تمهيد: مصر بعد خروج الفرنسيين

عقد الفرنسيون آمالًا عظيمة على إرسال حملتهم المعروفة على مصر في مايو ١٧٩٨، ولكن هذه الآمال ما لبثتْ أن انهارت عندما اشتركت قواتُ الأتراك والبكوات المماليك والإنجليز متآزرة جميعها مع المصريين أهل البلاد لطرد الفرنسيين والقضاء على مشاريعهم السياسية والاستعمارية والعسكرية، فلحقت الهزيمة جيش الشرق، وأُرغِم «بليار» على مغادرة البلاد في أغسطس سنة ١٨٠١، ثم تبعه «منو» في أكتوبر من السنة نفسها، وانطوتْ صفحة «الحملة الفرنسية» كمُغامرة جريئة لم يستفِد منها «بونابرت» شيئًا بعد أن كان يرجو الاحتفاظ ﺑ «فتحه» الجديد حتى يَحين على الأقل موعدُ السلام العام في أوروبا، وإبرام الصلح الذي يُنهي تلك الحروب التي نشبت بين فرنسا الثورية والدول، فيتخذ من إخلاء مصر وسيلةً للمساوَمة أثناء مفاوضات الصلح المنتظرة؛ كي يظفر بشروطٍ أكثرَ ملاءمةً للجمهورية، فإنه ما حان موعدُ عقد الصلح في أميان في ٢٧ مارس سنة ١٨٠٢، حتى كانت مصر قد خرجت من قبضة الفرنسيين نهائيًّا.

وأخفقت كذلك مشاريعُ الفرنسيين الاستعمارية في الشرق بسبب هزيمتهم في مصر، فعجزوا عن إنشاء تلك المستعمرة الجديدة التي كان من أهمِّ أغراض حملتهم على هذه البلاد إنشاؤها على قواعد جديدة، ووفق أساليبَ جديدةٍ تُغاير ما درجوا عليه عند تشييد «إمبراطوريتهم الاستعمارية الأولى» وتعوِّضهم ما فقدوه، ثم ما كانوا بسبيل فقده في «الأنتيل» وجزر الهند الغربية خصوصًا، فكانت البحوث والدراسات العلمية الغزيرة والنافعة التي قام بها علماء الحملة الفرنسية هي الأثر الباقي، بل والخالد الذي أسفرت عنه هذه المغامرة.

وفي مصر ذاتها اعتبر المصريون «الحملةَ» حدثًا من جملة الأحداث التي وقعتْ ومَرَّتْ بهم، واختلفتْ في نظرهم عن الأحداث السابقة منذ أن خضعت البلادُ للعثمانيين في أوائل القرن السادس عشر، في أن أصحابَ الغلبة الجُدُد أعداءٌ للسلطان العثماني خليفةِ المسلمين وصاحب البلاد الشرعي، وأنهم أقوامٌ يختلفون عنهم في أخلاقهم وعاداتهم ولغتهم ودينهم وجنسهم وثقافتهم، وحكَّامٌ زادوا من ثقل الأعباء الواقعة على الأهلين بدل أن يخفِّفوها عنهم بسبب اعتمادهم في تقرير سلطانهم على موارد البلاد فحسب.

وكان الأثر العميق الذي أحدثه الفرنسيون بمجيئهم تشتيت قوى المماليك وتسديد ضربة قاصمة إلى بكوات هذه الطغمة الفاسدة المفسدة والتي سيطرت في مصر وأساءت استخدام ما كان لها من سلطة نافذة زمنًا طويلًا، حتى إن البكوات المماليك — الذين لعب كبراؤهم في العهد العثماني المملوكي بالأمراء — تعذَّرَ عليهم بعد خروج الفرنسيين أن يجمعوا أشتاتهم ليصبحوا قوةً ذات وزن في توجيه الأمور في السنوات التالية، وزاد من عوامل ضَعْفهم وانحلالهم تفرُّقُ الكلمة بينهم وانقسامُهم إلى شِيَع وأحزاب متنافسة فيما بينها، ولو أن غرضها جميعها كان استرجاع سلطانها ونفوذها المفقود.

وعادت مصر بعد خروج الفرنسيين إلى حظيرة الدول العثمانية مرةً ثانية، وكان من مظاهر السيادة العثمانية عقب خروج الحملة، بقاءُ الصدر الأعظم يوسف ضياء باشا بالقاهرة لإجراء التنظيمات الحكومية التي تجعل من مصر مقاطعةً أو باشوية من مُقاطَعات أو باشويات الإمبراطورية العثمانية، وبقاءُ القبطان حسين باشا بعمارته العثمانية في «أبي قير» لتأييد هذه التنظيمات الحكومية، ثم تعيين محمد خسرو باشا أولَ الولاة على مصر في العهد الجديد.

واعتمد مندوبو الباب العالي في إجراء ترتيباتهم على الجيش العثماني الذي بقي بالبلاد كذلك بعد اشتراكه في طرد الفرنسيين وإجلائهم عنها، وتألَّفَ هذا الجيش من خليطٍ من الأجناد الأكراد والإنكشارية والأرنئود (الألبانيين) خصوصًا. وكان الأخيرون قوامَ هذه القوة «العثمانية» لتفوُّقهم العددي على غيرهم منذ مغادرةِ الصدر الأعظم البلادَ وخروجِ قسم من العسكر العثمانيين (الإنكشارية) معه.

وصار نجاح الولاة أو الباشوات في دعم باشويتهم والترتيبات الجديدة متوقفًا على مدى مؤازرة هؤلاء لهم، ولكنَّ هؤلاء الأجناد ورؤساءَهم نظروا للبلاد كأنها «فتح» جديد، لهم بفضل حق الفتح أن ينهبوا ويسلبوا أرزاقها وأموالها، وأن يُسِيئوا معاملة أهلها أبلغ إساءة، ولم يستطِع الباشوات أو «الولاة» كبْحَ جماحِ الجند؛ لعجزهم عن دفع مرتباتهم أو إنشاء الحكومة القوية التي في قدرتها أخذهم بالحزم والشدة ووقف اعتداءاتهم؛ لأن الاضطرابات التي سبَّبَها وجودُ الفرنسيين ثم الحروب التي أدت إلى خروجهم من البلاد؛ عطَّلت التجارةَ والزراعة وكلَّ نواحي النشاط الاقتصادي الأخرى، واستولى البكوات المماليك على موارد الأقاليم التي كانت وقتئذٍ في حوزتهم، فنضب معين الخزينة وافتقر الباشوات إلى المال اللازم لسد نفقات الحكم والإدارة ولدفع مرتبات الجند، فظلَّ هؤلاء الأجناد عاملَ اضطراب وفوضى، ولجأ الباشوات إلى تحصيل الفرض والمغارم من الأهلين، وضَجَّ الأهلون ورؤساؤهم من المشايخ والأعيان بالشكوى والتذمُّر، وتحركوا للثورة على سلطة الحكومة المزعزعة، وساعد ذلك على انتشار الفوضى.

ولم يُسفِر خروج الفرنسيين واسترجاع العثمانيين لهذه البلاد — من الناحية الدولية — عن المساعدة على إنهاء الفتن والاضطرابات منها؛ لأن استقرار الأمور في مصر ارتهن بتقرير السلام الأوروبي العام من جهة، كما كان مرتهنًا بقيام الحكومة الموطدة الأركان بها من جهة أخرى، فإن صُلح «أميان» لم يكن سوى «هُدنةٍ مسلَّحة»، فقامت الحرب بين فرنسا وإنجلترا بعد أقل من عام واحد (مايو ١٨٠٣)، وعقدت الثانية محالفةً مع روسيا ضد فرنسا في أبريل ١٨٠٥، انضمَّت إليها النمسا بعد ذلك وبذل الفرنسيون قُصارى جهدهم في القسطنطينية حتى يُعلن البابُ العالي الحربَ على أعدائهم، ونجحوا في مَسْعاهم فأعلنت تركيا الحربَ على روسيا وإنجلترا في ديسمبر سنة ١٨٠٦، وأرسل الإنجليز أُسطولَهم بقيادة الأميرال دكوورث Duckworth إلى الدردنيل والبسفور في فبراير من العام التالي، كما أرسلوا حملة فريزر Fraser إلى الإسكندرية في مارس ١٨٠٧، وأوقفت إنجلترا عملياتها العسكرية ضد تركيا عندما عقد نابليون مع القيصر إسكندر معاهدةَ تلست Tilsit في يوليو، ومن شروطها السرية اقتسامُ أملاك العثمانيين بينهما، ونقض الروس هدنة سلوبودتزي Solbodizie (المبرَمة بينهم وبين الأتراك في أغسطس سنة ١٨٠٧)، فاستؤنفت الحرب بين الفريقين حتى تم الصلح بينهما في معاهدة بوخارست في ٢٨ مايو سنة ١٨١٢، وعندئذٍ كان نابليون مشغولًا بحروبه في إسبانيا، ثم في حملته المشهورة ضد روسيا، وفي حربه القارية العنيفة ونضاله المميت في أثناء ذلك كله مع إنجلترا، حتى لحقت به الهزيمة في «واترلو» في يونيو سنة ١٨١٥، واقتاده الإنجليز إلى منفاه في سنت هيلانة.
وكان في أثناء هذه الحروب الطويلة أنْ ظلت مصر تستأثر باهتمام كلٍّ من إنجلترا وفرنسا؛ الأولى لخوفها من أن يُنزِل الفرنسيون جيشًا لغزو هذه البلاد واحتلالها مرةً ثانية، فيهدِّدوا بعملهم هذا أملاكَ الإنجليز في الهند خصوصًا. والثانية لرغبتها في تأمين مصالحها التجارية قبل أيِّ اعتبارٍ آخَر، وظفرها بالنفوذ الأعلى في البلاد واتخاذها الحيطة لتعطيل أية مشروعات عمرانية قد تكون للإنجليز على هذه البلاد، حينما دخلت في نطاق سياستها حتى عام ١٨١١ وتقويض أركان إمبراطورية الإنجليز في الهند، فبعثت الجنرال ديكان Decaen إلى «بوندشيري» Bondichéry في أبريل سنة ١٨٠٢، واستمر «ديكان» يناضلهم هناك حتى عام ١٨١١، كما بعثت بالجنرال جاردان Gardane إلى الفرس، فعقد مع الشاه معاهدةَ طهران في ٢٤ ديسمبر سنة ١٨٠٧، واستمر بها حتى اضطر لمغادرتها بعد عامين (فبراير سنة ١٨٠٩) بسبب نجاح الإنجليز في الاتفاق مع الشاه على طرد الفرنسيين من بلاده.

وبذل الوكلاء الإنجليز والفرنسيون في مصر جهودَهم لتأليف الأحزاب من بين البكوات المماليك الذين اعتقدوا أن في وسعهم تأييدَ مصالحهم، وساعَدَهم على النجاح تفرُّقُ كلمة البكوات بسبب منافساتهم، فانحاز بيت مراد إلى الفرنسيين، وانحاز بيت الألفي إلى الإنجليز، ولو أَنَّ كلا الفريقين ظلا يستمعان إلى نصائح «الوكلاء» الإنجليز والفرنسيين على السواء؛ توصُّلًا لتحقيق مآربهم في الظفر بالسلطة العليا في مصر عن أي طريق قد يجدونه.

واتخذ تدخُّل هؤلاء الوكلاء صورةَ بذلِ الوعود بنجدة دولتَيْهما للمماليك، أو التوسط لدى الباب العالي لإرجاع سلطانهم القديم على الحكومة إليهم، ونشط الوكلاء الإنجليز نشاطًا «إيجابيًّا» في هذا السبيل، حتى إذا اقتضى الموقفُ الأوروبيُّ إرسالَ حملة فريزر كانت جهودُهم قد تكلَّلت بالنجاح وقتيًّا، وقيَّدَ التزامُ الحكومة الفرنسية لخطةِ عدم التورط في أية ارتباطات مع البكوات نشاطَ وكلائها معهم حتى صار «سلبيًّا»، وترتَّبَ على تدخُّل الوكلاء الإنجليز والفرنسيين في شئون البلاد أن صار من المتعذر قيامُ حكومة مستقرة في مصر، فكان هذا التدخُّل من أكبر العوامل التي زادت من حدة الفوضى السياسية المنتشرة بها.

على أن انتشار الفوضى السياسية لم يلبث أن هيَّأ الفرصةَ لظهور قوة جديدة في هذا الميدان المضطرب في شخصِ محمد علي، ظلَّ الباشوات العثمانيون لا يَأْبهون لها حتى وجد «محمد خسرو» نفسه مطرودًا من الولاية، ولقي آخَرُ حتفه (طاهر باشا)، واضطر ثالثٌ إلى المضي في طريقه إلى منصبه الأصلي بالحجاز (أحمد باشا)، وظلَّ الوكلاء الإنجليز والفرنسيون لا يفطنون لها حتى قُتِل والٍ ثانٍ (علي باشا الجزائرلي) وطُرِد البكوات من القاهرة، وانبرى البرديسي لمطارَدة الألفي وزاد انشقاق المماليك على أنفسهم، ثم نُحِّي والٍ آخَر عن منصبه (أحمد خورشيد باشا)، ونُودِي بمحمد علي واليًا بالقاهرة.

حضر محمد علي إلى مصر مع الفرقة التي جُمِعت من «قولة» في الرومللي ومقدونيا مسقط رأسه، وجاءت مع القبطان حسين باشا في عام ١٨٠١ لطرد الفرنسيين، وترتَّبَ على عودة رئيس هذه الفرقة علي أغا ابن حاكم قولة أو «الجوربجي» إلى بلاده عقب الوصول إلى «أبي قير» أنْ تسلَّمَ محمد علي قيادة فرقته، واشترك بقواته متعاونًا مع الإنجليز في العمليات العسكرية ضد الفرنسيين في حملة تلك السنة، واختار القبطان باشا لمهاجمة قلعة الرحمانية، ولكن الفرنسيين بقيادة الجنرال لاجرانج Lagrange أخلَوْها في ليل ١٠ مايو سنة ١٨٠١، قبل الهجوم عليها، فدخَلَها محمد علي دون قتال، وتوسَّطَ أحدُ أصدقاء محمد علي لدى القبطان باشا فألحقه هذا الأخير بخدمة محمد خسرو باشا أول الولاة أو الباشوات العثمانيين في مصر بعد خروج الفرنسيين.

ثم حدث بعد مكيدة القبطان باشا التي أهلك فيها عددًا كبيرًا من البكوات المماليك في أبي قير في أكتوبر سنة ١٨٠٢، أن رُقِّي «محمد علي» قائدًا أو سرَّ جيشِه في أواخر سنة ١٨٠١، وهكذا لم ينقضِ عامٌ واحد منذ وصوله إلى مصر حتى صار محمد علي مع زميله طاهر باشا القائدَيْن الرئيسيين للجنود الأرنئود (الألبانيين)، عماد القوة العثمانية في مصر.

وشهد محمد علي انتشارَ الفوضى السياسية في مصر بعد خروج الفرنسيين منها، ولاحظ عن كثب ما يجري بها من حوادث، أقنعتْه بأن الولاة لن ينجحوا في إنشاء حكومة مستقرة طالما هم يَظلُّون عاجزين عن إخضاع الجنود ورؤسائهم للطاعة والنظام، وما بقي البكوات المماليك ينازعونهم السلطة، ويُقبِل الوكلاء الإنجليز والفرنسيون على مناصرة هؤلاء البكوات، سواء أكانت هذه المناصرة سلبيةً أم إيجابية، ودلَّت حوادثُ إخراج خسرو من الولاية ومقتل طاهر باشا، ثم قتال خسرو مع البكوات المماليك في حربٍ كانت تارةً كفته الراجحة فيها، وتارةً كفة المماليك، ومحاولة طاهر باشا التفاهم معهم لعجزه عن الاعتماد على ما لديه من قوات متمردة في مقاومتهم؛ دلَّتْ هذه الحوادث على أن الجندَ الأرنئود إذا سلس قيادهم وحسن تحريكهم بحكمةٍ وحذرٍ صاروا قوةً فعَّالة في تغيير الأوضاع القائمة لصالح رؤسائهم، وأن البكوات المماليك إذا أمكن التغييرُ بهم فتوهموا، أو توهم فريق منهم، أن في وسعهم الاطمئنان إلى معاونة الأرنئود ورؤسائهم له في الظفر بحكومة القاهرة؛ كان ذلك أَدْعَى لإثارة المنافسة بينهم، وبذر بذور الشقاق في صفوفهم، وتأليب بعضهم على بعض، حتى يضعفوا جميعًا وتذهب ريحهم، فيتسنى عندئذٍ هزيمةُ طوائفِهم وأحزابهم متفرقين متبعثرين.

وشهد محمد علي نشاط القناصل والوكلاء الإنجليز والفرنسيين مع البكوات دائمًا ثم مع الباشوات كذلك، واستنجاد كلا الفريقين بالدول الأجنبية لتوسيطها لدى الباب العالي، إما لإرجاع الأولين إلى وضعهم السابق في البلاد، وإما لتقليد الآخرين منصب الولاية أو تثبيتهم في هذا المنصب، فأدرك أن استمالة هؤلاء الوكلاء تساعده على تحقيق مآربه إذا هو شاء التطلُّع لمنصب الباشوية.

ولاحظ محمد علي تذمُّرَ القاهريين من المغارم والمظالم التي فرضها عليهم الولاة، وسخطهم على الباشوات الذين لم يردعوا الأجنادَ عن السلب والنهب والاعتداء عليهم، فرأى أنه إذا هو أنشأ الصلات الطيبة مع المشايخ والعلماء ورؤساء هؤلاء القاهريين وزعمائهم الطبيعيين، فكسب ثقتهم؛ سهل عليه أن يقذف بهم في الميدان في الفرصة المناسبة لجعل نصره حاسمًا، سواء على البكوات المماليك أو على الولاة أنفسهم.

ومن الثابت أن محمد علي اشترك في جميع الحوادث والانقلابات منذ طرد خسرو باشا من الولاية في مايو سنة ١٨٠٣، إلى وقت المناداة بولايته هو في القاهرة بعد ثلاثة أعوام فقط في مايو سنة ١٨٠٥، وقد أُتيحت له فرصة الظهور بسبب تلك الفوضى السياسية التي ذَكَرْناها، والتي زاد من حدتها ما حدَث من تضارُب بين سياسة تركيا وسياستَيْ إنجلترا وفرنسا، وقبل كل شيء آخَر ما وقع من اصطدام بين المصالح — الفرنسية والإنجليزية — السياسية في مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤