالآلهة المقدسين، وتقدمون القرابين والدموع والأنين. وتكلم رئيسكم فقال:
الجوقة :
ماذا يحدث يا أوديب!
أحقًّا رجع الوباء لوطننا الحبيب؟
أوديب :
وأنا أسألكم أيضًا
يا رجال طيبة ونساءها:
ماذا يحدث لمدينتنا؟
الجوقة :
إن المصائب تتوالى علينا؛
فننظر حولنا حائرين.
ويختم إله مقدس على أفواهنا؛
فنصمت أمام أسراره المقدسة.
أوديب :
كنتم دائمًا حائرين،
كنتم دائمًا تنظرون وتتلفتون،
واليوم وقد رجع الوباء كما ترون
ألا تتحركون يا أهل طيبة؟ ألا تعلمون؟
الجوقة :
لهذا جئنا إليك يا أوديب،
يا من أنقذتنا من مخالب العذراء المجنحة،
يا من خلصتنا من الرجس الذي دنس أرضنا،
ها هو الرجس قد زحف علينا،
طرَقَ أبوابَنا وحاصر حقولنا ومراعينا.
أوديب :
وتريدون أن أنقذكم؟
ألم أعلمكم أن تنقذوا أنفسكم؟
ألم أضع الفأس بأيديكم لتحرثوا البستان؟
ألم تحملوا الرماح والدروع لتحموا الحصون؟
ألم تمسكوا المجاديف وتوجهوا السفينة؟
والمدن الأخرى شهدت أفراحكم،
وسمعت غناءكم وعزفكم على القيثار.
أولم تصبح طيبة بستان الحب وحصن الأمن!
الجوقة :
لكن سقطت الفأس من يد الزارع.
والمطرقة من يد الحداد.
والمنشار من يد النجار.
والقيثار خرست في كف الشاعر.
زحف السأم على الدار وأهل الدار.
ولهذا أرسلنا الرسل إلى سادتنا.
وسيأتون إليك الآن لتسألهم.
أوديب :
سادتكم؟ أسألكم عن رجسٍ صنعوه؟
نفخوا فيه النار لتحرقكم؟
الجوقة :
صبرًا يا أوديب، ولا تنفخ في نارٍ أخرى
إني أمتدح الرجل إذا رضي بحكم إله
يحجب عنا السر المبهم.
لا يكشفه إلا الحكيم أو عرَّافٍ ملهم
ها هو ذا يتقدم نحوك
يسحبه من يد طفل
وينوب عن العينين المطفأتين العكاز الأبكم
أقبل يا شيخ تقدم.
تريزياس :
ليتني بقيت أخرس أبكم.
ليتني لزمت معبدي وصمتي
فلم أخرج منه إلا إلى قبري.
أوديب : ولكنك لم تلزمه يا شيخ.
تريزياس :
أنا لم أتكلم. لن أتكلم.
عبثًا تطرح أسئلتك.
الجوقة :
أعرفك وأعرف أنك لن تتخلى عنا
لن تكتم هنا وحي أبوللو.
أو أسرارًا نقلتها الطير المسرعة إليك.
يا من تكشف ما في الغيب.
وتبصر ما في الأفق وتحت الأرض.
إن مدينتنا ملقاة بين يديك
كالجثة يصرعها الوحش الفاتك.
وهي مدينتك ومن يسكنها أبناؤك.
تريزياس : الأفضل أن تدعوني في صمتي.
الجوقة : ولماذا الخوف؟
تريزياس : اسألوا من صرع الوحش.
أوديب : تعلم أنني صرعته، ولكنهم يسألونك أنت.
تريزياس : يا من لا تخاف، إني أخاف عليك أنت.
أوديب : صمتك هو الذي يخيفني ويخيف هؤلاء الشيوخ، تكلم إذًا ولا تثر غضبي.
تريزياس : لو فعلت فسأثير غضبًا أشد.
أوديب : الحقيقة لا تغضب العادلين.
تريزياس : الحقيقة هي ما أقول دائمًا. والحقيقة تحميني من غضبك.
أوديب : وماذا تقول؟
تريزياس : أيها المتغطرس! يا من تتجرأ على حدود الآلهة! اسمع إذًا ما يقوله إلهي وإلهك: اعلم أنك أنت الرجس الذي يدنس المدينة.
أوديب : أنا الرجس الذي يدنسها؟ أنا من دعاني هؤلاء الشيوخ الطاهر القديس؟
تريزياس : لكن الإله يدعوك باسم آخر. وهو الذي يرى حقيقتك.
أوديب : سمعت هذا من قبل. استمر أيها الأعمى.
تريزياس : سأتحمل سخريتك كما أتحمل عقابك.
أوديب : قلت لك إني لا أخافك، ولا يليق بك أن تخاف عقابي.
إن نزل بك عقاب، فسوف ينزله هؤلاء.
الجوقة :
إنني خائف يا أوديب.
ولا أكتمك خوفي أيها الشيخ الملهم.
لست أدري ماذا أفعل؛
فأعنا أيها الإله ذو القوس الذهبي.
أرسل، بأمر رب الصواعق، برقك الخاطف ليضيء الطريق أمام سادتنا. ويذيب الثلوج السوداء التي تراكمت علينا.
تريزياس : اعلموا أنتم أيضًا أيها الشيوخ أن الإله يرسل برقه الخاطف، ولن يبدد الظلمات التي ترين عليكم، حتى تتخلصوا من الدنس الذي جلب اللعنة عليكم.
الجوقة :
وكيف نتخلص منه أيها الأعمى البصير؟
أين نجده وما هي العلامة التي تدل عليه؟
تريزياس :
لن تحتاجوا للعلامات والإشارات، إنه يقف أمامكم.
أوديب هذا هو قاتل أبيه وزوج أمه وشقيق أولاده.
الجوقة :
أواه يا قوانين الآلهة الخفية!
وأنت أيها القدر الذي دبره أبوللو.
أوديب : لم يدبره سوى هذا الشيخ. هل لديك خيط آخر تضيفه إلى مؤامرتك؟
تريزياس : ولماذا أتآمر عليك؟ ألست أنت الذي أخرجني عن صمتي؟
أوديب : ليكتشف هؤلاء الشيوخ حقيقتك.
تريزياس : فيسألوا أقرب الناس إليك.
أوديب : من تقصد أيها الملعون؟ أهي أيضًا تتآمر علي؟
تريزياس : ليسألوا شقيقها الذي كان سيد هذه المدينة.
أوديب : آه! أرأيتم يا أبناء طيبة؟ لم تكن وحدك إذًا! لقد تآمرت علي مع كريون لتجلس بالقرب من عرشه، ليكن النفي أو الموت عقابكما.
تريزياس : سمعت مني أنني لا أخشى عقابك.
أوديب : وسمعت مني أن هؤلاء …
الجوقة :
اهدأ يا أوديب. وأنت أيها الشيخ الحكيم.
لذ بحكمتك التي تبصر لنا ولك.
وأنت أيتها الآلهة التي تدبر كل شيء.
لا تتخلَّيْ عن سادتنا في وقت المحنة.
لا تتخلَّيْ عنا.
أوديب : أما أنا فلن أتخلى عن نفسي. لن أتخلى عنكم. وسأكشف المؤامرة قبل أن يحكم هذا الأعمى خيوطها مع شركائه، أيًّا كانت درجة قرابتهم لي سأعرف كل شيء.
الجوقة :
افعل يا أوديب.
يا من خلصت مدينتنا من الوباء،
لا تجعلني أقول إنك تركتنا،
أو جحدت أفضال المدينة التي رفعتك إلى قمم الأبطال،
بينما تركتها تسقط في الهاوية
بين أنياب الوحوش ذات المخالب القوية
والأجنحة المرفوقة كالعواصف العاتية.
أوديب : وعرفت أيها الشيوخ. عرفت يا ابنتي المسكينة. اندفعت إلى الهاوية كما يندفع النسر البائس. وأمك بجانبي تحاول أن تهدئ روعي، وتشد الريش من جناحي. كان رسول من كورنثة قد حضر إلى طيبة. أنبأني كما تعلمون بموت أبي بوليبوس الذي تركته على فراش المرض. مات بالشيخوخة لا بيد الطفل المثقوب القدمين الذي قال الأعمى الملعون إنه سيصرعه.
وتظل أمك يا ابنتي تحذرني وتتوسل إلي: اهدأ يا أوديب. النبوءات تكذب ولا يثق بها الرجل الحكيم. ألم أحك لك عن تلك النبوءة التي أعلنت لزوجي العجوز؟ ألم يأت رسول من كورنثة فيبدد وهمك؟ الطفل الذي تنبأت بأنه سيقتل أباك قد مات من زمنٍ طويل. وأبوك كذلك مات على فراشه في كورنثة. أما أمك فهي هناك في القصر تنتظر عودتك. اهدأ يا أوديب وسوف نزورها سويًّا. وستفرح بك وتضم البطل العائد إلى صدرها. وستضحك من أوهامك وخرافاتك يا زوجي، يا صاحب الرأس الحجري العنيد. وتضمك يا أنتيجونا أنت وأسمينا إلى صدرها تضعكما على صدري وهي تتضرع باكية: من أجل ابنتيك يا أوديب! من أجل ولديك الغائبين! فكر في مستقبل ذريتك، في مستقبل بناتك. ادفع عني يدها المتضرعة فتكبو فوق الدرج، وتصرخين يا أنتيجونا وتصرخ أختك. ويأتي رسول يستدعيني من داخل القصر، فأخرج على عجل، ويهمس في أذني بأنه قادم لتوه من السفر، وأنه فضل أن يلقاني قبل أن يدخل بيته ويرى أطفاله وينفض عن جسده غبار الطريق. أسألك: «ماذا عندك يا ولدي؟» يتأوه ألمًا ويقول: «سمعتها يا أوديب، سمعت صوتها الساحر المخيف.» «مَن يا ولدي؟» «الهولى يا أوديب.» «الهولى؟! أين؟ أين سمعت الصوت؟» يلتقط النفس الهارب ويتمتم: «عند الأسوار. حول البوابات السبع.» أسأله: «سمعتها أو رأيتها؟» «لا لم أَرَها. سمعت. سمعت.» «ماذا قالت يا ولدي؟» «لا أعرف يا أوديب؟ لم أفهم شيئًا ممَّا قالت. لكني سمعت اسمك أو هذا ما يبدو لي.» «اسمي؟ هل نادَتْني؟» يشهق بالدمع ويهتف: «أخشى هذا يا أوديب. يخرج صوت من قلب الحجر، وتخرج أصوات من جوف الأرض، تدوي في كل مكان: أوديب. أوديب.» أسأله: «هل قتلت أحدًا؟» «لا أعلم.» «هل طرحت لغزًا؟» «لا أعلم. لكن هذا ما تذكره عيناي وأذناي ورجفة قلبي الخائف: أوديب! أوديب!» تتدخل جوكاستا في الحديث، تصيح من أعلى الدرج: «نبوءة أخرى يا أوديب! نبوءة أخرى كاذبة!» أرد عليها: «تعلمين أنني أحتقر النبوءات. ثم إن هذا الرجل الفقير ليس كاهنًا أعمى!» تصرخ: «إنه يردِّد أسطورة، ينقل همس الأوغاد. يلف خيطًا جديدًا حول رقبتك. انتظر يا أوديب! لا تذهب يا أوديب!»

أهتف بها وأنا ألوح بذراعي: «تعرفينني يا حبيبتي، لا بد أن أعرف.» تبكي وتولول: «ليتك لا تعرف أبدًا من أنت. ليتك لا تعرف أبدًا من أنت.»

ويرن صوتي المبتعد مع خطواتي المسرعة إلى خارج القصر، إلى خارج المدينة: «لا بد أن أعرف! لا بد أن أراها!»

٧

أوديب : قادم إليك أيتها الهولى الملعونة! المدينة وراء ظهري تغط في نومها، أو في موتها. وأنا أسرع الخطى لأواجهك وأخنقك بيدي. انتظري أيتها الهولى الدموية ولا تشمتي. غني ما شئت من أغانيك الغامضة فلن تخدعيني. لا تغتري بالشعرات البيض على رأسي، فما زلت أسير على قدمي. لم أتوكأ بعد على عكاز، ولم أزحف على أربع. أنا الإنسان الذي حل اللغز وقتلك. أنا الذي وجد السر ولن يفقده أبدًا. مزقت الأسطورة التي نسجتها حول رقبتي، وسحقت القدر الذي فرضته على مدينتي. كيف بعثت من الموت، وقد حملت جثتك بيدي؟ كيف يسمعون صوتك وقد أسكتك إلى الأبد؟ أتكونين الحرباء التي تلونت بلون الموتى لتخدع عابري السبيل؟ هل عدت لتنتقمي مني أم عاد أبناؤك وأحفادك؟ سأواجهكم أيها المسوخ كما واجهت أمكم العذراء، سأنقذ المدينة من وبائكم الجديد كما أنقذتها من وبائك القديم. لن أهرب أيتها العذراء ولن أتراجع. لن يخدعني حسنك أو سحر كلامك. وأنا أوديب القادم إليك. أوديب الذي يسير على اثنتين، ولا يزحف على أربع. أوديب …
الصوت : أوديب! أوديب!
أوديب : أعرف صوتك، أعرف وجهك.
الصوت : هذا وهم يا أوديب، لم تعرف شيئًا. لم تعرف شيئًا. لم تر شيئًا أوديب، كنت تحلم.
أوديب : أحلم مفتوح العينين؟ أولم أقتلك وأحمل جثتك على ذراعي؟
الصوت : ونسيت ما قلته لك.
أوديب : وماذا قلت؟
الصوت : إنني أقتل ولا أموت.
أوديب : سأقتلك اليوم كما قتلتك بالأمس.
الصوت : وهم آخر، لقد قتلت جدتي الساذجة.
أوديب : جدتك الهولى؟ كانت ساذجة؟
الصوت : وحالمة غارقة في الأحلام. ألم تظهر لك يا أوديب؟
أوديب : نعم، نعم، هناك على السور القديم. كانت على الأقل أشجع منك.
الصوت : ألم أقل لك؟ كانت حالمة مثلك.
أوديب : لأنها ظهرت لي وألقت سؤالها علي؟
الصوت : ولأنها وقفت هناك عند السور.
أوديب : وراحت تلقي سؤالها على كل من يريد أن يدخل المدينة أو يخرج منها. ومن لا يجيب على سؤالها تخنقه بيديها.
الصوت : كما كانت تفعل جداتها الساذجات.
أوديب : وهل كان لها جدود وجدات؟
الصوت : وساذجات مثلها. وقفن على أبواب بابل وطيبة التي بناها الفراعنة، ورحن يلقين ألغازهن الساذجة، كل من عجز عن حلها أنشبن فيه مخالبهن أو غرسن فيه أنيابهن أو خنقنه بأيديهن.
أوديب : ومن حلها؟ وماذا فعلن له؟
الصوت : أصبح بطلًا مثلك، هتف الناس وغنوا له، سموه المنقذ والراعي والقديس.
أوديب : نال ما يستحق. أي سذاجةٍ في هذا؟
الصوت : أولًا لأنه لم يحل اللغز.
أوديب : كيف لم يحله؟ ألم يكن هو الإنسان؟ ذلك الذي يحبو في الصباح على أربع.
الصوت : أف! ويسير في الظهر على اثنين. ألم يخطر ببالك أن الإنسان أعقد من هذا بكثير؟ ألم يقل لك عقلك أو قلبك.
أوديب : قالا إنني قد حللت اللغز، وأن الهولى لم تكد تسمع حتى صرخت مصعوقة.
قالته المدينة كلها وتغنت به.
الصوت : وهذا دليل آخر على سذاجتك وسذاجتها. لقد صارت ذريتهم أكثر مكرًا ودهاء.
أوديب : لأنها مثلك لا تقف عند الأسوار؟ ولا ترى وجهها لكل مغامر؟ ألا تقولين أنكن صرتن أكثر جبنًا.
الصوت : جبنًا أو مكرًا. الأمر واحد. لقد خلعنا أقنعتنا القديمة المضحكة، وصرنا بلا أقنعة ولا وجوه. وتركنا الأسوار العتيقة لكيلا يتعرض لنا المتهورون من أمثالك.
أوديب : وأين تقفن الآن؟ أين تعشن؟
الصوت : أهذا سؤال يطرحه من حل اللغز؟ من عاش ليسأل ويعرف؟
أوديب : لأني لا أرى وجهًا أتحداه. لأني أسمع صوتك يأتي من كل مكان ولا أعرف له أي مكان.
الصوت : ها أنت عرفته أخيرًا. نحن الآن في كل مكان وفي غير مكان.
أوديب : ماذا تعنين؟
الصوت : ألم يقل لك الوباء الجديد؟
أوديب : قال إن اللعنة قد حلت بالمدينة، إن رجسًا أصابها ولا بد أن تتطهر منه.
الصوت : وأنك أنت الرجس الذي دنسها.
أوديب : كذب! ما زلت أحقق فيه لأكشف المؤامرة التي تختفي وراءه.
الصوت : المؤامرة التي دبرها الكاهن وشريكه المتقاعد وشريك شريكه.
أوديب : وتعرفين هذا أيضًا؟ والأسطورة التي لفقوها وروجوها بين الناس، فانتشرت كالريح السامة.
الصوت : إنك قتلت أباك العجوز، وتزوجت الأم التي أنجبت منها بعد أن أنجبتك.
أوديب : كذب! حتى أنت.
الصوت : وماذا في هذا؟ أسطورة جديدة مثل أسطورة الهولى القديمة. لغز جديد كاللغز القديم.
أوديب : ولكني حللت اللغز القديم، ولن أتحرك حتى أحل لغزك الجديد.
الصوت : ومن قال إنني سأطرح عليك لغزًا جديدًا؟ الأمر واضح، ولكنك لا تراه.
أوديب : بل هو واضح وأراه، أنت التي أوحيت إليهم بكل هذا. أنت التي لفقت الأسطورة ولقنتها لهم.
الصوت : وهذه أسطورة أخرى. لن تراها إلا عندما تتعلم كيف ترى بغير عينين.
أوديب : لغز آخر؟
الصوت : لكنه أبسط من اللغز الذي حللته ولم تحله. ستعرفه بعد فوات الأوان.
أوديب : ولماذا لا أعرفه الآن؟ لماذا لا تظهرين لكي أثبت لك …
الصوت : أنك ما زلت ساذجًا؟ ما زلت أعمى مثلهم؟
أوديب : ومتى أبصر في رأيك؟ متى؟
الصوت : عندما تغمض عينيك وترى أن الهولى فيك وفيهم. أنها تسللت إلى روحك ونفذت في دمك، كما تسللت إلى أرواحهم، ونفذت في دمائهم. أنها لم تعد في حاجةٍ إلى الوقوف على السور، أو إلقاء أسئلتها الغامضة على كل عابرٍ سبيل. إن الإنسان هو الهولى. والهولى هو الإنسان. هذا هو الوباء يا أوديب.
أوديب : وما شأنه بالوباء الذي يجتاح مدينتنا؟
الصوت : هو نفس الوباء الذي اجتاح كل المدن، صنع سكانها الأسطورة، وأسرع الكاهن الأعمى والحاكم العجوز ومعهما الجلاد والكذاب واللص والمرتشي والمزور والحاقد والوغد، فصنع الهولى التي تقف على أبواب المدينة، والبطل الأحمق الذي يجيب على أسئلتها ويفوز بالجائزة، تمامًا كما حدث لك يا أوديب.
أوديب : كذب! غدر وجحود! الجميع يعلمون أنني لم أفز بالجائزة إلا بعد أن حللت اللغز.
الصوت : والجميع لا يعلمون أنك حللته ولم تحله، حتى أنت لا تريد أن تعلم أنه أعقد مما تصورت.
أوديب : ولكنني كشفت عنه، وفزت بالجائزة وجعلت طيبة …
الصوت : بستان الحب وحصن الأمن.
أوديب : أليست هذه هي الحقيقة؟ اسألي الجميع.
الصوت : أسألهم وأنا أحيا فيهم؟ إنها الأسطورة يا أوديب، الأسطورة التي نسجها الكاهن الأعمى والحاكم المتسلط والشاعر الكذاب واللص والجلاد، الأسطورة التي أوحت بالنبوءة، والنبوءة التي نسجت اللعنة عليك وعلى أسرتك.
أوديب : أوأنت التي نسجتها؟ ألا تعيشين فيهم جميعًا؟
الصوت : نعم يا أوديب، لكنني من صنعهم. هم الذين نسجوا خيوطي وغذوني من دمهم كما يتغذى الجنين من دم الأم. هم الذين حقدوا وغدروا، وتآمروا وزوروا، وتسلطوا واستبدوا، هم الذين أرادوا أن يكونوا عقارب وأفاعٍ تلدغ، وقرودًا تقفز فوق الأكتاف، وكلابًا تقعي عند الأقدام، وذئابًا تنهش الحملان، وضباعًا تنهش جثث الموتى الأحياء، وأنا أتغذى من سمهم، وأسمن على قيحهم، حتى صارت طيبة غابة يسكنها أكلة لحوم البشر، حتى صار الإنسان هو الهولى، والهولى هي الإنسان.
أوديب : لا لا، ليس صحيحًا ما قلت، ليس الآكل والمأكول سواء.
الصوت : وهم آخر، حلم من أحلامك، لو قدر المأكول لأكل الآكل.
أوديب : لقد قتلتك من أجل الضحايا، علمتهم أن يقفوا على أقدامهم، ويعرفوا أنفسهم.
الصوت (ضاحكًا) : هل عرفوها؟! لو ملكوا أنفسهم ما احتجت أن تقتلني وتقتل جدتي الساذجة، لو صاروا سادة أنفسهم ما احتاجوا بطلًا مثلك يصبح أسطورة كي يأتي بطل آخر ينقذهم منك ويصبح أسطورة.
أوديب : وما ذنبي أو ذنبهم في المؤامرة التي دبرت لنا؟ ما ذنبي أو ذنبهم إذا كان كلاهما …
الصوت : تريزياس وكريون؟ لم تخل المدن منهما أبدًا. لن تخلو المدن منهما ومن أعوانهما. وتدور الدورة أبدًا يا أوديب.
أوديب : بل تتوقف لا بد أن تتوقف كما حطمت أسطورة جدتك سأحطم أسطورتك.
الصوت : والأسطورة التي نسجت حولك وقبل مولدك؟
أوديب : كذب. سأثبت أنها كذبة.
الصوت : ليتها كانت كذلك يا أوديب.
أوديب : الرسول الذي جاء من كورنثة قد وضع كل شيء تحت عين الشمس وأمام عين الشعب. إنني لم أقتل أبي؛ لأن بوليبوس العجوز مات على فراش المرض والشيخوخة. أما ميروب فسوف أزورها مع زوجتي بعد أن نبدد الأسطورة، ونرفع الوباء، ونتطهر من الرجس.
الصوت : لن نتطهر منه إلا حين تطهر نفسك.
أوديب : المهم أن أطهر شعبي.
الصوت : ليلوثه رجس آخر، ويحل عليه وباء آخر. وأبعث حية من جديد.
أوديب : كذب! كذب! ستموتين إلى الأبد.
الصوت : أتظن هذا؟
أوديب : عندما يصير كل واحد منهم «أوديب»، عندما يتحداك أيتها الماكرة كما تحدَّى جدتك الساذجة.
الصوت : الذي تحداها صار ملكًا، هل يصبح كل سكان طيبة أبطالًا وملوكًا؟
أوديب : لم لا؟ يصير كل منهم سيد نفسه، عندما يعرف أن الآلهة المقدسة لم تتحدث بالنبوءة، ولم توح الأسطورة، عندما يتأكد أن خدامهم هم الذين تحدثوا باسمهم، ونطقوا الكذب على لسانهم.
الصوت : وهل سيدفعون الثمن؟ هل هم مستعدون للتضحية؟
أوديب : ولم لا؟ المهم أن يعرفوا. وسوف يدفعون أكثر مما دفعت، ويبذلون أكثر مما بذلت.
الصوت : لا أقصد الثمن الذي دفعت ولا التضحية التي بذلت.
أوديب : وماذا تقصدين؟
الصوت : أقصد ما سوف تدفعه وتبذله.
أوديب : لغز جديد؟ ألم تهزئي بالألغاز.
الصوت : وبمن حل الألغاز.
أوديب : كفى سخرية، لو كنت نفذت في باطن كل إنسان في طيبة، لعرفت أنني حللت اللغز.
الصوت : أنا مدينة لأسطورتك بوجودي فيهم.
أوديب : ولكنك ستغادرين مكانك، ستغادرينه مذعورة مصعوقة مثل جدتك.
الصوت : ها! ها! يدهشني تهورك أكثر مما تدهشني سذاجتك.
أوديب : ولماذا أيتها الهولى؟
الصوت : لأنك تتصور أنهم سيدفعون نفس الثمن الذي لم تدفعه بعد. وأنهم سيبذلون نفس التضحية التي …
أوديب : بل أثق بأنهم سيفعلون.
الصوت : التفاؤل شقيق التهور، وهل عرفت الثمن؟ هل تصورت التضحية؟
أوديب : لن يبخل بهما أحد لكي يكون إنسانًا. لن يتردد أحد عن بذلهما لكي يتخلص منك.
الصوت : وتصبح طيبة بستان الحب وحصن الأمن؟ وتصبح كل المدن …
أوديب : بساتين ربيع دائم، وحصون الأمن الأبدي.
الصوت : ويقتل كل إنسان أباه؟ ويتزوج كل الأبناء أمهاتهم؟ وينتشر الوباء.
أوديب : قلت لك كذب! أسطورة! نبوءة كاهن أعمى ومتآمر حقود، ستعرفين.
الصوت : وستعرف يا أوديب.
أوديب : وعندها تتحطم الأسطورة.
الصوت : وتتحطم أنت أيضًا.
أوديب : وسأرى كل شيء.
الصوت : بعد أن تفقد بصرك.
أوديب : لغز مضحك.
الصوت : ليته كان كذلك يا أوديب.
أوديب : لا يستحق أن أضيع فيه وقتي.
الصوت : ستضيع ما هو أثمن منه.
أوديب : المهم ألا تضيع طيبة، المهم أن يطردك كل إنسان منها.
الصوت : حاذر ألا يطردوك أنت.
أوديب : لا يهم أيضًا. سأكون قد خلصتهم منك.
الصوت : وستكون قد دفعت الثمن.
أوديب : وحللت اللغز.
الصوت : كما فعلت من قبل؟!
أوديب : اسخري كما تشائين، إنني ذاهب إلى طيبة، ذاهب لأطردك منها، لأطردك من كل المدن، لأطردك من كل القلوب.
الصوت : وتتصور أن يصدقوا.
أوديب : ماذا يصدقون؟
الصوت : أنك حللت اللغز؟
أوديب : سيصدقون.
الصوت : ولكنك لم تحل اللغز يا أوديب، ولم تدفع الثمن.
أوديب : حللت اللغز ودفعت الثمن.
الصوت : لم تحل اللغز يا أوديب، لم تدفع الثمن.
أوديب : سترين. سترين.
الصوت : أوديب. أوديب. أوديب.

٨

أوديب : جئت إليكم يا أبناء طيبة ويا شيوخها، جئت لأحل اللغز الأكبر، اللغز الكامن فيكم. إن كنت أخطأت فها أنا أصلح خطئي. إن كنت قتلت الهولى الرابضة على سور مدينتكم فها أنا أدعوكم لقتل الهولى الرابضة في أعماق نفوسكم. تعالوا نطردها من مدينتنا، من بيوتنا، من أرواحنا ودمائنا، من نومنا وأحلامنا. الهولى يا أبناء مدينتنا. ونظرت في عيونهم يا ابنتي فوجدتها كالزجاج المعتم. وتطلعت إلى وجوههم فرأيت آلهة الصمت الساخرة تبتسم وتحدق فيَّ. قال رئيس الجوقة:
رئيس الجوقة : أية هولى يا أوديب؟ أية أحلام؟
أوديب : إنني قادم من عندها. لم تظهر عند السور كما فعلت من قبل. لقد أصبحت داخلكم. تسللت إلى ضمائركم.
رئيس الجوقة : هل تحلم يا أوديب؟ أتكلم نفسك يا ربان سفينتنا؟ ريح الموت العاصفة ستغرقنا فاستيقظ يا أوديب.
أوديب : لقد سمعتها وكلمتها، أنا لا أحلم.
رئيس الجوقة : بل تحلم مفتوح العينين، لكنك لا تبصر هذا الراعي.
أوديب : الراعي؟ أية راع؟
رئيس الجوقة : ألم ترسل في طلبه؟
أوديب : نعم. نعم. وكلفت اثنين من خدمي بالبحث عنه. لقد عاهدتكم يا أبناء طيبة.
رئيس الجوقة : أن تبحث عن قاتل لايوس، وعن مصير الطفل الذي ألقي في الجبل. وها أنت تطرق كل الأبواب، وتسلك كل السبل حتى تعرفه.
أوديب : حتى لو كان الموت جزائي. حتى لو كان الثمن حياتي.
رئيس الجوقة : ها هو يقف أمامك فاسأله يا أوديب.
أوديب : وصحت بالراعي العجوز أن يتقدم. وأشرت إلى الرسول القادم من كورنثة، وأمرته أن ينظر في وجهه. ويطالع سطور السنين المحفورة في جلده وهتفت بالجميع: إنني لا أخاف شيئًا يا أبناء طيبة ليكن أصلي ما يكون فلن أخجل من وضاعة مولدي. لقد صممت أن أعرفه، وأن يعلنه هذا الشيخ أمامكم. وإذا ظهر أن هذا الرجل الواقف على حافة القبر هو أبي أو هو الذي رباني في الجبل الموحش أو في الغابة الكثيفة الشجر، فلن يخجلني هذا، وسيفتخر هذا الراعي العجوز بأن ابنه أو ربيبه هو الذي حل اللغز وقتل الهولى وقضى على الوباء، هيا أيها الشيخ. هيا أيها الرسول الغريب. تعرف الغريب على الراعي. وتردد الراعي فلم يشأ أن يتكلم. واحتمى بكهف نسيانه فانتزعته منه.
أوديب : إن لم تتكلم فسوف أرغمك على الكلام، سآمر بأن توثق يداك خلف ظهرك.
الراعي : لم هذا؟ ماذا تريد أن تعرف؟
أوديب : الطفل الذي يتحدث عنه هذا الغريب هل أعطيته له؟
الراعي : ليتني هلكت في ذلك اليوم.
أوديب : هذا مصيرك إن لم تقل كل ما عرفت.
الراعي : ولكني هالك إذا تكلمت أيضًا.
أوديب : لا بد أن تتكلم حتى لو هلكت أنت وأنا وكل هؤلاء الشيوخ، ابن من كان هذا الطفل؟ أكان ابنك؟ هل أعطاه لك شخص آخر؟
الراعي : مولاي لا تسألني أكثر من هذا.
أوديب : لا تحاول الهرب. كل هؤلاء يعلمون أنني أوديب الذي يسأل ولا بد أن يعرف.
الراعي : أوديب ذو القدمين المثقوبتين، ما أبشع أن أقول ما أعرف!
أوديب : وما أبشع أن أسمعه! ولكن لا بد من سماعه.
الراعي : سلموه لي يا مولاي لكي ألقيه في الجبل.
أوديب : من سلمه لك؟ تكلم أيها الرجل.
الراعي : لا أدري يا مولاي كنا في الليل فلم أر اليد التي أعطته لي. لم أتبين في الظلام إن كانت يد أبيه أو أمه.
أوديب : ومن أبوه وأمه؟
الراعي : لا تسألني يا مولاي. لا أعرف، ارحم شيخوختي وضعفي.
أوديب : وهل رحمت أنت ذلك الطفل المسكين؟
الراعي : نعم يا مولاي. وليتني ما فعلت. كان موثوق القدمين ففككت قيده. كان عليَّ أن أتركه للوحوش وجوارح الطير، فعهدت به إلى هذا الشيخ.
أوديب : ولماذا تندم على إنقاذه؟ هل أمروك بقتله؟ ولماذا فعلوا هذا؟
الراعي : سمعت أنهم فعلوه لكيلا يقتل أباه.
أوديب : رضيع يقتل أباه؟ هل سمعتم بهذا يا شيوخ طيبة وأبناءها؟ ومن الذي قال هذا؟
الراعي : قالته نبوءة مشئومة.
أوديب : سمعتم؟ نبوءة أعلنها تريزياس؟
الراعي : لا أعلم يا مولاي.
أوديب : ورواها كريون وأعوانه.
الراعي : لا أدري عمن تتحدث.
أوديب : ولا هؤلاء الشيوخ يدرون، لكن النبوءة قيلت على لسان أبوللو. والأسطورة نسجتها اليد الخفية، ثم نسبتها للآلهة. أما أنت فأخذت الطفل إلى الجبل.
الراعي : لم أتركه وحده كما أمروني. سلمته لهذا الشيخ رحمة به. ليتني ما فعلت. ليتني ما فعلت!
أوديب : هل عدت إلى الندم؛ لأنك أشفقت على الطفل وسلمته له؟
الراعي : اسأله يا مولاي.
أوديب : لقد سألته وأجاب. قال إنه أنقذ الطفل الواقف أمامك، وسلمه لملك كورنثة.
الراعي : ويلي، ليتني مت قبل أن يتحرك لساني!
أوديب : ولماذا تتمنى الموت؟
الراعي : إن كنت أنت الذي أنقذناه فاعلم أنك بائس مسكين.
أوديب : لأن النبوءة صدقت؟
الراعي ورئيس الجوقة (معًا) : وقتلت أباك الذي أنجبك. وعشت مع من لم يكن ينبغي أن تعيش معهم، وألقيت بذورك في نفس الرحم الذي خرجت منه.
أوديب (ضاحكًا) : النبوءة. النبوءة، اسمعوا يا أبناء طيبة واحكموا. صرخت الجوقة وبكت وراحت تنعق كالبوم.
الجوقة :
ويلاه! ويلاه!
ماذا نسمع يا أوديب؟
هل صوت الرعد القاصف في الآذان
وصواعق زيوس الحارقة
تثير الضحك الرنان؟
اخجل من نفسك يا أوديب!
اخجل من نفسك يا أوديب!
أوديب (مستمرًّا في الضحك) :
أخجل من نبوءة أعمى؟
من أسطورة طاغية
أمعن في الطغيان؟
الجوقة :
ويلك أنت الطاغية
وأنت الطغيان.
أنت الرجس فغادر طيبة
منذ الآن.
غادر طيبة منذ الآن.
أوديب : وضحكت يا ابنتي كما لم أضحك في حياتي. وتلفَّتُّ إلى الشيوخ فلم أر الوجوه التي كانت تتطلع في وجهي. لقد التفت في عباءاتها السوداء، وراحت أجسادها تنتفض كأنما اهتز من تحتها الزلزال أو انفجر البركان. واندفعت إلى القصر، وأنا لا أدري إن كنت أضحك أم أبكي أم أصرخ. وصعدت الدرج لاهث الأنفاس. خيل إليَّ أنني سمعت صرخة رنت في أذني كعواء كلب مسعور. وعبرت البهو الكبير والصرخة ما تزال تدوي في سمعي. ودفعت باب الحجرة التي تنامين فيها مع إخوتك. هل شعرت ساعتها بأنني عملاق أوليمبي يتحدى آلهة القدر أم طفل مرتعش القدمين ينوح عند مهد أطفاله ويغسل أقدامهم الصغيرة بدموعه؟ كانت الحجرة مظلمة إلا من بصيص نورٍ باهتٍ يتسرب من الشموع الموقدة في البهو. وفتحت عينيك الواسعتين يا حبيبتي في الظلام، وجلست في سريرك وأنت تهمسين: أبي؟
تحسست رأسك الجميل وشعرك الناعم، وربت على صدر أختك النائمة، وقلت: النبوءة يا صغيرتي! النبوءة تريد أن تحرمني منك؟ قلت: النبوءة؟ ما معنى هذا يا أبي؟ صحت بأعلى صوتي: النبوءة التي روجوها في كل مكان. الأسطورة التي نسجوها قبل مولدي. منذ عشرين سنة وهم يسوونها على نار الغدر لتحرقني وتحرقكم. منذ عشرين سنة وهم يفترون على الآلهة، ويكذبون على لسانهم وطيبة تصدق ما يقولون، وشيوخها يتأوهون أمام القصر ويبكون. طيبة تلقي الفأس من يدها، وتخرس القلم والقيثارة وتترك الدفة للأعاصير. طيبة قررت أن تقتل أباك يا حبيبتي، أن تسحقه وتسحق أبناءه وملكه وبطولته. وفجأة سمعت صوتها، صوتها المهيب الحنون يتسلل إلى ظلام الحجرة، ويسحبني منها فأنقاد إليه كالحجر الأخرس.
جوكاستا : أوديب! أوديب!

وأستسلم للأنفاس المتقطعة والعينين الدامعتين وأنا أقول:

أوديب : جوكاستا؟!
جوكاستا : دع الأطفال وحدهم يا …
أوديب : ماذا؟ أتبكين؟ ماذا جرى لك؟
جوكاستا : لا أدري بم أدعوك!
أوديب : أنت أيضًا يا حبيبتي؟
جوكاستا : حبيبتك؟ زوجتك أنا. أو …؟
أوديب : جوكاستا! هل سمعتهم؟ أيمكن أن تصديقهم؟ أيمكن أن تصدقي النبوءة التي حذرتني منها؟
جوكاستا : إن كانت كاذبة فأين الحقيقة يا أوديب؟
أوديب : الحقيقة أنني أحبك أنت وأولادنا وبناتنا.
جوكاستا : وأنك زوجي وابني.
أوديب : وتقولينها يا جوكاستا؟ أنت التي شجعتني على تحديها؟ أنت التي تعلمين أنها من صنعهم؟
جوكاستا : من صنعهم أو من صنع الآلهة، هل يغير هذا من الحقيقة؟
أوديب : الحقيقة. الحقيقة. لقد صنعوها يا حبيبتي ونسبوها للآلهة، اختلقوها ليلقوا شبكتها علينا وعلى أولادنا.
جوكاستا : أولادنا؟ هل قلتها بنفسك؟
أوديب : بالطبع يا حبيبتي.
جوكاستا : حبيبتك، وزوجتك أم …
أوديب : لا تقوليها. لا تدعيها تخرج من شفتيك.
جوكاستا : زوجتك أم أمك؟ وأنت؟ زوجي أم ابني؟ زوجي أم ابني؟
ويلاه! ويلاه! ويلاه!

وجرت مذعورة كشبحٍ خائفٍ في سراديب هاديس. وصراخها ينفذ كالسهام في سمعي ولحمي وعظمي: زوجتك أم أمك؟ زوجي أم ابني؟ ويلاه! ويلاه! ويلاه! وتسمرت في مكاني كأني شجرة أمرها رب الصواعق أن تبقى في مكانها، حتى يحرقها بشواظه. ثم أفقت على صوتٍ هبط علي فأحسست بأني صرت فحمة سوداء. واندفعت الفحمة في طرقات القصر وأبهائه تصطدم بالأبواب والجدران. وتعالت صيحات الحراس وأنا أجري في كل اتجاه، وأصطدم بأجسادهم ودروعهم. وأخيرًا وصلت إلى باب المخدع، فدفعته على مصراعيه ودخلت. واشتعلت الفحمة، وتوهجت بنيران الغضب والرعب. وجرت تصطدم بالأبواب والجدران والأجساد والدروع. سيفًا أيها الحراس! سيفًا أيها الكلاب! ألا ترون سيدتكم؟ ألا ترون الحبل الذي تتدلى منه؟ سيفًا أيها الحراس! سيفًا أيها الكلاب! ولمع حد السيف على ضوء المشاعل، فقبضت عليه واندفعت. وهجمت على الحبل وقطعته. وسقط الجسد الحبيب على فراشنا سقوط الصخرة من أعلى الجبل. وعلى صوت صراخك يا ابنتي أنت وأختك نزعت المشابك الذهبية من شعر أمك وملابسها، ورحت أدفعها في عيني لكيلا أراكم. وانطلقت صيحاتي المظلمة مع شلال الدم المظلم من عيني، فلم أعد أبصر شيئًا. رن صوت مهيب وراء ظهري: فلتفتح الأبواب ليرى أهل طيبة قاتل أبيه وزوج أمه، فلتفتح الأبواب ليرى أبناء طيبة الرجس الذي دنس أرضها، وشعرت بكفك الصغيرة المرتعشة تمتد إلى يدي، وتشدد قبضتها عليها وأحسست بماءٍ صافٍ ينساب فوق النار الحارقة فيطفئها، ويمر على فوهات البركان، فيخمد أنفاسه الملتهبة. وشددت عليَّ افتحوا الأبواب ولينظر أهل طيبة ماذا فعلوا بالبطل المنقذ من هول الهولى، ماذا فعلوا بالأب الراعي والقديس. افتحوا الأبواب. افتحوا الأبواب.

٩

وفتحت الأبواب يا ابنتي، وأخذتم يا أبناء طيبة تنظرون إلى من كان ملككم وراعيكم وقديسكم. مفقوء العينين، رأيتموني والدم المظلم يلطخ خدي ويدي وثيابي. والصرخات محتبسة في صدري كصخرة تسد فمي. ويدك الصغيرة تتشبث بيدي وترتعش من هول الموت الذي لا يفهمه عقلك الصغير. ويرن صوت مهيب من خلف ظهورنا:

كريون : انظروا يا أبناء طيبة إلى قاتل أبيه وزوج أمه.

(وتنزاح الصخرة قليلًا، فخرج صوتي المحبوس):

أوديب : لا يليق بالقاتل أن يشمت بقتيله.
كريون : ما زلت متغطرسًا كما كنت، أما أنا فلا أشمت فيك، بل أتركك لهؤلاء الشيوخ والأبناء ليقضوا في أمرك. إن منظرك يثير إشفاق العدو نفسه.
أوديب : أولى بك أن تشفق على أختك التعسة، وتقوم بمراسم دفنها.
كريون : وهذا ما كنت أنويه الآن. أما أنت …
أوديب : أما أنا فسوف أطلب منهم أن يقتلوني أو ينفوني أو يرموني في البحر.
كريون : ليس لك أن تطلب منهم شيئًا، فسوف ينفذون أمر الآلهة.
أوديب : أمر الآلهة أمرك أيها السيد الجديد؟
كريون : لن أرد عليك يا أوديب. سأترك أمرك لهؤلاء ولقوانين الآلهة. واعلموا يا أبناء طيبة أنه الرجس لا ينبغي أن تراه عين الشمس، ولا أن يلمسه المطر المقدس. أما أنتم أيها الحراس، فتعالوا معي لنؤدي واجب التقوى نحو الجسد الذي دنسه هذا الشقي.
أوديب : هذا الابن الملعون والزوج المشئوم، أليس هذا ما تريد قوله؟ أليس هذا ما تفكرون فيه؟

وأخذت يدي يا حبيبتي، فنزلنا الدرج خطوة خطوة. واستقبلتمونا بأنين كبكاء الريح المحزونة في سمع الشجر المحزون:

الجوقة :
من هذا الذي أراه أمامي؟
إلى أي بحر خضم من البؤس تتجه قدماه؟
أليس هو الذي حل اللغز المشهور!
أوديب الذي جلس على عرش طيبة
وصار أقوى وأسعد إنسان.

وتقدمت منكم وأنا أقول:

أوديب :
وصار أتعس إنسان؛
لأنه حاول أن يعرف،
ولم يدر أن المعرفة هي الموت والهوان.
الجوقة :
ويلاه! ويلاه!
إني أنتفض من الرعب لمنظرك المؤلم،
وأرتعش كالبحارة الذين تهزهم الرياح حين يرون ربان سفينتهم الغارقة يتخلى عنها للعاصفة العاتية، ويغادر كغرابٍ مشئوم.
أوديب :
لم أتخل عن السفينة ولا عنكم،
أنتم تخليتم عن أنفسكم.
الجوقة :
نحن تخلينا عن أنفسنا؟
ماذا تقصد يا أوديب؟
أوديب : مددت يدي لأنقذكم من الغرق.
الجوقة :
ودعوناك المنقذ والربان.
وهتفنا: أنت الأب والراعي والقديس.
أوديب :
ثم تركتم أيديكم
للذئب الغادر،
والكلب الحاقد،
والقرصان الفاجر.
أسألتم أنفسكم يومًا
كيف يعيش القديس العابد
وسط كلاب وذئاب؟
صنعوا النبوءة، نسجوا الأسطورة، فسكتم. قالوا طاغية، فرضيتم.
الجوقة : بل قالوا جاوزت الحد، ولم ترع قوانين العدل. صممت على معرفة القاتل، لا تعلم أن القاتل أنت.
أوديب : صممت على معرفته من أجلكم.
الجوقة : وتمردت على النبوءة والأسطورة.
أوديب : لأخلص نفسي وأخلصكم.
الجوقة : يا أشقى الناس جميعًا. ليتك ما كنت عرفت ولا كنت تمردت.
أوديب : ليظل الوباء يهلككم؟ لتبقى الهولى تحاصركم وتنفذ في دمائكم؟
الجوقة : لكيلا تصبح طاغية، فتعاقبك الآلهة، وأي عقاب.
أوديب : أسألتم أنفسكم: من صنع الطاغية أو الطغيان؟ أنتم. أنتم.
الجوقة : نحن؟ هل تلقي التهمة، حتى لا نصرخ فيك: دافع عن نفسك؟
أوديب : وما جدوى الدفاع والاتهام؟ إنكم ترون ملكًا فقد ملكه، وأبًا حطم أسرته، وشقيًّا يترك أرضه إلى أرضٍ أخرى لا يدنسها ولا تدنسه، هل تذكرتم الطفل المثقوب القدمين؟ من قيده وأمر بأن يلقى في الجبل وحيدًا؟
الجوقة : الملكة والملك السابق؟
أوديب : بل أنتم! سمعتم عن الجريمة وسكتم. لفقت وراء ظهوركم ورضيتم. قيل لكم: حتى لا تصدق النبوءة. أي إلهٍ قاسٍ يحكم على طفلٍ تعس؟ أي إلهٍ يقضي على رضيعٍ في يومه الثالث؟ ألم يخطر ببالكم أن الآلهة لا ترضى بهذا الظلم؟ أن الكهنة تلعب بأقدار البشر؟
لماذا تركتم كريون يحكمكم بعد أن ارتكب هذه الجريمة؟ لماذا دعوتم الكاهن الأعمى ليقرأ لكم الغيب ويرى ما لا ترون؟ ومات لايوس فلم يسأل أحدكم: كيف مات؟ وتركتم كريون يدبر أموركم دون أن تسألوا أنفسكم: ألا يمكن أن يكون قد دبر الجريمة؟ وجاء الرواة يحكون لكم أن قطاع الطريق هاجموا الملك عند مفترق الطريق ذي الشعاب الثلاثة. ومرت الأعوام فلم يبحث عن القاتل ولا بحثتم عنه. ووقفت الهولى على أسوار مدينتكم، فانتظروا من يتصدى لها من خارجها، وانتظرتم معهم فلم يتحرك أحد للقائها، وعندما انتشر الوباء، وسقطت المدينة تذكروا المقتول ونادوا: لا بد من البحث عن القاتل، والقاتل الذي قتله دون علمه أصبح بطلًا. وتحركت النبوءة فطالبت بأن يُقتَل البطل ليحل محله بطل جديد يصبح قاتلًا بعد حين. وتدور الدورة وتنظرون. وينقل إليكم الكهنة وحيًا لم تنطق به الآلهة فتصدقون. ويرى الأعمى ما لا ترون فتسكتون وتسلمون وتدور الدورة يا أبناء طيبة، فأصبح قاتلًا، والقاتل يصبح بطلًا، والبطل الجديد يصير رجسًا تطاردونه وتنفونه، وتظهر هولى جديدة تتطلب بطلًا جديدًا.
الجوقة : لن ننسى أنك حللت اللغز وصرعتها يا أوديب.
أوديب : وحللت اللغز؟ لا تقولوا هذا يا أبنائي.
لقد حللت لغزًا واحدًا تمخضت عنه ألغاز. وقتلت هولى واحدة، فأفرخت الآلاف. لن تعود الهولى إلى السور، ولن تعترض الشجعان المغامرين. لن تطرح سؤالها على كل من يدخل طيبة أو يخرج منها. لقد صارت فيكم، نسجت عنكبوتها في ضمائركم. ولهذا كنت أحلم عندما تخيلت أن طيبة صارت بستان الحب وحصن الأمن. كنت أحلم عندما تصورت أنني قتلت الهولى. لا لا. الآن أعترف بعجزي، أعترف بفشلي، لم تمت الهولى بعد. ما زالت تغدر، تفجر، تكذب، وتزور، تتسلط تتآمر وتدير. وها أنا ذا أخرج من المدينة التي يفترسها الوباء، وأعلم أنني لن ألقاها على السور؛ لأنها ما زالت فيكم. ما زالت فيكم.
الجوقة : ما زالت فينا؟
أوديب : يوم تموت الهولى يحيا الإنسان.
الجوقة : وننتظر أوديبَ آخر؟
أوديب : بل يصبح كل منكم أوديب. يقتل «هولاه» فتبعث طيبة، يملك قدره. وأفقت على الصوت المهيب ينحدر كشلال هادر، وسمعت خطواته الثقيلة ورائي.
كريون : والقدر يدمره مثلك؟ والأسطورة تحطمه وتحطم أسرته؟ والنبوءة تصدق فيدنس وطنه.
أوديب : بل يحيا فيه الإنسان، ويسقط عرش الطغيان. هذا هو الثمن يا كريون. هذا هو الثمن الذي ستدفعه.
كريون : لأصبح بطلًا مثلك؟!
أوديب : والبطل يصبح طاغية، والطاغية قاتلًا، والقاتل مقتولًا.
الجوقة : وتدور الدورة يا أوديب.
أوديب : بل تتوقف ليكون الإنسان. ترجع طيبة طيبة.
كريون : بعد أن تغادرها يا أوديب.
أوديب : سأغادرها يا كريون. سأغادرها يا أبناء طيبة. لقد دفعت الثمن وتحررت. فقأت عيني وأبصرت. حريتي لن يمسها أحد. عيني الثالثة لن تفقأها يد تمتد في الظلام. هيا يا ابنتي، تعالي يا حبيبتي.
أنتيجونا : أبي. أبي.
كريون : دعها يا أوديب، إنها في رعايتي.
أوديب : لن تأخذها مني. لن أحرم منها أبدًا. تعالي يا ابنتي نبتعد عن هذه المدينة التي يهلكها الوباء. تعالي إلى أرضٍ أخرى لا ندنسها ولا تدنسنا. إني أراها تغرق في الدم والنار والظلام. وأراك يا حبيبتي في كهف يلطخه الدم والعار. فاتركيها الآن وتعالي لتدفني أباك في قبره الوحيد. فوق أرضٍ وحيدة. وعندما تودعينه وتنثرين الماء على مثواه عودي يا ابنتي، عودي لتحرري طيبة من الوباء والظلام. لتعلمي أبناءها أن يقتلوا الهولى في داخلهم، حتى يحيا الإنسان.
الجوقة وكريون : انتظري يا أنتيجون. عودي يا أنتيجون.
أوديب : لا تصدقيهم يا ابنتي. لا تسمعيهم يا حبيبتي، آه يا صغيرتي المسكينة إني أراك تدفعين الثمن الذي دفعه أبوك. أراك تواجهين الطاغية وتتحدينه. تعلمين طيبة أن تكون طيبة، تذكرينها بأوديب وتحكين لها قصة أوديب. هل ستسمعك يا أنتيجون؟ هل ستتعلم من درس حياتك ومماتك؟ هل تتذكر مأساتك ومأساتي؟ أم ستدور الدورة أبدًا؟ ومتى تتوقف يا أنتيجون؟ من يوقفها؟ أنت؟ أوديب آخر؟ هل يصبح كل الناس بها أوديب؟ أو يصبح كل الناس الهولى تقتل كل الناس؟ لا تبكي يا صغيرتي. هات يدك. هاتها في اليد التي فقأت عين أبيك. أبيك الذي حكموا عليه أن يكون أخاك وزوج أمك وابنها وقاتل أبيه. هاتها يا صغيرتي وقوديه على الطريق.
أنتيجونا (باكية) : إلى أين يا أبي؟
أوديب : تسألين إلى أين؟ ولماذا نسأل ونحن الآن أحرار؟ تخافين المجهول؟ ولماذا نخاف إذا كان علينا أن نواجهه؟ وحدنا؟ نعم وحدنا يا حبيبتي، حتى يدمروا الأسطورة أو تدمرهم فيتحرروا، حتى ينسجوا أسطورتهم ويغزلوا قدرهم بأنفسهم، حتى يهدموا طيبة الوباء والظلام والخراب، ويبنوا طيبة الأخرى، لا تتلفتي وراءك يا حبيبتي. لا أحد ينتظرك ولا أحد يودعك. طيبة نبذتنا وتخلت عنا، لكنا لن نتخلى عنها، سنحملها في قلوبنا، ثم نعود إليها. وأعود معك حرًّا بعد أن أترك عظامي في التراب. ذكرى حب لمدينتنا طيبة. ذكرى موت هذا ما لن يأخذونه مني. لن يأخذوه أبدًا. تعالي يا حبيبتي. تعالي. تعالي.
ويرتفع صوت خشن وراء ظهرنا.
تريزياس : خذ عصاي يا أوديب!
وأرد عليه وأنا أنفجر غضبًا:
أوديب : عصاك عمياء مثلك.
ويضحك الملعون ويقول:
تريزياس : أتذكرت كلامي؟!
أوديب : وأبصرت ما لا تبصره.
تريزياس : خذها يا أوديب، قد تحتاج إليها.
أوديب : عيني الثالثة ستبصر لي. يد أنتيجونا تبصر لي.
عصاك عمياء مثلك.
أنتيجونا : خذها يا أبي.
الجوقة : خذها يا أوديب.
تريزياس : خذها يا أوديب لتذكرنا.
أوديب : لا لن آخذها، هيا يا ابنتي، ضعي يدك في يدي لنخرج من هذه المدينة، لا يهم أن تذكرنا أو تنسانا، لقد أرادت أن أخرج منها، أرادت أن أتسول في المدن الأخرى، ولهذا تعطيني عصًا أتوكأ عليها بعد أن أخذت عيني وحياتي وشبابي. لا يا أبناء طيبة، لم أتوكأ على عصا، وإذا كان خلاصك يا طيبة بخروجي وموتي، فها أنا أغادرك لأموت خارج أسوارك.
أنتيجونا : وسنعود يا أبي؟
أوديب : سنعود يا ابنتي، عندما يقضى على الوباء.
الجوقة : نعم يا ابنتي، عندما نقضي على الوباء.
أنتيجونا (تسلمه يدها باكية) : أبي. أبي.
أوديب : حبيبتي، لا تتلفتي وراءك، لا تبكي. لا تبكي. لا تبكي.

(ينصرفان. يسمع وقع أقدامهما وبكاء أنتيجونا، حتى بعد أن تسدل الستار.)

١٩٨٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤