الفصل الرابع

ظهور محمد علي: الخطوات الأولى

تمهيد

قام الصراع بين السياستين الإنجليزية الإيجابية والفرنسية السلبية بين عامي ١٨٠١–١٨٠٥، من أجل الاستئثار بالنفوذ الأعلى في مصر، وتوجيه الأحزاب التي اعتقدتْ حكومتا لندن وباريس أن بوسعها رعاية مصالحها في البلاد: لندن لإنشاء حكومة قوية مستقرة تستطيع الدفاع عن مصر ضد الغزو الفرنسي الذي توقع الإنجليز حدوثه، وباريس لتأسيس النفوذ الفرنسي بعد أن كاد يتلاشى كليةً عقب هزيمة جيش الشرق وخروج الفرنسيين من مصر، وكان مقصد القنصل الأول استئناف العلاقات التجارية بين البلدين، وفتح الأسواق المصرية للمنتجات الفرنسية، ثم إبطال مساعي ونشاط الوكلاء الإنجليز ومنع خصومهم من أن يكون لهم أي نفوذ سياسي في مصر.

ومع أن الإنجليز والفرنسيين — على السواء — راعَوا في نشاطهم دائمًا عدمَ تنفير الأتراك أصحاب السيادة الشرعية على مصر، واستبقاء علاقات المودة معهم، الأولون حتى لا تنضم تركيا إلى فرنسا، والأخيرون حتى ينحاز إليهم الباب العالي في النضال القائم بينهم وبين إنجلترا؛ فقد ظهر أن الفريقين كانا يعتقدان أن المماليك وحدهم هم القوة الفعالة في مصر والتي في وسعها أن تحقق مآرب من يتيسر له منهما كسبها إلى جانبه.

وعلى ذلك فقد انحصر نشاط السياستين: الإنجليزية والفرنسية في توثيق الصلات مع البكوات، وأسفر هذا النشاط فيما يتعلق بالسياسة الفرنسية عن إخفاق «ماثيو لسبس» في مهمته للأسباب التي ذكرناها في حينها، والتي كان أهمها سلبية السياسة الفرنسية ذاتها، واقتصارها على بذل الوعود وإظهار النوايا الطيبة وترديد عبارات الود والصداقة ومحبة القنصل الأول للبكوات، ولم يقطع البكوات كل صلة لهم بالوكلاء الفرنسيين لسبب واحد هو أملهم في أن تستطيع الحكومة الفرنسية التوسط لهم بنجاح لدى الباب العالي لإعادة امتيازاتهم وسلطتهم السابقة في حكومة مصر إليهم بالصورة التي كانت عليها قبل الغزو الفرنسي، وقد أوضحنا كيف أن الفرنسيين عجزوا عن تحقيق ذلك.

وأما فيما يتعلق بالسياسة الإنجليزية فقد رأينا كيف تعددت أساليب ديبلوماسية الإنجليز في القسطنطينية والقاهرة، وقد تعددت مشاريعهم من أجل إنشاء الحكومة «المملوكية» التي رأوا قيامها ضروريًّا للدفاع عن مصر، ثم كيف تقدموا بمشروعاتهم لتنظيم هذا الدفاع نفسه، الأمر الذي انتهى بهم إلى الاقتناع بضرورة احتلال الإسكندرية كخطوة لا غنى عنها لصد أي هجوم قد يقع على مصر من ناحية الفرنسيين.

وقد أسفر الصراع بين السياستين: الإنجليزية والفرنسية عن جملة أُمُور: أولها أن صلات الوكلاء الإنجليز والفرنسيين بالبكوات في مصر ومسعى رجال سفارتيهم في القسطنطينية في صالح هؤلاء؛ قد جعل البكوات يصرون على استمساكهم بما اعتبروه حقًّا لهم في أن يستأثروا بالحكومة الفعلية في مصر، كما نجم عن توسط الإنجليز والفرنسيين في القسطنطينية في مسألتهم أن ازداد الباب العالي تَشبُّثًا بموقفه فلم ينزل عن إصراره على طرد البكوات وإخراجهم من مصر كلية إلا عندما وجد زمام الأمور يفلت من يده في مصر، وصار البكوات أصحاب السلطة الفعلية في القاهرة وفي البلاد بأسرها، فلم يبق خارجًا عن سيطرتهم سوى الإسكندرية، بل وصاروا يهددون الإسكندرية ذاتها، وعندئذ لم يكن لتسليم الباب العالي بالأمر الواقع الأثر الذي توقعته تركيا؛ لأن البكوات لم يثقوا في نواياها وقتلوا «الباشا» الذي عينته القسطنطينية «علي الجزائرلي»، كما لم يحدث الأثر الذي ظلت ترجوه الحكومة الإنجليزية من مدة طويلة؛ أي قيام الحكومة المستقرة في مصر؛ لأن البكوات كانوا منقسمين على أنفسهم وتعذر اتحادهم بسبب المنافسة الشديدة بين الألفي صنيعة الإنجليز، والبرديسي الممالئ للإنجليز وللفرنسيين على السواء سعيًا وراء نفعه الخاص ومصلحته الشخصية، ففقد البكوات بعد ذلك حكومة القاهرة في انقلاب «مارس ١٨٠٤»، واستؤنف النضال بينهم وبين «الباشا» الجديد أحمد خورشيد، الذي اضطر الباب العالي لتثبيته نزولًا على الأمر الواقع بعد أن زيف أصحاب الانقلاب تقليده الولاية تزييفًا، واستمرت الحرب الأهلية على شدتها، وعجزت حكومة أحمد خورشيد عن القضاء على الفوضى السياسية المنتشرة في البلاد.

وفي أثناء الصراع السياسي بين إنجلترا وفرنسا في مصر، اعتبرت كلا الدولتين أن وجود الأجناد الألبانيين «أو الأرنئود» ورؤسائهم من أشد عوامل الفوضى السياسية خطورة، ولم يفطن الوكلاء الإنجليز والفرنسيون في غمرة نشاطهم مع البكوات المماليك إلى ما قد يمكن أن يؤديه أحد رؤساء هؤلاء الأرنئود «محمد علي» من خدمات قد تساعد على استقرار الأوضاع في مصر وإقامة حكومة موطدة بها، فاعتبره «ماثيو لسبس» رجلًا لا عبقرية ولا كفاءة له، وبذل «مسيت» قصارى جهده لإبعاده عن مصر.

وعندما نودي بولاية محمد علي في ١٨٠٥، ظل «مسيت» يعتبره خصمًا لدودًا للمصالح الإنجليزية في مصر ومناصرًا للمصالح الفرنسية، واستمر يسعى لعزله وإبعاده، بينما كان بفضل تنبه الوكيل الفرنسي «دروفتي» أخيرًا إلى ضرورة تأييد محمد علي لتعطيل نشاط الإنجليز كسياسة إيجابية اتبعها القنصل الفرنسي على مسئوليته الشخصية، أن نشأ ذلك التعاون الوثيق بين «دروفتي» وحكومة محمد علي لدفع العدوان الإنجليزي عندما جاءت حملة فريزر إلى الإسكندرية بعد ذلك بعامين تقريبًا.

وقد ترتب على ما حدث من تضارب بين السياستين: الإنجليزية والفرنسية، ثم عجز الباب العالي عن فرض سيطرته على مصر، وعجز البكوات المماليك بسبب انقسامهم — أكثر من أي سبب آخر — عن الظفر بحكومة البلاد الفعلية، أن ظلت الفوضى السياسية ضاربة أطنابها في البلاد، فلم يفلح تعيين علي الجزائرلي أو صفح الباب العالي عن البكوات واعترافه بحكومتهم في القاهرة في إنهاء هذه الفوضى، بل زاد من حِدَّتِها، كما لم يفلح تثبيته لأحمد خورشيد في باشوية القاهرة، في إقامة صرح الحكومة الموطدة المستقرة.

ولم يكن لِما وقع من حوادث في فترة هذه الفوضى السياسية منذ أن خرج الفرنسيون من البلاد واسترجع السلطان العثماني سيادته الشرعية عليها، سوى أثر واقعي واحد هو تهيئةُ الأسباب التي ساعدت على ظهور محمد علي، عندما عرف هذا كيف يفيد من ظروف الفوضى السياسية؛ لشق طريقه إلى الولاية.

وقد يعتقد بعض الناس — اعتقادًا مبعثه الميل لإطلاق العنان للخيال حتى يسبح في عالم الأقاصيص والأساطير الوهمية — عند الكلام عن حدث من الأحداث الفريدة، أن «محمد علي» وقف متفرجًا يشهد ما يمر به من حوادث دون أن يكون له شأن بها ودون أن يكون له يدٌ فيها، حتى هب الشعب بتوجيه زعمائه ورؤسائه يطلب من هذا الزعيم الألباني الذي واساه في محنته أيام حكومة البكوات في القاهرة، ثم أيام باشوية أحمد خورشيد بعد ذلك أن يتولى هو منصب الولاية، هكذا من تلقاء نفسه ودون أن يسعى محمد علي نفسه لهذه الباشوية.

ومع ذلك فقد آن الأوان لتصحيح هذه الصورة الخيالية، التي إلى جانب أنها لا تظهر «محمد علي» على حقيقته كرجل له من صفات المغامِر الحربي ما يمنعه من الوقوف مكتوف اليدين أمام ما يقع يوميًّا من حوادث لا يمكن أن يغيب عن فطنته مغزاها، فهي صورة لا تتفق مع الحقيقة والواقع، وقد ذكرنا كيف أن معركة دمنهور (٢٠ نوفمبر ١٨٠٢) قد حددت قطعًا بداية ذلك التطور الذي طرأ على موقف محمد علي من مجريات الأمور في مصر.

والحقيقة أنه صار لمحمد علي من ذلك الحين برنامجٌ للعمل واضحُ المعالم، يهدف بصورةٍ رتيبة متسقة إلى غرضٍ واحد هو الوصول إلى الولاية، فقد أدرك من أول الأمر أن هناك عقباتٍ معينة قد تَحول دون وصوله إلى الحكم إذا ظلت محتفظة بقواها كعوامل لا سبيل لنكران أثرها في تكييف وضع البلاد، وهو وضع يبقي الفوضى السياسية على حالها، بل ويزيد من حدتها، ثم إنها قد تساعده على الوصول إلى الحكم إذا عرف كيف يتدبر أمرها ويخضد من شوكتها، ويترتب على نجاحه عندئذ إنهاء هذه الفوضى السياسية ذاتها وإقامة صرح الحكومة المستقرة الموطدة، وأما هذه العوامل أو القوى فكانت أولًا الباشا العثماني: ويستند هذا في ممارسة سلطته سواء أكانتْ حقيقية أم وهمية على فرمان الباب العالي صاحب السيادة الشرعية على البلاد. وقد يكون هذا الباشا صاحب قدرة ودهاء أو صاحب أطماع ويعتمد في دعم أركان باشويته على ما قد ينتظره من نجدات من تركيا، أو ما قد يستقدمه هو فعلًا من عسكر لمعاضدته، أو يستند في قيام حكومته على طائفة معينة من الأجناد.

ثم هناك ثانيًا: الأرنئود، وهؤلاء كانت لهم الكثرة العددية على سائر الأجناد من إنكشارية وغيرهم، وكانوا عنصر فوضى واضطراب، يعيثون فسادًا في البلاد، وينهبون ويسلبون ويقيلون، عجز الباشوات عن ردعهم عندما عجزوا بسبب خلو الخزانة دائمًا من المال عن دفع مرتباتهم المتأخرة لهم.

ثم هناك ثالثًا: البكوات المماليك، وهؤلاء — مهما عظمت انقساماتهم واشتدت خلافاتهم فيما بينهم — كان يجمعهم أمرٌ واحد هو رغبتُهُم في استرداد سلطانهم المفقود، والسيطرة على حكومة البلاد الفعلية، والعودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الغزو الفرنسي.

أضفْ إلى هذا كله وجودَ ذلك الصراع السياسي المستعر بين إنجلترا وفرنسا لإحراز النفوذ الأعلى في مصر، وكان هذا الصراع من عوامل الفوضى السياسية، وقد يمكن من المهارة استغلاله والاستفادة منه لتأسيس حكومة موطدة قوية، ثم هناك أخيرًا الباب العالي نفسه، وقد دَلَّت التجارب على أنه يرضخ دائمًا للأمر الواقع بسبب عجزه وضعفه، ولو أنه لا يمكن الوثوق به أو بوعوده، وقد يمكن توقِّي شره بمداورته ومداراته.

وقد عرف محمد علي — خصوصًا في السنوات الثلاث التي سبقت المناداة بولايته في مصر — كيف يتغلب شيئًا فشيئًا على هذه الصعوبات، ويُزيل تلك العقبات من طريقه واحدةً بعد الأخرى؛ فهو قد اتبع مع الباشوات — أو الولاة — طريقًا واحدًا من ثلاث: إما التخلص ممن ظهر بأسهم وتمرسهم في المكائد، كخسرو باشا وعلي باشا الجزائرلي فاشترك في تأليب الأرنئود على الأول، وكان خسرو يعتمد على الإنكشارية وتأليب البكوات على الثاني، وكان هؤلاء يُريدون استمرار سلطانهم في القاهرة، وإما إضعافهم بالابتعاد عن شئون الحكم والتخلِّي عن مؤازرتهم كما فعل مع طاهر باشا في أثناء قائمقاميته، وإما جعلهم يعتمدون عليه شخصيًّا، حتى إذا استكمل العدة سعى لتدبير طردهم من الولاية كما فعل مع أحمد خورشيد باشا.

وفطن محمد علي لقوة الأرنئود كعامل هام من عوامل هذه الانقلابات، فحرص أولًا على أنْ لا يزيد من كانوا منهم تحت قيادته المباشرة على العدد الذي يستطيع أن يدفع له مرتباته، وقد استمر الحال على ذلك إلى أن قتل زعيمهم الآخر طاهر باشا، وعندئذ صارت شكاوى الأرنئود من عدم دفع مرتباتهم مسألة تتحمل الحكومة أو «الباشا» وحدها مسئوليتها، ويطالب محمد علي نفسه هذه الحكومة بدفع مرتبات الجند، بل وصار يتخذ من مسألة المرتبات المتأخرة ذريعة لتحريك الأرنئود ضد الحكومة، ليس فقط حكومة الباشوات، بل وحكومة البكوات المماليك، ثم إنه إلى جانب ذلك عرف كيف يوثِّق صلاته مع سائر رؤساء الأرنئود من إخوة وأقرباء طاهر باشا خصوصًا بعد موته، فظل أكثر هؤلاء الرؤساء إلى جانبه في أشد الأوقات حروجة؛ أي في أثناء أزمة المناداة بولايته على مصر.

وأما البكوات المماليك فقد استعان بهم في التخلُّص من خسرو نهائيًّا، ثم مِن علي الجزائرلي. كما عرف كيف يستغل ما بينهم من خلافات لكسر شوكتهم وزيادة شقة هوة الخلافات اتساعًا بينهم، فشجع البرديسي على مطاردة الألفي، حتى إذا اطمأن إلى ضعف البكوات في القاهرة طردهم جنده منها، وقد عرف محمد علي كيف يستغل غضب المشايخ والعلماء على حكومة البكوات بسبب المظالم التي أوقعها البرديسي وإبراهيم بالقاهريين ومشايخهم وأعيانهم؛ لتأليب العامة عليهم، وكان تحريكه لهذه القوة الشعبية من العوامل ذات الأثر المباشر في وصوله إلى الولاية أخيرًا وعزل أحمد خورشيد، وتزويد الباب العالي بالمبرر الذي يمكنه من المحافظة على هيبته عند تثبيته «محمد علي» في الولاية نزولًا على حكم الأمر الواقع.

وشهد محمد علي أثر الصراع السياسي بين إنجلترا وفرنسا، في اعتماد طوائف المماليك على هاتين الدولتين للتوسُّط لدى الباب العالي من أجل حسم الخلافات القائمة بين البكوات وبين السلطان العثماني، وإعطاء البكوات الحكم في مصر. وكان نجاح الألفي في سفارته في لندن مبعث خوف شديد له وخشي أن يستطيع الألفي بفضل ما اتضح من مؤازرة الإنجليز له أن يستولي على الحكومة، وعَدَّهُ محمد علي أخطر منافس له، ولا سبيل لدفع هذا الخطر سوى اتحاد البرديسي معه في مطاردته، ثم شهد كيف أثمرت مساعي الديبلوماسية الإنجليزية في القسطنطينية، فكانت تلك الحلول التي عرضها الباب العالي على البكوات ورفضها هؤلاء. زد على ذلك محاولة خسرو باشا الاستعانة بالإنجليز لاسترداد باشويته في مصر، فكان لذلك إذن أنْ وجد محمد علي لزامًا عليه إذا أراد النجاح أن يكسب مناصرة إحدى هاتين الدولتين: إنجلترا أو فرنسا لتأييده. ولما كان ظاهرًا بسبب السياسة الإيجابية التي اتبعتْها إنجلترا دائمًا في صالح البكوات المماليك؛ أنه من المتعذر عليه استمالة هؤلاء إلى جانبه أو التفاهم معه.

وقد تقدم كيف أن قنصلهم «مسيت» في مصر كان يطلب إبعاده، فقد بذل قصارى جهده للتودد إلى القنصل الفرنسي «ماثيو لسبس» ثم إلى «دروفتي» من بعده، وقد تكللت مساعيه بالنجاح مع دروفتي بعد المناداة بولايته في مايو ١٨٠٥ عندما وجد دروفتي نفسه أنه قد بات مِن واجبه تعضيد محمد علي وقد صار «باشا» مصر — لتأييد المصالح الفرنسية، ولتعطيل مشاريع الإنجليز، ثم بعد ذلك لإحباط حملتهم المعروفة في عام ١٨٠٧.

وأما من جهة الباب العالي، فقد استعان محمد علي في تحقيق مآربه بالهدايا التي صار يبعث بها إلى رجال الديوان العثماني منذ أن بدأ مسعاه جديًّا لدى الباب العالي في أثناء حكومة خورشيد لنوال باشوية مصر، قبل انقلاب «مايو ١٨٠٥» بمدة طويلة، حتى إذا حدث الانقلاب صار يعزز مسعاه في القسطنطينية من أجل تثبيته في الولاية بالاستناد على ثقة المشايخ والعلماء والشعب به، ورغبتهم في أن يكون واليًا عليهم، وقد انتفع محمد علي بهذه المؤازرة الشعبية في الأزمات التي واجهها في علاقاته مع الباب العالي كذلك في أثناء عام ١٨٠٦.

(١) قائمَّقامية طاهر باشا

كان طرد خسرو من باشوية القاهرة أولَ انقلابٍ مِن نوعه حدث منذ أن استرجع الباب العالي مصر، وثورة صريحة ضد الممثل الشرعي لسلطانه في البلاد، ووقف طاهر باشا متزعِّم هذا الانقلاب موقفَ الثائر على الباب العالي؛ ولذلك صار لزامًا عليه أن يفسر لأولي الأمر في القسطنطينية الأسباب التي دعت إلى هذا الانقلاب، وأن يستصدر من الباب العالي فرمانًا بتقليده الولاية، وأن يضفي على حكمه المظهر الشرعي أو القانوني حتى يأتيه فرمان الولاية، فطلب من المشايخ والقاضي وعلماء الشريعة والقانون تلبيسه قائِمَّقام، وفي ٦ مايو «اجتمع المشايخ عند القاضي وركبوا صحبته وذهبوا عند طاهر باشا وعملوا ديوانًا وأحضر القاضي فروة سمور ألبسها لطاهر باشا ليكون قائمقام حتى تحضر له الولاية أو يأتي والٍ.»

وذكر «روشتي» في رسالته إلى البارون «شتورمر Stürmer» في ٦ مايو ١٨٠٣ ما دار في هذا الاجتماع، فقال: «إن طاهر باشا قد طلب من القاضي كتابة إعلام كوثيقة شرعية تسرد ما وقع من حوادث أفضتْ إلى طرد خسرو باشا، وكانت صورة هذا الإعلام معدة في عبارات تنعي على خسرو باشا إسرافَه في بناء سرايه وتحصينه، بينما ترك الجنود الألبانيين دون أن يدفع لهم مرتباتهم المتأخرة، وصار يماطلهم وأحالهم على الدفتردار: ثم أراد أن يفتك بالأرنئود في مذبحة كبيرة لم ينقذهم منها لحسن الحظ سوى تذمر الشعب الذي أثقلته المظالم والإتاوات، والذي بمجرد أن أدراك ما يتعرض له من الأخطار فزع إلى حمل السلاح ولم تهدأ ثورته إلا بفضل نصح طاهر باشا بالتزام الهدوء والسكينة، وقد اضطر طاهر باشا والأرنئود إلى المحافظة على الهدوء والسكينة للاستيلاء على القلعة.»

وواضحٌ أن هذا التفسير الذي أراد طاهر باشا أن يُعلل به الثورة على خسرو لم يكن صحيحًا فيما يتعلق بقيام الشعب؛ لأنه من الثابت في أثناء الاصطدام الذي وقع بين طاهر باشا وجنده الأرنئود وبين خسرو باشا وجنده من العبيد السود والتكرور — الذين أَلَّفَ منهم حرسًا خاصًّا له في بداية ولايته — أن الشعب لم يشترك في شيء من ذلك، بل صار بعض أولاد البلد يذهب إلى الفرجة ويدخل بينهم ويمر من وسطهم فلا يتعرضون لهم ويقولون نحن مع بعضنا وأنتم رعية فلا علاقة لكم بنا، ومع ذلك فقد وقَّع المشايخُ والقاضي والوجاقلية على هذا الإعلام وبصورته المحضرة في ٩ مايو وأرسلوه إلى إسلامبول.

وكان في اجتماع «٥ مايو» الذي ألبس في أثنائه طاهر باشا «فروة» القائمَّقامية، أن تحدث السيد عمر مكرم عن المظالم والإتاوات التي يشكو منها الشعب، «وكلموه على رفعها وظنوا فيه الخير»، فوعدهم طاهر باشا والدفتردار خليل أفندي الرجائي برفعها، واصدر طاهر باشا منشورًا طمأن فيه الناس على أموالهم وأرواحهم، ويبدو أن طاهر باشا كان في عزمه أن يحكم حكمًا طيبًا، فنودي في الناس بالأمان، ومنع الجند من التعرض للأهلين، وأمر الباشا بأن تعرض عليه شكاوى الأهلين إذا وقع عليهم اعتداءٌ من الجُند حتى ينتصف لهم وينتقم بنفسه من الجنود المعتدين، وبدا في الأيام الأولى من قائمقاميته أن السلطة قد دانتْ له تمامًا حتى لم يعد هناك — على حد قول مسيت — ما يدل على أنه من الممكن طردُهُ منها.

وحرص طاهر باشا على إظهار ولائه للباب العالي، كما حرص على تطمين الأوروبيين بالقاهرة فصار يهدئ من روعهم ويؤكد لهم اهتمامه بالمحافظة على سلامة أرواحهم واحترامه لأشخاصهم وعدم إلحاق أي أذًى بأموالهم وأملاكهم، وصار يبذل قصارى جهده حتى لا يغادر هؤلاء القاهرة إلى الإسكندرية، ولما كان «مسيت» الوكيل الإنجليزي قد وصل إلى بولاق من الإسكندرية وقت قيام الثورة، فقد احتجزه الأرنئود هو ورفيقيه: الكابتن «هايز» والمستر «أدريان» الطبيب مدة يومين، حتى إذا هدأت الأمور أطلقوا سراحهم، ووجد «مسيت» نفسه في حيرة من أمره، لا يدري كيف يكون مسلكه من طاهر باشا، وهل يعتبره عاصيًا وثائرًا على الدولة أم أحد رعايا الباب العالي المخلصين، وكتب إلى حكومته منذ ٤ مايو أنه «سيبقى في قلقه وحيرته هذه حتى يعرف من هو ممثل السلطان سليم الثالث في مصر»؛ لأن خسرو باشا كان لا يزال «الباشا» الشرعي، ولم يصل أمرٌ من الباب العالي بعزله.

ورأى طاهر باشا لدعم سلطانه في القاهرة أن يتفق مع البكوات المماليك ويتحالف معهم، وكان خسرو — على نحو ما قدمنا — قد بدأ مفاوضاته معهم منذ أن وصله أمر الباب العالي بالقبض على رؤسائهم الأربعة: إبراهيم والألفي والبرديسي وأبي دياب وإرسالهم إلى القسطنطينية، ثم الاتفاق مع سائر البكوات والمماليك على أساس خروجهم من البلاد، والانسحاب للعيش في أي مكان يختارونه — غير مصر — مع إعطائهم المرتبات والمعاشات.

ومع أن خسرو أفلح في استمالة عثمان بك حسن وصالح بك الصغير، فحضرا مع أتباعهما إلى القاهرة للاستفادة من صفح الباب العالي وعفوه وللتفاهم مع خسرو؛ فقد ظل سائر البكوات لا يرضون بالتفاهم مع الباشا على غير ما طالبوا به، وهو بقاؤهم وأتباعهم في مصر، واسترجاعهم لنفوذهم السابق في الحكومة، وتجددت مفاوضات خسرو معهم منذ سبتمبر سنة ١٨٠٢ وعرض على البكوات «إقطاع إسنا» إذا رفض رؤساؤهم الذهاب إلى إسلامبول ورفض سائر البكوات والمماليك مغادرة البلاد، ولكن دون نتيجة، حتى حدث في ١٩ نوفمبر من العام نفسه أن وصل إلى القاهرة فرمان من الباب العالي يطلب من خسرو «قتال الخائنين، وإخراج الأربعة أنفار؛ أي البكوات الأربعة المعروفين، من الإقليم المصري بشرط الأمان عليهم من القتل وتقليدهم ما يختارونه من المناصب في غير إقليم مصر.»

وقد وصل هذا الفرمان قبل وقوع معركة دمنهور بيوم واحد، وهي المعركة التي انتصر فيها البكوات، وقدْ تتابعت الحوادث مسرعة بعدها، فلم يعرف البكوات كيف يفيدون من النصر الذي أحرزوه، ثم دَبَّ الانقسامُ بينهم — كما هي عادتهم — وخرج الألفي مع جيش الإنجليز في مارس، وحاول البكوات توسيط المشايخ، فبعثوا برسالة من الصعيد إليهم على يد الشيخ «سليمان الفيومي»، وكان البكوات قد انسحبوا إلى الصعيد؛ بناء على نصح الجنرال ستيوارت لهم في الظروف التي ذكرناها سابقًا، وسلم الفيومي رسالة البكوات إلى خسرو، وفي أبريل سنة ١٨٠٣ استولى البكوات على المنيا عنوة، وفي مايو طرد خسرو من القاهرة، وأوفد البكوات رسولًا هو جعفر كاشف تابع إبراهيم بك يحمل منهم كتابًا إلى المشايخ، ووصل جعفر كاشف القاهرة في أثناء مرحلة الحوادث الأخيرة التي انتهتْ بفرار خسرو، وصار يجتمع بطاهر باشا، ويبدو أن «طاهر باشا» قد بدأ من ذلك الحين سياسةَ التفاهُم مع البكوات للتحالف معهم.

وكان عند اجتماع المشايخ والقاضي بطاهر باشا لإعلان قائمقاميته في ٥ مايو، أن قرأ هؤلاء المكتوب الذي حضر من عند الأمراء القبالى يعلنون فيه طاعتهم وامتثالهم، وينفون عن أنفسهم تهمة «التعدِّي والمحاربة»، ويشكون من تصدي الجند والحكام لقتالهم في كل مكان يقصدون إليه أو يبغون المرور منه وهم في طريق انسحابهم إلى الجنوب حتى وقع حادث المنيا، وانهزم العسكر في كل التحاماتهم معهم، ويلقون تبعة ما حدث على الوزير «خسرو باشا» الذي رفض — على حَدِّ قولهم — وساطةَ «سادتهم المشايخ الذين رجوهم أن يتشفعوا لهم عنده … وأبى إلا إخراجهم من القطر المصري كله.»

ثم قالوا: «وبعثتم؛ أي الوزير خسرو، تحذروننا مخالفة الدولة العلية مستدلين علينا بقوله تعالى: أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، ولم تذكروا لنا آية تدل على أننا نخرج من تحت السماء ولا آية تدل على أننا نلقي بأيدينا إلى التهلكة …» وسأل المشايخ عن الجواب الذي يردون به على كتاب البكوات، فقال طاهر باشا: حتى نتروَّى ثم لم يلبث أن كتب هو بعد ذلك كتابًا إلى البكوات «يخبرهم فيه بما وقع من طرد خسرو وإعلان قائمقاميته، ويأمرهم أن يحضروا بالقرب من مصر؛ فربما اقتضى الحال المعاونة»، وكان البكوات يريدون بقاء إقليم البهنسا — على وجه الخصوص — في أيديهم؛ ليعيشوا من إيراداته بدل حياة السلْب والتخريب التي قالوا إنهم أُرغموا عليها إرغامًا بسبب إصرار الباب العالي والباشا العثماني على إخراجهم وطردهم من مصر، وذلك حتى تتضح نتائج سفارة الألفي في لندن، وانتظار الأمر من الباب العالي، وحضر البكوات؛ تلبيةً لدعوة طاهر باشا، وعسكروا أمام الجيزة (٢٢ مايو) ولكن الحوادث لم تمهل «طاهر باشا» لتنفيذ سياسته.

ذلك أن الصعوبات سرعان ما أحاطت بقائمقاميته من كل جانب، فقد كان خسرو باشا الذي لم يصدر فرمان بعزله هو ممثل السلطان العثماني الشرعي في البلاد، وقد استطاع أن يقيم معسكره بالمنصورة، وأن يضع حامية قوية في الرحمانية للسيطرة على الملاحة في فرع رشيد، بينما أقامت حاميةٌ أُخرى بمنوف، ولو أنه أهمل الاستيلاء على مدينة رشيد وقلعتها التي بقيتْ في أيدي جماعة من الأرنئود أرسلوا من القاهرة لاحتلالها بعد حادث فراره من القاهرة.

ثم إن حاكم الإسكندرية أحمد خورشيد لم يلبث أن عقد مع القناصل اجتماعًا حوالي ٤ مايو، قرروا فيه قطع المواصلات مع القاهرة، وذلك بتحطيم الجسور عند بحيرة المعدية والسد، وحراسة الممرات والمسالك المؤدية إلى المدينة؛ خوفًا من أن ينتهز المماليك فرصة الاضطرابات الناجمة عن الانقلاب الأخير، فيغِيرون عليها.

ومما يجدر ذكره أن خورشيد باشا عند بداية الحوادث التي انتهت بفرار خسرو من القاهرة كان قد غادر الإسكندرية متجهًا صوب القاهرة، حتى يرقب — عن كثب — تطورها، فكان قريبًا من بولاق عند خروج خسرو في ٢ مايو، وأسرع بالعودة إلى الإسكندرية مع أتباعه، عندما تبين له أن زمام الأمور قد أصبح في يد طاهر باشا، وكان أول عمل له بالاشتراك مع قناصل الدول ومع أمير البحر العثماني في مياه الإسكندرية، تعزيز الدفاع عن المدينة بإقامة البطاريات في كل مكان، وقطع كل اتصال مع رشيد.

ثم أخيرًا عقد ذلك الاجتماع الذي تحدثنا عنه والذي تقرر فيه قفل المواصلات مع القاهرة، فصارت القاهرة معزولة عن الإسكندرية، إلى جانب عزلتها عن سائر أقاليم الوجه البحري والصعيد، الوجه البحري بسبب نشاط خسرو باشا خصوصًا وقتئذ (مايو)، والصعيد بسبب ما كان للبكوات من سيطرة في تلك الأقاليم، وهكذا كتب «مسيت» من القاهرة إلى حكومته في ١٤ مايو؛ أي بعد أقل من أسبوعين من إعلان القائمَّقامية الجديدة، «إن حكومة طاهر باشا لا تتعدى القاهرة ومساحة بسيطة من الأرض حولها.»

على أن «مسيت» قال كذلك في رسالته هذه: «إن طاهر باشا لا يمكنه بحالٍ أن يدعي — إلى جانب ما تقدم — أنه يتمتع بسيطرة وسلطة كاملتين داخل أسوار القاهرة ذاتها»؛ وذلك لأن طاهرًا لم يلبث أن واجهتْه نفس الصعوبات التي واجهت خسرو من قبل والتي كان مبعثها — في واقع الأمر — خلو الخزانة من المال، وكان طاهر في حاجة ملحة إلى المال لسد نفقات الإدارة وهي نفقاتٌ متزايدةٌ بسبب الظروف الاستثنائية التي اقترنتْ بالانقلاب الأخير، ثم لدفع مرتبات الجند، وللإنفاق على التجريدة التي أعدها بقيادة أخيه حسن بك لمطاردة خسرو باشا.

وقد بدأت هذه سيرها في النيل من بولاق وفي البر كذلك منذ ١٨ مايو، فاشتط طاهر في طلب المال، وفرض المغارم على أنصار خسرو باشا وعلى رأسهم السيد أحمد المحروقي كبير التجار، وكان هذا قد حاول مع ابنه الهربَ مع خسرو، فلحق به الأرنئود وأرجعوه قسرًا بعد أن «عَرَّوْهُ وشلحوه هو وأتباعه وابنه، وأخذوا منهم نحو عشرين ألف دينار».

ثم فرض طاهر باشا علي المحروقي بعد ذلك ستمائة كيس بعد أن تشفع له المشايخ، وأخرج طاهر عنه، وكان قد حبسه في القلعة مع نفر من أنصار خسرو وهم: أغاة الإنكشارية ومصطفى كتخدا الرزاز كتخدا العزب ومصطفى أغا الوكيل وأيوب كتخدا الفلاح وأحمد كتخدا علي باش اختيار الإنكشارية كما أن «طاهرًا» سرعان ما تشاجر مع الشيخ السادات، وكان الشيخ قد تشفع في أحد المقبوض عليهم وهو «مصطفى أغا الوكيل» فنكث طاهر بعهده بدعوى مصادرة مكاتبة من خسرو إليه وأنزله من بيت الشيخ، ولكنه أمام غضب السادات وافق على أنْ لا يقتله ولا يطلقه.

وفرض طاهر باشا على مصطفى أغا مائتين وعشرين كيسًا، واستمر طاهر في مظالمه، فسجن في ١٣ مايو «يوسف بك» كتخدا خسرو باشا وألزمه بدفع غرامة كبيرة، وفي ١٥ مايو «قبضوا على أنفار من الوجاقلية أيضًا المستورين وطلبوا منهم دراهم، وعملوا على طائفة القبط الكتبة خمسمائة كيس بالتوزيع»، وفي ١٧ مايو «قبضوا على جماعة منهم وحبسوهم، وكذلك عملوا على طائفة اليهود مائة كيس»، وفي ١٩ مايو «قبضوا على المعلم ملطي القبطي من أعيان كتبة القبط وفرموا رقبته عند باب زويلة، وكذلك قطعوا رأس المعلم حنا الصبحاني أخي يوسف الصبحاني — من تجار الشوام — عند باب الخرق».

وفي ٢٢ مايو أفرج عن يوسف بك بعد أن دفع ثمانين كيسًا، ونزل من القلعة إلى داره، وفي ليلة ٢٥-٢٦ مايو خنقوا — بالقلعة — أحمد كتخدا علي ومصطفى كتخدا الرزاز.

وهكذا كانت قائمَّقامية طاهر باشا سلسلة من حوادث الفَتْك والمظالم، وبلغ من اضطراب الأحوال، وضعف سلطان الباشا بالرغم من أعمال المصادرة والحبس والقتل، أن القاهرة ذاتها خضعت لسلطة رئيس الجُند الأرنئود المباشر الذي قال عنه «مسيت» إنه صار يفرض الإتاوات على الأهلين باسمه «ويدعي لنفسه درجة مساوية للباشا ومنفصلة عن درجة الباشا نفسه.»

وكان اعتماد طاهر باشا الظاهر في دعم أركان قائمقاميته على الأجناد الأرنئود الذين تم الانقلاب بزعامته على أيديهم، فآثرهم على الإنكشارية، وكان جماعة من هؤلاء قد جاءوا إلى القاهرة منذ ٢٣ أبريل، قبل الانقلاب الذي طوح بحكومة خسرو باشا، وكانوا في طريقهم إلى جدة بسبب فتنة «الوهابيين» في الحجاز، ومع أن هؤلاء ظلوا ساكنين هادئين في المكان الذي أنزلوا فيه بجامع الظاهر خارج الحسينية، «وحصلت كائنة محمد باشا خسرو وهم مقيمون على ما هم عليه»، ولم يشتركوا في حوادثها، فقد اعتبرهم طاهر باشا من جماعة خسرو وأنصاره؛ لأن الأخير من العثمانلي الذين يعتمدون على الإنكشارية «فخذ السلطنة».

وعلى ذلك فقد صار يدفع لطائفة الأرنئود — عندما فرض الفرض «وصادر الناس في جماكيهم المنكسرة — أو يحولهم بأوراق على المصادرين، وكلما طلب الإنكشارية شيئًا من جماكيهم قال لهم ليس لكم عندي شيء ولا أعطيكم إلا من وقت ولايتي، فإن كان لكم شيء فاذهبوا وخذوه من محمد باشا»، ثم ازداد حنق الإنكشارية عندما استعلى عليهم الأرنئود وازدروا بهم، وكان الإنكشارية يعدونهم خدمهم وعسكرهم وأتباعهم.

وعلى ذلك فقد بيت الإنكشارية النية على الظفر بمرتباتهم وإنهاء شموخ الأرنئود عليهم، أو الخلاص من طاهر باشا نفسه، وعاونهم في هذا التدبير أو المؤامرة أحمد باشا والي المدينة المنورة، والذي كان بالقاهرة منذ أواخر مارس ثم بقي بها حتى وقع انقلاب مايو، ووجد في تذمر الإنكشارية فرصة مواتية للتدخل في شئون القاهرة والظفر بباشويتها، فانحاز إليهم — ولو أنه كان هو وأتباعه من الأرنئود.

وفي ٢٦ مايو خرج الإنكشارية لمقابلة طاهر باشا وهو على أهبة الذهاب لمقابلة البكوات المماليك الذين كانوا قد حضروا بناء على دعوته لهم، وربضوا أمام الجيزة، فطالب الإنكشارية بمرتباتهم، ولكن طاهرًا أصر على أنه «ليس لهم عنده شيء إلا من وقت ولايته، وإن كان لهم شيء مكسور فهو مطلوب لهم من باشتهم محمد باشا خسرو»، فلما ألحوا عليه نثر فيهم فعاجلوه بالحسام وقطعوا رأسه، وانتهى عهد طاهر باشا.

ويصف «روشتي» ما وقع من حوادث بعد ذلك — في كتابه إلى البارون شتورمر في ٢٧ مايو — ويؤيده في روايته الشيخ الجبرتي، وكلاهما يصف ما حل بالأرنئود من الفزع والرعب عقب قتل طاهر باشا وفتك الإنكشارية بكل من وقع منهم في أيديهم، ثم التفاف الأرنئود حول زعيمهم محمد علي.

وبادر أحمد باشا في أول الأمر بالكتابة إلى محمد خسرو «يعلمه بصورة الواقعة ويستعجله في الحضور»، وظن الموالون لخسرو باشا أن في استطاعته استرجاع منصبه في القاهرة، فكتب إليه السيد أحمد المحروقي يستعجله كذلك في الحضور، كما كتب له بذلك غيره، حتى إذا أعلن الإنكشارية تأييدهم لأحمد باشا وقلدوه المنصب الذي كان يشغله طاهر باشا، أسرع من فوره يعمل لتعزيز مركزه الجديد، «فأحضر المشايخ وأعلمهم بما وقع وأمرهم بالذهاب إلى محمد علي»، حتى يطلبوا منه الإذعان والطاعة.

وكان محمد علي طوال قائمَّقامية طاهر باشا، قد استمر بمعزل عن الأمور، لما كان واضحًا من زعزعة مركز طاهر باشا نفسه، وخروجه الظاهر على سيادة السلطان العثماني، بسبب الانقلاب الذي أفضى إلى طرد ممثل الباب العالي الشرعي من القاهرة، ولكن مقتل طاهر باشا واستعلاء الإنكشارية الذين نصبوا — الآن — أحمد باشا قائمقام؛ كان معناه إذا استتبت الأمور لهم إنهاء سيطرة الأرنئود، ومن المحتمل كذلك إخراجه من مصر كلية، فلم يكن في صالح محمد علي الاعتراف بحكومة أحمد باشا، وعلى ذلك فقد رفض الإذعان والطاعة، فكان جوابه للمشايخ الذين وسطهم أحمد باشا عنده أن الأخير لم يكن واليًا على مصر بل هو والي المدينة المنورة، وليست له علاقة بمصر، وقال محمد علي: «إنه وإن كان هو الذي ولى «طاهر باشا» فذلك لكونه محافظ الديار المصرية من طرف الدولة وله شبهة في الجملة، وأما أحمد باشا فليست له جرة ولا شبهة»، وطلب خروجه إلى مقر ولايته «الحجاز» على أن يأخذ معه الإنكشارية ويقوم محمد علي بتجهيز ما يلزم لسفره.

ثم إن «محمد علي» لم يلبث أن اتصل بالبكوات، وكان منذ أن بلغه تنصيب أحمد باشا قد انتقل إلى الجيزة، فأقنع إبراهيم بك بأنه أحق بالقائمَّقامية؛ حيث قد انعدمت كل سلطة عليا بالبلاد، بدلًا من أن يتولى هذا المنصب أجنبي لا نفوذ ولا أنصار له، واقترح عليه أن يكتب إلى أحمد باشا يدعوه لمغادرة البلاد فورًا وتسليمه قَتَلَة طاهر باشا، وكان غرض محمد علي من التعاون مع البكوات في هذه الأزمة التغلب على الإنكشارية المسيطرين في القاهرة، وفي صبيحة اليوم التالي (٢٧ مايو) دخل كثيرٌ من المماليك والكشاف القاهرة، وتترس الإنكشارية وتحصنوا في الجهات والنواحي التي كانت بأيديهم، واستمروا على ما هم عليه من النهب وتَتَبُّع الأرنئود، وكتب إبراهيم بك إلى أحمد باشا يقول: إنه كان من المنتظر عند قتل طاهر باشا أن يكون أحمد باشا مع أتباعه الأرنئود حالًا واحدًا ولا يتداخلون مع الإنكشارية، وحاول أحمد باشا استخدام المشايخ في إثارة القاهريين ضد الأرنئود وقتلهم.

ولما كان الإنكشارية قد تركوا القلعة في أيدي الأرنئود وأغفلوا الاستيلاء عليها؛ فإن هؤلاء بمجرد أن هدأ روعهم، واستفاقوا من أثر الكارثة التي حلت بهم بمقتل طاهر باشا، ثم شهدوا المماليك يتجولون في أنحاء القاهرة، بينما احتشد عدد عظيم منهم ومن العربان خارج بابي النصر والفتوح، سرعان ما استردوا شجاعتهم، وأطلقوا المدافع من القلعة على الإنكشارية الذين أرادوا — بعد فوات الوقت — مهاجمتها من ميدان الرميلة، كما صاروا يطلقون المدافع على بيت أحمد باشا نفسه، وعندئذ أخذ أمره في الانحلال وتفرق عنه غالب الإنكشارية البلدية.

وتفرق المشايخ الذين كانوا قد اجتمعوا بالأزهر للنظر في مسألة إثارة الرعية ضد الأرنئود، فذهبوا إلى بيوتهم، وبعث إبراهيم بك ينذر أحمد باشا من جديد بتسليمه قتلة طاهر باشا ويمهله للخروج من القاهرة خلال ساعات قليلة، وإلا فلا يلومن إلا نفسه، فلم يجد بدًّا من التسليم والإذعان عندئذ، وطلب من إبراهيم بك تهيئة وسائل سفره إلى بلاد العرب، فلما أصر إبراهيم على خروجه غادر؛ أي أحمد باشا، القاهرة في حالة شنيعة، فكانت مدة ولايته يومًا وليلة، وفي مساء اليوم نفسه (٢٧ مايو) نُودي في القاهرة «بالأمان حسب ما رسم إبراهيم بك حاكم الولاية وأفندينا محمد علي»، وبدأت من ثم حكومة المماليك في القاهرة، وفي ٢٨ مايو قتل الأرنئود الدفتردار خليل أفندي الرجائي، ويوسف بك كتخدا خسرو باشا، وكانا قد ناصرا أحمد باشا عقب مقتل طاهر، وفي ٣١ مايو إسماعيل أغا وموسى أغا قاتلي طاهر باشا.

وأما أحمد باشا فكان بعد خروجه من باب الفتوح قد تحصن بقلعة الظاهر — وهي جامع بيبرس الذي أحاله الفرنسيون وقت احتلالهم إلى قلعة سلكوسكي — ولكنه اضطر إلى التسليم بعد أن ضيق الأرنئود الحصار عليه وضربوا قلعة الظاهر بالمدافع، وانتهى الأمر بإرسال الإنكشارية الذين كانوا بها إلى الصالحية في طريق إبعادهم من مصر، وخرج أحمد باشا بمن بقي من العساكر الإنكشارية بالقاهرة في طريقه إلى بلاد العرب في ٢٥ يونيو.

(٢) الحكومة الثلاثية في القاهرة «إبراهيم، البرديسي، محمد علي»

ودلت حوادث «٢٦-٢٧ مايو»، ولا سيما التجاء أحمد باشا لتوسيط المشايخ لدى محمد علي، على ما صار يتمتع به محمد علي وقتئذ من نفوذ ظاهر، وكان من عوامل قوته — ولا شك — أن الأرنئود الذين تركهم مقتل طاهر باشا من غير رئيس لهم سرعان ما انضموا إلى محمد علي فانحصرت قيادتهم العليا في يده وكان ازدياد قوته العسكرية من الأسباب التي شجعتْه على تجربة حظه في هذه الأزمة، وقد اجتازها منتصرًا، على أنه كان من أسباب هذا الانتصار كذلك، تلك المحالفة التي عقدها مع البكوات المماليك، والتي ارتكزت عليها في الحقيقة الحكومة المملوكية الجديدة، أو الثلاثية الحاكمة في القاهرة.

وقد علل «مسيت» السبب في عقد هذه المحالفة بقوله — في رسالته إلى هوبارت من القاهرة في ٢ يونيو ١٨٠٣ — «إن الأرنئود بعد مقتل طاهر باشا لم يعتبروا أنفسهم أقوياء لدرجة تمكنهم من مقاومة قوات خسرو باشا من الخارج، ودفع الهجمات الجزئية التي يقوم بها الإنكشارية في داخل المدينة ذاتها؛ ولذلك دعوا المماليك للانضمام إليهم والعمل متحدين معهم في قضية واحدة، وقَبِلَ هؤلاء ما اقترحه الألبانيون عليهم، وعلى ذلك، فقد عادوا إلى القاهرة مرة ثانية بعد غيبتهم عنها مدة سنتين تقريبًا.»

ومع ذلك فقد توقع «مسيت» أن عقد المحالفة بين محمد علي والبكوات سوف ينفرط قريبًا بالرغم من هذا الاتحاد الظاهر؛ لأن كلًّا من الفريقين يشك في الآخر، ولأن المماليك يحتلون مراكز كثيرة خارج القاهرة، بينما لا يزال الأرنئود يرفضون تسليم القلعة لهم، على أنه لما كان البكوات يريدون ضمانًا لاستقرار الأمور في أيديهم، وبرهانًا على حسن نوايا محمد علي، وكان لا يزال موقف الباب العالي من الحوادث الأخيرة مجهولًا، وليس هناك ما يدل على أن الباب العالي سوف يُبقي الأرنئود بمصر بعد هذين الانقلابين — طرد خسرو ومقتل طاهر باشا — وقد يَطلب إبعادَهم من البلاد كلية، ولا يزال محمد علي عاجزًا عن الانفراد بالسلطة؛ فقد وجد محمد علي من الحكمة وأصالة الرأي توثيق عرا التحالف بينه وبين البكوات لمواجهة الأخطار المتوقعة من ناحية، ولمناجزة خسرو باشا — الذي لا يزال مبعث الخطر المباشر على حكومة التحالف الجديدة — من ناحية أخرى.

وعلى ذلك فقد وافق محمد علي على وضع القلعة في أيدي البكوات فسلمتْ لهم في ٦ يونيو، كما وافق على أن يعينوا من يشاءون في وظائف الضبط والربط الرئيسية في القاهرة، واستطاعت الحكومة الجديدة أن تحزم أمرها لمواجهة الأخطار التي تعرضتْ لها والتي كان مبعثها، أولًا: سَعْي خسرو لاسترجاع منصبه في القاهرة، وثانيًا: تعيين علي باشا الجزائرلي لولاية مصر، وثالثًا: بقاء الإسكندرية خارج نطاق حكومتهم، ورابعًا: عودة الألفي الكبير من سفارته في لندن، وخامسًا: وأخيرًا، معالجة شئون الإدارة الداخلية وأهمها تدبير المال اللازم لدفع مرتبات الجند.

أولًا: مطاردة خسرو

أما خسرو فكان بعد خروجه من القاهرة قد استقر بالمنصورة، وجمع حوله ما يقرب من الثلاثة آلاف فارس، وكان يرجو — إذا استطاع الاحتفاظ بالمنصورة — أن يخضع لسلطانه الوجه البحري تدريجيًّا، وكان كل ما يخشاه أن يجد البكوات المماليكُ فيما حدث فرصةً لتجديد مسعاهم لدى الباب العالي، ويظفروا منه بموافقته على إرجاعِ حقوقهم وسلطانهم السابق في حكومة القاهرة إليهم.

وقد نصحه «هايز» وقتئذ بأن يبذل قصارى جهده للاتصال بالبكوات والتفاهُم معهم بأقصى سرعة حتى يُعاونوه على استرجاع باشويته، ولكن ما إنْ وصل الأرنئود الذين كانوا قد خرجوا لمطاردته بقيادة حسن بك أخي طاهر باشا إلى المنصورة حتى انتقل منها خسرو إلى دمياط، وانفضَّ مِن حوله جماعة من العسكر وانضموا إلى جند حسن بك، وفي دمياط جاءتْ خسرو رسائل أحمد باشا والسيد أحمد المحروقي وغيرها تُنْبئه بمقتل طاهر باشا وتستعجله للحضور إلى القاهرة، فخيل إليه أن الفرصة قد سنحت لاسترداد ولايته، فخرج من دمياط قاصدًا إلى القاهرة، ولم تصادفه أية عقبات حتى بلغ فارسكور، وهناك وجد حسن بك بجنده مرابطًا بها فهزمه خسرو ودخل فارسكور ونهبها جنده، غير أنه سرعان ما عرف وهو بها أن أحمد باشا قد صار طرده كذلك من القاهرة وأن البكوات المماليك قد تسلموا قلعتها، فقرر العودة إلى دمياط، وعندئذ صار حسن بك يلاحقه في مناوشات بسيطة مع مؤخرة جيشه، ثم التحم الجيشان في معركة كبيرة تحت أسوار دمياط، انهزم فيها خسرو ولكنه استطاع الدخول إلى المدينة فتحصن بها ووقف حسن بك على حصارها، وفي يوم ٢ يوليو وصلت النجدات إلى حسن بك بقيادة البرديسي نفسه ومحمد علي، فسقطت دمياط وتحصن خسرو بقلعة العزبة «عزبة البرج»، ولكنه انهزم في اليوم التالي، وأمر البرديسي بإرساله إلى القاهرة؛ حيث يقوم بشئون الحكم بها أثناء غيابهما إبراهيم بك، فاقتيد خسرو أسيرًا إليها في ٨ يوليو.

وقرر البرديسي ومحمد علي أن تكون خطوتهما التالية إخضاع رشيد والإسكندرية، وهما المَوْقِعان الباقيان الآن في يد الأتراك في مصر بأسرها، واتفقا على تلاقي جيشيهما عند الرحمانية، وسبق إليها البرديسي على رأس فرسانه، بينما تبعه محمد علي مع المشاة والمدفعية.

على أنه في نفس اليوم الذي اقتِيد فيه خسرو أسيرًا من دمياط إلى القاهرة، كان قد نزل في الإسكندرية علي الجزائرلي، معينًا من قبل الباب العالي لباشوية مصر، فواجهت الحكومة الثلاثية خطرًا جديدًا على كيانها، اقتضى منها توفير كل جهودها لتلافيه، كما كان من أهم الأسباب التي زادت في توثيق أواصر المحالفة بين البكوات وبين محمد علي.

ثانيًا: باشوية علي الجزائرلي

وذلك أن الباب العالي عندما بلغه طرد خسرو من القاهرة، وتنصيب طاهر باشا قائمقام أصدر — نزولًا على الأمر الواقع — فرمانًا اعترف فيه «بجور خسرو باشا وظلمه»، واعترف ضمنًا بحق الجنود في الثورة على الباشوات عندما قال: «إنه قطع علوفات العسكر وإنهم قاموا عليه فأخرجوه، وهذه عادة العساكر إذا انقطعت علوفاتهم!»

وعلى ذلك فقد أسند الباب العالي ولاية سالونيك إلى خسرو باشا، وأبقى «طاهر باشا» مستمرًا على المحافظة ثم نصب أحمد باشا قائمقام إلى أن يأتي المتولي، وظاهر أن الباب العالي قد رفض تثبيت طاهر باشا في قائمقاميته أو تعيينه في باشوية مصر؛ ومَرَدُّ ذلك إلى أن «طاهر باشا» كان من الأرنئود، «وليس له إلا طوخان ومن قواعد «العثمانيين» القديمة أنهم لا يقلدون الأرنئود ثلاثة أطواخ أبدًا»، ولعل هذه الحقيقة كانت أحد الأسباب التي جعلت «محمد علي» وهو أرنئودي يتريث في أمره، وسط هذا الخضم المتلاطم من الحوادث الهوجاء، ووسط هذه الفوضى السياسية الشاملة التي ما كان يعرف إنسان ما ستتمخض عنه.

وقد وصل هذا الفرمان القاهرة في ١٩ يونيو، فكان فرمانًا «غير ذي موضوع»؛ لأن «طاهر باشا» كان قد قُتل، وأحمد باشا كان مطرودًا من القاهرة، والبكوات المماليك كانوا مسيطرين على حكومتها، بينما يطارد جيش حسن بك خسرو باشا.

وقد خرجت البلاد بأسرها، ما عدا رشيد والإسكندرية، من أيدي العثمانيين ولا حول ولا طول للباب العالي في مصر، وفضلًا عن ذلك فقد دل خروج البرديسي ومحمد علي لمناجزة خسرو على أن الثلاثية الحاكمة في القاهرة لا تقيم وزنًا لأوامر الباب العالي، زِدْ على ذلك أن إبراهيم بك ظل أثناء ذلك كله يُعلن تمسكه بالولاء للباب العالي، بل وكتب «ماثيو لسبس» من الإسكندرية في ٢٠ يونيو، أن إبطاء الباب العالي في إرسال النجدات إلى مصر لإعادة الأمور إلى نصابها، ثم ما صار يشاهده من مجيء الرسل إلى القسطنطينية وتعدد مقابلاتهم مع إبراهيم، «ومراعاة الخواطر» الظاهرة والمستمرة من إبراهيم حيال الباب العالي؛ لتنهض دليلًا على وجود مفاوضة بين الطرفين قد تنتهي في صالح البكوات أنفسهم، لا سيما وهم يمتلكون الحصون والقلاع الرئيسية في داخل البلاد، وسواء رضي الباب العالي فنجحت هذه المفاوضة وتم الاتفاق وديًّا مع البكوات، أم لم يرض فلجأ هؤلاء إلى القوة؛ فإنهم سوف يظلون أسياد القاهرة، وربما دانت لهم مصر بأسرها؛ أي ما بقي منها خارجًا عن سيطرتهم، فينالون الوضع الذي كان لهم سابقًا في حكومة البلاد.

وكانت القسطنطينية لا تزال تبحث مسألة تعيين الوالي الجديد الذي يخلف خسرو باشا، عندما بلغها نبأ مقتل طاهر باشا «ففرح رجال الديوان العثماني فرحًا عظيمًا»، وظنوا أنهم إذا أصدروا أوامرهم إلى القاهرة بدفع مرتبات الجند الأرنئود أن المسألة تكون قد سويت نهائيًّا، وأنهم إذا عينوا باشا جديدًا للقاهرة استطاع تنفيذ إرادة الباب العالي وإخراج البكوات من البلاد؛ أي إقناعهم سلمًا أو حربًا بقبول ذلك الحل الذي سبق أن عرضه الباب العالي عليهم أيام خسرو باشا ورفضه البكوات وقت أنْ لم تكن في أيديهم حكومة القاهرة.

وكان تظاهر الباب العالي بأن معالجة الموقف في مصر لا تتطلب سوى تعيين والٍ جديد، وأن الخطر قد زال دليلًا آخر على الضعف الذي ينطوي على إعطاء مثال سيئ — كما كتب دراموند من القسطنطينية إلى حكومته في ٧ يونيو — لجيش ثائر، لا تستطيع الحكومة ردعه، فتترك الجنود يعزلون ويولون ويقتلون من يشاءون، فتقر أعمالهم ولا تجرؤ على تحريك ساكن لقمع تمردهم وعصيانهم.

ومع أن القبطان باشا حامي خسرو قد حاول استبقاء صنيعته في الولاية؛ فقد تغلب عليه الصدر الأعظم في التأثير على الديوان العثماني وطلب تعيين علي الجزائرلي المعروف كذلك باسم علي برغل، وانحاز إلى الصدر الأعظم السلطان نفسه، وكتب «برون» السفير الفرنسي من القسطنطينية في ١٠ أغسطس أن هذا الحادث قد سبب استياء القبطان باشا من الصدر الأعظم، ولكنه جلب على نفسه بسبب معارضته غضب السلطان والإنجليز والحزب الذي يؤويهم في السلطنة، وقد انتهى الأمر بتقرير عزل خسرو باشا وتعيين علي الجزائرلي، وتثبت الأخير في منصبه في ١٧ يونيو ثم غادر القسطنطينية إلى مصر ولايته في ١٧ يونيو.

وكان اختيار الجزائرلي الذي حدثتْ بسببه هذه الأزمةُ، اختيارًا جَانَبَه التوفيقُ كلية؛ ذلك أن الباشا الجديد كان معروفًا بالمخاتلة والخداع، وصاحب سوابق كثيرة في الدس والوقيعة، لا يؤهله ماضي خيانته لملء هذا المنصب، في وقت كان الموقف في مصر يتطلب رجلًا قوي الشكيمة في وسعه أن يفرض احترامه الشخصي على البكوات والأرنئود حتى يستطيع استرجاعَ سيطرة العثمانيين في مصر، وأن يطرد البكوات من حكومة القاهرة، بل ويبعدهم من البلاد بأسرها على نحو ما كان يُريد الباب العالي وقتئذ، ولم يكن علي باشا شيئًا من ذلك.

فالمعروف من سيرته — وقد فصلها تفصيلًا المؤرخ الفرنسي «فيرو» Féraud في كتابه عن طرابلس الغرب،١ وذكر شيئًا عنها الشيخ الجبرتي — أنه كان من أصل جزائري مملوكًا لأحد حكامها، أُوفد في مهمة إلى القسطنطينية، فاستطاع هناك بدهائه ودسائسه أن يظفر بتوليته على طرابلس الغرب (يوليو ١٧٩٣)، فأساء إلى أهل طرابلس إساءات بالغة حتى انتهى الأمر بطرده منها في يناير ١٧٩٥، فلم يجرؤ على العودة إلى القسطنطينية لسوء سيرته ونزل بالإسكندرية لاجئًا في حماية مراد بك، وظل في حمايته حتى جاء الفرنسيون فقاتل مع مراد بك ثم فضل الذهاب إلى الشام للإقامة بها مع إبراهيم بك، ومن هناك بعث به الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا بمكاتبات إلى القسطنطينية، فبقي بها وحظي بعطف الصدر وحمايته له حتى إذا وقعت الحوادث الأخيرة توسط الصدر في تعيينه لباشوية القاهرة.

وهكذا لم يكن علي الجزائرلي غريبًا عن القاهرة، ويعرف البكوات حق المعرفة، ويعرفون مكره وخداعه، وكان من المنتظر أن يثير وجوده الخلافات الكثيرة بين البكوات أنفسهم، كما كان معروفًا عن خلقه أنه لا يتورع عن الانحياز إلى الفرنسيين إذا وجد في ذلك ما يحقق مطامعه بالرغم من انتمائه للحزب المناصر للنفوذ الإنجليزي بالقسطنطينية.

على أن تعيين علي الجزائرلي — بسبب علاقاته السابقة نفسها مع البكوات المماليك — كان مبعث تعليقاتٍ مختلفة عن مهمته، وعن مغزى تعيينه، فكتب «مسيت» إلى حكومته في ٣٠ يوليو أنه يبدو له بسبب اختيار علي الجزائرلي لملء منصب الولاية أن الباب العالي قد اكتشف في آخر الأمر أن وسائل القمع العنيفة التي أوصى بها القبطان باشا، وظل الباب العالي يتبعها مدة طويلة، ليستْ أجدى الوسائل لإعادة الهدوء والسكينة إلى مصر؛ لأن علي باشا الذي مكث بالبلاد قبل ذلك سنوات طويلة تحت حماية البكوات، قد ظل طوال هذا النضال الذي عاد بالكوارث على الفريقين المتناضلين: الأتراك والمماليك، ينصح بفض النزاع «بطرق سلمية»، ولكن «مسيت» ما لبث أن قال في نفس رسالته هذه «إن تعيين علي باشا لهذا المنصب قد جاء متأخرًا وبعد فوات الأوان؛ لأن البكوات يكادون يمتلكون البلاد بأسرها، وآمالُهُم عظيمةٌ في إمكانهم إخضاع الإسكندرية كذلك، وقد رفضوا فعلًا الاستجابة لرغبة علي باشا الذي فاتحهم في موضوع الوصول إلى اتفاق وتسوية بينهم وبين الباب العالي.»

وواقعُ الأمر أن علي الجزائرلي بمجرد وصوله إلى الإسكندرية في ٨ يوليو، بادر بالكتابة إلى البكوات في القاهرة يلومهم على دخول القاهرة «بمعاونة الأرنئودية وقتل رجال الدولة والإنكشارية وقتل من معهم وإخراج من بقي منهم على غير صورة»، وأنه ما كان يصح لهم «دخول المدينة إلا بإذن من الدولة»، ثم استند على ما كان له «من عشرة سابقة معهم ومحبة أكيدة لهم» وحرصه على راحتهم؛ ليطلب منهم تنفيذ أوامر الباب العالي، ثم حذرهم من عصيان أمر السلطان الذي «ربما استعان عليهم ببعض المخالفين الذين لا طاقة لهم بهم» وهددهم إذا هم عصوا أمر السلطنة «بسيفها الطويل»؛ أي أنه طلب منهم الإذعان والخروج من مصر كلية حسب مشيئة الباب العالي، ووصلتْ رسالة علي باشا القاهرة في ١٠ يوليو، ولم يكن من المنتظَر أن يُذعن البكوات لإرادة الباب العالي.

بل إن هؤلاء سرعان ما استدعوا — على عجل — كل قواتهم من الدلتا إلى القاهرة، فبدأت هذه سيرها نحو العاصمة في ليل ١١-١٢ يوليو بحجة أن «الوهابي» شرع يزحف بسرعة من الحجاز إلى مصر، وكانت قد وصلت أوراق «تتضمن دعوته وعقيدته» إلى القاهرة مع الحجاج العائدين من الحجاز منذ ١٨ يونيو وذلك لجمع قواتهم وتركيزها بالقاهرة استعدادًا للطوارئ.

وفي اليوم الذي وصل فيه كتاب علي باشا (١٠ يوليو)، أجاب البكوات برسالة مسهبة عَزَوْا فيها سبب دخولهم إلى القاهرة إلى «استغاثة المشايخ والعلماء واختيارية الوجاقلية» بهم، وبقاء المدينة بعد مقتل طاهر باشا ظلمًا على يد الإنكشارية «رعية من غير راع وخوف الرعية من جور العساكر وتعديهم»، ولكنهم أعلنوا تصميمهم على عدم الخروج من البلاد «حيث لا تطاوعهم جماعتهم وعساكرهم على الخروج من أوطانهم بعد استقرارهم فيها.»

ولم يأبهوا لتهديدات علي باشا واستعانة السلطان عليهم ببعض المخالفين، وقالوا في الوقت نفسه: إنهم قد بعثوا بعريضة — أو عرضحال — إلى الباب العالي يطلبون الصفح والرضا، وينتظرون جوابه عليها، وقال «مسيت» عندما أبلغ حكومتَه هذه الأشياء: إن البكوات قد أوضحوا لعَلِي باشا أنهم قرروا عدمَ الإذعان أو قبول أية حكومة غير تلك التي كانت قائمة فعلًا عند غزو الفرنسيين للبلاد.

وهكذا رفض البكوات الرضوخ لأمر الباب العالي، وقرروا المضي في عملياتهم العسكرية لإخضاع الموقعين الباقيين في حوزة العثمانيين: رشيد والإسكندرية، وكان أهم ما عُني به البكوات أن يحولوا أولًا دون سقوط رشيد في يد علي باشا حتى لا يعطيه استيلاؤه عليها فرصةَ السيطرة على الملاحة في النيل وجَلْب المؤن بطريقها إلى الإسكندرية، فبعث إبراهيم بك بقوة إلى رشيد، وخرج البرديسي من المنصورة، وكان قد غادر دمياط بعد إرسال خسرو أسيرًا إلى القاهرة — على نحو ما قدمنا — فقصد إلى الرحمانية المكان المتفق عليه مع محمد علي لتلاقي قواتهما به قبل الزحف على رشيد، وأدرك علي باشا الجزائرلي بدوره أهميةَ الاستيلاء على رشيد، فبعث هو الآخر بأخيه «ريس القباطين» السيد علي باشا إليها، واستطاع سليمان أغا رئيس قوات البرديسي احتلال رشيد قبل وصول السيد علي، وتحصن حاكمها «العثمانلي» إبراهيم أفندي بقلعة جوليان، أو برج مغيزل أو رشيد، ولكن السيد علي لم يلبث أن أقنع سليمان أغا بالارتداد عن رشيد؛ بدعوى أن هناك مفاوضات بين الجزائرلي والبرديسي، وأن هذين بسبيل الاتفاق والتراضي، وكان من أسباب انسحاب سليمان أغا خوفُه من أن يجد نفسه مُحاطًا بالعدو من ناحيتي قلعة جوليان والإسكندرية، فأخلى رشيد منسحبًا إلى الرحمانية، واحتلها السيد علي.

غير أن البرديسي «ومحمد علي» في الرحمانية، سرعان ما قررا الزحف على رشيد، واضطر السيد علي أمام قواتهما الكبيرة إلى إخلاء البلدة والتحصن في برج مغيزل «قلعة جوليان»، فدخل القائدان رشيد وبادرا بمحاصرة البرج، وأرسل الجزائرلي الإمدادات إلى أخيه، كما أرسل مركبًا حربيًّا من نوع القرويت وآخر من سفن المدفعية للوقوف عند مدخل البوغاز لحماية مرور النجدات من الإسكندرية إلى قلعة جوليان من جهة، ولإحباط أية محاولة قد يقوم بها العدو لإرسال حملة نهرية ضد القلعة من جهة أخرى، وحاول السيد علي المفاوضة والاتفاق مع البرديسي، كما سعى الجزائرلي من ناحيته لهذا الغرض، فإنه لما كان قد صح عزمه منذ قدومه إلى الإسكندرية على الاستعانة بالوكلاء الإنجليز في علاقاته مع البكوات، فقد وسط نائب القنصل البريطاني بالإسكندرية «بريجز» Briggs للتفاهُم كذلك مع البرديسي، ولكن دون جدوى، ذلك أن البرديسي أعلن أنه لن يقبل إلا أن يأتي علي باشا الجزائرلي إلى القاهرة «على الشرط والقانون القديم» إذا أراد أن يعترف البكوات بباشويته، وشدد الحصار على القلعة، فلم يجد السيد علي مناصًا في آخر الأمر من التسليم، فتم ذلك في ١٢ أغسطس سنة ١٨٠٣ واقتيد أسيرًا إلى القاهرة.

وأخاف سقوطُ رشيد علي الجزائرلي بالإسكندرية، فنشط في تحصينها، وكسر السد الذي يفصل بين بحيرتي المعدية ومريوط لإغراق الأرض حول الإسكندرية، ثم لجأ من جديد لتوسيط الوكلاء الإنجليز لدى البرديسي وإبراهيم بك، فكتب الوكلاء الفرنسيون في نشرة أخبارهم بتاريخ ٢٢ أغسطس أن الجزائرلي اقترح على البكوات الوصول إلى تسوية واتفاق، «ولكن البرديسي وإبراهيم شيخ البلد يرفضان كل سلام لا يكون على قاعدة إرجاع الحكومة إلى ما كانت عليه قبل مجيء الفرنسيين، فهما يوافقان على وجود باشا في القاهرة، ولكن بشريطة تقييد سلطته بكل القيود التي فُرضت عليها في الماضي، ثم يوافقان على دفع الميري للسلطان.»

وأبدى الوكلاء الفرنسيون شُكُوكَهم في موافقة الجزائرلي على هذه الشروط، ولو أنه صار يعرض الآن على البكوات انسحابَهم إلى الصعيد الذي وافق على أن يترك لهم امتلاكَه نظير مغادرتهم للقاهرة وخروجهم منها، وكتب السفير الفرنسي «برون» من القسطنطينية إلى حكومته في ٢٥ سبتمبر عن هذه المساعي فقال: إن الجزائرلي بعد سقوط رشيد أوفد «بريجز» للمفاوضة مع البرديسي، فقام برحلتين لمقابلته، وأصر البرديسي في المرة الأولى على ضرورة عودة الوضع السياسي في البلاد إلى ما كان عليه قبل الغزو الفرنسي، كما طلب إعادةَ تنصيب محمد خسرو باشا في ولاية القاهرة، ثم أظهر في المرة الثانية «نوايا أقل عداء لعلي باشا الجزائرلي؛ حيث قال إنه لا يجد بأسًا من استقباله في القاهرة واليًا عليها، ولكن بنفس القيود التي فرضت على سلطة الباشوات العثمانيين في مصر من قديم الزمن»، ثم أردف «برون» يقول: وفيما عدا ذلك فإنه لا يعرف شيء عن نتيجة هذه المفاوضة؛ لأن «بريجز» قد لزم الصمت بعد ذلك.

ومع ذلك فقد كان معروفًا أن البكوات لن ينزلوا عن مطالبهم، كما كان واضحًا أنهم قد صح عزمهم على مهاجمة الإسكندرية بعد استيلائهم على رشيد؛ ولذلك فقد صار يهم الوكلاء الإنجليز معرفة نوايا البكوات الصحيحة، ومدى تأثُّرهم بالنفوذ الفرنسي، لما كانوا يخشونه من تعرض الإسكندرية لخطر الاحتلال الفرنسي إذا انتهزت فرنسا فرصة امتلاك البكوات لها وأرسلتْ جيشها لغزو البلاد من جديد، الأمر الذي ظل يَقُضُّ مضاجع الإنجليز منذ جلائهم عن الإسكندرية في شهر مارس سنة ١٨٠٣، وعلى نحو ما أوضحنا في الفصول السابقة، وعلى ذلك فقد كلف «مسيت» نائب القنصل البريطاني «بتروتشي» أو البطروشي أثناء وجود البرديسي برشيد، بالاتصال بالأخير لمعرفة مدى انحياز البكوات للإنجليز أو لخصومهم الفرنسيين، فقابل «البطروشي» البرديسي وسليمان أغا، ووصل من أحاديثه معهما إلى أن مماليك إبراهيم بك موالون للإنجليز، بينما يعتمد البرديسي وجماعته المرادية على فرنسا اعتمادًا كليًّا، حتى إن البطروشي بعث من رشيد في ١٣ أغسطس يقول: «إنه لن يدهشه بتاتًا — إذا استولى البكوات على الإسكندرية — أن يطلبوا حماية فرنسا لاعتقادهم الراسخ أنه يستحيل عليهم الاحتفاظُ بمصر من غير مناصرة فرنسا لهم، كما أنهم يعتمدون عليها في الوصول إلى اتفاق مع الباب العالي.»

واعتقد البرديسي أن الاستيلاء على الإسكندرية سوف يُنهي تمامًا كل سيطرة للعثمانيين في مصر، بل ويترتب عليه طردُهُم من البلاد في النهاية؛ ولذلك فقد بادر بالذهاب إلى دمنهور واستعد للزحف على الإسكندرية، معتمدًا على قوات حليفه محمد علي في الهجوم عليها، ولم يكن من المنتظر أن يستطيع علي الجزائرلي الدفاع عنها طويلًا إذا اتحد جيشاهما ضده، فمع أن الإسكندرية كانت مهددةً بخطر دُخُول الأرنئود والعربان إليها منذ وصول سليمان أغا إلى رشيد، وقبل سقوطها مع قلعتها نهائيًّا في أيدي البرديسي ومحمد علي؛ فقد كان أول عمل قام به علي الجزائرلي عند وصوله إلى الإسكندرية في يوليو أن سرح الجنود الذين كانوا بها ممن كانوا تحت قيادة خسرو باشا وأحمد باشا خورشيد ونقلهم إلى السفن، مع أنه لم يحضر معه سوى قوة بسيطة من ألف وخمسمائة رجل فحسب «جمعوا على عجل في القسطنطينية».

وقد عزا «ماثيو لسبس» هذا العمل الذي قال عنه — في رسالته وقتذاك إلى الجنرال برون بالقسطنطينية في ١٥ يوليو — إنه حرم علي باشا نفسه من القوات اللازمة لحمايته هو شخصيًّا إلى «قلة اهتمام «الجزائرلي» بمراعاة خاطر القبطان باشا «حامي خسرو باشا»، كما يدل على سعة الهوة التي تفصل بين القبطان باشا والصدر الأعظم»، فباتت الإسكندرية ولا قدرة لها على دفع أي هجوم يقع عليها، زد على ذلك أن كسر السد قد أشاع الاضطراب في داخل المدينة التي امتنع عنها بسبب ذلك وصول ماء النيل والأقوات والأرزاق، واضطر كثيرون من أهلها للجلاء عنها والخروج إما إلى أزمير وإما إلى قبرص أو رودس، ولم ينقذ الإسكندرية من الوقوع في قبضة المماليك سوى انسحاب محمد علي بقواته من دمنهور، واضطرار البرديسي بعد ذلك إلى الانسحاب من دمنهور إلى القاهرة.

ولانسحاب محمد علي من دمنهور — بالرغم من محالفته مع البكوات المماليك — أهميةٌ كبيرة في شرح خطة الزعيم الألباني وسط هذا الخِضَمِّ المتلاطم من الفوضى السياسية؛ إذ لا تقل أهمية هذا الانسحاب من هذه الناحية؛ أي إلقاء الضوء على سياسته في هذه السنوات الأولى عن امتناعه عن الاشتراك في معركة دمنهور المعروفة في ٢٠ نوفمبر سنة ١٨٠٢، ذلك أن نفس السبب الذي أغرى البرديسي بفتح الإسكندرية؛ أي سيطرة المماليك المنتظرة وطرد العثمانيين من البلاد نهائيًّا نتيجة لهذا الفتح، كان الدافع لانسحاب محمد علي من دمنهور؛ لأن ظفر المماليك بالسيطرة وإخراج البلاد من حوزة العثمانيين، الأمر المترتب على سقوط الإسكندرية كان نتيجة سريعة وحاسمة لم تدخل وقتئذ في حساب محمد علي ولا في تفكيره؛ فقد دلت الحوادث القريبة على أنه كان بوسعه، دون صعوبة تذكر التغلب على الباشوات العثمانيين الذين يبعث بهم الباب العالي إلى مصر، وكان من الواضح أنه سوف يظل قادرًا على ذلك بسبب ضعف سلطان الباب العالي في مصر وضعف «الباشا» المرسل، وهو لا جند ولا مال عنده لتعزيز باشويته، وفي استطاعة محمد علي ليس فقط شراء بطانته بالمال، بل والقضاء على «الباشا» نفسه، لا سيما وقد صارت له وحده زعامةُ الأرنئود أكبر قوة عسكرية عاملة في البلاد، وأما البكوات والمماليك، فقد كان الحال معهم يختلف تمامًا عن الحال مع الباشا العثماني، فهم أصحاب الحكومة في القاهرة، ويمتلكون القلعة وينبسط نفوذهم على الصعيد، معقلهم القوي، كما صار منبسطًا الآن على الوجه البحري بأكمله، فلم يكن خارجًا عن سلطانهم به سوى الإسكندرية، ولديهم بفضل اتحادهم وقتئذ من القوتين المادية والمعنوية ما يجعل التغلُّب عليهم مستحيلًا وبخاصة إذا دانتْ لهم الإسكندرية، زد على ذلك أن البكوات كانوا يعتمدون على مناصرة إنجلترا وفرنسا لهم، ويتوسط هؤلاء لحل مسألتهم مع الباب العالي، ولا يعرف محمد علي ما قد تسفر عنه هذه الوساطة من نتائج ربما جاءت في صالح البكوات، بينما كان محمد علي نفسه لا يزال مفتقرًا إلى مناصرة هاتين الدولتين القويتين أو إحداهما له، ففضل في هذه الظروف اتباع خطة «كسب الوقت» دائمًا، حتى تتاح له فرصة إشاعة التفرقة بين صفوف البكوات ببذر بذور الخلاف والشقاق بينهم، وتقويض دعائم حكومتهم في القاهرة، وصار مما يلائمه كل الملاءمة بقاء الإسكندرية في يد علي الجزائرلي من جهة، وإلزام الجزائرلي نفسه من جهة أخرى بالبقاء بها وعدم الخروج منها والذهاب إلى القاهرة قبل أن يتم له نهائيًّا إضعاف حكومة البكوات، كي يضمن سيطرته هو الشخصية عندئذ على البكوات وعلى الجزائرلي نفسه عند حضوره إلى القاهرة، وقد اعتمد محمد علي في تنفيذ خطته على محالفته مع البكوات التي تمكنه من بذل النصيحة لهم تحت ستارها، ولم يتوقع محمد علي أن يهمل البكوات نصحه وإرشاده لهم؛ لوثوق عثمان البرديسي به ثقة كاملة طغت على حذر زميله إبراهيم بك الذي لم يَرْتَحْ في قرارة نفسه للمحالفة مع زعيم الأرنئود، وظلت تساوره الشكوك من جهته، ويخامره سوء الظن من ناحية نواياه، وينظر بعين الريبة لما يسديه للبكوات من نصح وإرشاد.

وإلى جانب هذا كله اعتمد محمد علي في نجاح خططه على ما كان لديه من قوات عسكرية من المشاة والمدفعية بوصفه القائد الأعلى للأرنئود، القوة التي تعتمد على مؤازرتها حكومة البكوات أو الثلاثية الحاكمة في القاهرة.

ولم تعوز «محمد علي» الوسيلة التي يستطيع بها تنفيذ هذه الخطة، فقد كانت مسألة دفع مرتبات الجند المتأخرة مشكلة عويصة مزمنة، وكان من الميسور إثارتُها في كل وقت وعند الحاجة، وكما كانت أزمة مرتبات الجند من العوامل المباشرة والرئيسية في طرد خسرو من القاهرة وفي مقتل طاهر باشا؛ فقد كان من الميسور كذلك إثارة هذه الأزمة واستخدامها في شتى الظروف والمناسبات لإضعاف البكوات وإشاعة التفرقة في صفوفهم وتقويض عروش حكومتهم في القاهرة، وقبل كل شيء في الوضع الراهن تفويت فرصة امتلاك الإسكندرية على هؤلاء البكوات المماليك.

وعلى ذلك فإنه بينما كان البرديسي يستعدُّ للزحف على الإسكندرية، إذا بالجنود الأرنئود في معسكره بدمنهور وهم الذين يؤلفون القسم الأكبر من جيشه، يعلنون العصيان والتمرد، ويطالبون بمرتباتهم المتأخرة والتي تجمعت لهم عن أربعة شهور ونصف وبلغتْ قيمتُها عشرة آلاف كيس، وكان من السهل أن يثور الأرنئود عندما يعرفون أن الإتاوات والمغارم الثقيلة التي فرضت على أهل رشيد ودمياط وكل قرى الوجه البحري تتسرب إلى جيب البرديسي وبعض خاصته من البكوات ولا ينالون هم منها شيئًا، وكانت ثورة جامحة قتل عدد من المماليك كما قتل خازندار البرديسي نفسه عند محاولة البرديسي إخمادها، وتدخل محمد علي وسيطًا بين الجند الثائرين وبين عثمان البرديسي متظاهرًا دائمًا بالولاء الصادق له حتى يستطيع الانسحاب من دمنهور وهو على وئام معه.

ولكن الأرنئود صمموا على عدم الاستمرار في الخدمة ما لم تُدفع لهم مرتباتُهُم، ولم يستطعْ محمد علي فعل شيء أمام إصرارهم، ورأى البرديسي؛ إنهاءً لهذه الفتنة أن يُجيز للأرنئود الذهاب إلى القاهرة، فغادر هؤلاء دمنهور وعلى رأسهم محمد علي الذي استمر متمتعًا بثقة البرديسي، وأتقن تمثيلية بشكل جعل «مسيت» يكتب عند إبلاغه هذه الحوادث إلى حكومته في ٣٠ سبتمبر «أنه لولا تدخل محمد علي رئيس الأرنئود في الوقت المناسب؛ لكان من المحتمل وقوع معركة بين الأرنئود والمماليك» في معسكر دمنهور، وكان دخول محمد علي إلى القاهرة في ١٦ سبتمبر.

وأنهى انسحاب الأرنئود ومحمد علي العمليات العسكرية ضد الإسكندرية، كما أبطل الحصار المضروب عليها، فقد اضطر البرديسي في ٢٥ سبتمبر إلى مغادرة دمنهور وهو «يعلن الظروف القاهرة التي أضاعت من يده هذه الفرصة الثمينة» — فرصة الاستيلاء على الإسكندرية — فدخل بدوره القاهرة في ٢٤ سبتمبر، ولكن مأساة المرتبات المتأخرة لم تكن قد تمت فصولها بعد، فكتب «ماثيو لسبس» في ٢٠ سبتمبر «إن هناك انقسامات كبيرة بين البكوات، ثم بينهم وبين الأرنئود، وقد انسحب عددٌ من الكشاف المتذمرين من المماليك إلى الصعيد»، ثم استمر يقول: «وفرض البكوات «البرديسي وإبراهيم» في القاهرة إتاوات مرهقة على المسيحيين»، وطلبوا منهم مائتي كيس قرضًا، وهددوهم إذا هم امتنعوا بتعريض أنفسهم للمخاطر، كما صار الأرنئود يهددون علنًا بنهب المدينة — وحَيِّ الإفرنج بها على وجه الخصوص — إذا لم تدفع لهم مرتباتهم، وهكذا بدأ الانحلالُ يدب في كيان الحكومة المملوكية في القاهرة، وكان مِن عوامل هذا الانحلال — ولا شك — سوء حكم البكوات أنفسهم.

فقد كان من أسباب عودة البرديسي إلى القاهرة أن زمام الأمور أفلت من يد إبراهيم بك لعجزه، فكثرت اعتداءات المماليك على الأهلين، واستبد الألفي الصغير — وكان قد انضم إلى إبراهيم والبرديسي عقب سفر الألفي الكبير إلى لندن ريثما يعود رئيسه من سفارته، فبقي بالقاهرة يشارك إبراهيم السلطة، وانتهز فرصة غياب البرديسي فأطلق العنان لنزواته، فقطع رأس قاضي القاهرة وحذا حذوه حسين أغا رئيس الشرطة، فقتل أحد المشايخ على الرغم من وساطة إبراهيم، وأقام حسين بك الزنطاوي مجزرة حقيقية عند مقياس الروضة عندما تحصن بالجزيرة، وصارت قوارب مدفعيته تصادرُ السفنَ الآتية من الصعيد فتنهب ما تحمله وتفتك بأصحابها.

ثم زاد البلاء بسبب انخفاض النيل الذي هدد القاهرة بالمجاعة، وحاول البرديسي إصلاح الحال عند تسلُّمه السلطة العليا في القاهرة، واستطاع مؤقتًا تهدئة روع الأهلين، وساعده محمد علي في ذلك «ففتحوا الحواصل التي ببولاق ومصر العتيقة وأخرجوا منها الغلال إلى السواحل، واجتمع العالم الكثير من الرجال والنساء فأذنوا لكل شخص من الفقراء بويبة غلة لا غير»، واشترى الأفراد والخبازون، وسعر القمح والفول والشعير، ومع أن القاهريين ما كانوا يحصلون على أذون الشراء من خازندار البرديسي إلا بعد مشقة ومزاحمة كبيرة، فقد تمكن كثيرون من الحصول على حاجتهم من «السوق السوداء» التي أَوْجَدَها عدمُ التزام أصحاب الغلال للأثمان المحددة، «فسكن روع الناس واطمأنتْ نُفُوسُهم وشبعت عيونهم، ودعوا لعثماني بك البرديسي».

ولكن مصاعب «الحكومة المملوكية» لم تنته بهذا الانفراج الوقتي لأزمة تموين القاهرة، كما لم يستمر دعاء القاهريين لعثمان البرديسي طويلًا؛ لأن البكوات والكشاف صاروا يستولون على القمح ويخزنونه في بيوتهم حتى يبيعوه للأهلين بأثمان باهظة، فبدأت شكاياتُ الأهلين من جديد، زِدْ على ذلك أن مشكلة دَفْع مرتبات الجند ظلت قائمة، وظل الجند بدورهم يكثرون من اعتداءاتهم على القاهريين، وبذل البرديسي قصارى جهده لعلاج هذه الأدواء، فكان ينجح حينًا ويفشل في أكثر الأحايين، وكان البكوات البرديسي وإبراهيم والألفي الصغير، قد قرروا غداة وصول الأول إلى القاهرة أن يجعلوا على كل فرد من البكوات والكشاف والأجناد قدرًا من المال كل منهم «على قدر حالته في الإيراد والمراعاة» لدفع مرتبات الجند منها، ولكنهم قرروا فئات صغيرة تتراوح بين عشرين كيسًا ونصف كيس، وفَضَّلُوا مصادرة متاجر التجار وفرض الإتاوات عليهم، وعلى أرباب الحرف والأهلين عمومًا دفع شيء من جيوبهم، فضَجَّ الناسُ بالشكوى وأُغلقت الحوانيت.

ثم اشتد الضيقُ بالقاهريين عندما ظهرت آثارُ استيلاء البكوات على الحبوب وتخزينهم لها وارتفاع الأسعار تبعًا لذلك، فانقلب الدعاء للبرديسي إلى استمطار اللعنات عليه وعلى البكوات قاطبة، وابتعد محمد علي عن هذه المسائل جميعها، فتظاهر بأنه لا غاية ولا مأرب له تاركًا مظاهر السلطة في أيدي البرديسي وإبراهيم، ولو أنه ظل يوجه البرديسي من وراء ستار ويبذل النصح والإرشاد له، ويتوسط بينه وبين الجند، دون أن يفطن البرديسي لحقيقة نواياه لثقته العمياء به، بينما ظل الأرنئود يجأرون بالشكوى من عدم دفع مرتباتهم لهم.

ولا يرى البكوات بأسًا — لاعتمادهم على صداقة زعيمهم لهم — في الاستمرار على عدم المبالاة بضجيجهم حتى تَحَرَّجَت الأمور بينهم وبين الجند، الأمر الذي استرعى انتباه «مسيت» فكتب إلى حكومته في ٢٨ أكتوبر «إن البكوات لا يُبالون بصياح الأرنئود المطالِبين بمرتباتهم، فأخذوا هم لأنفسهم القسم الأعظم مما جمعوه من الإتاوات التي فرضوها على الأهلين، مع أنهم يدركون تمامًا أن من شأن ذلك تعريض أنفسهم وأهل القاهرة معهم للمخاطر؛ لأن الألبانيين يعرفون أن هذه الأموال إنما جُمعت بدعوى دفع مرتباتهم.»

ثم استطرد يقول: ولا شك في أن «طمع البكوات وعنادهم هما مبعث خلافاتهم مع الأرنئود، وسوف يفضي ذلك إلى قَطْع العلاقات بينهم، ولَمَّا كان من المتعذِّر أنْ يخرج بعض هذا المال الذي جمعوه من أيديهم، فلا مناص حينئذ من أن ينتقم الأرنئود لأنفسهم»، ولكن موعد هذا الانتقام كان لا يزال وقتئذ بعيدًا؛ لأنه لم يكن من مصلحة محمد علي زعيمهم تحريك الفتنة الآن على البكوات بصورة حاسمة تُفضي إلى انهيار حكومتهم.

وكان من عوامل ازدياد الفوضى حدة على حدتها تَدَخُّلُ الوكلاء الإنجليز والفرنسيين الذين صاروا يشيرون على البكوات بضرورة تقوية مراكزهم ويقترحون عليهم التخلُّص من الجنود الأرنئود ورؤسائهم، ويؤكدون لهم استعداد حكومتهم لنجدتهم، فعرض «مسيت» على عثمان البرديسي إحضار جيش من الهند لنجدته، بينما راح «ماثيو لسبس» يوضح لصديقه حسين بك الزنطاوي مزايا تعزيز قواتهم وتمكين حكومتهم، وصار يسدي إليه النصح حتى يتخذ البكوات جانب الحيطة والحذر دائمًا في علاقاتهم مع الأرنئود.

ولم تلقَ هذه النصائحُ قبولًا؛ لاستمرار حاجة البكوات إلى مؤازرة الألبانيين وزعيمهم لهم عندما كان الباشا العثماني «علي الجزائرلي» لا يزال رابضًا بالإسكندرية، وعندما كان البكوات — من جهتهم — لا يزالون يرجون تسليم الباب العالي بالأمر الواقع والاعتراف بحكومتهم، وعندما كانت القاهرة لا تزال خاضعة بسكانها من وطنيين وأوروبيين لسلطانهم يفرضون عليها ما يشاءون من إتاوات، ويجمعون منها ما يريدون من مال.

وشكا «ماثيو لسبس» مر الشكوى من حسين الزنطاوي الذي كان جوابه على النصيحة التي أسداها إليه: «يا لتعاسة الضعيف الذي يجد نفسه في حاجة لحماية الرجل القوي! إن الفرنسيين إذا عادوا إلى مصر مرة أُخرى فلن يكون ذلك إلا لاستعبادنا من جديد.»

وأما المسألةُ التي شغلت البكوات أكثر من غيرها منذ عودة البرديسي إلى القاهرة فكانتْ تدبير أمر علي باشا الجزائرلي وتقليب وجوه الرأي في الوسائل التي تُمكِّنُهم من الاستيلاء على الإسكندرية، وكان الفصل في أمر علي الجزائرلي من المسائل التي بات يهتم بها محمد علي نفسه بعد أن بدأت تضعف حكومة البكوات في القاهرة، كما كان أخشى ما يخشاه وقتئذ أن يستمع البكوات لنصح الوكلاء الإنجليز والفرنسيين، فبذل قصارى جهده حتى يبطل مساعي هؤلاء، ولم يجد صعوبة في إقناع البرديسي بأن أي تدخل أجنبي قد يثير مخاطر أشد من المخاطر الراهنة، ثم أوضح له أن المصلحة إنما تقضي الآن بالتفرُّغ لإنهاء مسألة علي الجزائرلي قبل أي شيء آخر.

ولما كان الجزائرلي قد حاول استمالة محمد علي وصار يبذل له الوعود السخية، فقد أوقف محمد علي البرديسي على هذه الوعود، واقترح عليه إخراج الجزائرلي من الإسكندرية وجَذْبه إلى القاهرة؛ للحد من نشاطه ووضعه تحت رقابة حكومة البكوات من جهة، ولتسهيل مهمة الاستيلاء على الإسكندرية من جهة أُخرى، وكان الجزائرلي قد حصَّن موقع السد الذي كسره وأنشأ خط دفاع من خندق كبير محصن بقضبان قوية، كما أقام مركزين للدفاع بين قلعة الترك Leturcq وبحيرة مريوط، ومع أن هذه كانت — في واقع الأمر — تحصينات بسيطة، ولم يكن من المنتظر أن يستطيع الجزائرلي الدفاع طويلًا عن الإسكندرية بسبب ما كان بينه وبين الضباط الأتراك وقتئذ من خلافات، وبسبب ما كان فيه من مسيس الحاجة إلى المال والرجال؛ فقد ظل البكوات ومحمد علي يجهلون حقيقةَ الوضع بالإسكندرية وضعف الجزائرلي من الناحية العسكرية؛ ولذلك فقد لقي اقتراحه قبولًا لدى البرديسي، وعلاوة على ذلك عمل محمد علي على كسب ثقة المشايخ والعلماء وتأييدهم لفكرته، بدعوى أن وجود علي باشا بالقاهرة — وهو ممثل السلطان الشرعي — ضروري لنشر السكينة والهدوء في البلاد، وفتح المواصلات بين القاهرة والإسكندرية، ومن شأنه إنهاء العمليات العسكرية والتخلص من اعتداءات الجُند التي لا أمل في وقفها ما دامت الحاجة ملحة لاستخدامهم، وما دامت مرتباتهم لا تُدفع لهم.

وأفلح محمد علي في أن يجعل المشايخ يُقررون التوسط مع علي الجزائرلي وتوجيه الدعوة له — تحت مسئوليتهم — للحضور إلى القاهرة، وفي ٢٤ أكتوبر كتب المشايخ للجزائرلي يطلبونه «لمنصبه والحضور إلى مصر ليحصل الاطمئنان والسكون وتأمين الطرقات، ويبطل أمر الاهتمام بالعساكر والتجاريد، ولأجل الأخذ في تسهيل أمور الحج» الذي قالوا إنه: «ربما تعطل في هذه السنة إذا هو لم يحضر، فيكون السبب في ذلك.»

وواتت الفرصةُ لجذب الجزائرلي إلى القاهرة عندما وصلها في ١٦ نوفمبر كاتب ديوان علي باشا «وعلي يده مكاتبة هي صورة خط شريف وصل من الدولة، مضمونُهُ الرضا عن الأمراء المصرلية بشفاعة صاحب الدولة الصدر الأعظم يوسف باشا ضياء وشفاعة علي باشا والي مصر»، وأن يقيم البكوات بأرض مصر، على أن يكون «لكل أمير؛ أي لكل بك من البكوات فائظ خمسة عشر كيسًا لا غير، وحلوان المحلول ثمان سنوات، وأن الأوسية والمضاف والبراني يضم إلى الميري، وأن الكلام في الميري والأحكام والثغور إلى الباشا والروزنامجي الذي يأتي صحبته والجمارك والمقاطعات على النظام الجديد للدفتردار الذي يحضر أيضًا.»

فاتفق الرأي بعد قراءة هذه الرسالة بحضور المشايخ على أن يبعث البكوات إلى علي باشا يظهرون اغتباطهم بصدور عفو الباب العالي وصفحه، ويلحون عليه في الحضور إلى القاهرة «لتنظيم الأحوال وأعظمها تشهيل الحج الشريف»، وأرسلوا بكتابهم إلى الإسكندرية رضوان كتخدا إبراهيم بك وأحد ضباط الإنكشارية «وصحبهما من الفقهاء السيد محمد بن الدواخلي من طرف الشيخ الشرقاوي».

ثم لم تَمض أيامٌ قلائلُ حتى وصل القاهرة رسولٌ من القسطنطينية، يحمل فرمانين من الباب العالي: أحدهما — بتاريخ ٢ سبتمبر ١٨٠٣ — مُعَنْوَن باسم محمد علي وأحمد بك وعمر بك وسائر الرؤساء الألبانيين «الأرنئود» بالقاهرة، والآخر — بتاريخ ٥ سبتمبر — معنون باسم علي باشا الجزائرلي والي مصر، مع توجيه الكلام إليه وإلى إبراهيم بك حاكم القاهرة ومساعده عثمان بك البرديسي وإلى القضاة ورؤساء الإنكشارية ومضمونه صدور العفو عن البكوات والصفح عما سبق من فعالهم، وعدول الباب العالي عن إرسال الحملات التي كان يعتزم إرسالها ضدهم، وتعيين إبراهيم بك شيخًا للبلد كما كان في السابق وجعله مسئولًا عن حكومة القاهرة وعن تنفيذ الترتيب الذي اشتمل عليه الفرمانُ للأوضاع الجديدة وهي لا تخرج عما سبق ذكره، على أنْ يرسل الباب العالي مديري الجمارك من القسطنطينية إلى الإسكندرية ورشيد ودمياط وبولاق ومصر العتيقة والسويس والقصير.

وعلى هذه الصورة اعترف الباب العالي بحكومة البكوات، على أساس أن يحتفظ الباب العالي بالقسم الأعظم من إيرادات البلاد لنفسه ويترك للبكوات تدبير الوسائل التي تمكنهم من سد حاجة حكومتهم بأية وسيلة كانت؛ أي المضي في مصادرة أموال الأهلين واستنزاف مواردهم، وكان ذلك هو الحل الذي ارتآه الباب العالي لإنهاء مسألة البكوات، وبادر «دراموند» ثم «برون» بإبلاغ حكومتيهما عنه بمجرد وقوفهما عليه في الظروف التي سبق ذِكْرُها عند الحديث عن مساعي الإنجليز والفرنسيين لصالح البكوات في القسطنطينية.

غير أن صدور عفو السلطان العثماني عن البكوات المماليك بهذه الشروط غير المعقولة؛ أي حرمانهم في الحقيقة من إيرادات البلاد التي يسيطرون عليها فعلًا، سواء كانت هذه الإيرادات جمركية أو من ريع الأرض التي يمتلكونها، زِدْ على ذلك تعزيز سلطان باشا القاهرة في هذه الأوضاع الجديدة — لم يكن له في نظر البكوات سوى تفسيرٌ واحدٌ هو أن الباب العالي لا يزال يتعمد غِشَّهم وخديعتهم، وأنه لم يُصدر عفوه عنهم إلا لفشله في إخضاعهم بالقوة، وأنه إنما يريد — بفضل حرمانهم من الموارد التي تَكْفُلُ لهم العيشَ والبقاء — أن يخضعهم لسلطانه تحت ستار الرغبة في حسم خلافاته معهم وإدخال الطمأنينة الكاذبة إلى نفوسهم في ظل هذا الصلح الغادر الذي يعرضه عليهم.

وقد علق «مسيت» على ما سماه «بالمعاهدة» التي غرضها إخطار البكوات بعفو السلطان عنهم، وإعلانهم باستمرار حكومتهم بشروط معينة، فقال في كتابه إلى حكومته في ١٨ نوفمبر: «من الواضح أن الباب العالي قد شعر بعجزه عن امتلاك هذه البلاد وإن كان لا يزال برغم ذلك مصممًا على عدم التسليم بها كلية وتركها دفعة واحدة في أيدي البكوات، فإنه عندما كان البكوات يمتلكون البلاد بأسرها ويشددون الحصار على العثمانيين في الأماكن المحصنة التي بقيت في أيديهم، عرض الباب العالي عليهم مديرية أسوان فحسب، وعندما أصبح البكوات أسياد القاهرة ودمياط ورشيد اقترحت الحكومة العثمانية إعطاءهم الصعيد، فلما رفض البكوات هذا العرض وافق الأتراك أخيرًا على طلبهم، ولكنهم وضعوا قيودًا لتعطيل سلطانهم والحد من سلطتهم»، مما ينهض دليلًا على مبلغ ممانعة الديوان العثماني في هذه التنازُلات التي تُنتزع منه انتزاعًا، وكان رأي «مسيت» أن البكوات لن يقبلوا هذه «المعاهدة».

ولم يقبل البكوات هذه «المعاهدة» فعلًا، وزادهم تشككًا في نوايا الباب العالي، ما جاء في ذلك الفرمان الموجه لمحمد علي ورؤساء الأرنئود، يطلب منهم مغادرة البلاد والعودة إلى أوطانهم، فقد أفرغ هذا الفرمان في العبارات التالية: «لقد تحملنا — أي الباب العالي — في فتح مصر للمرة الثانية وانتزاعها من قبضة الفرنسيين تضحياتٍ كثيرة، ومع ذلك فإنه ما إن نجحنا في استرجاعها حتى عمد بعض الأفراد من ذوي النوايا السيئة إلى إخضاعها مرة أُخرى لسلطان المماليك وسيطرتهم. وليس مقصدنا من هذا القول نسبة ما وقع من خطأ إليكم — أي رؤساء الأرنئود وجندهم — وعلى كل حال فقد أسدل الستار على الماضي وتناسيناه، وصفحنا عن كل ما ارتُكب من ذنوب؛ رحمة منا وشفقة بالمذنبين الخاطئين، ونحن ندعوكم لذلك لمغادرة مصر والعودة مع جنودكم الأرنئود إلى أوطانكم، فهل يا ترى ترفضون العودة إلى أسركم التي تمد أيديها لكم متوسلة تطلب رجوعَكم إليها؟ إن الماضي قد صار نسيًا منسيًّا، ولكم أن تثقوا بذلك، فما عاد يذكر إنسان شيئًا مما وقع أيام خسرو باشا، ولا شك لدينا في أنكم سوف تفيدون من رحمتنا وتطيعون أوامرنا التي يتحتم عليكم أن تخضعوا لها.»

وعلى ذلك، فقد كان معنى خروج محمد علي من مصر إذا هو استجاب لنداء الباب العالي، حرمان البكوات من القوة التي لم يخامر البرديسي على وجه الخصوص — وهو صاحب الكلمة العليا بينهم؛ أي شَكٍّ في أنها تؤيدهم كل التأييد، ولا غنى عن مؤازرتها لهم في الخلاص من الباشا العثماني والاستيلاء على الإسكندرية؛ ذلك أن البرديسي وإبراهيم كانا قد قررا البطش بعلي باشا الجزائرلي، ورفض «المعاهدة» التي بعثتْ بها القسطنطينية على نحو ما تنبأ به الوكيلُ الإنجليزي، فلم يصدع محمد علي أو غيره من رؤساء الأرنئود بما أمروا به، وانتظر البكوات بفارغ الصبر ما قد تُسفر عنه خطوتُهُم الأخيرةُ مع علي باشا، ولم يَفُتْ «مسيت» إدراك نواياهم الصحيحة أو غرضهم من جذب الجزائرلي إلى القاهرة، فقد علم؛ أي مسيت من أحاديثه مع البرديسي وإبراهيم أنهما يشكان في قبول الجزائرلي لدعوتهما إلا إذا سلما إليه رهائن؛ ضمانًا لسلامته، ولكنهما لن يرسلا له أية رهائن إذا طلب ذلك فعلًا، كما أظهرا له أنهما يعتزمان الكتابة إلى القسطنطينية لإرسال باشا آخر للقاهرة غير علي الجزائرلي، الأمر الذي جعل «مسيت» يجزم باستحالة رضا البكوات به، وهو الذي أثيرت حرب شعواء ضده، وبأن البكوات لا يبغون سوى كسب الوقت حتى يتدبروا أمرهم بسرعة، بسبب حروجة مركزهم لحاجتهم الملحة إلى المال لدفع مرتبات الجند وبخاصة؛ لأن هؤلاء ما زالوا متمردين عليهم، وقد يتصدع اتحادهم مع الأرنئود في أي وقت، وعلى ذلك فلم يكن هناك مناص في هذه الظروف من أن يقوم البكوات بعمل حاسم وسريع ضد الجزائرلي حتى يستطيعوا التفرغَ لمناجزة الأرنئود إذا تحطمت محالفتُهُم معهم وانشق هؤلاء عليهم، واعتمد البكوات على ما عرضه عليهم «مسيت» من إرسال حكومته النجدات إليهم في إرغام الأرنئود حينئذ على مبارحة البلاد بعد إلحاق الهزيمة بهم.

وكان على ضوء ما وقف عليه «مسيت» من معلومات واستخلصه من نتائج؛ أن وجد من الواجب عليه أنْ يوضح لحكومته «أغراضَ البكوات ونواياهم الخفية حتى لا يبدو أن هناك تضارُبٌ في مسلكهم» من دعوتهم الجزائرلي للحضور إلى القاهرة، فقال في رسالته السالفة الذكر في ١٨ نوفمبر «إن امتلاك الإسكندرية هو غرض البكوات الرئيسي في الوقت الحاضر، ثم اتخاذ الحيطة في الوقت نفسه ضد المؤامرات والمكائد التي يعلمون أن علي باشا سوف يدبرها ويحيك خيوطها إذا سُمح له بالدخول إلى القاهرة، ولتحقيق هذا الغرض المزدوج دَعَوْهُ للحضور في صحبة عدد قليل من الجُند بدعوى عجز القاهرة عن إعالة عدد كبير منهم وتموينهم، فإذا استجاب علي باشا لهذه الرغبة وحضر بقليل من الجند قبض البكوات عليه وعلى جماعته وأرسلوهم إلى القسطنطينية عن طريق يافا. وينتهز المماليك والأرنئود فرصة شعور حامية الإسكندرية بالطمأنينة بعد خروج علي باشا إلى القاهرة وإغفالها الحيطة والحذر، فيهاجمونها ويستولون على الإسكندرية، وأما إذا فكر علي باشا في المجيء إلى القاهر مع كل قواته — وتبلغ هذه حوالي الألفين — فسوف يعامله البكوات كعدو؛ على أساس أنه ما كان يجب عليه أن يحضر بهذه الأعداد الكبيرة بعد أن أوضحوا له أن القاهرة في حالة من الفقر تجعلها عاجزة عن تموينهم، وأنه ما كان ليحضر على رأس جيش في هذه الظروف إلا إذا كانت له نوايا سيئة ومريبة، والبكوات يرجون كسب الوقت على أمل أن تصلهم النجدات التي طلبوها من الحكومة الإنجليزية في الوقت المناسب، فتساعدهم على طرد الأرنئود.»

وفي أوائل ديسمبر وصل الخبر من رضوان كتخدا إبراهيم بك أنه وصل الإسكندرية وقابل علي الجزائرلي الذي «وعد بالحضور إلى مصر؛ أي القاهرة، وأنه يأمر بتشهيل أدوات الحج ولوازمه»، وكما كان البكوات يريدون من توجيه دعوتهم لعلي باشا الكيدَ له، والتخلص منه بطرده من البلاد وإبعاده إلى القسطنطينية، فقد كان علي باشا — وهو رجلُ مكائدَ ودسائس بطبعه — يريد هو الآخرُ الكيدَ لهم بتقويض عروش حكومتهم في القاهرة، ويرجو أن يتسنى له — بفضل ذلك — دعمَ أركان باشويته؛ ولذلك فقد بادر بإرسال فرمان العفو السلطاني إلى البكوات على نحو ما سبق ذكره، ثم لم يتردد في إجابة الدعوة التي وجهها له البكوات على يد رضوان كتخدا إبراهيم بك، وقد شرح «دروفتي» سياسة علي باشا أو بالأحرى الأسباب التي دعتْه إلى قبول هذه الدعوة، فقال في رسالته إلى الجنرال «برون» في القسطنطينية في ١٨ ديسمبر ما معناه: إن علي باشا كان يعلم بالنزاع القائم في القاهرة بين الأرنئود والمماليك، وإن الأولين يشعرون بازدياد قوتهم منذ قيامهم بثورتهم ضد ممثل الباب العالي الشرعي في البلاد، تلك الثورة التي كانت في صالح البكوات، والتي مَكَّنَتْهم من الحكم في القاهرة، وإن البكوات يدركون أنهم في ثورة صريحةٍ على الباب العالي، وإنهم لذلك سوف يقبلون كل تسوية تساعد على تصحيح وضعهم، لا سيما وقد صدر الآن عفو الباب العالي عنهم، واعتقد علي باشا أن الأرنئود لم يعتادوا الحياة في القُطْر المصري بالدرجة التي تَجعلهم يتخلَّون عن كل أمل في العودة إلى أوطانهم وبخاصة بعد أن عفا السلطان عنهم، وأصدر أمره الأخير بخروجهم من مصر والرجوع إلى أسرهم.

وكان من رأي علي باشا أنهم لن يدعوا فرصة هذا العفو العام تمر دون الاستفادة منها، وفي وسعه لذلك أن يفيد من هذه الظروف جميعها، أَضِفْ إلى هذا أن البكوات لم يدفعوا لهم مرتباتهم المتأخرة عن ستة شهور بتمامها، ولا سبيل إلى دَفْع هذه المرتبات إلا إذا أَمْعَنَ البكوات في إرهاق البلاد في وقت لا تكفي فيه مواردها لسد نفقات إدارتهم وحاجاتها اليومية، بينما صارت الفوضى تعم كل فروع هذه الإدارة المدنية والعسكرية على السواء، وانعدمت تلك الروح المعنوية التي أمدتهم بالقوة دائمًا، وتضعضع كيان حكومتهم بسبب كبر سن إبراهيم بك الذي صار لا يحمل من الزعامة سوى اسمها، وفضلًا عن ذلك، فقد اعتمد علي باشا في نجاح أغراضه على مهارته في الدس والوقيعة؛ لبذر بذور التفرقة بين الألبانيين وبين المماليك من جهة، وبين البكوات بعضهم وبعض من جهة أخرى، فخيل إليه أن في استطاعته جذب محمد علي وسائر رؤساء الأرنئود سواء في القاهرة أو في رشيد، وقد تَقَدَّمَ كيف كشف محمد علي دسائسه معه لعثمان البرديسي، كما كان من المنتظَر أن تفشلَ مساعيه مع رؤساء الأرنئود في رشيد، وكما خيل إليه أن في وسعه أيضًا جذب عثمان بك حسن وحَمْله على تأييده، فكان لذلك كله أن قرر علي الجزائرلي الخروجَ إلى القاهرة، فغادر الإسكندرية في طريقه إليها في ٢٦ ديسمبر ١٨٠٣.

ومع أن البكوات كانوا قد رسموا له خط السير الذي يجب عليه اتباعه، وحددوا له عدد الجند الذين سمحوا له باصطحابهم معه في سيره، فكان عليه أن يأخذ طريق دمنهور والطرانة إلى القاهرة، وأن لا يزيد عدد مرافقيه على الألف، فقد خالف علي باشا اتفاقه مع البكوات، وخرج في قوة من ٢٥٠٠ من المشاة و٥٠٠ من الفرسان، ثم إنه بدلًا من أن يقصد دمنهور لم يلبث — بعد خروجه من الإسكندرية وتظاهُره بالسير إلى دمنهور — أنْ تحول فجأة بمجرد وصوله إلى إدكو يريد الزحف على رشيد، وبادر يحيى بك حاكمها، وعمر بك الأرنئودي رئيس حاميتها بالخروج منها لمقابلته، فأدركاه وهو لا يزال بإدكو، فأكد لهما علي باشا أنه لن يقترب من رشيد، فعادا أدراجهما، ولكن حدث في المساء نفسه (٢٧ ديسمبر) أن قُبض على جنديين من الأتراك يحملان رسالة من علي باشا إلى عمر بك يدعوه فيها لمناصرته والانشقاق على المماليك، وخرجت الحامية لمقابلته، ولكنه لم يجرؤ على الالتحام في معركة معهم، وفَضَّل استئنافَ السير إلى القاهرة، وسار بمحاذاة شاطئ النهر الأيسر وانتشر جُنودُهُ في القرى والدساكر ينهبون ويرتكبون مع الأهلين فظائع شديدة، ثم انتقل بجُنده إلى الجانب الآخر من النهر بدعوى عدم وجود مؤن أو أقوات في الضفة اليسرى، فصار بجيشه في قلب الدلتا، واستمر الأهلون يقاسون شدائدَ عظيمةً على أيدي جنده حتى وصل إلى منوف.

وهكذا لم يتبع علي باشا خط السير الذي رسمه له البكوات، ومنذ ٣ يناير سنة ١٨٠٤ كانت قد بلغتْ هؤلاء في القاهرة أخبار محاولاته في رشيد، كما تَأَكَّدَ لديهم سوء نواياه بسبب القوة الكبيرة التي كانت معه والتي خرج بها من الإسكندرية على الرغم من اتفاقهم السابق معه على أنْ لا يزيد عددُها على ألفٍ بحالٍ من الأحوال، فأرسل البكوات جيشًا بقيادة الألفي الصغير إلى شبرا؛ لمنع الجزائرلي من دخول القاهرة وإرغامه على الوقوف عند «شلقان»، وكان؛ أي علي باشا، قد بلغها في ١٤ يناير، وخرج كذلك محمد علي وحسن بك مع الأرنئود وعسكروا بين شلقان وشبرا، وبلغ الخبر القاهرة في ١٦ يناير أنه قد تحرك فجأة من منوف وصار على مسافة قريبة من معسكر المماليك والأرنئود، فخرج عثمان البرديسي من القاهرة بمن بقي بها من المماليك والأرنئود، تاركًا بالقاهرة إبراهيم بك ومعه حسين بك الزنطاوي على رأس رجاله السود واليونان حوالي الخمسمائة لحمايتها.

واجتمع الألفي الصغير بعلي باشا، وطلب منه أن يسيِّر جنده إما إلى الشام وإما إلى الحجاز وأن لا يدخل القاهرة إلا بمائة فقط من أتباعه، وأرسل البرديسي إلى القاهرة في ٢٠ يناير يقول إنه سيجتمع بعلي باشا في اليوم التالي، ويصر على وجوب تنفيذ «علي باشا» لما أمره به الألفي الصغير، وكتب «لسبس» من القاهرة في ٢١ يناير «إنه من الثابت قطعًا أن هناك تفاهمًا سريًّا بين علي باشا وبين الأرنئود، وأن أكثر هؤلاء — إن لم يكونوا كلهم — موالون له، وعدد هؤلاء الأرنئود كبير، وبينهم عدد من العثمانلي مستخفين في ملابس الأرنئود، وقد بلغ ما مع علي باشا حوالي الأربعة آلاف … وهو يرفض ما طلبه الألفي الصغير منه ويؤكد في الوقت نفسه حسن نواياه … وكان يرجو عند خروجه من الإسكندرية أن يستطيعَ الدخولَ إلى القاهرة بسهولة واستلام حكومتها، وأما المماليك وعددُهُم الألفُ فَهُم يؤملون القضاء عليه قضاء مبرمًا، ولديهم كذلك حوالي الألف من الفرسان المغاربة، عدا جملة قبائل من العرب البدو في الجهات المجاورة للقاهرة موالين لهم.»

وطلب علي باشا العودة إلى الإسكندرية ولكن دون طائل، ورفض جُندُه الاشتباك في معركة مع المماليك والأرنئود بدعوى عدم وصول أمر من الأستانة بالقتال، ولأن عددهم يقل كثيرًا عن عدد أعدائهم، وخشي الجزائرلي على نفسه من جُندِه أنفسهم، كما رأى عبث المقاومة بعد أن سقطت مراكبه في يد أعدائه من جهة، وكشف الأرنئود سر محاولاته معهم للبكوات المماليك، ووجد نفسه محاطًا بجيش المماليك والأرنئود، فقرر الرضوخ لإرادة البرديسي وانتقل إلى معسكره في ٢١ يناير وفي نفس الليلة الأولى التي قضاها علي باشا في معسكر البرديسي أرسل خفية رسولًا برسالة إلى عثمان بك حسن بقنا «يطلبه للحضور إلى مصر ليكون معينًا له ويعده بإمارة مصر».

ولكنه حدث أن قبض البكوات على هذا الرسول بجهة «البساتين» ووقعوا على الرسالة، كما ضبطوا رسائل له إلى الشيخ السادات بالقاهرة يطلب منه تحريك القاهريين على المماليك، وإثارة الشغب للثورة ضدهم، فواجهوا الجزائرلي بهذه الرسائل (٢٥ يناير) ولم يستطع نفيَها، فاستقر الرأي عندئذٍ على إرساله إلى الشام في طريقه إلى القسطنطينية، وأمر من فوره بالخروج مع العسكر من أتباعه إلى غزة، لأنه لا أمان لهم معه.

وفي نفس اليوم كتب البرديسي إلى «ماثيو لسبس» يذكر له ما حدث، فقال: «إنه بالرغم من صنوف التكريم والتعظيم التي أُحيط بها علي باشا، فإنه لم يقابل ذلك إلا بالكتابة إلى أشخاص مختلفين في القاهرة وإلى البكوات في الصعيد، وقد استولى «البرديسي» على هذه الرسائل التي تأكد له منها غدر الباشا وسوء نواياه، وقد كان الاتفاقُ معه أنه إذا أخطأ مع البكوات فليس له أن يؤاخذَهم على عواقبِ خطئه ويكون مستحقًّا عندئذ للموت، ولكن «البرديسي» اكتفى بإعادته إلى المكان الذي جاء منه قبل الاتفاق معهم، وأرسلوه عن طريق غزة إلى القسطنطينية في صحبة السناجق سليمان بك صهر إبراهيم بك ومحمد بك الملواني «المنفوخ» ظهر اليوم نفسه.»

وفي ٢٦ يناير عاد البرديسي ومحمد علي إلى القاهرة، وفي ٢٧ يناير كتب «لسبس» يؤكد أن الجزائرلي قد قُطعت رأسه في أثناء السير كما قُتل قريبه حسن بك ووقع كبار ضباطه أسرى في أيدي البكوات، وكان مقتله عند «القرين» بين بلبيس والصالحية.

ومع أن البكوات أذاعوا أن علي باشا أراد في أثناء الطريق الغدرَ بالصناجق والمماليك الذين صحبوه لإبعاده خارج الحدود المصرية، وأنه أراد «أن يكسبهم بمن معه ليلًا»، فكشف أمره سائس يعرف التركية «فتحذروا منه، فلما كسبوهم وقعت بينهم محاربة وقتل منهم عدة من المماليك وخازندار محمد بك المنفوخ، وانجرح المنفوخ أيضًا جرحًا بليغًا، وأصيب الباشا وصاحبه من غير قصد والليل ليس له صاحب فقضي عليه، وكان ذلك مقدورًا وفي الكتاب مسطورًا»، فقد ذكر الشيخ الجبرتي أن العسكر المغاربة «عملوا مع خدم الباشا مشاجرة وجسموها إلى أن تضاربوا بالسلاح فقامت الأجناد المصرية من خلفهم فصار الباشا ومن معه في الوسط والتحموا عليهم بالقتال، وضرب الباشا بعض المماليك منهم بقرابينه فأصابته، وقتل معه ابن أخيه حسن بك وكتخدا.»

وسواء قُتل علي الجزائرلي قضاء وقدرًا أم كان مقتله عن عمد وإصرار سابق، فقد كان هو نفسه المسئول الأول عن هذه الخاتمة المروعة التي اختتم بها حياته بسبب دسائسه ومكائده، فقد كتب «دروفتي» إلى الجنرال «برون» منذ ١٢ يناير: «أن الوكيل الإنجليزي بالإسكندرية قد أكد له أن لديه ما يحمله على الاعتقاد بأن علي باشا لن يدخل القاهرة بسهولة ويخشى أنه سوف يرغم على النكوص على أعقابه»، ولكن البكوات الذين كان أحد أغراضهم الرئيسية من إخراج علي الجزائرلي من الإسكندرية، تهيئة الفرصة لاستيلائهم عليها ذاتها ما كانوا ليوافقوا بتاتًا على عودته إليها؛ ولذلك فقد أصروا على إخراجه من البلاد، ثم فتكوا به للخلاص من شره دفعة واحدة، وتنفذ بذلك الشطر الأول من برنامجهم الذي كشف عنه «مسيت» منذ ١٨ نوفمبر سنة ١٨٠٣، وكانت خطوة البكوات التالية هي محاولة الاستيلاء على الإسكندرية.

ثالثًا: البكوات ومسألة الإسكندرية

وكان علي الجزائرلي بسبب سوء حكمه في الإسكندرية قد سبب تذمر الأهلين منه وسخط القناصل عليه، أما فيما يتعلق بالأولين فقد ذكر الشيخ الجبرتي أن مدة إقامة علي باشا بالإسكندرية كانت عهدًا من «الجور والظلم ومُصادرات الناس في أموالهم وبضائعهم وتسلُّط عساكره عليهم بالجور والخطف والفسق. هذا إلى جانب ترذيله لأهل العلم وإهانته لهم، حتى إنه كان يسجن الشيخ محمد المسيري الذي هو أَجَلُّ مذكورٍ بالثغر المَزُور، وإذا دخل عليه مع أمثاله وكان جالسًا اتكأ ومد رجليه قصدًا لإهانتهم».

وأما فيما يتعلق بالأخيرين، فإنه لم يحترم حقوقهم التي خَوَّلَتْهم إياها «الامتيازات»، فأهان أعلامهم وشاراتهم الموضوعة على متاجر ومنازل رعايا دولهم، وانتهز جندُهُ الخروج للتدريب يوميًّا في ساحة المنشية، فصاروا يمرون بحي الإفرنج، ويطلقون الرصاص على المساكن ووكالات القناصل حتى ضج هؤلاء بالشكوى، وعندما فشلوا في مَنْع هذه الاعتداءات ومُصادرة أموال رعاياهم أو محمي دولهم؛ قرروا أن ينسحب هؤلاء جميعًا إلى السفن الأجنبية الراسية بالإسكندرية، بينما انسحب القناصل أنفسهم إلى سفينة القبطان بك رئيس العمارة العثمانية بالميناء ورفعوا شكاواهم إلى سفراء دولهم بالقسطنطينية وعندئذ اضطر علي باشا إلى توسيط أحمد خورشيد وجاثم أفندي رئيس الجمرك والقبطان بك وغيرهم من كبار العثمانيين بالثغر لفض هذه الأزمة، وكان بعد أن وعد علي باشا باحترام الامتيازات، وإزالة أسباب الشكوى أَنْ قبل هؤلاء النزول إلى البر واستئناف حياتهم العادية بالإسكندرية، فتَمَّ الصلحُ قبل مغادرة الجزائرلي للإسكندرية في طريقه إلى القاهرة بأيام قليلة، ومنذ مبارَحة علي الجزائرلي الإسكندرية؛ انفرد بشئونها أحمد خورشيد، وكانت مهمة هذا أن يمنع سقوط الإسكندرية في أيدي البكوات.

واختلفت أساليب البكوات عندما استأنفوا مسعاهم من أجل الاستيلاء على الإسكندرية عن أساليبهم السابقة؛ فقد أرادوا الآن أن يجيء تسليمُ الإسكندرية طوعًا لا كرهًا، ووجدوا أن خير وسيلة لذلك هي أن يتسلم حاكمها أحمد خورشيد نفسُهُ باشويةَ القاهرة؛ وذلك لأسباب عدة، منها: اضطرارُهم لعقد صلحٍ جديد مع الباب العالي بعد أن نقضوا الصلح السابق بأيديهم لقتلهم علي الجزائرلي، وفي وجود ممثل للسلطان في القاهرة في شخص أحمد خورشيد، ما يمهد لإبرام هذا الصلح الجديد مع الباب العالي.

زِدْ على ذلك أنه كان من المتعذر عليهم إقناعُ «الأرنئود» بالخروج في حملة ضد الإسكندرية، وهم عاجزون عن دَفْع مرتباتهم لهم، ولا يزال الأرنئود متمردين عليهم ويعيثون في العاصمة فسادًا منذ عودتهم إليها، بل وعظُمت الفوضى في القاهرة بعد حادث مقتل علي الجزائرلي، واعتقد البكوات إذا هم استقدموا خورشيد باشا إلى القاهرة واعترفوا بولايته على مصر، أن في وسعهم عندئذ أن يفرضوه على الأرنئود ليكبح جماحهم، وربما تمكنوا بمساعدته من إبعاد الأرنئود من القاهرة وإخراجهم من البلاد كلية، لا سيما بعد صدور العفو السلطاني عنهم، أضف إلى هذا أن وجود خورشيد بالقاهرة يستتبع — بالضرورة — خضوعَ الإسكندرية لسلطانهم؛ حيث يستطيعون عندئذ تعيين حاكم لها رجلًا يكون طوع إرادتهم، وعلى ذلك فقد شرع البكوات يفاوضون خورشيد عقب مقتل علي الجزائرلي في الحضور إلى القاهرة واليًا على مصر، وكتب «لسبس» من القاهرة إلى حكومته منذ ٢٥ يناير: «إن المخابرات دائرة بين البكوات وبين الباب العالي … وإنه علم من عدد من رؤساء البكوات أنهم طلبوا من الباب العالي تنصيب خورشيد باشا حاكم الإسكندرية باشا للقاهرة أي واليًا على مصر، واعتمد البكوات في الوصول إلى غايتهم على استطاعتهم توسيط الوكلاء الإنجليز لدى خورشيد، وكان غرضُهم المباشرُ — على نحو ما بينا — الاستيلاءَ على الإسكندرية.»

وكان من الأسباب التي ساعدتْهم على بَدْء المفاوضة مع حاكم الإسكندرية، أنه هو نفسه صار يطمع في باشوية القاهرة منذ مقتل علي الجزائرلي، ويسعى هو الآخرُ لتوسيط الوكلاء الإنجليز لدى إبراهيم والبرديسي للظفر بهذه الباشوية، وقد كتب «مسيت» إلى هوبارت بعد ذلك (٢٠ فبراير): «أن إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي قد أخبراه بعد أيام قليلة من وفاة علي باشا الجزائرلي أنهما يُريدان عَرْض مركز الباشوية علي أحمد باشا خورشيد حاكم الإسكندرية، ثم رَجَواه أن يبذل نفوذَه معه كي يحملَه على تسليم الإسكندرية لهما عند قبوله عرضهما.»

ثم استطرد «مسيت» يقول: «وفي نفس اليوم وصله خطاب من «بريجز» يُبلغه فيه أن خورشيد باشا قد رجاه أن يطلب من «مسيت» أن يوصي البكوات باختياره لمنصب الولاية الذي يصبو إليه.»

ولما كان مما يهم السياسة الإنجليزية وقتئذ أن تكون الإسكندريةُ في أيدي البكوات المماليك القوة الوطنية التي اعتقد السيد ألكسندر بول ومؤيدو مشروعه المعروف، أن بوسعها الدفاع عن الإسكندرية وعن البلاد ضد الغزو الفرنسي الذي توقعوا حدوثه؛ فقد أيد الوكلاء الإنجليزُ مساعيَ البكوات وقَبِلُوا هذه الوساطةَ، وصار «مسيت» يُكثر من الاجتماع بالبرديسي سرًّا على نحو ما لاحظ «لسبس» ثم قَرَّ الرأيُ على إرسال «ريجيو» Reggio ترجمان القنصلية الإنجليزية لمقابلة خورشيد باشا، بينما صار «بريجز» Briggs نائب القنصل البريطاني بالإسكندرية يجتمع هو الآخرُ بخورشيد باشا.

ولم يفطن «دروفتي» إلى المقصود من هذا النشاط في بادئ الأمر، فقال في ٦ فبراير: «إنه يبدو أن البكوات قد أحبوا في خورشيد باشا خُلُقَه الموسوم بالاعتدال وحب السلام، حتى إنه؛ أي دروفتي لَيجرؤ على القول بأنه إذا تَقَرَّرَ وضعُ الأمور في نصابها السابق والقديم؛ أي عودة الحكومة المملوكية، وإعطاء مصر فترة قصيرة من الهدوء الداخلي؛ كان من المحتمَل أنْ يُصبح خورشيد الرجل الذي يَصلح لباشوية مصر في عهد هذه الحكومة المملوكية»، ولكنه ما إن وقف من «لسبس» على حقيقة مساعي الوكلاء الإنجليز وتأييدهم لهذه الخطوة، وطلب إليه «لسبس» أن يحاول جس نبض خورشيد باشا؛ ليقف منه على مدى الدور الذي يقومُ به هؤلاء للتقريبِ بين خورشيد والبكوات؛ حتى تنبه لخطورة هذه المساعي، فانتهز زيارة خورشيد باشا له يوم ٨ نوفمبر، وتحدث إليه عن وصول «ريجيو» إلى الإسكندرية، وقال «دروفتي» إنه ربما كان هناك احتمال في بلوغ خورشيد منصب باشوية القاهرة، ولكن خورشيد أجاب بأنه لا يريد الحديث في هذه المسألة ولا يريد أن يعرف شيئًا عنها، والواجب انتظارُ قرار القسطنطينية، فحذره دروفتي من مساعي الإنجليز الذين يعملون دائمًا ضد مصالح الباب العالي ويريدون احتلال مصر، وأكد خورشيد أنه «لا موضوع في هذه اللحظة عن أي كلام في إعطاء الإسكندرية للبكوات أو السماح لجند أجانب باحتلال حاميتها.»

ويبدو أن خورشيد — وقد اتضحتْ له نوايا البكوات وعَرَفَ أَنَّ غرضهم المباشر من عرض باشوية القاهرة عليه إنما هو الاستيلاءُ على الإسكندرية وإخضاعُهُ لسلطان حكومتهم في القاهرة — قد أدرك خطورة قبوله هذا المنصب في الظروف الراهنة، ورفض أن يكون تسليم الإسكندرية ثمنًا لهذه الباشوية، أضفْ إلى هذا أن حادث الفتك بعلي الجزائرلي كان لا يزال ماثلًا في الأذهان، كما أن موقف الباب العالي من البكوات بعد هذا الحادث لم يكن قد عُرف بعد، فصمم خورشيد على عدم تسليم الإسكندرية للبكوات، وعلى ذلك، فقد كتب دروفتي من الإسكندرية إلى «ماثيو لسبس» في ٩ فبراير ١٨٠٤ «إن خورشيد باشا لا يستطيع فعل شيء دون أن يصله فرمانُ الباب العالي بالباشوية على مصر، كما أظهر جاثم أفندي خوفَه مِنْ أَنْ يُحاول المماليكُ الاستيلاءَ على الإسكندرية عَنْوَةً وبقوة السلاح إذا رفض خورشيد اقتراحهم، وسأل «دروفتي» عما إذا كان في وسعه أن يجعل القناصل بالإسكندرية والقاهرة يتدخلون لمنع البكوات من القيام بأي عمل، ووقف كل الخطوات التي يريدون اتخاذها سواء بطريق المفاوَضة أم بطريق العمليات العسكرية للاستيلاء على الإسكندرية حتى تأتي تعليماتُ الباب العالي.»

وعاد «دروفتي» فكتب بعد يومين إلى «لسبس»: «إن جاثم أفندي قد أكد له أنه من المفهوم طبعًا استحالة الاستماع لمقترحات البكوات حتى يُحال الأمرُ على الباب العالي وتأتي التعليمات من الأستانة. وفضلًا عن ذلك فإن خورشيد سوف يضمن للبكوات أن الفرنسيين لن يحضروا للاستيلاء على الإسكندرية، كما عاد جاثم أفندي إلى الحديث في مسألة تَدَخُّل القناصل مع البكوات لإرجاعهم عن محاولة الاستيلاء عَنْوَةً على الإسكندرية»، واستطاع «دروفتي» أن يقف على الغرض من إرسال «ريجيو» إلى الإسكندرية، فقال: «إن مهمته الأساسية تنحصر في أنْ يطلب من خورشيد قبولَ باشوية القاهرة، وقبولَ احتلال الإسكندرية بجُنْد تابعين للبكوات، ولكنه تقرر — كما استطرد دروفتي يقول، وبناء على ما أبلغه إياه كل من خورشيد باشا نفسه وجاثم أفندي والقبطان بك — «أنْ يجيب هؤلاء على مقترَحات البكوات بأنه لم تكن لديهم أَيَّةُ تعليماتٍ من الباب العالي بإعطاء الإسكندرية للمماليك، وأنهم سوف يضطرون للدفاع عنها إذا حاول إنسان دخولها عَنْوَةً وبقوة السلاح.»

وبالفعل بدأت منذ ١٢ فبراير حركة الأسطول العثماني في الميناء القديمة، «دليلًا على أنه يُريد الخروجَ إلى عرض البحر، استعدادًا للحركات العسكرية وقت الحاجة» على نحو ما كتب دروفتي إلى «ماثيو لسبس» بعد ذلك.

وكان في أثناء هذه الحوادث أن وصلت السفينة الإنجليزية «أرجو» بقيادة الكابتن «هالويل» تحمل «محمد الألفي» إلى الشواطئ المصرية، وقد قابل «هالويل» — بعد إنزال الألفي عند أدكو — ومعه «بريجز» خورشيد باشا، وأكدا له قُرْب وصول جيشٍ فرنسي إلى مصر، فكتب «دروفتي» للجنرال «برون» في ١٨ فبراير عن أثر هذه المقابلة في نفس خورشيد باشا، قال: «إنه صار مصممًا الآن أكثر من أي وقت مضى؛ على الدفاع عن الإسكندرية ضد المماليك وضد الإنجليز وضد الفرنسيين؛ حيث إنه ليس لديه أوامر ما بتسليم الإسكندرية»، وهكذا أخفق «ريجيو» في مهمته وغادر الإسكندرية دون أن يظفر بإجابة مرضية واتخذ خورشيد خطواتٍ معينة لدفع القوة بمثلها.»

ولما كان «مسيت» قد غادر القاهرة إلى الإسكندرية في ٢٣ فبراير فقد اجتمع عند وُصُوله إليها بخورشيد باشا، ولكنه أخفق كذلك في محاولة إقناعه؛ أي خورشيد بتسليم الإسكندرية فأبلغ حكومته في ٢ مارس معللًا سبب إخفاقه بأنه قد تأكد لديه من مُحادثاته مع خورشيد «أن الباب العالي لم يكن مخلصًا في صُلْحه مع البكوات، وأنه في فرماناته الأخيرة إنما رضي بالتنازُل لهم عن الأماكن التي لم تُصبح في قبضته هو فحسب، ويعلن خورشيد باشا أن لديه أوامر قاطعةً بعدم السماح للمماليك أو الأرنئود بالدخول إلى الإسكندرية، ويقول إنه تثبت في مركزه كحاكم للإسكندرية في نفس الوقت الذي كان فيه كل جزء من أجزاء مصر الأخرى في قبضة البكوات وتحت سيطرتهم، فلو أن الإسكندرية كانت معدودة فعلًا من هذه الأماكن لنَحَّى الباب العالي خورشيد عنها، ولَكان من حق البكوات أن يعينوا كاشفًا يحكمها — كما كان الحال قبل الغزو الفرنسي.»

وقد أقر الباب العالي خورشيد واعتبر من حسن الحظ أن يكون هذا مواليًا لتركيا، وقد ظهر ارتياح الباب العالي عندما وقف الجنرال «برون» من الريس أفندي عند اجتماعه به على تفصيلات ما حدث، ثم كتب إلى حكومته في ١٢ مارس «أن الباب العالي قد أصدر أمره إلى خورشيد باشا بأن لا يقبل جنود البكوات في المدينة وأنْ يُحافظ على الإسكندرية، ويَحُول دون دخول أية نجدات إليها عدا تلك التي تُرسلها إليه حكومته برًّا وبحرًا، ثم استطرد يقول: وهناك ست سفن في مياه القسطنطينية مستعدة للسفر إلى الإسكندرية؛ إذ قال الريس أفندي إن الإنجليز منذ حادث خسرو باشا قد دأبوا على الرغبة في التدخل في شئون مصر.»

وأما البكوات فقد شَغَلَهم عن مسألة الإسكندرية، وعرض باشوية القاهرة على خورشيد باشا وصولُ الألفي من سفارته في لندن.

رابعًا: مطاردة الألفي

أنزل المركب الحربي «أراجو» محمد الألفي عند أبي قير، ووصل الألفي إلى إدكو سيرًا على قدميه، وفي ١٤ فبراير وصل إلى رشيد، فخرج لمقابلته في منتصف الطريق يحيى بك البرديسي حاكمها وعمر بك رئيس الأرنئود، وحَيَّت المدينةُ دخولَ الألفي إليها بعد منتصف الليل بإطلاق المدافع من السفن في النيل، وقابلَه أهلُها في صبيحة اليوم التالي واحتفوا به، كما قابله القناصل، ونزل الألفي في مركب «البطروشي» نائب القنصل البريطاني قاصدًا السير في النيل إلى القاهرة، وبادر يحيى بك بإبلاغ البكوات في القاهرة نبأ وصول الألفي، فعلمت به القاهرة في ١٧ فبراير، وأسرع الألفي الصغير بإطلاق المدافع من موقعه بالجيزة تحية لرئيسه، كما أرسل أوامره للبكوات والكشاف من بيت الألفي بالذهاب لاستقباله، ولبى هؤلاء هذه الدعوة بحماس شديد حتى إن أحد البكوات مع ثلاثة من الكشاف سرعان ما خرجوا في مساء اليوم نفسه يعسكرون بين إمبابة والجيزة في انتظار وصوله.

غير أن نبأ وصول الألفي كان مفاجأة سيئة للبرديسي ولإبراهيم، اللذين كانا قد بذلا قصارى جهدهما مع الإنجليز لمحاولة إقناعهم باحتجاز الألفي ومنعه من العودة إلى مصر، ثم نفى رسولهما «سليم أفندي» للكابتن «هالويل» في مالطة أن الألفي كان مفوضًا من البكوات في سفارته المزعومة في لندن على نحو ما سبق ذكره، وكان البرديسي وإبراهيم قد سمحا للألفي الصغير ساعد الألفي الكبير الأيمن ونائبه في غيبته، بمشاركتهما في الحكم؛ تعميةً له من جهة، حتى لا يفطن لمقاصدهما، ومحافظةً على مظهر الاتحاد بين مختلف الطوائف المملوكية لدعم أركان حكومتهما في القاهرة من جهة أخرى.

ولكنه حدث منذ أن تسلم البرديسي زمام السلطة العليا في القاهرة بعد انسحابه من دمنهور في سبتمبر ١٨٠٣ أَنْ صار الألفي الصغير يجد نفسه مبعَدًا رويدًا رويدًا عن شئون الحكم والإدارة، ولا جدال في أن البرديسي كان على حق في سَلْب كل سلطة منه بسبب ما ظهر من شطط في معاملته للأهلين وما أنزله من مظالمَ بهم، ولكن الألفي الصغير سرعان ما فسر ذلك بأن البرديسي إنما يريد إبعادَ السلطةِ عن بيت الألفي، وأظهر استياءه من حكومة البرديسي وإبراهيم، وصار يعلن رجاءه في أن تسفر سفارة سيده في لندن عن جمع السلطة في بيت الألفي، وساد سوء التفاهم بينه وبين البرديسي، وجمع الألفي الصغير مماليكه ومُشاته من السود واليونان ومدفعيته بالجيزة، وقبع هناك في انتظار عودة محمد بك الألفي، حتى إذا بلغه خبر وصوله أطلق مدافعه لإعلان هذا النبأ وتحية لسيده، وخرج من الجيزة لمقابلته.

وقد أزعج مسلك الألفي الصغير عثمان بك البرديسي، الذي استبد به القلق، بسب ذيوع الاعتقاد بأن الألفي الكبير إنما حضر يسنده الإنجليز بقوتهم، ولا يلبث — لذلك — أن يستولي على أسباب السلطة ويظفر باحترام سائر البكوات له، ولن يستطيع البرديسي عندئذ استرجاع نفوذه إلا إذا اشتبك في معارك شديدة وحالفه النصر في نضاله من غريمه ومنافسه.

وعلى ذلك فإنه بدلًا من إطلاق المدافع ابتهاجًا بنبأ وصول الألفي، هرع البرديسي إلى محمد علي ينشد النصح والإرشاد عند الرجل الذي أولاه البرديسي ثقته دائمًا، والذي تظاهر في كل المناسبات السابقة بأنه لا غايات ولا مآرب شخصية له، وظل مبتعدًا عن المنافسات والمشاحَنات المملوكية، ولديه — إلى جانب هذا كله — القوة العسكرية التي تمكِّن البرديسي من مطاردة خصمه، ووجد محمد علي في لجوء البرديسي إليه يطلب منه النصيحة فرصةً مواتيةً للمضيِّ في تنفيذ خطته، وهي العملُ في هذه المرحلة وبعد أن تَمَّ الخلاصُ من علي باشا الجزائرلي، على إضعاف المماليك وكسر شوكتهم بتأليبهم ضد بعضهم بعضًا.

وعلى ذلك فقد كَثُرَ انعقادُ المؤتمرات بين البرديسي ومحمد علي طوال اليومين التاليين، وأسفرتْ هذه المؤتمرات عن تدبير تلك الخطة التي خالف فيها البرديسي تقاليد وعادات المماليك القديمة، وهي تقاليد قال عنها «ماثيو لسبس» إنها تجعل المماليك ما داموا أتباعًا لسيد واحد يعتبرون أنفسهم من بيت واحد، فلا يرتكبون أعمالًا عدوانية تتسم بطابع الفظاعة والغدر المشين ضد بعضهم بعضًا، ومع أن البرديسي والألفي كانا من بيت مراد، فقد رأى البرديسي بعد مشاوراته مع محمد علي واتفاقه معه على الغدر والفتك بالألفي الكبير وبرجاله، فأرسلت الأوامر في ١٩ فبراير إلى رشيد وحاكمها يحيى بك البرديسي بقتل الألفي، ثم إلى سائر الأعيان في تلك الجهة بوقفه والقبض عليه.

وفي ليل ١٩-٢٠ فبراير قامت ثلاث حملات في وقتٍ واحدٍ، إحداها بقيادة البرديسي ضد حسين بك الوشاش الألفي في إمبابة، والأخريان بقيادة محمد علي ضد الألفي الصغير ومماليكه بالجيزة، ففوجئ حسين الوشاش، وقَتَلَه مماليكُ وكشافُ عثمان البرديسي غدرًا، وأما جيشا الأرنئود فقد استولى أحدهما على خيول الألفي الصغير في سهل الجيزة، بينما انقض الآخرُ على الجيزة نفسها، وهرب الألفيُّ الصغيرُ، ولكن الأرنئود بدلًا من مطاردته دخلوا الجيزة ونهبوها، واستمر النهب حتى يوم ٢٢ فبراير.

وعلم البرديسي في ٢١ فبراير أن الأوامر التي بعث بها إلى يحيى بك قد وصلتْ رشيد بعد فوات الفرصة، وأن الألفي قد غادرها قاصدًا إلى القاهرة، فخرج البرديسي ومحمد علي لملاقاته، وحشدا في النهر «النيل» قوارب كثيرة ملأى بالجند الأرنئود، وكان الألفي يجهل كل ما حدث وينطلق على ظهر «قنجة» أو ذهبية الوكيل الإنجليزي البطروشي رافعًا عليها العلم البريطاني، ففاجأه الأرنئود، وكان لم يبتعد عن منوف كثيرًا، واستطاع «الألفي» الإفلاتَ، بينما انقض الأرنئود على مراكبه المحملة بعتاده وبالهدايا التي جلبها معه من لندن، وقد بيعت هذه في أسواق القاهرة بعد ذلك.

واستمر الألفي في سيره حتى وصل قريبًا من «شبرا شهاب» أو الشهابية، وهناك علم بما وقع في القاهرة من رسول كان في طريقه إلى كاشف أو حاكم منوف سليمان بك البواب لإبلاغه بما وقع، فنزل الألفي من فوره إلى الشاطئ الشرقي ومشى مع مماليكه حتى وصلوا إلى ناحية «قرنفيل» ودخلوا إلى نجع عرب الحويطات وآوتْه امرأةٌ من الحويطات ثم أركبتْه فرسًا، وأصحبتْه دليلين هجانين، فساروا إلى قرب الخانكة، وهناك هاجمه أعرابٌ من قبيلة «بلي» وتُبودل بين الفريقين إطلاق النار، وأسرع البرديسي — الذي كان مع بعض البكوات في القليوبية يبحثون عن الألفي إلى مكان المعركة عند سماعه الطلقات الأولى، ولكن بعد فوات الفرصة؛ لأن الألفي كان قد استطاع النجاة مع دليليه وتوغلوا في الصحراء.

وأما محمد علي فقد سار بجُنده إلى منوف للقبض على سليمان كاشف البواب، ولكن هذا الأخير كان قد غادر المكان فاستولى محمد علي على معسكره، وأما البرديسي فقد بادر بإبلاغ «مسيت» منذ ٢٢ فبراير خبر مطاردته للألفي راجيًا أن لا يكون قد أغضب «جلالة ملك الإنجليز» بعمله هذا؛ «لأن «مسيت» نفسه يعرف جيدًا — كما قال البرديسي — أن عودة الألفي إلى السلطة سوف يترتب عليها استمرارُ الحرب ذات النتائج السيئة بين المماليك، علاوة على أن الألفي عدوٌّ للإنجليز؛ كما يدل على ذلك مسلكه في مالطة من جهة ثم صداقة أتباعه للوكيل الفرنسي من جهة أخرى»، وأما الألفيُّ فقد اختفى «بشرقية بلبيس برأس الوادي عند شخص من العربان يسمى عشيبة.»

وكتب لسبس إلى تاليران في ٢٣ فبراير معلقًا على هذه الحوادث «أن الأرنئود في شدة الفرح لِمَا حدث؛ إذ شاهدوا المماليكَ يبيدون أنفسهم بأنفسهم وساهموا هم؛ أي الأرنئود في هلاكهم، وصاروا لا يخشون الآن بأس مَنْ بقي منهم؛ ولذلك فإن زعماء الأرنئود يؤكدون له؛ أي لماثيو لسبس أنه بمجرد الانتهاء تمامًا من مسألة الألفي، فإنهم سوف يبلغون البرديسي بأنهم سيفعلون معه نفس ما فعلوه مع الألفي إذا لم يدفع لهم مرتبات ثمانية شهور، وينهبون القاهرة …» وكانت مشكلة مرتبات الجند هي المسألةُ التي واجهتْ حكومةَ البكوات مباشرة بعد القضاء على نُفُوذ الألفي وتشتيت أتباعه، وذلك في وقتٍ كانت هذه الحكومةُ فيه قد ضعفتْ ضعفًا كبيرًا وتألب القاهريون ضدها بسبب سوء إدارتها.

خامسًا: سوء الحكم والإدارة

فقد عجز البكوات منذ أن دانت لهم السلطة في القاهرة عقب مقتل طاهر باشا عن إقامة الحكومة القوية التي تستطيع إعادة الهدوء والسكينة إلى العاصمة، وتعمل على استقرار الأوضاع بها، وقد عرضنا في أثناء هذه الدراسة بعض أسباب هذا العجز، ومنها تقدم السن بإبراهيم بك لدرجة أفقدتْه القدرة على كبح جماح سائر البكوات، أمثال حسين الزنطاوي والألفي الصغي، الذين اشتطوا في إساءة معاملة الأهلين وابتزاز الأموال منهم، بينما شغل البرديسي بمطاردة خسرو باشا أولًا ثم مناجَزة علي الجزائرلي وأخيرًا مطاردة الألفي، ومنها خُلُوُّ الخزينة من المال بسبب الفتن الأخيرة المنتشرة في طول البلاد وعَرْضِها والتي نجم عنها كسادُ التجارة وتعطيل الزراعة، فنضب مَعينُ الإيرادات العامة، كما زاد الحالَ سوءًا نقصُ النيل نقصًا فاحشًا (سبتمبر ١٨٠٣) وتهديد القاهرة بالمجاعة.

ثم ما جرى عليه البكوات والكشاف والمماليك من الاستيلاء على الغلال والحبوب وتخزينها؛ لبيعها بأثمان مرتفعة للأهلين، فعَمَّ الاضطرابُ القاهرة، ثم زاد من حدته انتشار الجند الأرنئود حلفاء البكوات يعتدون على القاهريين ويؤذونهم في أرواحهم وأموالهم، وعجز البكوات عن كبح جماح الأرنئود لأنهم لم يستطيعوا دفع مرتباتهم لهم، ولأنهم كانوا في حاجة مستمرة لتحالُفهم معهم.

ولم يشأ البكوات — على نحو ما أوضحنا سابقًا — أن يتحملوا هم نفقات هؤلاء الأجناد من جيوشهم، أو على الأقل شطرًا منها، بل استأثروا لأنفسهم — على النقيض من ذلك — بكل ما وصلتْ إليه أيديهم من المغارم التي حَصَّلُوها أو الأموال التي صادروها في دمياط ورشيد وسائر البلدان والقرى في الوجه البحري، خصوصًا في أثناء عملياتهم العسكرية ضد خسرو وعلي الجزائرلي، واعتمدوا لذلك على ما قد يستطيعون الحصولَ عليه من المغارم والإتاوات التي صاروا يفرضونها على الأهلين وسكان القاهرة من وطنيين وأجانب.

ويذكر الشيخ الجبرتي كما يذكر الوكلاء الإنجليز في القاهرة الشيء الكثير من هذه المظالِمِ التي زادتْ من حروجة الحال في القاهرة والأقاليم على السواء، وانتهى بها الأمرُ بتحريك الأهلين على الثورة ضد البكوات، وأعطت «محمد علي» الفرصة لتدبير طردهم من العاصمة وإنهاء سلطانهم بها، فذكر الشيخ الجبرتي في حوادث «شهر ربيع الأول ١٢١٨ﻫ/١٣ يوليو ١٨٠٣م» أن جوخدار البرديسي سافر «إلى ولاية الغربية، وكان شاهين كاشف المُرادي هناك يجمع الفردة، وتوجه إلى طنتدا «طنطا» وعمل على أولاد الخادم ثمانين ألف ريال، فحضروا إلى مصر ومعهم مفاتيحُ مقام سيدي أحمد البدوي هاربين، وتشكوا وتظلموا وقالوا لإبراهيم بك لم يبق عندنا شيء؛ فإن الفرنساوية نهبوا وأخذوا أموالنا.»

وذكر في حوادث «شهر جمادى الأولى ١٢١٨ﻫ/٢٧ أغسطس ١٨٠٣م»، أن البكوات «أرادوا عمل فردة وأُشيع بين الناس ذلك فانزعجوا منه، واستمرَّ الرجاءُ والخوفُ أيامًا، ثم انحطَّ الرأي على قبض مال الجهات ورفع المظالم والتحرير من البلاد والميري عن سنة تاريخه من الملتزمين ويؤخَذُ من القبط ألف وأربعمائة كيس، هذا مع تَوَالِي وتتابُع الفرد والكلف على البلاد حتى خرب الكثير من القرى والبلاد وجلا أهلها عنها خصوصًا إقليم البحيرة فإنه خرب عن آخره.»

واستمر الحال على ذلك حتى إذا ظهر نقص النيل «في منتصف هذا الشهر» (٣ سبتمبر) «وصار الأمراء يأخذون الغلال القادمة إلى بولاق بمراكبها قهرًا عن أصحابها ويخزنونها لأنفسهم قَلَّت الغلة وعَزَّ وجودُها في العرصات والسواحل، وقل الخبز من الأسواق والطوابين وداخل الناسَ وهمٌ عظيم … واجتمع بعض المشايخ وتشاوروا في الخروج إلى الاستسقاء فلم يمكنهم ذلك لفقد شروطها، وذهبوا إلى إبراهيم بك وتكلموا معه في ذلك، فقال لهم وأنا أحب ذلك، فقالوا له وأين الشروط التي من جملتها رفع المظالم وردها والتوبة والإقلاع عن الذنوب؟ فقال لهم هذا أمرٌ لا يمكن ولا يُتصور، ولا أقدر عليه، ولا أحكم إلا على نفسي. فقالوا إذن نهاجر من مصر، فقال: وأنا معكم، ثم قاموا وذهبوا.»

ولم تسفر مساعي المشايخ عن شيء، بل لم يلبث البكوات — في أول أكتوبر — أن أنزلوا فردة أيضًا على أهل البلد ووزعوها على التجار وأرباب الحِرَف، كل طائفة قدر من الأكياس خمسون فما دونها إلى عشرة وخمسة، وبث الأغوات للمطالبة فضج الناس وأغلقوا حوانيتهم وطلبوا التخفيف بالشفاعات للوسايط والنصارى … واشتدت أزمة الغلال وارتفعت أسعارها في «السوق السوداء»، فضج الناس وشح الخبر من الأسواق «وخاطب بعض الناس الأمراء الكبار في شأن ذلك واستمر الحال على ذلك إلى آخر الشهر (٦ أكتوبر)، وتسلط العسكر والمماليك على خطف ما يصادفونه من الغلة أو التبن أو السمن … وإن حضرت مركب بها غلال وسمن وغَنَم من قِبْلي أو بَحْري؛ أخذوها ونهبوا ما فيها جملة، فكان ذلك مِن أعظم أسباب القحط والبلاء».

وفي ٢٠ أكتوبر «اجتمع المشايخ وذهبوا إلى إبراهيم بك وكلموه بسبب ما أخذوه من حصة الالتزام بالحلوان أيام العثمانيين ثم استولى على ذلك جماعتهم»؛ أي جماعة البكوات، وقد استمرتْ هذه المظالم ولم يغن توسط المشايخ أو احتجاجهم فتيلًا في رفعها، وفي نوفمبر كتب الشيخ الجبرتي: «كثر عبث العسكر وعربدتهم في الناس فخطفوا عمائم وثيابا وقبضوا على بعض أفراد وأخذوا ثيابهم وما في جيوبهم من الدراهم»، ولم يستطع البكوات منع اعتداءات العسكر، ولم تُفِدْ مناداتهم «بالأمن والأمان للرعية» أو تنبيههم على الناس «إن وقع من العسكر أو المماليك خطفُ شيء يضربوه وإن لم يقدروا عليه فليأخذوه إلى حاكمه، ومثل هذا الكلام الفارغ»؛ لأن العسكر «بعد مرور الحكام بالمناداة خطفوا عمائم ونساء!»

وفي ١٦ ديسمبر «قرروا فردة على البلاد برسم نفقة العسكر … وعبث العسكر وخصوصًا بالأرياف»، وفي ٢٧ يناير ١٨٠٤ حاول البرديسي أن يحصل عَنْوَةً من الشيخ السادات على «عشرين ألف ريال سلفة» ولم يردَّه عن الشيخ سوى تدخل عديلة هانم ابنة إبراهيم بك، وانتهز المشايخ فرصة وصول صالح أغاقابجي باشا من القسطنطينية يحمل فرمانًا بتاريخ ٢٠ يناير ١٨٠٤ باسم علي الجزائرلي والقاضي في مصر وإبراهيم بك شيخ البلد وعثمان بك البرديسي وسائر البكوات ومفتي المذاهب الأربعة وعلماء الأزهر الشريف وضباط الوجاقات السبع ورؤساء القضاة في القاهرة، ويتضمن «ولاية علي باشا والأوامر المعتادة» وانعقاد الديوان لقراءة هذا الفرمان في ٢ فبراير ١٨٠٤ «فتكلم الشيخ الأمير في ذلك المجلس وذكر بعض كلمات ونصائح في اتباع العدل وتَرْك الظلم وما يترتب عليه من الدمار والخراب، وشكا الأمراءُ المتآمرون من أفعالِ بعضهم البعض وتَعَدِّي الكشاف النازلين في الأقاليم وجورهم على البلاد وأنه لا يتحصل لهم من التزامهم وحصصهم ما يقومُ بنفقاتهم «فاتفق الحال على إرسال مكاتبات للكشاف بالحضور والكف عن البلاد»، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث واستمرت المظالم واستمرت الفوضى.

وأما الوكلاء الأجانب، فقد ظلوا يشكون كذلك من عسف الحكومة المملوكية، ومن المظالم والإتاوات التي فرضوها على رعايا دولهم والداخلين تحت حمايتها، فشكا «ماثيو لسبس» في ٢٢ أغسطس ١٨٠٣ من الإتاوات الشديدة التي فَرَضَها البكوات على المسيحيين بما في ذلك المحميين الفرنسيين، وصار يطالب البكوات بدفع تعويض للمسيو «مانجان» Mengin الذي ظل يزاول التجارة في مصر بعد خروج الفرنسيين منها، كما استمر يبذل قصارى جهده لحماية مصالح البيوت التجارية الفرنسية في القاهرة لأصحابها «كاستينل ولونيل» Castinel er Lionel، «وكاف» Caffe، و«روييه» Royer إلى جانب «مانجان»، ثم بيت المحميين الفرنسيين جورج عبده وإلياس عبده، ثم استمر يشكو في ٢٤ أكتوبر ١٨٠٣ من مظالم البكوات وسوء الحالة العظيم في القاهرة، وقال إن مبعث ذلك حاجةُ البكوات إلى المال لدفع مرتبات الأرنئود.

وقد فرض البكوات قرضًا على الأجانب من مائتي كيس بضمانة الجمرك والميري، واضطر القنصل النمساوي «روشتي» والقنصلان الإنجليزي «مسيت» والفرنسي «لسبس» إلى الموافقة على النصح لمواطنيهم ومحمييهم بدفعها إزاء تهديد الأرنئود خصوصًا بنهب المدينة، وبسبب عجز البكوات الظاهر عن ردعهم لضعفهم، ولانتشار الخلافات والانقسامات بينهم، وفي يناير ١٨٠٤ ظلت شكاوى لسبس تترى على حكومته من فظائع الأرنئود الذين ينهبون ويقتلون السكان في وسط الأسواق ذاتها، وفي ٧ فبراير كتب إلى حكومته أن هؤلاء الأرنئود الذين لم تدفع لهم مرتباتهم صاروا يهددون بالقيام بحركة عنيفة في القاهرة، ثم عاد في ٢٣ فبراير يردد ما قاله ويذكر كيف أن الأرنئود قد تطرفوا في فظائعهم التي يرتكبونها ضد الأهلين وسكان القاهرة عمومًا وبخاصة بعد عودتهم إليها عقب مقتل علي باشا الجزائرلي، فضلًا عن مطالبتهم المستمرة بمرتباتهم المتأخرة، بمائتي كيس بدعوى إرسال قافلة الحج بالمحمل إلى الحجاز.

وأما «مسيت» الوكيل الإنجليزي فإنه لم ينقطع هو الآخر عن إظهار أسباب ضعف حكومة البكوات في رسائله التي بعث بها إلى حكومته من وقت دخول هؤلاء إلى القاهرة، والتي أشرنا إليها في مواضع كثيرة سابقة، ومنذ ٢٨ أكتوبر ١٨٠٣ كتب إلى «هوبارت» يقيم الدليل الساطع على فساد حكومة البكوات في نظره بذكر مثال واحد هو ما بلغه «روشتي» قنصل النمسا والروسيا العام في مصر من شأو في عهدهم، فقال: «إن روشتي كان في عهد حكومة خسرو باشا من جملة الأغنياء المعروفين بعدائهم للبكوات، ولكنه صار الآن — بفضل أمواله — صاحب نفوذ عظيم معهم، فقد سمع «مسيت» البكوات أنفسهم عندما كانوا بالجيزة مع الجنرال ستيوارت، وكذلك في أثناء حملتهم في الدلتا، يعلنون أن «روشتي» هذا سوف يكافأ على خيانته وعدم عرفانه بجميلهم عليه إذا استرجعوا السلطة في البلاد، ومع ذلك فقد استطاع «روشتي» بسبب توزيعه المال والهدايا عليهم وعلى كبار ضباطهم منذ عودتهم إلى القاهرة أن يستل سخيمتهم وأن يزيل نفورهم منه، بل وأنشأ معهم صلات لخيره ومصالحه على أساس ثابت مكين، وعلى غرار ما كان الحال بينه وبينهم عليه قبل الغزو الفرنسي.»

وفي فبراير ١٨٠٤ بعث مسيت برسالة مطوَّلة إلى حكومته يشكو من محاولة البرديسي إلزام بعض الرعايا البريطانيين الذين يُزاولون التجارة في القاهرة بدفع رسوم على بُنٍّ مستورد من مخا لحسابهم، زيادة على الرسم المقرر عليه وهو ٣٪، وذلك كما قال «مسيت» بتحريض من حسين بك الزنطاوي، وخشي التجارُ على أنفسهم وأموالهم فدفعوا ما طلبه البرديسيُّ منهم، ثم لم تمض أيامٌ قليلةٌ حتى طلب البكوات من وكلاء الدول الأجنبية قرضًا بمائة وخمسين كيسًا، يجمع من كل الأوروبيين ومحميي دولهم في القاهرة، وهدد البرديسي بإنقاذ حسين الزنطاوي إلى حي الإفرنج ليجمع منهم ٢٠٠ كيس عنوة سواء وافق القناصلُ أم لم يوافقوا، واضطر مسيت إلى التهديد بالدفاع عن بيته بقوة السلاح إذا حصل اعتداء عليه، واعتذر البكوات، ولكنه وجد أن الحياة لم تعد آمنة بالقاهرة، فغادرها في ٢٣ فبراير إلى الإسكندرية، وكتب «ماثيو لسبس» في اليوم نفسه «إن مسيت بعد أن احتج بشدة لدى البرديسي وإبراهيم بك على ما فَعَلَاهُ ضد الألفي الذي هو تحت الحماية الإنجليزية لم يلبث أن أعلن إليهما أن «هالويل» قائد الفرقاطة الإنجليزية التي حملت الألفي إلى أبي قير قد دعاه لمقابلته …»

وأما «لسبس» فقد استطاع هو الآخر مغادرةَ القاهرة في ٢٧ فبراير، فبلغ الإسكندرية في ٤ مارس وكتب في اليوم التالي لوصوله يشرح الأسباب التي دَعَتْه لاتخاذ هذه الخطوة، ومنها «إمعان البكوات في إهاناتهم للمواطنين والمحميين الفرنسيين، وفي وقاحاتهم، وأن عثمان البرديسي الذي أراد قبل ذلك إرغام المواطن كاف على دفع خمسة آلاف ريال أبو طاقية؛ بدعوى حاجته إليها لدفعها للجند الأرنئود وتسريحهم؛ قد أعطى حوالة عليه بهذا المبلغ لحسين بك الزنطاوي حتى يتولى هذا الأخيرُ إرغامَه على دفعها، ثم إن البرديسي لا يزال يطلب من تاجر نمساوي ظل مقيمًا بالقاهرة — ثلاثين كيسًا، ويطلب من «روشتي» خمسين كيسًا بدعوى دفع مرتبات الجند منها، كما طلب الخراج من المحميين الفرنسيين»، وفي هذه الرسالة ذكر «لسبس» أن «روشتي» يستعد للرحيل من القاهرة بحجة تبديل الهواء في الإسكندرية، بينما غادر القاهرة أو صار على وشك مغادرتها كُلُّ الأوروبيين الذين لم تُرغمهم ظروفهم على البقاء بها.

تلك إذن كانتْ حالُ القاهرة، بعد أن استمر حكام البكوات بها أقل من عام واحد فحسب: مظالم ومصادرات، واعتداءات من الجند على الأهلين، وتذمر وسخط شديد من جانب الأهلين والمشايخ على حكومة البرديسي وإبراهيم المستبدة والضعيفة. وليس من شك في أن مبعث أكبر الصعوبات التي صادفتها هذه الحكومة كان تمرد الجند وعصيانهم ومطالبتهم بمرتباتهم المتأخرة، وعجز البكوات عن دفعها، وكانت أزمة المرتبات هذه الصخرة التي تحطمت عليها حكومتهم العاجزة أخيرًا.

(٣) انقلاب «١٢-١٣ مارس» وطرد البكوات من القاهرة

اعترف الباب العالي بحكومة البكوات الفعلية منذ وصول فرمانه إليهم في نوفمبر ١٨٠٣ يحمل ترتيبات الوضع الجديد وعفو السلطان العثماني وصفحه عنهم، ومع أن البكوات لم يرضَوا عن هذه الترتيبات للأسباب التي ذكرناها في موضعها؛ فقد عقدوا العزم على مُواصلة مساعيهم في القسطنطينية للحصول على شروط أفضل، ولم ينعدم الرجاء في إمكان إقناع الباب العالي بالتسليم والرضوخ للأمر الواقع، إذا ثابر البكوات على هذا المسعى، واستمر يتوسط الإنجليز والفرنسيون لصالحهم في القسطنطينية.

وفضلًا عن ذلك فإنه لم يَبْدُ من جانب الباب العالي — منذ أن بعث بعلي باشا الجزائرلي واليًا على مصر وقرر ترتيباته الأخيرة لحكومة البلاد — ما يدل على أنه قد اعتزم تغييرَ هذه السياسة، بل إن الفرمان الذي أصدره الباب العالي في ٢٠ يناير ١٨٠٤، وحمله صالح أغاقابجي باشا إلى مصر جاء خلوًّا من ذكر الجمارك والالتزام وغيره — على حد تعبير الشيخ الجبرتي — مما كان ذكره «علي باشا الجزائرلي»، أو ما جاء — بتعبير أَدَقَّ — في الفرمان الصادر في ٥ سبتمبر ١٨٠٣ والذي سبق الحديث عنه.

وفي فبراير ١٨٠٤ قرأ البكوات فرمانًا «وصل من الدولة لعلي باشا الجزائرلي والأمراء بتشهيل أربعة آلاف عسكري وسفرهم إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين، وإرسال ثلاثين ألف إردب غلال إلى الحرمين»؛ أي أن اعتراف الباب العالي بحكومة البكوات أو مشيختهم استمر إلى الوقت الذي كانت قد أخذت تبدأ فيه الحوادث التي انتهت بطرد حكومتهم من القاهرة.

وسواء كان اعتراف الباب العالي بحكومتهم وقتيًّا — ولا يثق البكوات في إخلاص الوزراء العثمانيين وصدق نواياهم نحوهم بالرغم من وعود الصفح والغفران، وقد أشار مسيت إلى ذلك عندما ذكر لحكومته في ٤ فبراير أن ذلك كان موقف البكوات من الباب العالي بالرغم «من الفرمانات الكثيرة التي صارت تصل إليهم من الباب العالي في هذه الأيام تخوِّلهم امتلاكَ مصر» — أم كان الباب العالي مخلصًا في نواياه؛ فقد كان لدى البكوات الفرصة السانحة لتعزيز حكومتهم الفعلية في مصر لو أنهم لم يرتكبوا تلك الجريمة السياسية التي أودت بحياة علي الجزائرلي، ممثل الباب العالي الشرعي في البلاد، فقد كانوا أصحاب السيطرة الفعلية في البلاد بأسرها ما عدا الإسكندرية، وكان من المحتمل — وعلى نحو ما استهدف البكوات أنفسهم في أول الأمر — أنْ تخضع الإسكندرية ذاتها لسلطانهم بعد انتقال الجزائرلي إلى القاهرة، ولكنهم بقتل علي الجزائرلي، خَلقوا لأنفسهم متاعبَ ومشاكلَ كثيرةً لم يستطيعوا التغلب عليها، وأفضتْ إلى سقوطهم.

ولعل أهم النتائج التي ترتبتْ على الفتك بعلي الجزائرلي من حيث مصير الحكومة المملوكية أَنَّ صفح الباب العالي عنهم واعترافه بحكومتهم في النظام الذي صدر به فرمانه إليهم وإلى علي باشا في ٥ سبتمبر ١٨٠٣ قد سقط الآن في الهواء، ووقف البكوات بفعلتهم موقف الثوار والعصاة من صاحب السيادة الشرعية على البلاد، وحرمتْ حكومتُهم من ذلك السند الشرعي الذي كان لا غنى لها عنه في نظر الأهلين خصوصًا لاستقامة أوضاعِ الحكم في مصر، فقد تقدم كيف أن أصحاب كل انقلاب من الانقلابات الماضية كانوا يستكتبون المشايخ والعلماء رجال الشرع العرائضَ للسلطان؛ لتبرير ما حدث، ولحمل الباب العالي على إقرار الأوضاع الجديدة.

أما البكوات فلم يستطيعوا بعد قتلهم علي باشا استكتابَ المشايخ مثل هذه العرائض، واستمر الأهلون ينظرون إليهم كمجرمين، ثم ازداد حنقهم على البكوات بسبب سُوءِ إدارتهم وما وقع على الأهلين من مظالمَ فادحةٍ في عهدهم.

وقد نجم عن افتقار حكومتهم إلى هذا السند الشرعي، وإقدامهم على ارتكاب هذه الجريمة السياسية — مقتل علي الجزائرلي — أنْ زاد اعتمادهم من الآن فصاعدًا على الأرنئود وزعيمهم محمد علي بالرغم من اقتناعهم بأن الواجب يقتضيهم التخلصَ من هؤلاء الأرنئود بكل وسيلة وبأقصى سرعة ممكنة، وكان في اعتمادهم على الأرنئود وزعيمهم محمد علي هلاكُهم.

فقد ازدادت شرور الأرنئود في القاهرة خصوصًا عقب مقتل الجزائرلي، وعَجْز البكوات عن رَدْعهم؛ لأنهم بعد فتكهم بعلي باشا لم يكونوا في وضعٍ يُمَكِّنهم من تحطيم محالفتهم معهم، بسبب بقاء الإسكندرية معقلًا عثمانيًّا بعيدًا عن سلطانهم، وبسبب تفرُّق كلمتهم وعزمهم على مطاردة الألفي، بل إن البكوات إزاء مطالبة الأرنئود الصاخبة والمتكررة بمرتباتهم المتأخرة؛ لم يجدوا مناصًّا من فرض الإتاوات والمغارم على الأهلين.

وعبثًا صار المشايخُ يتوسطون لديهم لرفعها، ويذكر «ماثيو لسبس» في رسالة له إلى «دروفتي» في ٢١ يناير ١٨٠٤ ثم في رسالة أخرى إلى «تاليران» في اليوم نفسه أن المشايخ عندما شكوا إلى البكوات من أعمال النهب والقتل التي تقع يوميًّا من الأرنئود، أجاب البكوات بأنهم ليسوا على درجة من القوة تمكنهم من محاصرة الأرنئود داخل أسوار القاهرة والقضاء عليهم، ولكنهم وعدوا المشايخ «بأن يوم الانتقام قريب.»

واعتقد «لسبس» أن البكوات سوف ينتهزون فرصةَ إرسال جُند على الجزائرلي إلى الشام أو إلى مكة بحراسة عدد كبير من الأرنئود، وابتعاد هؤلاء الأخيرين عن القاهرة تبعًا لذلك، فيوقعون بالباقين منهم بالقاهرة والجهات الأخرى ويُهلكونهم رويدًا رويدًا.

وكان وقوفُ البكوات على محاولات علي الجزائرلي مع الأرنئود لاستمالتهم إلى تأييده؛ من الأسباب التي جعلتْهم يُبيِّتون النية على الفتك بهم في أول فرصة سانحة، ولكن ذيوع مثل هذه الشائعات جعل الأرنئود وقتئذ يصممون على العودة إلى القاهرة مع جند علي باشا، وقال «لسبس» «ويا لويل القاهرة التعيسة عندئذ من رجوع الأرنئود إليها!»

وزادت غطرسة الأرنئود بعد عودتهم إلى القاهرة واشتطوا في اعتداءاتهم على الأهلين، ثم لم يلبث أنْ زاد الحال سوءًا بعد حادث مطاردة الألفي الكبير، وفي فبراير ١٨٠٤ كتب «مسيت» إلى حكومته أن البرديسي يشكو مُرَّ الشكوى من عجزه عن اتخاذ أية وسائلَ لِحِفظ البلاد من الغزو الأجنبي — الموضوع الذي يهتم به مسيت قبل أي شيء آخر للأسباب المعروفة — وذلك بسبب وجود الأرنئود الذين لا نِظام لهم والذين كانوا متمردين على البكوات، والذين لا يُمكن الاعتمادُ عليهم بحال من الأحوال؛ لما يُثيره وجودُ البرديسي نفسه على رأس الحكم من عوامل الحسد والغيرة في نفوسهم، وصار البرديسي — لذلك — ينتظر وصول نجدة بريطانية «ومن الهند على نحو ما مَنَّاهُ به مسيت نفسه» لطرد الأرنئود وإعادة الهدوء والسكينة إلى البلاد.

وأما الأرنئود فقد استمروا في غيهم، كما زاد من عجرفتهم أنهم صاروا كذلك ينظرون للبكوات بعين الاحتقار الشديد بعد أن شاهدوا انقسامَهم على أنفُسهم، وخروج البرديسي لمطاردة الألفي ضاربًا عرض الحائط بكل الاعتبارات التي كان من الواجبِ أن تمنعه من مقاتلة أخ وشقيق له.

وتوقف مصير حكومة البكوات في القاهرة على مسلك محمد علي زعيم هؤلاء الأرنئود، وكان محمد علي قد صح عزمه هو الآخر على القضاء على حكومتهم وطردهم من القاهرة، واستهدف محمد علي من القيام بهذا الانقلاب الذي بيت النية عليه تحقيقَ مزايا عدة، فقد كان واجبًا عليه وعلى سائر الرؤساء الألبانيين مغادرة البلاد؛ نزولًا على رغبة الباب العالي التي أفصح عنها في فرمانه أو أمره الصادر للأرنئود في ٢ سبتمبر سنة ١٨٠٣، وكان معنى خروجه ضياع كل ما بذله من جهود لتمكينه من السيطرة والنفوذ في البلاد منذ مقتل طاهر باشا، لا سيما وقد صار في ظل الحكومة المملوكية وتحت ستارها القوة المحركة في مصر، وفي استطاعته — كما أوضحنا سابقًا — إذا هو عرف كيف يفيد من المركز الذي صار له — أن يستأثر في آخر الأمر بالباشوية ذاتها.

زد على ذلك — وعلى نحو ما كتب «مسيت» في ١٢ مارس ١٨٠٤ — أنه وقد سبق له أن شق عصا الطاعة على السلطان، لم يكن واثقًا من صدق نوايا الباب العالي نحوه وأن الباب العالي سوف يغفر له ولسائر الرؤساء الأرنئود — الذين كانوا في وضع مشابه لوضعه — كل ذنوبهم وخطاياهم السابقة.

بل إن مسيت لم يلبث أن عزا في رسالته هذه السبب الذي جعل «محمد علي» يتودد إلى «ماثيو لسبس» ويسعى لكسب صداقته، إلى رغبة محمد علي في الاستناد على مناصرة فرنسا له ضد مكائد الباب العالي الذي توقع محمد علي أنه لن يعدم الوسيلة — إذا هو عاد إلى وطنه — للقضاء عليه واغتياله سرًّا فلم يكن في نيته لذلك مغادرة مصر وتركها.

واشترك محمد علي في مؤامرة دعوة علي الجزائرلي إلى القاهرة، وكان في صالحه — ولا شك — التخلص من الجزائرلي، ولو أنه لم يشترك في تدبير تلك الجريمة السياسية التي ارتكبها البرديسي، وكان هو وحده المسئول عنها، والتي أوقفت المماليك والبكوات وجهًا لوجه وفي عداء سافر أمام القسطنطينية، ومع ذلك فقد كان واضحًا بسبب محالفته مع البكوات أنه لا مفر من أن يتحمل هو الآخر شطرًا من هذه المسئولية سوف تزداد خطورته بمرور الأيام، وطالما بقي إلى جانب البكوات، يعمل معهم ويشد من أزرهم، وطالما ظل ممتنعًا عن إطاعة أوامر السلطان، ومبارحة القطر للعودة إلى وطنه مع سائر الرؤساء والجند الأرنئود، فكان لا مناص حينئذ من أن يقوم بعمل أو انقلاب يتوخى منه زوال صفة العصيان والتمرد عنه، ويقيم الدليل على أنه إنما يريد إرجاع هذه البلاد إلى حظيرة الدولة ويقضي على خصومها، فيسترد بذلك رضا الباب العالي عنه، وحتى يضرب الباب العالي صفحًا عن أوامره السابقة لإبعاده من مصر، ويصير ينظر إليه كالرجل الذي لا غنى عن بقائه في مصر لتعزيز سلطان صاحب السيادة الشرعية عليها.

وكان لا سبيل لتحقيق هذه الأغراض كلها إلا بطرد البكوات من القاهرة، وبعد حادث انقسام البكوات الأخير ومطاردة البرديسي للألفي لم تعد هذه بالمهمة الشاقة العسيرة.

ووجد محمد علي المسوغ لانتقاضه على البكوات وفصم عُرا محالفته معهم عندما قال «لماثيو لسبس» — وأبلغ «لسبس» ذلك إلى حكومته في ٥ مارس ١٨٠٤ — «كيف يمكنني الاعتماد على هؤلاء البكوات؟ لقد ارتكبوا جرمًا لا يُغتفر هو أشد ما يمكن أن يحدث فظاعة وبشاعة، عندما غدروا بأخيهم ورفيقهم وصديقهم «محمد الألفي»، ونحن أعداؤهم الطبيعيون، فماذا ننتظر منهم؟»

واعتمد محمد علي في تدبير انقلابه على الأرنئود الذين تحت زعامته، كما وجد في تَذَمُّر المشايخ والقاهريين من البكوات وسخطهم عليهم لمظالمهم فرصةً مواتية لزيادةِ متاعب البكوات وإرباكهم بتحريض المشايخ والرؤساء الشعبيين على الثورة عليهم، وكان ذلك كله سهلًا ميسورًا بسبب عجز البكوات عن دفع مرتبات الجند، وبسبب لجوء البكوات لفَرْض الإتاوات والمغارم على الأهلين لدفع هذه المرتبات ذاتها.

ولا جدال في أن «محمد علي» كان هو بنفسه محرك الثورة التي بلغتْ ذروتها في القاهرة بين ٨ و١٣ مارس وأنهتْ حكومة البكوات في مصر وقضت قضاء مبرمًا على كل أمل في استرجاع سلطانهم السابق، بالرغم من كل المحاولات التي قاموا بها لاسترداد هذا السلطان المفقود بعد ذلك.

وكان مما ساعده في خطته، أن عثمان البرديسي ظل يثق في صداقته وولائه له ويستمع لنصحه حتى اللحظة الأخيرة، كما حرص محمد علي منذ أن صح عزمه على تدبير هذا الانقلاب، على أن يَظهر دائمًا بمظهر مَن يريد مواساة القاهريين في محنتهم التي سَبَّبَتها مظالمُ البكوات، وأن ينشئ صلاته بالمشايخ ويعمل على توثيقها.

وكان أول اضطراب كبير أحدثه الأرنئود بسبب مرتباتهم المتأخرة في ٢٧ يناير ١٨٠٤، ذكر «لسبس» حوادثه مفصلة في رسالته التي أشرنا إليها سابقًا (٥ مارس)، فقال: إن الأرنئود احتشدوا أمام بُيُوت رؤسائهم: محمد علي وأحمد بك وحسن بك، وحبسوهم بها «وأعلنوا عزمهم على ذبحهم إذا لم تدفع لهم مرتباتهم»، وكذلك حاصر الأرنئود الحي الذي به منزل عثمان بك البرديسي، فاضطر هذا لدفع جزء من هذه المرتبات للجند ووعد بأن يدفع بعد عشرين يومًا مرتبات شهرين، ثم بعد أربعين يومًا دفعة أُخرى بشريطة تنازُل العسكر عن باقي المتأخر من رواتبهم، ووافق ضباط الأرنئود على هذا الحل، ولكنها — كما قال «لسبس» — «كانت موافقة في الظاهر فقط، واستمر مرجل الاضطراب يغلي من الباطن، وأُغلقت الأحياء وأَغلق الأهلون بيوتهم على أنفسهم، وظل التعدي على الناس في تطرفه، وتوقع الجميع نهب المدينة.»

واستمرت الاضطرابات في القاهرة، وتجدد تمرد الأرنئود على البكوات عندما طلب البرديسي منهم في أواخر فبراير السير إلى الفيوم لمطارَدة أتباع الألفي الذين اجتمعوا بها، وأصدر زعماء الأرنئود أمرهم إلى جُندهم بذلك، ولكن هؤلاء — كما ذكر «مسيت» في رسالة له إلى «هوبارت» من الإسكندرية في ٦ مارس — سرعان ما حاصروا منازل قوادهم «وكان موجودًا بأحدها — بوجه الصدفة — عثمان بك البرديسي، وأظهر الأرنئود تصميمَهم على أن يُلزموه بالبقاء في هذا المنزل محاصَرًا حتى ينالوا مرتباتهم، ثم هددوا بنهب القاهرة» إذا ظل البرديسي لا يدفع لهم هذه المرتبات.

وسلك محمد علي في أثناء الأزمات التي أثارها الجنود الأرنئود مسلك مَن يُريد التهدئة والتسكين، وقام دائمًا بدور الوسيط بين الجُند والبكوات، بل إنه في سبيل حسم الخلاف بين الفريقين لم يتردد عن الذهاب مع الأرنئود الذين قصدوا البرديسي في بيته في ٢٤ فبراير يُطالبونه بدفع مرتباتهم، وأُتيحت لمحمد علي الفرصة حتى يظهر بمظهر من لا حيلة له ولا قوة إزاء إصرار الجند على نوال حقهم، وأنه مرغم على الانصياع لهم ولا سلطان له عليهم في هذه المسألة، مشيرًا على البرديسي في الوقت نفسه لتهدئة الجند بضرورة طَرْق كل سبيل لجمع اللازم لدفع مرتباتهم.

فكان لدفع هذه المرتبات أنْ فرض البرديسي — أو حكومة البكوات — تلك الإتاوات على التجار والرعايا والمحميين الأجانب — التي سبقت الإشارة إليها — وقد أرغم «روشتي» على إقراض البكوات ٢٥٠٠٠ قرش بهذه المناسبة، ولكن ما جمعه البكوات من طريق القروض أو المصادرة والمغارم لم يَكْف لدفع مرتبات الجند عندما بلغ المطلوب ٣٧٠٠ كيس، على نحو ما ذكر «روشتي» نفسه بوصفه قنصل روسيا العام في مصر للمبعوث الروسي في القسطنطينية «ديتالنسكي» D’Italinsky في ١٢ مارس ١٨٠٤.

ولذلك اضطر البرديسي في ٧ مارس إلى «عمل فردة على أهل البلد، وتصدى لذلك المحروقي، وشرعوا في كتابة قوائم لذلك ووزعوها على العقار والأملاك أجرة سنة يقوم بدفع نصفها المستأجر والنصف الثاني يدفعه صاحب الملك»، فثارت القاهرة.

فقد تحمل القاهريون مظالم البكوات السابقة، وتوسط مشايخهم لدى البكوات مرارًا لرفعها دون جدوى، ولما كان الضنك والبؤس قد بلغا منتهاهما، فقد «نزل بالناس ما لا يوصف من الكدر مع ما فيهم من الغلاء ووقف الحال» عندما شاهدوا كتاب الفردة والمهندسين «ومع كل جماعة شخصٌ من الأجناد يطوفون بالأخطاط يكتبون قوائمَ الأملاك ويصقعون الأجر»، فكثرت الاحتجاجات ورفض الفقراءُ والجسورون الدَّفْع، واشتبك الأهلون مع عمال الفردة في مناقشات حادة، واجتمعت الجماهير في الجوامع وخرج الفقراء والعامة والنساء «طوائف يصرخون وبأيديهم دُفُوف يضربون عليها، والنساء يندبن وينعين ويقلن كلامًا على البكوات مثل قولهن «أيش تأخذ من تفليسي يا برديسي؟» وصبغن أيديهن بالنيلة»، وذهبت الجماهير إلى الأزهر يطلبون وساطة المشايخ لدى البكوات، واضطر البكوات إلى إبطالها (٨ مارس).

وكان لهذه الثورة نتائج خطيرة مباشرة، فقد أخافت البكوات الذين أربكتهم هذه المقاومة الغير المنتظرة من جانب الشعب، كما بصرت «محمد علي» بعواقب إرجاء تنفيذ خطوته الأخيرة؛ لأنه كان من الواضح — إذا استمر هياج القاهريين أن ينقلب هذا الهياج كذلك ضد الأرنئود بسبب اعتداءاتهم على هؤلاء وفظائعهم التي ارتكبوها معهم، فيصبح الأرنئود محصورين بين قوتين: قوة البكوات والمماليك الذين كانوا يريدون — على نحو ما أوضحنا سابقًا — التخلص منهم بقدر رغبة محمد علي نفسه في التخلص من البكوات وحكومتهم، وقوة الشعب الذي يسهل عليه في ثورته أن يفتك بالجند الأرنئود لانتشارهم بين أفراده، وقد أخافت هذه الثورة فعلًا الأرنئود «فصاروا يقولون للقاهريين نحن معكم «سوا سوا»، أنتم رعية ونحن عسكر ولم نرض بهذه الفردة وعلوفتنا على الميري وليست عليكم، أنتم أناس فقراء»، ولم يتعرض أحد من الأهلين لهم.

وبادر محمد علي بالنزول وسط الجماهير، يجتمع بالمشايخ، ويسير معهم في الشوارع ويختلط بالجماهير الصاخبة والهائجة، ويتعهد لهم بإبطال الفردة كما بعث بوكيله «كتخداه» إلى الجامع الأزهر، يردد نفس ما قاله جنوده الأرنئود «ونادى به في الأسواق، ففرح الناس وانحرفت طبائعهم عن البكوات ومالوا إلى العسكر»، وكسب محمد علي المشايخ والشعب إلى جانبه.

وكان بسبب ما ظهر من موقف محمد علي وجنده الأرنئود في هذه الأزمة أنْ أدرك عدد كبير من البكوات والمماليك أن من صالحهم الآن إنهاء محالفتهم مع الأرنئود وأن المستقبل إنما هو للجماعة التي يكون لها سبق القضاء على الأخرى، وكان على رأس هؤلاء إبراهيم بك الذي أدرك من غيره حقيقة موقف جماعته، وظل — كما سبقت الإشارة إليه — يحذر البرديسي في كل المناسبات من محمد علي واستمرار المحالفة مع الأرنئود، وأشار إبراهيم في اجتماع سري عقده مع سائر البكوات عقب حوادث «٧ و٨ مارس» إلى ضرورة فَصْم علاقاتهم مع محمد علي والأرنئود وتوجيه ضربة قاصمة للأرنئود وزعمائهم «دفعة واحدة وفي يوم واحد»، حتى يتخلصوا منهم نهائيًّا وبكل سرعة، وكان محمد علي بسبب الدور الذي قام به في حوادث «٧ و٨ مارس»؛ قد أثار شكوك كثيرين منهم في ولائه، ولكن البرديسي عارض اقتراح إبراهيم بشدة، وأشاد بذكر الخدمات التي أداها الأرنئود وزعيمهم محمد علي للمماليك، وسقط اقتراح إبراهيم.

وترامى لمحمد علي أن البكوات وأكثرية أتباعهم صاروا يشكون في أمره، كما صارتْ تتزايدُ في الأيام التالية اتهامات هؤلاء ضده ولو أن البرديسي استمر يدفع عنه هذه التهم ويناصره، ثم بلغ من ثقة البرديسي العمياء به أنه استمع لآخر «نصيحة زوده بها محمد علي، فتخلص البرديسي من أكبر خدامه شجاعة وأصدقهم ولاء له «المملوك» الفرنسي «سليم كومب» Combe، كما جدد رجال مدفعيته، فاستبدل برجال اكتسبوا خبرة ومرانًا طويلًا جماعة من «الترك» لم يتوخ الدقة في اختيارهم، فلم يلبث محمد علي أن اشترى ولاءهم بالمال، ووجد حينئذ أن الفرصة قد صارت سانحة لتنفيذ خطوته الأخيرة والخامسة والتي فكر فيها طويلًا ضد حكومة البكوات المماليك.

وفي ١٢ مارس ١٨٠٤ علم البرديسي من جواسيسه أن الأرنئود يعتزمون مهاجمته في بيته، فجمع حوله كل مماليكه وخلع «محمد علي» القناع وبدأ الانقلاب في منتصف الليل، عندما ذهب محمد علي بنفسه على رأس فريق من الأرنئود لمحاصرة البرديسي، بينما ذهب حسن بك مع فريق آخر لمحاصرة إبراهيم بك، وسمع القاهريون صوت الرصاص، واستمر الضرب في اليوم التالي (١٣ مارس) ولم ينتفع البرديسي من مدفعيته، فلم يجد مناصًّا من الخروج وسط كوكبة شَقُّوا طريقهم بالسيف وسط جموع الأرنئود حتى وصلوا إلى «قلعة المجمع العلمي» ثم انسحبوا منها إلى «البساتين»، وخرج إبراهيم بك من بيته مع جماعته يشق طريقه هو الآخر بحد السيف، فاستطاع الوصولَ إلى ميدان الرميلة، وانسحب إلى الصحراء، ومع أن القلعة ظلت تطلق قنابلها في أثناء هذه الحوادث على بيوت الأرنئود بالأزبكية إلا أن المغاربة الذين كانوا بحاميتها سرعان ما ثاروا على حاكمها «شاهين بك» بمجرد أن علموا بفرار البكوات، فأرغموه هو الآخر على الفرار مع رجاله من باب الجبل، ولم يبق في أيدي البكوات سوى مقياس الروضة يحتله حسين بك الزنطاوي مع مائتين من المشاة فحسب، ولكن الزنطاوي ما إن علم بمغادرة البرديسي لقلعة المجمع العلمي حتى أحرق سفن مدفعيته، وغادر الروضة بسرعة. وهكذا باتت القاهرة بأسرها في قبضة محمد علي.

ويفسر الشيخ الجبرتي هذا الانقلاب الذي بدأ تدبيره جديًّا منذ ثورة القاهريين في ٨ مارس، وهي الثورة التي مكنت «محمد علي» من كسب الشعب والمشايخ إلى جانبه بقوله: إن هذه الفعلة؛ أي مواساة محمد علي للشعب، وتعهده بإبطال «الفردة» وإرسال كتخداه إلى الأزهر، مما تسبب عنه فرح الناس وانحراف طباعهم عن البكوات وميلهم إلى العسكر — كانت من جملة الدسائس الشيطانية، فإن «محمد علي» لما حرش العساكر على محمد باشا خسرو وأزال دولته وأوقع به ما تقدم ذكره بمعونة طاهر باشا والأرنئود، ثم بالأتراك عليه حتى أوقع به أيضًا وظهر أمر أحمد باشا وعرف أنه إن تم له الأمر ونما أمر الأتراك؛ أي الإنكشارية لا يبقون عليه، فعاجله وأزاله بمعونة الأمراء المصرلية، واستقر معهم حتى أوقع — باشتراكهم — قتل الدفتردار والكتخدا، ثم محاربة محمد باشا بدمياط حتى أخذوه أسيرًا، ثم التحيل على علي باشا الطرابلسي «الجزائرلي» حتى أوقعوه في فخهم وقتلوه ونهبوه.

كل ذلك وهو يُظهر المصافاة والمصادقة للمصريين وخصوصًا للبرديسي، فإنه تآخى معه وجرح كلٌّ منهما نفسه ولحس من دم الآخر، واغتر به البرديسي وراج سوقه عليه وصدقه، وتعضد به واصطفاه دون خشداشينه، وتحصن بعساكره وأقامهم حوله في الأبراج وفعل بمعونتهم ما فعله بالألفي وأتباعه وشردهم وقص جناحه بيده وشتت البواقي وفرقهم بالنواحي في طلبهم، فعند ذلك استقلوهم في أَعيُنهم وزالتْ هيبتهم من قلوبهم وعلموا خيانتهم وسفهوا رأيهم واستعفوا جانبهم وشمخوا عليهم وفتحوا باب الشر بطلب العلوفة مع الإحجام خوفًا من قيام أهل البلد معهم ولعلهم بميلهم الباطني إليهم فاضطروهم إلى عمل هذه الفردة ونسب فعلها للبرديسي فثارت العامة وحصل ما حصل، وعند ذلك تبرأ محمد علي والعسكر من ذلك وساعدوهم في رفعها عنهم فمالت قلوبهم إليهم ونسوا قبائحَهم وابتهلوا إلى الله في إزالة الأمراء وكرهوهم وجهروا بالدعاء عليهم وتحقق العسكر منهم ذلك …» فكانت الواقعة التي قوضت عروش الحكومة المملوكية.

(٤) ولاية خورشيد

وأغضب «مسيت» سقوط حكومة البكوات، وقسا في لومهم؛ لأنهم — كما قال عندما بعث بتفاصيل ما وقع إلى حكومته من الإسكندرية في ١٨ مارس ١٨٠٤ — قد تسببوا هم أنفسهم في إضعاف حكومتهم «عندما صاروا — بالرغم من نصائحه المتكررة لهم أن لا يفعلوا ذلك — يعملون على القضاء على الإنكشارية — وهم الذين قتلوا زعيم الأرنئود السابق طاهر باشا، ونادوا بولاية أحمد باشا وكانوا خصوم الأرنئود وخصوم محمد علي — وصاروا يطردونهم من القاهرة بدلًا من أن يبذلوا قصارى جهدهم لكسب صداقتهم كضمان لهم ضد ذبذبة الأرنئود وعدم ثباتهم على مبدأ واحد.

ولكن البكوات كما استطرد «مسيت» يقول — اعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى جعلهم بحكمته وقدرته يمتلكون مصر، فأصمهم حسن الحظ الذي واتاهم عن الإصغاء إلى كل نصح مبعثه السياسة الرشيدة …»

ومهما يكن من أمر فقد قضي الآن على حكومتهم، واستطاع محمد علي أن يقوم بتلك الحركة التي ذكر «لماثيو لسبس» منذ أوائل مارس أن الأرنئود إنما يعتزمون القيام بها للقضاء على المماليك ولجلب رضاء الباب العالي عليهم، وكانت الخطوةُ التاليةُ هي إرجاعُ مظاهر سيادة الباب العالي في القاهرة بعد طرد البكوات منها، ثم العمل لملء منصب الباشوية الذي ظل شاغرًا منذ مقتل علي باشا الجزائرلي.

وكان مما يهم «محمد علي» أن يتم ملء هذا المنصب بكل سرعة أولًا كدليل على أنه لا يبغي من تدبيره الانقلابَ الأخيرَ أنْ يستأثر لنفسه بالسلطة، بل إن مقصده تحقيق أماني الباب العالي بطرد البكوات والقضاء على حكومتهم، وتوطيد سيادة الباب العالي الشرعية، بوضع ممثل للسلطان العثماني على رأس الحكومة في القاهرة، وثانيًا كإجراء لا غنى عنه في الحقيقة إذا شاء محمد علي أن يفوت على القسطنطينية فرصة اختيار أحد الولاة الأقوياء وتزويده بالنجدات الكافية لتعزيز سلطته؛ لوثوقه من أن الباب العالي سوف يرضى — على سابق عادته — بتقرير الأمر الواقع إذا نجح محمد علي في ملء منصب الباشوية، وأخيرًا كخطوة تكفل لمحمد علي اختيار الرجل الذي يريده هو لهذا المنصب، فيظل محمد علي صاحب السلطة الفعلية في البلاد، وفي وسعه أن يبقيه أو أن يخلعه حسبما تمليه مصالحه في ضوء ما قد يجدُّ من حوادث بعدئذ.

وكان محمد علي قد طلع إلى القلعة يوم ١٣ مارس «ونزل وبجانبه محمد باشا خسرو ورفقاؤه وأمامهم المنادي ينادي بالأمان حكم ما رسم محمد باشا ومحمد علي إعلانًا لعودة خسرو باشا إلى الولاية، وأشيع في الناس فعلًا رجوع محمد باشا إلى ولاية مصر، ثم بادر المحروقي إلى المشايخ فركبوا إلى بيت محمد علي يهنئون الباشا بالسلامة والولاية» بعد أن استمر في حبسه ثمانية شهور كاملة.

ولكن «إخوة طاهر باشا سرعان ما دَاخَلَهم غيظٌ شديد، ورأى محمد علي نفرتهم وانقباضهم من ذلك وعلم أن «خسرو» لن يستقيم حاله معهم وربما تولد من ذلك شر»، واستند الرؤساء الأرنئود في معارضتهم إلى أن حكومة مصر كانت قد انتقلت إلى علي الجزائرلي منذ أن كان خسرو سجينًا بالقلعة، وأنه قد تعين لباشوية أخرى، ويشير الأرنئود بذلك إلى الفرمان الذي وصل القاهرة في ١٩ يونيو ١٨٠٣ بإسناد ولاية سالونيك إلى خسرو باشا، وقد سبق الكلام عن هذا الفرمان عند الحديث عن باشوية علي الجزائرلي، وقال الأرنئود إنه لا يستطيع لذلك الحكم في مصر وأن الأفضل إرساله إلى الإسكندرية؛ ليبحر منها إلى القسطنطينية.

وعلى ذلك فقد أنزله محمد علي إلى بولاق، وفي ١٥ مارس «عزل خسرو باشا للمرة الثانية واقتيد إلى رشيد فأبحر منها إلى القسطنطينية وهكذا — على حد تعبير الشيخ الجبرتي — انتهتْ هذه الولاية الكذابة الشبيهة بولاية أحمد باشا الذي تولى بعد قتل طاهر باشا يومًا ونصف.»

ووقع الاختيار على أحمد خورشيد باشا حاكم الإسكندرية.

ويبد أنه كان هناك اتفاق بين محمد علي وبين أحمد خورشيد على أن يملأ الأخيرُ منصب الولاية، فمن المعروف أن خورشيد كان يتطلع لباشوية القاهرة من مدة طويلة، تبدأ في الواقع من وقت الحوادث التي أفضتْ إلى طرد خسرو من الولاية في أوائل مايو ١٨٠٣، فقد تَوَهَّمَ خورشيد وقتذاك أن في وسعه الاستفادة من الاضطرابات التي سادت القاهرة في أواخر أيام خسرو، فغادر الإسكندرية صوب القاهرة في جماعة من أتباعه، ولكنه ما إن وصل قريبًا من بولاق حتى كان خسرو قد فر من القاهرة وتولى طاهر باشا «القائمَّقامية»، فنكص خورشيد على عقبيه، وعاد مسرعًا مع جماعته إلى الإسكندرية، وأبلغ «كاف» Caffe الوكيل الفرنسي تفصيلات هذا الحادث إلى حكومته في رسالة بعث بها إليها من رشيد في ٨ مايو ١٨٠٣.

وقد تقدم كيف سعى خورشيد يوسط الوكلاء الإنجليز لدى البكوات بعد مقتل علي الجزائرلي، حتى يرضى به هؤلاء واليًا على مصر في المكان الذي شعر بوفاة علي باشا، وقامت المفاوضات بينه وبين البكوات حول هذا الموضوع فترة من الزمن، وتولى الوكلاء الإنجليز الوساطة بين الفريقين، ولكن هذه المفاوضات لم تلبث أن أخفقتْ — كما أوضحنا — عندما جعل البكوات تولي الباشوية مشروطًا بتسليم الإسكندرية لهم.

ولكن خورشيد سرعان ما استأنف — على ما يبدو — مفاوضاته من أجل تولي منصب الباشوية عندما زادت الاضطرابات في القاهرة، وظهر ضعف حكومة البكوات، وصار من المتوقَّع أن يحدث الاصطدام قريبًا بين البكوات والأرنئود، غير أن المفاوضات في هذه المرة كانت مع محمد علي.

وهناك ما يحمل على الاعتقاد قطعًا بأن ثمة تفاهمًا أو اتفاقًا قد تم فعلًا بين محمد علي وخورشيد على أن يتولى الأخير باشوية القاهرة، يؤيد ذلك أن «محمد علي» في منتصف ليل ١٢ مارس؛ أي في الوقت الذي كان فيه جُنْدُهُ يحاصرون بيتي البرديسي وإبراهيم بك «أرسل جماعة من العسكر ومعهم فرمان وصل من أحمد باشا خورشيد حاكم الإسكندرية بولايته على مصر، فذهبوا به إلى القاضي، وأطلعوه عليه وأمروه بأنْ يجمعَ المشايخ في الصباح ويقرأه عليهم لِيُحيطَ الناس علمًا بذلك، فلما أصبح؛ أي يوم ١٢ مارس — وهو اليوم الذي استطاع فيه كلٌّ من البرديسي وإبراهيم بك الخروجَ من القاهرة بشق الأنفس — أرسل إليهم؛ أي أرسل القاضي إلى المشايخ يدعوهم للاجتماع، فقالوا لا تفتح الجمعية في مثل هذا اليوم مع قيام الفتنة، فأرسله؛ أي الفرمان إليهم، وأطلعوا عليه وأشيع ذلك بين الناس.»

وفضلًا عن ذلك فإنه لم يمض يومان على إذاعة خبر هذا الفرمان، حتى كان جماعة من العسكر الأرنئود قد جاءوا إلى الإسكندرية يبلغونه إلى خورشيد، فقال «ماثيو لسبس» في رسالتِهِ إلى حكومته في ١٦ مارس، «إن جندًا من الأرنئود حضروا إلى الإسكندرية مساء يوم ١٥ مارس يعلنون إلى خورشيد خبر قراءة فرمانات من الباب العالي في القاهرة بتنصيبه واليًا على مصر، كما قالوا إن القاهرة في هدوء شامل.»

واستطرد «ماثيو لسبس» يقول: «ويبدو أن خورشيد قد تعاون مع محمد علي في تدبير هذه الحركة»، كما قال «لسبس» إن خورشيد قد أكد له صحة هذا الخبر وأنه سوف يغادر الإسكندرية فورًا إلى القاهرة في صحبة حرس من الأرنئود يبلغون الخمسمائة في انتظاره، وقد ذكر «لسبس» أيضًا أن طابيات الإسكندرية قد أطلقت مدافعها لإعلان ولاية خورشيد على مصر، «وإيذانًا بأن هذه البلاد قد خضعت لقوانين وسيطرة السلطان العثماني»، وعندما وصلت القسطنطينية أخبار طرد حكومة البكوات وتولية خورشيد في القاهرة، كتب «ستراتون» من السفارة الإنجليزية بالقسطنطينية إلى اللورد «هوكسيري» في ١٠ أبريل يبلغه ما وقع، ويعزو حدوث هذه الحركة برمتها إلى اتفاق سابق بين الأرنئود وخورشيد باشا، فقال: «إن حركة الأرنئود لا يبدو أنها كانت بإيعاز من الباب العالي، وإنما مبعثها أن الأرنئود لا يثقون في المماليك، ولأنهم غيرُ راضين عن مركزهم في مصر لشعورهم بأنهم خانوا مصالح السلطان، ولما كان قد عَظُمَ قلقُهم ورغبوا في العودة إلى ساحة الرضا السلطاني؛ فقد دبروا بأنفسهم الخطة التي أقصت البكوات عن حكومة القاهرة وعرضوها على خورشيد باشا، وأظهروا استعدادهم لتنفيذها إذا لم يعارضْها خورشيد نفسه؛ برهانًا على ندمهم الصحيح، وكعملٍ يستطيعون به التكفير عن خطاياهم الماضية ووسيلة لإزالة الأثر الذي خلفه مسلكهم السيئ في الماضي، وهكذا، فإنهم بعد الفراغ من تنفيذ هذه الخطة بادروا بدعوة خورشيد باشا الذي لم يبد عدم رضاه عن هذا المشروع، كما لم يبد في الوقت نفسه موافقته عليه، وقابلوه بكل مظاهر الاحترام.»

ولا يقلل من الاعتقاد بوجود هذا التفاهُم أو الاتفاق بين خورشيد ومحمد علي أن الأخير بالرغم من إذاعته خبر الفرمان الذي وصله من خورشيد باشا قد عمد بعد ساعات قليلة إلى المناداة بولاية خسرو باشا؛ إذ يبدو أن «محمد علي» كان مطمئنًّا سلفًا إلى أن زعماء الأرنئود لن يرضوا بولاية رجل ينتمي لأولئك الإنكشارية الذين فتكوا بطاهر باشا، وقد حدث فعلًا — كما رأينا — أن عارض أقرباء طاهر باشا في ولاية خسرو معارضة شديدة، فلم يكن غرضه من هذه الخطوة إذن وفي ضوء ما وقع من حوادث في أثناء الانقلاب أو بعده؛ سوى المبادرة بإعلان نزاهة الدوافع التي جعلتْه ينقلب على حكومة البكوات حلفائه، والتي مبعثها رغبته في إخضاع القاهرة مرة أُخرى لسيادة السلطان العثماني الشرعية، وأنه لا يرجو نفعًا خاصًّا لشخصه من هذه الفعلة.

ولا جدال في أن المناداة بولاية خسرو قد سببت زيادة انعطاف أهل القاهرة ومشايخهم إلى محمد علي وازدياد وُثُوقِهم بخلوص نواياه؛ فقد قابلوا هذه الولاية بالفرح وذهب المشايخ والرؤساء الشعبيون — كما قَدَّمنا — لتهنئة خسرو باشا، ورأى القاهريون في إعادته إلى الولاية عدلًا وتعويضًا له عن تنحيته السابقة وسجنه.

فلما عارض الأرنئود وصمموا على إبعاده «تركهم محمد علي — على حد قول «مانجان» — يفعلون ما يريدون بعد أن نال بُغْيَتَه»، وفضلًا عن ذلك فقد كانت المناداة بولاية خسرو تنطوي على معنًى أعمقَ لم يكن من المنتظر أن يفوت مغزاه على خورشيد نفسه، هو أن «محمد علي» قد بلغ من القوة ما يجعله قادرًا على تنصيب الولاة وعزلهم، وأن خورشيد باشا لا مندوحة له عند استلام مهام منصبه عن أن يُدخل في حسابه هذه القوة التي تتوافر الأدلة على أنها لن تتخلى عن السلطة التي لها في تصريف شئون الحكم والإدارة.

وهكذا أوجز المعاصرون ما اعتبروه مقاصد محمد علي من مبادرته بتولية خسرو باشا، فقالوا: «إن اتخاذ هذه الخطوة قد أسدل حجابًا كثيفًا على مشروعاته، وأبرز — في جلاء — احترامه للباب العالي، وقدم المسوغ الضروري لتبرير تلك الخيانة التي ارتُكبت في حق البرديسي وزادتْ من مكانة محمد علي أكثر من أي وقت مضى مع الشعب والعلماء، وجعلته لذلك ينظر في اطمئنان وثقة إلى المستقبل.»

على أن هناك إلى جانب هذا كله ما يدل — دون شك أو ريب — على أن تولية خورشيد باشا كانت بناء على اتفاق وتدبير سابقين بين خورشيد ومحمد علي ودون انتظار لمعرفة إرادة الباب العالي بسببٍ بسيطٍ واحد، هو أن الفرمان الذي بعث به خورشيد إلى محمد علي، وطلب محمد علي من القاضي في منتصف ليل ١٢ مارس أن يدعو المشايخ لقراءته، ثم أُشيع أمرُهُ بين الناس في اليوم التالي، كان من صنع خورشيد باشا نفسه، وليس هناك ما يُفيد أن الباب العالي قد أرسل وقتذاك فرمانًا يُسَمِّي خورشيد باشا للولاية.

فمن الثابت قطعًا أن الباب العالي عندما وصله خبر مقتل علي باشا الجزائرلي، بادر باختيار أحمد باشا الجزار والي عكا لباشوية مصر؛ لرغبته في أن يعين لهذه الباشوية واليًا يستطيع إقامة الحكومة القوية بها والتي يكون في قدرتها إخمادُ الفتن والثورات والقضاء على القوات العسكرية المملوكية، ثم الزود عن البلاد ضد الغزو الأجنبي، سواء جاء هذا الغزو من ناحية إنجلترا، التي يبدو أن الباب العالي كان يتوقع حدوثه من ناحيتها أكثر من ناحية أي دولة أخرى، أم جاء من ناحية فرنسا.

فقد كتب «ستراتون» القائم بأعمال السفارة الإنجليزية في القسطنطينية إلى اللورد «هوكسبري» في ١٠ مارس ١٨٠٤ «أن أخبارًا مشوشة عن علي باشا الجزائرلي وصلت القسطنطينية، وأن الباب العالي قد أرسل مركبًا من نوع القرويت إلى الإسكندرية لإحضار أخبار دقيقة عما يجري من حوادث هناك، وتقوم الاستعدادات لإرسال أُسطول من أربع سفن إلى الإسكندرية تحمل ألف جندي تركي لتعزيز حاميتها، وقد قرر الديوانُ العثماني تعيينَ الجزار صاحب الشهرة المعروفة وباشا عكا واليًا لمصر في المكان الذي شغر بوفاة علي باشا الجزائرلي.»

وفي ٢٤ مارس عاد «ستراتون» يقول: «إن الريس أفندي قد أبلغه تعيين الجزار باشا ليخلف علي باشا الجزائرلي، وقد ساق الريس أفندي الحُجج التي استند عليها في تبرير هذا الاختيار غير العادي، ولكن «ستراتون» ما لبث أنْ أبدى هو الآخرُ رأيه في هذا الموضوع، وهو أَنَّ اختيار رجل من طراز الجزار باشا لولاية مصر في الظروف الراهنة معناه إلقاء البلاد في أحضان الحروب الأهلية؛ لأنه إذا طرحت جانبًا مسألة الغزو الفرنسي فإنه من الممكن أن يتوقع المرء أنه إما أن يتفق الجزار مع البكوات على امتلاك البلاد واقتسامها فيما بينهم دون الباب العالي، وإما أن يتنازع الفريقان امتلاكَ هذه المقاطعة، زد على ذلك أنه من غير المحتمل إذا رجحت كفة الجزار أن يبقى على ولائه للسلطان؛ ينهض دليلًا على ذلك سيرتُهُ في عَكَّا، وفي غيرها. وأما إذا نجح البكوات فمن المتوقع أنهم سوف يُمعنون — عندئذٍ — في امتهان أوامر السلطان وعدم طاعتها.»

ثم استطرد «ستراتون» يقول: «ولكن تكليف أحد العصاة بإخضاع عاصٍ آخرَ إنما هو إجراءٌ قدْ ثبتت دعائمه من آماد طويلة في هذه الدولة العثمانية ومبعث ذلك ضعفُ الدولة، ثم زاد في رُسُوخه كبرياءُ حكومة تحرص على التمسك بمظاهر جوفاء لسلطة تشعر بأنها قد فقدتْها ولم تعد لها — في الحقيقة.»

وفي ٣١ مايو كتب من مالطة «شارلس لوك» وهو القنصل الذي عين لمصر ثم توفي قبل ذهابه إليها — كما سبقت الإشارة إليه في موضعه — «إنه يبدو أن تعيين الباب العالي الجزار باشا لولاية مصر كان معروفًا في مصر وقت وصول آخر ما جاء من أنباء منها.»

ومن مصر، أسرع «مسيت» عند المناداة بولاية خورشيد باشا التي حدثتْ في ١٥ مارس؛ يُبلغ حُكُومتَه في اليوم التالي هذا النبأَ من الإسكندرية، فقال: «إنه نودي به واليًا على مصر بناءً على فرمان من الباب العالي يبدو أنه كان لدى خورشيد باشا الذي ظل محتفظًا به من عدة أيام سابقة ولم يمنعه من إظهاره سوى انتظار الفرصة المناسبة لإعلانه»، ولكن «مسيت» لم يلبث أن تحقق من أنه لم يكن لدى خورشيد باشا أي فرمان بالولاية من الباب العالي، فكتب إلى حكومته في ٢٩ مارس «أن خورشيد باشا عندما غادر الإسكندرية إلى القاهرة لتسلم مهام منصبه قد نصح له بالبقاء بالإسكندرية وعدم الذهاب إلى القاهرة حتى يبلغ «مسيت» من «خورشيد» نفسه أن الاضطرابات قد انتهت هناك.»

ثم استطرد «مسيت» يقول: «ولكن هذه العواطف الجميلة التي أبداها خورشيد قد جعلتْه يشك في أنه ليس لديه — كما يؤكد هو — أي فرمان من الباب العالي لتعيينه في باشوية مصر؛ ولذلك فإن خورشيد لم يكن واثقًا مِن مركزه ومن موقف الأحزاب المختلفة في القاهرة تجاهه، وقد تأيدت شكوك «مسيت» بسبب ما وقع من حوادثَ، وما تَوَفَّرَ من قرائنَ أهمها أن «محمد علي» أطلق سراح محمد خسرو يوم ١٢ مارس من حَبْسِهِ الطويلِ ونادى به واليًا على مصر، ولكن إخوة طاهر باشا وأتباعَهم العديدين لم يرتاحوا لهذا الاختيار، وصمموا على مغادرة خسرو باشا للقاهرة وأمهلوه ساعةً واحدةً بعد إنذاره بضرورة خُرُوجه منها، فترك خسرو القاهرة ولكنه لم يذهب إلى أَبْعَدَ من رشيد؛ حيث لا يزال باقيًا بها إلى الآن بدعوى انتظاره لأوامر الباب العالي بشأنه.»

ويؤكد «مسيت» في نفس رسالته هذه «أن لديه معلومات وثيقة بأن هناك مراسلات تدور بنشاط بين خسرو ومحمد علي بواسطة ترجمانه الذي ترك القاهرة لهذا الغرض، ومحمد علي والإنكشارية ينحازون إلى محمد خسرو باشا، بينما يؤيد الأرنئود عمومًا ادعاءات خورشيد باشا الذي أذاع أن الديوان العثماني قد عينه للباشوية، وذلك حتى يُسكت جميع الأحزاب ويلزمهم بالصمت.»

ولَمَّا كان اتحاد محمد علي مع الإنكشارية أمرًا شاذًّا ولا يتفق مع طبيعة الأشياء؛ فقد راح «مسيت» يعلل ذلك بقوله: «إن هذه الصلة الغير الطبيعية التي ربطت بين الإنكشارية وبين محمد علي، لم يكن منشؤها مجرد الرغبة في تعيين أحد الولاة لباشوية مصر فحسب؛ لأن من المتعذر أن يكون هذا وحده هو الغرض الذي اتحد محمد علي من أجله مع هؤلاء الجند الإنكشارية.»

وقد كان «مسيت» — ولا شك — محقًّا في ملاحظته؛ لأنه لم يكن بوسع محمد علي أن يفقد مؤازرةَ الأرنئود ورؤسائهم — وهم عماد قوته فضلًا عن أنهم من جنسه — ليتحد مع جماعة كانوا قلةً ولا سُلطان ولا نُفُوذ لهم في شيء، وبرهنت الحوادث منذ طرد «باشتهم» محمد خسرو من القاهرة في المرة الأولى (مايو ١٨٠٣) إلى حادث طرده في هذه المرة الأخيرة على أنهم لا حول ولا قوة لهم أمام الأرنئود، فلم يكن اتحاد «محمد علي» — غير الطبيعي — معهم سوى مظاهرة قَصَدَ بها محمد علي إلى بُلُوغ الأغراض بعينها التي تَوَخَّاها من توليته محمد خسرو.

وفي ٢٤ أبريل عاد مسيت للكتابة مرة أُخرى في هذا الموضوع نفسه، فقال: «إنه قد أُذيع بالإسكندرية خبرُ تعيين الجزار باشا لولاية مصر.»

تلك إذن كانت أقوال الوكلاء الإنجليز ورجال السفارة الإنجليزية في القسطنطينية عن ولاية خورشيد باشا، وهي تنفي صدور فرمان من الباب العالي يسمِّي خورشيد لباشوية القاهرة.

على أن أقوال الوكلاء الفرنسيين ورجال السفارة الفرنسية في القسطنطينية، تنفي هي كذلك صدورَ هذا الفرمان لخورشيد وتؤكد تعيين أحمد باشا الجزار لولاية مصر في نفس الوقت الذي راح فيه خورشيد يُذيع في القاهرة والإسكندرية نبأ تعيينه ويساعده محمد علِي علَى الوصول إلى غايته؛ فقد كتب «دروفتي» من الإسكندرية إلى الجنرال «برون» في ١٧ فبراير ١٨٠٤ أنه «علم أن خورشيد قد وصلتْه بتواريخَ حديثةِ العهد جدًّا فرماناتٌ من الباب العالي لتعيينه لباشوية رودس، ومن ضمن هذه الفرمانات، فرمانٌ صدر بتثبيت علي باشا الجزائرلي في ولاية مصر.»

وعندما بلغ القسطنطينية نبأ قتل علي باشا الجزائرلي، كتب «برون» إلى حكومته في ١٠ مارس «أن الريس أفندي موافقٌ على أن هذا الحادث كان نتيجة مكائد «مسيت» — ثم أردف يقول: وقد تعين الجزار باشا واليًا على مصر، ويصرحون في الدوائر السياسية العليا بأن الإنجليز يريدون احتلال الإسكندرية احتلالًا عسكريًّا، ولكن الريس أفندي قد أَكَّدَ له أن بالإسكندرية سفنًا حربية وجُنْدًا كافين لرد أي اعتداءٍ يقع عليها، ولإبقائها في حَوْزة الباب العالي ومن ذلك تنشأ فكرة تعيين الجزار باشا لحكومة مصر.

وقد سجل «برون» ما دار من أحاديثَ بينه وبين الريس أفندي في مؤتمر عقد بعد ذلك بيومين (١٢ مارس) تناول الاثنان فيه البحثَ في مسألة محاولة المماليك الاستيلاءَ على الإسكندرية، وتوسُّط الوكلاء الإنجليز وذهاب «ريجيو» ترجمان القنصلية الإنجليزية لمفاوضة خورشيد باشا في ذلك، وإرسال الباب العالي أوامره إلى خورشيد باشا؛ لرفض دُخُول جند البكوات إلى الإسكندرية، كما تحدث الريس أفندي عن محاولة الإنجليز التدخُّل في شئون مصر منذ حادث طرد خسرو باشا في مايو من العام السابق، وتصميم الباب العالي على دفع كل غزو قد يقع على مصر، فذكر «برون» عند تسجيله هذه الأحاديث ما يؤخذ منه أن فكرة تعيين الجزار باشا كان مبعثها تلافي هذه الأخطار جميعها.

وفضلًا عن ذلك فقد كتب «برون» إلى «تاليران» في ٢٤ مارس «أن الباب العالي يعقد آمالًا عظيمة على نجاح سياسته في إسناد حكومة مصر إلى الجزار باشا، وهو — كما يؤكد الوزراء العثمانيون — برهانٌ على أنهم لا يرضون عن تدخُّل «الإنجليز» في شئون مصر.

وما إنْ بلغت القسطنطينية أنباءُ الانقلاب الأخير وطرد البكوات من القاهرة، ثم تنصيب خورشيد باشا واليًا على مصر حتى كتب «برون» في ١٠ أبريل «أن الأخبار قد جاءت القسطنطينية تنبئُ بأنَّ الأرنئود قد انفصلوا عن البكوات وأوقعوا بهم الهزيمة، ثم اضطروهم للانسحاب إلى الصعيد، وأنهم؛ أي الأرنئود قد قدموا خضوعهم للباب العالي الذي صفح عنهم، وأن «علي باشا الجزائرلي» قد قُتل، وخلفه خورشيد باشا.»

وقد ذكر «برون» تاريخَ وصول هذه الأنباء إلى القسطنطينية على وجه التحديد، فقال في رسالة تالية له في ١٧ أبريل إن «ططريا قد وصل من القاهرة في ٧ أبريل؛ أي بعد إعلان ولاية خورشيد باشا في الإسكندرية والقاهرة واستلامه شئون الحكم فعلًا — بأنباء تفيد أن الأرنئود قد قتلوا البكوات جميعهم! وأن خورشيد باشا قد ذهب إلى القاهرة بوصفه واليًا على مصر. ثم استطرد «برون» يقول: إن الريس أفندي قد أبلغه في ٨ أبريل أن البكوات قد قُتلوا، ما عدا الألفي الكبير والألفي الصغير وعثمان البرديسي، وأن مصر قد عادت أخيرًا إلى حظيرة الإمبراطورية العثمانية.»

وأما الوكلاء الفرنسيون في مصر فقد حرصوا من جانبهم على إبلاغ حكومتهم أن خورشيد باشا أغا تولى باشوية مصر، من غير أن يصدر له أي فرمان من الباب العالي يخوله ذلك، فقد كتب «ماثيو لسبس» من الإسكندرية في ١٦ مارس؛ أي غداة إعلان ولاية خورشيد رسميًّا؛ أنه ذكر لخورشيد أن «هذا الحادث السعيد يحتم عليه العودة إلى القاهرة ليشغل منصبه بها، ولكن خورشيد طلب منه البقاء بالإسكندرية إلى أن يبعث إليه بخطابات من القاهرة» يدعوه فيها للمجيء إليها؛ أي أن خورشيد قد فعل مع «لسبس» نفس ما فعله مع «مسيت» وللأسباب نفسها التي أوضحها «مسيت» لحكومته.

ثم لم يلبث «ماثيو لسبس» أن أكد «لتاليران» في ٩ أبريل «أن خورشيد ليس لديه أي فرمان من الباب العالي، وأنه دخل القاهرة دون أن يصله أمرٌ قاطعٌ من حُكُومته بأنْ يفعل ذلك، ثم استطرد «لسبس» يقول: إنه وصلته في هذه اللحظة رسالةٌ من دمياط تعلن أن مركبًا قد وصل إلى دمياط من عكا في ٤ أبريل تذيع أن السلطان العثماني قد أعطى الجزار باشا حكومة مصر والشام بأسرها بما في ذلك حلب، وأن الجزار قد أرسل ستة من الرسل على ظهر الهجن لإعلان هذا النبأ في القاهرة.»

وفي ٢٢ أبريل عاد «لسبس» يؤكد في كتابه إلى «برون» أن خورشيد ليس لديه فرمان من الباب العالي، وأن خورشيد قد كتب له كما كتب للوكيل الإنجليزي يدعوهما للحضور إلى القاهرة لغرض واحد فحسب هو أن يضعهما تحت سلطانه، وكي يستخدمهما كأدوات لإنقاذ أعماله ضد الأوروبيين ويلقي بهما فريسة للأرنئود الذين ازداد جشعهم بعد خطوتهم التي قاموا بها لنوال صفح الباب العالي عنهم.

على أنه مما يسترعي الانتباه حقًّا، قول «لسبس» في رسالته هذه، إنه لما لم يكن لدى خورشيد فرمان من الباب العالي، ولما لم يكن لديه من الجند سوى الأرنئود؛ فقد أصبح في أيدي هؤلاء مجرد أداة يحركونها كما يشاءون، ثم قوله: «وأما محمد علي فقد أعلن أمام «خورشيد باشا» وأمام تراجمة الوكلاء الأوروبيين الذين كانوا مجتمعين في بيت الباشا أن خورشيد ليس لديه أي فرمان من الباب العالي، وأنه؛ أي محمد علي، هو الذي يأمر وينهى، وأنه يريد أن يمده الأوروبيون بالمال فورًا.»

وقد كتب «لسبس» إلى «تاليران» في ٢٥ أبريل يؤكد من جديد «أن الجزار باشا قد عُين قطعًا لولاية مصر وأنه قد أرسل جنده إليها وأن بعض هؤلاء موجودون فعلًا بالعريش، وأن هناك من يتساءل الآن: إلى أي جانب سوف ينحاز الأرنئود؟ وهل يحكم الجزار باشا في مصر؟ أو أن الباب العالي سوف يبعث بتثبيت أحمد خورشيد باشا الذي يحكم اليوم فعلًا؟»

غير أن هذا التساؤل لم يدم طويلًا؛ ذلك أن «ماثيو لسبس» لم يلبث أنْ كتب بعد ذلك وفي اليوم نفسه إلى الجنرال برون «أن طاهر بك حاكم الإسكندرية المؤقت قد أرسل إليه في هذه اللحظة ذاتها يُبلغه أن خورشيد باشا قد تعين واليًا على مصر بمقتضى فرمانات وصلت اليوم من الباب العالي وأُرسلت إلى القاهرة»، ثم أكد الوكلاء الفرنسيون هذا الخبر؛ أي وصول فرمان تثبيت خورشيد في ولايته، في نشرتين من نشراتهم الإخبارية: الأولى عن حوادث مصر بين «١٠، ٣٠ أبريل ١٨٠٤»، والثانية عن هذه الحوادث بين «٢١، ٣٠ مايو ١٨٠٤».

ذلك أن الباب العالي قد قرر أخيرًا تثبيت أحمد خورشيد باشا في ولاية مصر، فذكر «ستراتون» في رسالته إلى اللورد «هوكسبري» في ٢٥ مايو «أن السلطان قد سلم — أو رضي — بتثبيت خورشيد باشا في ولاية مصر، وهي الولاية التي — كما يعرف هوكسبري — قد رفعه إليها الزعماء الأرنئود.»

وفضلًا عن ذلك، فقد تناول غير هؤلاء من المعاصرين قصة هذا الفرمان، فقال «مانجان» إن الفرمان الذي أرسله محمد علي في منتصف ليل ١٢ مارس ١٨٠٤ إلى القاضي لقراءته في حضور المشايخ كان طريقةً ماهرةً لإظهار شرعية مسلكه أمام المشايخ الذين كان في استطاعتهم تقريرُ اتجاه الحركة الشعبية، وهذا في وقت كان لا يزال فيه أكثرُ البكوات متحصنين في بيوتهم ولا تزال مقاومتُهُم مستمرة، كما كان في وسع البرديسي إذا وجد مناصرين له يدعونه للدخول إلى القاهرة أن يقتحمها بقواته المسلحة.

ومع ذلك فهناك طائفةٌ من الأسئلة يَحارُ المرءُ في الجواب عليها، من ذلك معرفة كيف حضر هذا الفرمان؟ وأي قابجي أو رسول من القسطنطينية أحضره؟ وكيف تَسَنَّى ورودُ هذا الفرمان مع العلم بأنه قد مضى على وفاة — أو قتل — علي باشا الجزائرلي اثنان وأربعون يومًا فحسب حتى يوم ١٢ مارس، ومن المتعذر في هذه الأثناء الوقوفُ على ميول ورغبات الباب العالي؛ لأن الوقت كان شتاءً، والمواصلات في هذا الفصل عسيرةٌ وصعبةٌ وتكاد تكون مقطوعة.

وأما «روشتي» فقد ذكر قصة هذا الفرمان في رسالة مسهبة سجل فيها الحوادث التي أفضتْ إلى إنهاء حُكْم البكوات من القاهرة، وبعث بها إلى البارون شتورمر السفير النمساوي بالقسطنطينية في ١٢ مارس ١٨٠٤، فقال: إن «محمد علي» الذي كان اتحاده وثيقًا مع السيد عمر مكرم نقيب الأشراف وسائر العلماء لم يلبث أن اجتمع بالمشايخ وحمل حملة شديدة على البرديسي لخيانة عهد أخيه الألفي، وقال إن جنده الألبانيين ورؤسائهم قد رَوَّعَتْهم هذه الخيانةُ حتى صاروا ينقمون عليه نقمة شديدة ويريدون إنهاء سلطان المماليك في القاهرة، فوافق الحاضرون على ذلك بالإجماع، «وعندئذ أبرز لهم محمد علي صورة فرمان بعث بها إليه خورشيد باشا من الإسكندرية، وبهذه الحجة أو العذر صار تدبير مهاجمة البكوات فجأة في بيوتهم وفي لحظة واحدة والقضاء عليهم مع مماليكهم.»

وأما الشيخ الجبرتي فقد أَوْجَزَ هذه القصة عندما سجل، في بساطة ووضوح كذلك، في حوادث «يوم الاثنين تاسع عشرة» (أيْ من شهر محرم عام ١٢١٩، والموافق لأول مايو ١٨٠٤) أنه قد «ورد ططري وعلى يده بشارة للباشا «خورشيد» بتقليده ولاية مصر، ووصول القابجي الذي معه التقليد والطوخ الثالث إلى رشيد وطوخان لمحمد علي وحسن بك أخي طاهر باشا وأحمد بك من رؤساء الأرنئود فضربوا عدة مدافع وذهب المشايخ والأعيان للتهنئة.»

وعلى ذلك، فإنه لا ندحة — في ضوء كل ما تقدم — عن التسلم بعدد من الأمور المعينة، أولها: أن الباب العالي عين أحمد باشا الجزار والي عكا لباشوية مصر في الوقت الذي حدث فيه انقلاب «١٢-١٣ مارس»، فلم يكن هناك فرمان في يد خورشيد باشا يخوله الحق في ملء منصب الولاية، ولم يصدر فرمان الباب العالي له إلا بعد أن جاءت الأخبار من القسطنطينية مُنبئةً بدخوله إلى القاهرة وممارسته شئون الحكم فعلًا، فأبطل الباب العالي تعيين الجزار باشا وبادر بالاعتراف بالأمر الواقع، وأقر خورشيد باشا في ولايته، وكان لذلك أسباب، منها أن الباب العالي بالرغم من رغبته في تعيين حاكم قوي لمصر يقضي على الفوضى السائدة بها والتي عزاها لسيطرة المماليك العسكرية كان متخوفًا من الآثار المترتبة على اجتماع حكومتَي مصر والشام في يد الجزار باشا الرجل الذي أعلن العصيان والتمرد على سلطان الباب العالي مراتٍ كثيرة سابقة؛ ولأن الباب العالي كان مشدودًا إلى عجلة سياسته العتيقة في مصر التي جعلتْه لضعفه وعجزه عن مواجهة الأمور؛ يرضى بمظاهر السيادة التي له من الناحية القانونية والشرعية على مصر، وإن فقد كل سلطة وسيطرة بها، بدلًا من اتخاذ إجراءات حاسمة حازمة تُثقل كاهله بأعباء لا يريد أن يتحملها في وقت اجتاح فيه الوهابيون الحجاز، وصار الباشوات في سائر أنحاء الإمبراطورية في شبه ثورة على سلطانه، ولا يأمن شر الدول الأوروبية الطامعة في تقسيم أملاكه.

وقد أوضح هذه الحقيقة أصحاب «تاريخ الحملة الفرنسية العلمي والعسكري في مصر، الجزء التاسع»، فقالوا: «إنه بعد ثلاثة أسابيع من دُخُول خورشيد باشا القاهرة عاد أحدُ ضباطه من القسطنطينية يحمل فرمانًا سمح بمقتضاه الباب العالي بإعطاء باشوية مصر إلى سيده، ومما يستدعي الانتباه لغرابته الفريدة أن هذا الإخطار برغبات وإرادة السلطان العُلْيا كان رابع إخطار من نوعه وصل إلى هذا الجزء من الإمبراطورية في أَقَلَّ من عامٍ واحدٍ، والفرمان الأول الذي ثبت خسرو محمد في ممارسة سلطانه لم يصل إلى القاهرة إلا بعد سُقُوط دمياط بعدة أسابيع، وفي أثناء وجود خسرو في الأسر وعندما وصل الفرمان الثاني الذي يحوي تسمية طاهر باشا للولاية كان هذا الزعيم الألباني قد لقي حتفه، وأخيرًا الفرمان الثالث الذي صدر لعلي الجزائرلي لم يصل إلا بعد مضي أكثر من شهر على مصرع هذا الباشا وانطراح جُثَّتِهِ وسط رمال الصحراء.

ولكن من الواجب أن نذكر أنه في كل مرة جاء فيها رسول السلطان يحمل واحدًا من هذه الأوامر كان يُستقبل بإطلاق المدافع من القلعة ومن الحصون الأخرى؛ تحية له، وتذهب الوفود إلى بولاق لتأتي به، فيدخل القاهرة في احتفال رائع، ثم يؤخَذ إلى الجامع الرئيسي؛ حيث يقرأ القاضي هذه الأوامر العليا في حضور المشايخ ورؤساء الجند وأعيان السكان الذين يُدْعَون رسميًّا لهذا الاجتماع، ولكنه كثيرًا جدًّا ما كان يحدث، وكما يتبين بعد ذلك أنه لا سبيل لتنفيذ الفرمان الذي قرئ إذ إنه قد بقي من غير تنفيذ، ولا يثير ذلك أقل اهتمام من جانب أولئك الذين لهم الغلبة والسلطة في القاهرة، ولقد كان إمضاء السلطان موضع كل احترام وتقديس طأطأت له الرءوس وخر الناس له سجودًا، ولم يغفل أي دقيق من دقائق الاحتفال الواجب في مثل هذه المناسبات، أفلا يكفي ذلك؟ وماذا يطلب المرء بعد هذا كله؟»

وأما ما يؤخذ ثانيًا من الحقائق التي ذكرناها فهو وجود تفاهُم سابق بين خورشيد ومحمد علي بشأن إسناد الولاية إلى خورشيد باشا، حقيقة ظاهر محمد علي خسرو باشا ووقف إلى جانب الإنكشارية أيام الانقلاب وكان الرؤساء الأرنئود هم الذين صمموا على إنهاء ولاية «خسرو» الكذابة، وهم الذين اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم ثم قَرَّ رأيُهُم على تنصيب خورشيد، وبعثوا إليه بالرُّسُل يبلغونه قرارهم، كما وضع جماعةٌ من الجُنْد الأرنئود أنفسهم تحت تصرفه وذهبوا إلى الإسكندرية ليصحبوه منها إلى القاهرة، ولكن كل هذا النشاط ما كان يمكن أن يحدث دون رضائه وموافقته.

ومن الثابت أنه تركهم يفعلون ما يريدون، وقد تقدم كيف اعتبر المراقبون من الوكلاء الأجانب أن اتحاد محمد علي مع الإنكشارية كان عملًا شاذًّا ومناقضًا لطبيعة الأشياء ذاتها، فلم يكن مبعث اتحاده معهم — وهم مع قلتهم وضعفهم النسبي بالقياس إلى كثرة أعداد الأرنئود أصحاب السيطرة على القلعة والذين كانوا قوةً ذات وزن في كل ما يحدث من أمور، قد اعتبروا أنفسهم دائمًا «فخد السلطنة» وعمادها — سوى الرغبة في جذب هذه الطائفة واستمالتها إلى تأييده، أو على الأقل إلى وقوفها على الحياد أثناء الاصطدام مع البكوات المماليك.

وقد كان «مسيت» الوكيل الإنجليزي دائبَ النُّصح للبكوات المماليك بأن يقربوا منهم الإنكشارية وأن لا يستعدوهم عليهم حتى يتقووا بهم على الأرنئود، وكان لا مناص من أن يعمل محمد علي لاستلال سخيمتهم بعد أن اشترك في تدبير إقصاءِ «باشتهم» خسرو من الحكم، وأرغم على مغادرة البلاد أحمد باشا الرجل الذي التَفُّوا حوله للمُحافظة على كيانهم بعد مقتل طاهر باشا، وذلك إذا شاء أن يُقنعهم بأنه ما كان يبغي في كُلِّ ما فعله سوى تمكين السلطان العثماني من فرض سيطرته الشرعية على البلاد — وقد كان محمد علي يبذل ما وسعه من جهد وحيلة عند إنهائه حكومة البكوات لإقامة الدليل على تشبثه بالولاء الصحيح للباب العالي، وإذا شاء أيضًا أن يؤلف معهم جبهة متحدة يواجه بها خورشيد باشا نفسه إذا تبين أن هذا الأخير يبغي الاستئثار بالحكم والتخلُّص من الرجل الذي برهنت الحوادثُ الأخيرةُ على أنه صار يصنع بيديه الولاة، وفي وسعه أن يحطمهم — وقد كان محمد علي مطمئنًا إلى قدرته على الاحتفاظ بطاعة جنده الأرنئود وولائهم له، عندما لم يكن هناك أي أمل بسبب خُلُوِّ الخزينة من المال دائمًا في أن يدفع باشا القاهرة مرتبات الأرنئود، فلن يتسنى حينئذ أن يظفر بودهم أو أن يصرفهم عن زعمائهم، ثم كان في قدرة محمد علي أن يتخذ من مسألة المرتبات المتأخرة في أي وقت يشاء وسيلةً لتأليب الأرنئود وتحريكهم للثورة على باشا القاهرة.

وثمة حقيقة ثالثة، هي رضاء محمد علي بأن يعتمد تلك الصورة التي بعث بها خورشيد إليه من الإسكندرية على أنها صورة الفرمان المزعوم الذي وصله من الباب العالي، مما ينهض دليلًا آخر على تدبير أمر الولاية بين خورشيد ومحمد علي؛ فقد أبرز محمد علي هذه الصورة في منتصف أو بعد منتصف ليل ١٢ مارس؛ أي في نفس الوقت الذي كان جنده يحاصرون فيه البرديسي وإبراهيم، مما يدل قطعًا على أن صورة هذا الفرمان وصلتْ «محمد علي» قبل أن يخلع القناع بمدة، ربما كانت طويلة أو قصيرة، ولكنها على كل الأحوال كانتْ كافية لإعطائه الفرصةَ للتثبُّت من صحة هذه الوثيقة التي لا شأن للباب العالي بها ولم تصدر عنه.

ولم يكن محمد علي بالرجل الذي تجوز عليه الغفلة، وبخاصة في أثناء هذه الأزمة العصيبة التي صنعها بنفسه، بل إن مسلك محمد علي بعد أن أبرز صورة الفرمان المزعوم لَيدل دلالة واضحة على أنه ما كان يعتقد بصحته؛ فلو كانت تلك في نظر محمد علي وتقديره إرادة الباب العالي الحقَّة لَما وجد ما يدعو لرفع خسرو باشا إلى منصب الولاية؛ لأن جلب رضى الباب العالي وإعلان الولاء له — مقصدُ محمد علي الأعظمُ أهميةً من خطوته هذه إنما يكون عندئذ بإطاعة أوامره مباشرة ودون التواء، ولم يكن في وسع الإنكشارية على أي حال مخالفةُ إرادة السلطان أو الظهور بمظهر العُصَاة الخارجين على أوامر الباب العالي.

أَضِفْ إلى هذا أن الرؤساء الأرنئود الذين اجتمعوا وتشاوروا واختاروا خورشيد للولاية إنما فعلوا ذلك بعد أن ذاع أمر الفرمان بين الناس، كما كان ذهابُ الجُنْد الأرنئود إلى الإسكندرية ليضعوا أنفسهم تحت تصرُّف خورشيد، وليكونوا حرسًا له في أثناء سفره إلى القاهرة، بعد ذُيُوع أمره، فقد غادر هؤلاء القاهرة إلى الإسكندرية بقيادة أحمد بك في ٢١ مارس، وعلى ذلك فقد كانت مسألة الفرمان من تدبير خورشيد، واشترك محمد علي معه في تدبيرها.

وأما الحقيقة الرابعة فهي: أنه كان من طبيعة هذا التدبير ذاته — ولأن «محمد علي» قد أسهم فيه بنصيب وافر فضلًا عن أنه قد ظل يُمارس سلطةً فعليةً في عهد حُكُومة البكوات المماليك، ولو أنه ترك مقاليد الأمور في الظاهر في يد البرديسي وإبراهيم — أن ينتفي أي انسجام بين خورشيد ومحمد علي وأن تتكدر العلاقات بينهما؛ لأنه لم يكن هناك مَفَرٌّ مِنْ أن يشعر خورشيد بأنه مدين بمنصبه للأرنئود وزعيمهم، ولا ندحة عن إدخاله قوة هذا الزعيم في حسابه، وهو لا يزال في حاجة إلى جُنْده الأرنئود لمطاردة البكوات، هدف ولايته الأولى، كما لم يكن في وسع محمد علي أن يتخلى عن سلطاته وهو — كذلك — يشعر بأنه القوة التي في وسعها وحدها مطاردة المماليك، بل لقد كان إلى جانب ذلك من طبيعة النجاح الذي أدركه في رفع خورشيد إلى الولاية، وبعد أن تَمَرَّسَ في صناعة إقامة الحكومات وهدمها ما يجعله هو أيضًا يصبو إلى منصب الولاية، أَمَا وقد أرجع البلاد إلى حظيرةِ الدولة بعد أن أنهى حكم البكوات في القاهرة، ونال بفضل ذلك رضاء السلطان العثماني؛ فسوف لا يكلفه الظفر بموافقة الباب العالي وتقريره في النهاية للأمر الواقع سوى اصطناع التريُّث والأناة عندما يشرع في تدبير انقلابه الذي سوف يمكِّنه من الولاية.

وأخيرًا لقد كان الاعترافُ بسُلْطة خورشيد باشا بإصدار فرمان الولاية له يحمل معنًى هامًّا هو أن الباب العالي بالرغم من الفوضى السياسية المنتشرة في البلاد وقتئذٍ كان لا يزال صاحب السلطان في مصر، وأن الأمور — في ظاهرها على الأقل — لم تخرج من يده بعدُ.

زد على ذلك أن وجود وال — أو باشا — في مصر يتقلد منصبه رسميًّا بموجب فرمان الولاية يمكِّن الباب العالي من تنفيذ خطته التي رسمها من أجل القضاء على المماليك واسترجاع سيطرته الفعلية على البلاد؛ لأن الواجب يقتضي هذا الوالي أو الباشا أن يصدع بأوامر الباب العالي ويعمل لتحقيق هذه الغاية، على أَنَّ توطيد سُلطان الباب العالي في مصر والقضاء على المماليك يستلزم حتمًا أن يحالف هذا الوالي أو الباشا الرجل الذي ساد الاعتقادُ وقتئذ — سواء في القسطنطينية أم في القاهرة — أنه في استطاعته وحده دون سائر القُوَّاد والرؤساء العسكريين أنْ يُقاتل المماليك، وأن يقضي عليهم.

حقيقة لم يكن الباب العالي غافلًا عن نشاط الأرنئود ورؤسائهم في مصر، أو أنه كان يجهل ما يضعه محمد علي نفسه وبالذات من عقبات في طريق الولاة ممثلي السلطان العثماني الرسميين في مصر، ولكن مسعى محمد علي الأخير في تحطيم حكومة البكوات في القاهرة قد أظهره بمظهر الخاضع للباب العالي والمتمسك بأهداب السيادة الشرعية التي لتركيا على مصر، وكان سهلًا على الباب العالي حينئذ وفي الظروف القائمة أن يعترف بقيمة الخدمات التي أداها للدولة بنضاله ضد البكوات المماليك.

كما صار من صالح الدولة أَنْ تتغاضى عما يكون قد شاب موقفه من شوائبَ في الماضي، وأن تعمل لاستبقائه إلى جانبها، كما صار من صالح الوالي أو الباشا العثماني في مصر أن يحرص على محالفته، وقد أدرك خورشيد هذه الحقيقة الأخيرة من اللحظة الأولى، ولكنه اعتبر — من ناحية أخرى، ومن اللحظة الأولى كذلك — أن المحالفة مع محمد علي عبءٌ ثقيلٌ يبهظ كاهله، ولا مندوحة له عن التخلُّص منه عند سنوح أول بادرة.

وقد عبر عن ذلك كله «بول مورييه» Paul Mouriez وهو يعتمد في تاريخه على «مانجان» اعتمادًا كبيرًا — عندما قال: «لقد كانت القسطنطينية على دراية تامة بفعال الأرنئود التي طفح بها الكيل، وبمقاومة محمد علي المستمرة لمندوبي الباب العالي في مصر حتى أعجزهم وعطل نشاطهم، ولكنه كان يؤخذ بعين الاعتبار — من ناحية أخرى — أن هذا الزعيم الألباني قد أسدى للدولة خدمةً جليلة بمهاجمته للبكوات، وكان في نظر الدولة الرجلَ الوحيدَ الذي يقدر على مناضلتهم أو إهلاكهم والقضاء عليهم.

وقد انطوى — بطبيعة الحال — الاعتراف بسلطة خورشيد؛ أي بولايته على تقرير المنبع المستمدة منه هذه السلطة، كما جعل واجبًا على هذا الباشا بحكم منصبه وشرطًا لبقائه به أن يُواصل العمل من أجل القضاء على سُلْطة المماليك وإنهائها، وقد استتبع ذلك حتمًا أن فَرضتْ عليه فرضًا محالفة محمد علي وجماعته أثقلَ الأعباء التي كان عليه أن يتحملها يقينًا، والتي ارتبطتْ بترقيته لهذا المنصب الذي لم يكن لديه أيُّ أمل في بلوغه، ولم يكن خورشيد في حاجة لأنْ يمضي وقتٌ طويلٌ قبل أنْ يدرك هو نفسه هذه الحقيقة.»

وحقيقةُ الأمر أن المدة التي قضاها أحمد خورشيد في الولاية وهي قرابة سنة وشهرين؛ كانت فترةَ صراعٍ خفي ومستتر تارة، وعلني وسافرٍ تارة أخرى، بين خورشيد ومحمد علي، انتهى بخسارة خورشيد وغَلَبة محمد علي، الذي ظفر بالحكم والولاية.

١  يستند «فيرو» في دراسته على الترجمة التركية لكتاب أبي عبد الله محمد بن خليل غليون الطرابلسي المسمى: «التذكار فيمن ملك طرابلس وما كان بها من الأخبار»، وتمتاز الترجمة التركية لمحمد بهيج الدين بعنوان: «طرابلس غرب تاريخي» في أن صاحبها قد أكمل تاريخ ابن غليون الذي ينتهي عند ١٧٣٩، فأوصله إلى عام ١٨٦٧، وأدخل عليه تصحيحات كثيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤