هذه البكائيات

في ليلةٍ ممطرةٍ باكية أكتب عن هذه البكائيات. أسأل نفسي أسئلة تحاول الإجابة عليها أن تكشف الدوافع التي دفعتني إلى تدوينها أو تلقي الضوء على الغموض الذي يكتنفها:

لِمَ البكائيات في وقتٍ يدعونا كل شيء فيه لإطلاق الصرخات؟

إن كل من يفكر اليوم أو يكتب لا بد أن يصيبه اليأس، وهو ينظر في الهاوية التي تفصل الكلمة عن الفعل، ولا بد أن يتحسر على ضياع عمره في تجميع حروف في كلمات، وكلمات في جمل، وجمل في صفحات وصفحات لم تطعم جائعًا، ولم تحرك ساكنًا، ولم تنبه وعيًا، ولم تنقل حجرًا من مكانه. وهو في النهاية لا يستطيع أن يكتفي بحكمة سقراط وحواره، ولا بمصباح «ديوجينيس» في قلب النهار، ولا بنبوءات زرقاء اليمامة ورؤاها ودموعها، فعليه أن يدق نواقيس الخطر وأجراسه، ويستخدم «ديناميت» نيتشه ومطرقته، عليه أن يقرع آذان أهله بكل الطبول والأبواق الممكنة، نحن متخلفون متخلفون. العدو أمامكم والانقراض فيكم. تعلموا أن تفكروا بعقولكم لا بألسنتكم. غيروا ما بأنفسكم وواقعكم، حتى يغير الله ما بكم. آمنوا بالعلم والمنهج والخبرة. أعطوا القوس لباريها والعيش لخبازه. اتحدوا، اتحدوا، اتحدوا. فالذئاب تتربص بكم في كل ركن وعند كل منعطف. وذئاب أشرس منها ترعى في داخلكم. أمراضكم الثلاثة: الاستبداد، والتسلط، والطغيان لم يشفيكم منها إلا أدوية ثلاثة: الحرية، والحرية، والحرية. وهو يستطيع أن يمضي في هذه الصرخات، حتى آخر أنفاسه، لكنه سيسأل نفسه في النهاية: ماذا يغني البكاء أو الصراخ؟ ماذا يجدي القول أو الكتابة؟ أليس في آخر المطاف كلامًا في كلامٍ في كلام؟ أوليس الأولى من ذلك أن يدعو للفعل ويحدد معالمه ويكون قدوة له؟ إن الكتابة — أدبًا كانت أو فلسفة، دررًا كانت أو خزعبلات، همسات كانت أو صرخات — قد أصبحت عاجزة عن مقاومة الموت المستشري فينا. وربما كان الطريق الباقي هو أن يعمل الإنسان لا أن يكتب أو يتكلم، فالفعل وحده هو الذي يمكن أن يبرر نفسه وسط الاختناق بالحسرة والندم والصمت.

لكن هذا الكلام كله عن عجز الكلام والإيمان بضرورة الفعل ما يزال يختنق بالبكاء. والذي يكتبه هو أبعد الناس عن الصراخ؛ لأنه لا يميل بطبعه لإزعاج أحد أو لفت أنظار أحد. ولو قلت إن العبارات هي في الحقيقة صور لعلاقات وعمليات وأفعال، ولا يكون لها معنى، حتى تشير إلى علاقات وتترجم إلى عمليات، وتهدي لأفعال لقال نعم، ولكن هذا لم يحدث في السنوات الأخيرة من تاريخنا إلا في أندر الأحوال. أليس هذا كله مبررًا لأن يبكي في صمت، وأن يضع ما يكتبه تحت عنوان البكائيات؟

أتكون هذه البكائيات لونًا جديدًا من أدب الاعترافات وصورة مختلفة من صور السيرة الذاتية؟

أما أنها جديدة أو مختلفة، فهذا أمر أوثر أن أتركه للقراء والنقاد. كل ما أستطيع قوله هو أنها صور «مقنعة» في أشكالٍ متعددة، شاعرية وروائية ودرامية غلب عليها طابع المناجاة وأسلوب الحوار، الذي تديره الذات مع ذاتها. وربما أمكن أن يقال إنها أشكال مفتوحة أو على طريق البحث عن شكلٍ محدد، ولهذا تتخفى وراء أقنعة تتكتم أكثر مما تفصح عنه.

إن فكرة القناع أو صورته من أهم الأفكار والصور التي تشغل الأدب والنقد الحديث، وتستحق البحث عن الدور الذي تقوم به في أدبنا الجديد. ولقد كان من قدر الشاعر والكاتب العربي المعاصر أنه يقوم بدور العرَّاف والمتنبي. والشاهد عن العصر والبومة الحكيمة المنذرة بالأخطار «وكنت أنت بينهم عرَّاف. وكنت في مأدبة اللئام، شاهد عصر ساده الظلام» (البياتي في قصيدته محنة أبي العلاء)، وكان من قدره كذلك أن يحاول أن يكون «المنقذ» — كما عبرت في كتاب بهذا العنوان عن أفلاطون — والصوت الهاتف في البرية بحثًا عن طريق النجاة الوحيد: أن ننقذ أنفسنا بأنفسنا، ونغير وجه أرضنا وواقعنا وتاريخنا بإراداتنا. وننسج الثوب الذي يمكن أن يسترنا بأيدينا، ونبعث مدن الغد من قبور الماضي والحاضر التي دفنا فيها بأمر الطغيان على اختلاف صوره وأقنعته التي كشف شعراؤنا المجددون عن زيفها. هل أقول إن أوديب وأوفيليا والمتعب من الحياة أقنعة تخفي وجهًا واحدًا تغمره الدموع، ثم تكشف عنه؟ هل كانت بديلًا عاجزًا عن السيرة الذاتية التي لجأ إليها الأدباء والمفكرون في الشرق والغرب أم حيلة جديدة للإمعان في تعذيب الذات؟ وحتى لو سلمنا بأن أي تعبير أدبي جدير بهذا الوصف — من الأساطير القديمة حتى أدب العبث واللامعقول وما بعده — قد لجأ بصورة أو بأخرى إلى التحجب خلف القناع، فهل نجحت هذه الأقنعة في التعبير أم لم تنجح؟ وهل انطبقت عليها شروط القناع الأدبي أم كانت رموزًا واستعارات؟

إن البكاء يكشف عن جوهر الإنسان ومعدنه أكثر مما يفعل الضحك، أو أي شيءٍ آخر. والإنسان حين يبكي يغطي وجهه بيديه، حتى لا ترى العيون دموعه أو تنفذ إلى سره. والأقنعة التي استخدمتها — إن كانت ترقى إلى هذا الوصف — قد حاولت أن تستر الدموع التي ذرفتها في لحظات المحنة والضعف، وفي مواقف التحدي والمقاومة. لكن يبدو أنها عجزت عن ذلك فافتضح السر، وكشف المحجوب. أليس هذا وحده خليقًا بالبكاء؟ ألا تستحق هذه المحاولات أن تكون بكائيات؟

أتكون هذه البكائيات تعبيرًا عن اكتئاب مرض متأصل؟

عن نمط من الشخصية عصابي أو فصامي أو سوداوي متشائم؟ ألا تعد بذلك ذاتية غارقة في مستنقع الرومنطيقية الذي عفا عليه الزمن وحلقت فوقه نور الأدب والنقد والفن والفكر المعاصرة في احتقارٍ وازدراء؟ أما أنها رومنطيقية فلا أظن أنني أو أي أحدٍ من جيلي يمكنه أن ينكر التهمة، أو يزعم أن تكوينه النفسي قد تخلص تمامًا من لعنتها السحرية أو من سحرها الملعون (حتى العلميين والتقدميين في شرقنا العربي — صدقًا أو ادعاء — لن يمكنهم هذا!) وكيف يستطيع كاتب من مصر انحدر من سلالة «المعددة» والندابة، وغار في أعماقه نواح العازف الأعمى على القيثار وأناشيد كتاب الموتى — كيف يستطيع أن ينكر أنه مكتئب من صلب مكتئبين وبطون مكتئبات؟ والجيل الذي أنتمي إليه وعاش على مدى ثلاثة عقود من حياته الواعية محرومًا من الحرية والأمل وتحقيق الذات الفردية والجماعية — هل كان جيلًا من الآلهة حتى يحطم نير الحزن الذي عصب عينيه ويتخلص من طوق الاكتئاب الذي حاصر شبابه ورجولته وقدرًا كبيرًا من كهولته؟

أما عن نفسي فقد وضعت كتابًا تقارب صفحاته الألف عن ثورة الشعر الحديث كله على الرومنطيقية، كما حاولت بجهودي المتواضعة في تعليم الفلسفة والكتابة عن الفلاسفة العقليين — مثل أرسطو وليبينتز وكانط الذين يستحيل أن تعلق بهم شبهة الرومنطيقية — حاولت أن أنتزع من نفسي شوكة الألم القديمة المتأصلة، ولكنني أعترف بأنني عجزت. والنتيجة التي لا أحسد عليها أنني أتهم بكتابة أدب تأملي أو فكري وفلسفة عاطفية أو شاعرية! ومع أن هذه ليست تهمة بالمعنى الدقيق؛ لأن تاريخ الأدب يزخر بالأدباء والحكماء، وتاريخ الفلسفة يمتلئ بالحكماء الشعراء، وأستغفر الله والحقيقة أن أتصور نفسي واحدًا من هؤلاء أو أولئك! فإنني مع ذلك لا أتنصل منها، ولا أفكر في التبرؤ من وزرها. نعم إن هذه البكائيات رومنطيقية والنفس الرومنطيقي يتردد فيها، ويعزف على أوتار جريحة لا تخطئها أذن، لكنها ليست رومنطيقية الفردية المريضة المستغرقة في تعذيب الذات وأحلامها الكسيرة وآمالها الخائبة؛ لأنها تمد جسورًا بين الفرد والجماعة، وتبكي. حين تبكي ذاتها. ثقافة وحضارة ووطنها تراه يتمزق وينهار. وتردد على أوتار أساها وحزنها لحنًا بسيطًا يؤكد مع ذلك أن الانهيار ليس قدرًا غيبيًّا أعمى، ولا حتمية تاريخية أو غير تاريخية، وإنما هو محنة تتحدى الإرادة الفردية والجماعية وتحفزها إلى قهرها وتخطيها. بهذا يجتمع فيها الحزن والصلابة، ويتحد الأسى مع إرادة تجاوره. وعقيدتي التي اقتنعت بها ودعمتها التجربة والتأمل أن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على العلو على ذاته. وشد نفسه من المستنقع بنفسه. والتاريخ وفلسفته يعلماننا أن ما يصدق على الفرد يصدق على الجماعة، وما انهارت الحضارات البائدة بفعل قدرٍ غامض أو لعنةٍ مجهولة، وإنما انتحرت بيد أبنائها عندما أكلوا لحم بعضهم، واستسلموا للفراغ والدعة والترف ومهادنة الأعداء، وفشلوا في إيجاد الاستجابات الخلاقة الممكنة للتحديات التي واجهتهم. وخنقوا روح الإبداع والتحرر والتجدد بالتسلط والإرهاب والاضطهاد (ابن خلدون وفيكو وتوينبي)، وإذا وجدنا أحد أفراد الجماعة قد غرق في بحار الأسى، فإن غرقه يجب أن يكون آية ودرسًا، وأن يجدد العزم على الصمود والمقاومة.

لكنني أعيش في حضارة تجمع كل الآراء الشعبية والموضوعية على أنها حضارة مأزومة. وإذا صورت لي الحساسية المتطرقة أنها تحتضر وتلفظ آخر أنفاسها، ألا يحق لي عندئذٍ أن أسمعها لحنًا جنائزيًّا يزعجها من رقدتها، ويثير فيها إرادة الميلاد والبدء من الصفر؟ ألا تستحق هذه اللحظة — على حدود تاريخ يغيب وتاريخ آخر لم تبزغ شمسه — أن يكون لها مغنيها الباكي أو شاهدها الحزين أو بومتها المكتئبة التي تحدق في ظلام الكارثة الزاحفة، فتنعق وتحذر؟ أليس هذا في النهاية مبررًا كافيًا لترديد هذه البكائيات؟

لِمَ البكاء وما معنى رثاء الذات في زمن العلم الذي يهيب بنا أن نكون علميين، وأن نشارك في حضارة العلم والمنهج بكل ما نستطيع؟

إن إيماني بالعلم لم يفتر لحظة من حياتي المنتجة الفاعلة، وما زلت أشارك فيه على قدر جهدي، لكنني أجيب على السؤال فيما يخص الأدب، فأقول إنني شعرت منذ أن بدأت الكتابة بأن الأدب كله في النهاية مرثية طويلة يبكي فيها الإنسان نفسه، وسوء حظه، وإخفاق جهده، وتعبه على الأرض. ولا شك أن النظرة إلى الأدب الإنساني على أنه سجل للإخفاق المستمر الذي يلحقه الواقع بكل آمال البشر نظرة تنطوي على قدر كبير من التعميم الخاطئ والخطر، ناهيك عن تشاؤمها القاتم وحسها الفاجع، فلا شك أيضًا أن من الممكن النظر إلى الأدب على أنه أنشودة تمجيد للحياة، وسعي إلى الخلود المتاح للبشر عن طريق الفن، ودفاع متجدد الصور والأساليب عن إنسانية الإنسان. وقد يمكن أن تنظر إليه نظرات أخرى لا حصر لها. حسب ما تفهمه من طبيعة الأدب وبنيته ووظيفته وأدواته وعلاقاته بمبدعيه ومتلقيه ومناهج بحثه ونقده وتذوقه، لكنني هنا أسجل تجربتي مع الأدب والكتابة وهي تجربة أملتها طبيعتي التي جعلت منها بكاءً متصلًا على النفس (الفردية والجماعية والكلية) أعلم أن هذا البكاء ينطوي على سخرية كامنة تقوم على تصور الأدب بوصفه حكاية ساخرة قوامها المفارقة. وكلما ارتفع نواحها رنَّ في الأذن صوت سخريتها واستهزائها (ولهذا ليس عجيبًا أن يكون أقدر الأدباء على استدرار دموعها هم أقدرهم على استثارة ضحكاتنا. وأن يشهد التاريخ بأن أعظم الضاحكين المضحكين، مثل أرسطوفان وموليير، كانوا من أعظم البشر حظًّا من الألم والتعاسة والشقاء!) ولقد عشت ما عشت بعيدًا عن أضواء المسرح، زاهدًا فيها بطبعي. على الرغم من جنوني بالمسرح نفسه، وحلمي بالتفرغ للكتابة له.

عشت — كما وصفتني دعابات الأصدقاء — حياة عنكبوت أو شرنقة تعمل في الظل والصمت والسكينة، وكنت — كما وصفت نفسي — أشبه بيونس في بطن الحوت. ولم يكن من قبيل المصادفة أن أكتب تحت هذا العنوان قصة قصيرة لا أعدها خير قصصي، فتترجم إلى عدة لغات، ويتكرم أحد المستشرقين بوضع بحث مطول عنها! نعم! عشت سنواتٍ طويلة من عمري، وكل ما أعرفه أني أموت. مضغة تائهة في جوف حوت (خليل حاوي) في عيني حزن مزمن، على وجهي شيخوخة مبكرة. وفي عقلي وقلبي حكمة شرقية مميتة، سنوات طويلة أعاني الحرمان والفقر والوحدة، وأحاول أن أفلسفها، وأجرب مصرع الأمل والحب وشوق الأنا إلى الأنت أمام الأبواب والنوافذ الموصدة، وألوذ بجزيرة النقاء والصفاء وسط الضجيج والوحل والضوضاء، وأعانق الترفع والكبرياء، وأستنقذهما من مخالب الشراسة والنذالة والغدر والغلظة كمن يشد شعره لينتشل جسده ونفسه من المستنقع. وأعاين مصير الطيبة المطلقة، وهي تدان وتتهم بأنها ضعف وذل وغفلة وهوان، وأسهر آلاف الليالي كما سهر فاوست في حجرة دروسه لأحصد المرارة والتجاهل والجحود، وأدرك في النهاية صدق ما قاله له الشيطان: كئيبة مقفرة يا صديقي هي كل النظريات، أما شجرة الحياة الذهبية فتبقى خضراء (البيتان ٢٠٣٨-٢٠٣٩). وبينما المطلق يطبق قبضته على الرقاب، ويدق طبوله ويحشد جلاديه ودجاليه، فيتحول التدين إلى التعصب، والاشتراكية إلى الإرهاب، والحرية إلى الفهلوة واللصوصية، والثورة إلى الجريمة، والعلم إلى التجارة والارتزاق، والفن إلى الفجاجة والابتذال والنفاق — بينما المطلق — الطاغوت يجوس خلال الديار كتمثال مارد أجوف على قدمين من طين، يتبجح بدعاويه ويبرر هزائمه، ويفرخ مسوخ التسلط في كل مكان، أجدني أكتب وأعلم وأعمل في سبيل حياة بسيطة سوية، حياة حرة ومعقولة وممكنة، تصان فيها أوليات الإنسانية، فلا تقمع ولا تهدر ولا تهان في سبيل مطلق مستحيل. وتمر السنوات، وتسقط قيم تربى عليها جيلي، وتبتلى بالاستبداد — وهو شر ما يبتلى به الإنسان في كل مكانٍ وزمان — فتنقلب إلى الضد والنقيض، ويتقمص الخضر ثوب الجلاد، وتنهش الكلاب لحم الشرفاء والطيبين، وتخلو الساحة «للَّاقيم» التي وضعت نفسها في موضع القيم المطلقة للَّانتهازية والشطارة والتضخم والنجومية والكذب والغدر والادعاء وسائر ما تفرخه حية الأنا المتسلطة التي أنكرت وجود الآخر، وألغت حريته وسعادته ووكرامته. «ربي كيف ترعرع في وادينا الطيب، هذا العدد من السفلة والأوغاد؟» (صلاح عبد الصبور في ليلى والمجنون) وأيًّا كان تصورك لهذا الآخر على أنه الوطن أو الجماعة أو المصير المشترك أو رفيق الحياة والموت، فقد التهمته الحية الطاغية المتسلطة، وراحت تصفر وتطير في كل الأجواء الخالية (لدغني زملاء كنت أدخرهم للأيام الباقية من العمر، وعضني تلاميذ وأبناء أعطيتهم تعب العمر. كلانا — لو علموا — زائل، وسيبقى وطن صيرناه بأيدينا غابة غدر وجهنم قهر). أمام هذا كله هل تملك الذات الوحيدة المدحورة إلا أن ترثي نفسها؟ وهل يكون رثاء النفس إلا رثاء لكل النفوس الطيبة المحيطة في مكاني وزماني وعلى مر الأجيال؟ وإذا سلمنا بأن أدبنا الحديث في أصدق أعماله لم يتقن سوى مرثية الوطن والبكاء عليه (محمود درويش)، فإن رثاء النفس ينطق أيضًا بأن الوطن يتطلب شيئًا آخر غير الرثاء والبكاء، شيئًا يمكن أن نسميه الفعل الحر والعمل المبدع للمجموع. عندئذٍ تتحول دموع الشعراء والأدباء إلى نواقيس خطر، ويصبح البكاء ندًّا للإرادة الفاعلة. وعندئذٍ نغفر لواحدٍ منا أن يصبح «بومة مينرفا» التي تطلق حكمتها الحزينة وسط الخرائب لعل نعيقها يحرك وعيَ العاملين فيبدءُوا البناء الجديد فوق الأطلال.

لكن الوعي لم ينتبه، والبناء لم يبدأ، والصعود إلى الهاوية مستمر، والخلط والتخبط بلغا حد العماء والتصادم في الظلمات. والغربان المنذرة بالكوارث القادمة في الأفق، والكوارث نفسها تزحف وتزحف وتدق الأبواب. أليس هذا كله سببًا كافيًا للبكاء؟!

وأخيرًا، هل تبلِّغ هذه البكائيات دعوة؟ هل ترسل رسالة؟ هل تنطوي على نبوءة؟ هل تقدم وعدًا؟

لا أستطيع أن أدعي شيئًا من هذا؛ فهي محاولات وتجارب فنية قبل كل شيء، قد تجد في «الدموع على حائط مبكاي» خيبة أمل مرة في النفس، حسرة على عمر ضاع أكثره في الترجمة عن الآخرين أو التعريف بهم. شهادة صراعٍ أليمٍ عانيته وتمزقت منه بين العلم والإبداع (لعلي أكون قد بالغت فيه، حيث لا ضرورة للتناقض بينهما)، وقد تلمس في سطور المناجاة الشاعرية لنفس تبحث عمن تتحدث إليه (ولا أقول المناجاة الشعرية؛ لأنني لا أدعي القدرة على قول الشعر، ولن أدعيها. ولأنها فاجأتني في ثلاث ليالٍ «يمنية» عشتها في صنعاء، ولا أظن أنها ستتكرر أبدًا)، أقول قد تلمس فيها نقدًا للذات ومراجعة لحياتها وحصادها ومحاولة لإقناعها بالاستمرار في الوجود والإصرار على الخلق والأمل في الفجر المقبل. وربما تحس في متاهة الكابوس (الذي أشهد الله والحقيقة أنني رأيته بحذافيره في نومي، ثم دونته بعد ذلك في تسعة أيام وليال لاهثة محمومة) مدى العذاب الذي قاسيته طوال عشرين عامًا من تحول عشقي للفلسفة إلى مهنةٍ أوجر عليها، وآكل منها خبزي، كما تشعر بالأحلام المحيطة والمشروعات المختلفة والآمال المهزومة، «ولحظات المطر» التي مرت خيولها مسرعة، ولم أتمكن من الإمساك بخصلات شعرها. وربما تفزعك البكائية إلى صلاح عبد الصبور بجوها الأسود القاتم، وتملؤك سخطًا على براعتنا في اغتيال المواهب، وقدرتنا التي لا تبارى على قتل بعضنا لبعضنا. ولعلها أيضًا تخيفك من «رعبٍ أكبر من هذا سوف يجيء» تنبأ به شاعر وإنسان عظيم أرهقناه وعذبناه حتى الموت، وملأنا أيامه كمدًا وحزنًا. وربما نستشف من البكاء بين يدي أوفيليا هول الظلم الواقع على البريء النقي عندما يسقط في المستنقع «العربي»، فيكون موته الإرادي البطيء هو وسيلته الوحيدة للاحتجاج عليه والخلاص منه. وأخيرًا قد يراودك الإحساس وأنت تتابع دموع أوديب بأنك تراقب «طيبة» أخرى وهي تنهار وتسقط، وبيد أبنائها تتحول إلى غابة يحكمها قانون الغدر. وتظل تضيق الخناق على ابنها الذي أنقذها ذات يوم، حتى لا يبقى أمامه إلا أن يجتث شجرة عمره بيديه، ويأخذ طفلته معه ويرحل. ربما تحس هذا كله، وتشعر معه بموقف أساسي ثابت لا يتغير هو رفض الاستبداد والتسلط وتأكيد الحرية برغم كل شيء، والكفر بأي قول أو فعل لا يصب فيها ويدافع عنها ويدعمها. ولكن هذه كلها شروح عقيمة ودعاوى باطلة. فالبكائيات كما قلت تجارب فنية. والتجربة لا تدعي شيئًا ولا تدعو إلى شيء. إنها تريد أن تكون وحسب، تتمنى أن توحي وتحرك وتثير، لا تقدم أفكارًا أو معاني مجردة، بل تحمل إشارات وأمثلة وحكايات ومواقف وصورًا وبناءات لغوية تكفل نفسها بنفسها، وتسمح لمن شاء أن يقرأها كما يشاء. لكنها في النهاية جزء من «وصية» إنسان خاب أمله وأمل جيله، يضعها بين يدي جيل يحبو الآن على الدرب، أو أجيال لم تولد بعد، يضعها بين يديها وهو يقول: هذا هو كل ما استطعت. ربما يكون شوكًا ما حصدت، لكنني تعبت وأخلصت. وإذا استطعتم أن تكونوا أقوى منا، وأقدر على تغيير الواقع، فتذكروا أنه كان قاسيًا علينا. وإن ذكرتمونا يومًا فسامحونا.

١٩٨٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤