الفصل الخامس

ظهور محمد علي: المناداة بولايته

تمهيد

غادر خورشيد الإسكندرية في طريقه إلى القاهرة في ١٧ مارس ١٨٠٤، فوصل إلى بولاق في ٢٦ مارس ودخل القاهرة في اليوم نفسه، ولكن اعتلاءه منصب الولاية في القاهرة لم يكن معناه أن الأمور قد استقرت نهائيًّا له؛ لأنه لم يكن قد وصله بعدُ فرمانُ الولاية من جهة، ولأن الأخطار كانت لا تزال تتهدد ولايته من جهة أخرى، من ناحية أحمد باشا الجزار ثم خسرو باشا، وقد زالت الصعوبة الأولى عندما جاءه فرمانُ تثبيت الولاية، وأَعلنتْ مدافع القلعة هذا النبأ رسميًّا في ٢٨ أبريل، كما زال الخطر من ناحية أحمد الجزار نهائيًّا عندما توفي هذا الأخير في ٩ مايو ووصلتْ هذه الأخبارُ إلى القاهرة في ١٧ مايو، وكانت الإشاعات قبل وفاته لا تزال تروج في القاهرة بأن الجزار متمسك بولايته على مصر، كما أذيع أن قسمًا من جُنْده قد وصل فعلًا إلى العريش أو الجهات القريبة منها. وأما خسرو باشا فقد أقام في رشيد بعد مغادرته القاهرة بعضًا من الوقت ينتظر أوامر الباب العالي بشأنه؛ لأنه كان لا يزال يطمع في باشوية القاهرة، ويُمَنِّي النفسَ بتأييد محمد علي والإنكشارية له في مسعاه؛ للأسباب التي سبق ذِكْرُها.

وبذل خسرو — في الحقيقة — قصارى جهده لنيل مآربه، واعتمد في ذلك — خصوصًا — على وساطة السفارة الإنجليزية في القسطنطينية، فقد اضطر خسرو لمغادرة رشيد عندما أثار المماليكُ الاضطرابات بالاتحاد مع البدو والعربان حول القاهرة وفي الوجه البحري بعد انحلال حكومة البكوات، واقترب البدو من رشيد يهددون بالإغارة عليها، فلجأ إلى الإسكندرية منذ ٢١ مايو، ثم صار يجتمع بالوكيل الإنجليزي «مسيت» ويطلب إليه أن يرجو السفير الإنجليزي بالقسطنطينية أن يستخدم نفوذه لدى الديوان العثماني لإعادة تعيينه واليًا على مصر، واستند خسرو في تبرير مطلبه على نفس الأسباب التي كانتْ مثار اهتمام الحكومة الإنجليزية دائمًا؛ أي إنشاء الحكومة القوية التي تستطيع رَدَّ العدوان الأجنبي عن مصر، فقال: إن خورشيد عاجزٌ عن وَضْع أية مشاريعَ واسعة تكفُلُ إخضاعَ الثوار أو الدفاع عن البلاد، وصرح «لمسيت» بأنه سوف يطلب بمجرد تعيينه لباشوية مصر عند نجاح الإنجليز في وساطتهم جنودًا من الإنجليز لوضعهم في حامية الإسكندرية، كما أخذ على عاتقه تموين مالطة المركز الإنجليزي الهام في البحر الأبيض دون إثارة حسد الدول الأوروبية، وتعهد إلى جانب ذلك برعاية المصالح البريطانية في مصر رعايةً تامة والخضوع دائمًا لإرشادات الوكيل الإنجليزي، ولكن كل هذه المساعي ذهبت سُدًى؛ لأن «مسيت» كان لا يثق به، ولا يُقيم وزنًا لوعوده، فضلًا عن شكوكه الكبيرة في ترجمان خسرو باشا «ستفاناكي» Stephanaky، وهو يوناني صاحب ميول فرنسية ظاهرة، ولأن «مسيت» اعتقد أن خسرو إنما يريد عند ظفره بباشوية مصر الاستقلالَ عن تركيا.

كما اعتقد أن «ماثيو لسبس» — الذي قال عنه منذ ٢٩ مارس: «إنه سمع بنشاط الثورة الأخيرة ضد حكومة البكوات في القاهرة» — ربما يكون قد وعد خسرو باشا أيضًا بمساعدة فرنسا له.

وأخيرًا كتب «مسيت» في ١٦ يونيو «أن خسرو بناء على رجاء أصدقائه له بأنْ يذهب إلى مكانٍ قريب من القسطنطينية؛ قد غادر الإسكندرية صباح اليوم السابق (١٥ يونيو) ولو أنه كان لا يزال لديه أملٌ في حُدُوث ثورةٍ يقوم بها أنصارُهُ للظفر بالنفوذ الأعلى في البلاد؛ ولذلك فقد اكتفى بالذهاب — كما ينوي — إلى رودس حتى يتسنى له الاستفادة في مكانه القريب هذا من أي تغيير يحدث لصالحه في مصر.»

وكان خسرو لا يزال يعتمد على مساعي «مسيت» نفسه في القاهرة، ثم السفير الإنجليزي في القسطنطينية، لتأييد دعاواه في باشوية مصر، وذلك فضلًا عن اعتماده على مناصريه في القاهرة ذاتها محمد علي والإنكشارية، الذين توهم خسرو — على ما يبدو — أنهم يعملون لصالحه، ومع أن خسرو كان يتوقع كل معارضة من خورشيد وإخوة طاهر باشا وأقربائه؛ فقد كان مِن رأيه أَنَّ سُوءَ الأحوال في مصر سوف يحمل البابَ العاليَ في النهاية على إجابة مطلبه.

وقد لخص «ماثيو لسبس» رأي خسرو باشا عن الأوضاع السائدة في مصر عندما كتب إلى حكومته منذ ٢١ مايو: «أن خسرو الذي وصل إلى الإسكندرية يرى أن الأحوال في مصر قد بلغتْ درجةً مِنَ السوء والخطورة تجعلها مُيْئِسَةً تمامًا إذا لم يبادر الباب العالي بإرسال نجدات إليها بكل سرعة؛ فالقاهرة يحاصرها «المماليك»، وسلطة خورشيد باشا ضعيفة ومُزعزَعة، ومعظم البلاد في قبضة المماليك الذين يؤازرهم العربان، ولا يجرؤ الأرنئود على الخروج من القاهرة، ولا يزال الألفي ممتنعًا عن إعلان موقفه بالرغم من محاولات خورشيد لجذبه إلى جانبه ضد إخوانه وتُواجه دمياط متاعبَ كثيرةً، وأنه؛ أي خسرو يرى أخيرًا أن المماليك والبدو هم أصحابُ السيطرة وأن الاضطرابات تسود البلاد.»

على أن صدور فرمان الولاية لخورشيد، ووفاة أحمد الجزار، ومغادرة خسرو البلاد لم يُنْهِ الصعوباتِ التي اكتنفتْ باشوية أحمد خورشيد وهددتْ كيانَ هذه الباشوية من البداية، ومنشأُ هذه الصعوبات استمرارُ مقاومة المماليك وإصرارُهم على الظفر بحكومة القاهرة ودَعْم سُلْطانهم في سائر أنحاء البلاد ووجود الأرنئود، وبقاء الحاجة إليهم لقتال المماليك، ثم موقف محمد علي من حكومة خورشيد، وكان قتال المماليك والقضاء عليهم، المسألةَ التي اهتم بها الباب العالي اهتمامًا بالغًا، ولم يكن هناك مناص من قتالهم وإخضاعهم لسلطان الباب العالي إذا شاء أحمد خورشيد كَسْبَ رضاه، وتثبيت ولايته هو من جهة، ثم دعم أركان هذه الولاية من جهة أخرى بالتغلب على القوة العسكرية التي ظلت مصممة على مقاومته ومنازعته السلطة في البلاد، ولكنه — حتى يتمكن من هزيمتهم وإخضاعهم — لم يكن هناك مناص كذلك من اعتماده على قوات الأرنئود، وكان الاعتماد على هؤلاء مبعث متاعب عديدة؛ لأنه من المتعذر إخراجهم لقتال المماليك من غير أن تُدفع لهم مرتباتهم، بينما حضر خورشيد إلى القاهرة وهو خالي الوفاض، وخلت الخزانة العامة من المال، كما أنه لم تكن هناك قواتٌ أُخرى يُمكنُهُ الاستعاضة بها عن الأرنئود ووجب — علاوة على ذلك — أن يستوثق خورشيد من موقف زعماء هؤلاء الأرنئود من حكومته وخصوصًا محمد علي.

فقد كان بتشاوُر الزعماء الأرنئود وكبار ضباط الجند فيما بينهم أَنْ تَقَرَّرَ اختيارُ خورشيد للولاية بدلًا من خسرو، ومع أن «محمد علي» كان على تفاهُم سابق مع خورشيد — على نحو ما أوضحنا — فقد استمر يُظهر انحيازَه إلى الإنكشارية ويتظاهر بالميل لتأييد خسرو، ولو أنه تخلى عنه في اللحظة الأخيرة، وكان من أغراض هذه المظاهرة أن يزيد اقتناعُ خورشيد بأنه من المتعذر أن تستقيم الأمور في صالحه إذا تنحى الأرنئود أو بالأحرى كبير زعمائهم محمد علي عن تعضيده؛ ولذلك فقد عجز التفاهُمُ الذي أفضى إلى تنصيب خورشيد عن إشاعةِ الطمأنينة والثقةِ في نفسه من ناحية الأرنئود أو محمد علي، وأدرك خورشيد من أول الأمر أنه لا مَفَرَّ من التخلُّص من هؤلاء الأرنئود ومحمد علي إذا أراد استقرار باشويته في مصر.

ولذلك فقد صارت خطته منذ أن تسلم مهام منصبه في القاهرة إلى جانب المضي في قتال المماليك، واستخدام الأرنئود في قتالهم، وهم القوة الموجودة فعلًا؛ توطيدَ ولايته، بنقل اعتماده الذي بناه عليهم إلى الاستناد على جُنُود آخرين يستقدمُهُم خصيصًا لهذه الغاية، فقال «مسيت» في ١٨ مارس؛ أي في اليوم التالي لمغادرة خورشيد الإسكندرية إلى القاهرة: «إن غرضه؛ أي غرض خورشيد، طرد أعظم عدد مُمْكن من الأرنئود إلى خارج البلاد»، وكان تحقيق هذا الغرض في نظر «مسيت» أمرًا عسيرًا؛ لأنه كما قال: «يشك كثيرًا فيما إذا كان الأرنئود يرضون بطردهم هكذا ببساطة ودون مقاومة من القاهرة، بعد أن قضى طرد البكوات منها على كل رقابة عليهم، فضلًا عن أنهم يُفَضِّلُون البقاء في مصر التي اعتادوا على مناخها، وغنموا منها أسلابًا كثيرة»، فكان في رأي «مسيت» أن تصميم خورشيد على التخلُّص من الأرنئود سوف يؤدي إلى فَصْم العلاقات بينه وبينهم، ويلقي بالبلاد في أتون الحرب الأهلية، ويُتيح الفرصة للفرنسيين بسبب ذلك لتنفيذ خُططهم التي أَعَدُّوها لغزو البلاد.

على أَنَّ الصعوبةَ الكبرى التي واجهت خورشيد، كان مبعثها في الحقيقة موقف محمد علي؛ فقد حرص على أن يصدع بأوامر خورشيد لقتال المماليك، ومع أنه تدخل لفرض نفوذه على حكومة خورشيد، فقد سلك مسلكًا يدل في ظاهره على أنه لا ينوي قلب هذه الحكومة، فلم يكشف القناع عن نواياه إلا حين استقدم خورشيد جنود «الدلاة» بأعداد كبيرة لإقصاء الأرنئود وإرغامهم إرغامًا على مغادرة البلاد إذا رفضوا الانسحابَ منها طوعًا، على أَنَّ موقف محمد علي كان لا لبس فيه ولا إبهام؛ ذلك أنه كان في صالحه هو كذلك أن يستمر النضالُ ضد البكوات المماليك للقضاء عليهم؛ تنفيذًا لرغبة الباب العالي، وجلبًا لرضا الديوان العثماني عليه، ثم لإزالة تلك القوة المملوكية العسكرية التي هددتْ مسند الولاية دائمًا سواء كان الوالي خورشيد باشا أم آخرَ غيره، بل كان القضاء على القوة المملوكية العسكرية مما يهتم به محمد علي اهتمامًا عظيمًا؛ لسبب جوهري، هو أنه كان قد بدأ يعمل جديًّا منذ أن صار الحكم لخورشيد باشا ليظفر هو بالولاية لنفسه، فقد كتب «مسيت» منذ ١٦ يونيو ١٨٠٤ أن «محمد علي» أصدر أمرًا للمصرف الذي يتعامل معه في القسطنطينية «بأن يعطي المال بسخاء من أجل الوصول إلى الولاية، كما أنه حصل من «ماثيو لسبس» على وعد بأنْ يبذل قصارى جهده مع الجنرال «برون» السفير الفرنسي في القسطنطينية ليقدم للديوان العثماني توصية طيبة في حقه».

وفي ١٠ أغسطس من العام نفسه كتب «مسيت» من الإسكندرية أنه قد جاءتْه رسالةٌ من رشيد بعث بها إليه «البطروشي» يقول فيها: «إن كولونيلًا ألبانيًّا وصل إلى رشيد من القاهرة يوم ٥ أغسطس، وتحدث مع عدد من الأشخاص بما جعلهم يفهمون أن «محمد علي» يتخذ كل ما يلزم من خطوات؛ ليصبح سيدًا على مصر»، كما جاء في هذه الرسالة أن ابن أخي محمد علي سوف يُبحر قريبًا إلى القسطنطينية ومعه مبلغٌ طائلٌ من المال؛ لتجنيد قوة من العسكر، وحتى يعمل في الوقت نفسه للتأثير على وزراء الباب العالي في صالح عمه وإقناعهم بتأييد رغباته. وفضلًا عن ذلك فإنه مما يقال سرًّا الآن: أن الأرنئود الموجودين بالشام قد قرروا الحضورَ إلى مصر لتجربة حظهم عندما سمعوا بالثروة الكبيرة التي جمعها مواطنوهم بها.»

وعلى ذلك، فمثلما كان خورشيد يبغي التخلُّص من الأرنئود ومحمد علي، كان محمد علي يبغي التخلُّص من خورشيد، ولم يجمع بينهما سوى العمل لتحقيق هدفٍ واحدٍ هو القضاء على المماليك وإنهاء كل نفوذ وسلطة لهم في مصر. واصطنع خورشيد الصبر والأناة؛ حتى يستقدم الجند «الدلاة» عماد قوته الجديدة المنتظرة، واصطنع محمد علي كذلك الصبر والأناة حتى يجد المسوغ الذي يجعله يُعلن المقاومة في وجه خورشيد بصورةٍ تضمن له النجاحَ من ناحية، ولا تضعه موضعَ الثائر على سيادة الباب العالي وسلطانه الشرعي في البلاد من ناحية أخرى، ولم يكن عسيرًا على محمد علي أن يجد الفرصة المواتية وفي أي وقت يختاره، عندما كان في وسعه دائمًا أن يتخذ من مطالبة الأرنئود بمرتباتهم المتأخرة ذريعة للضغط على حكومة خورشيد، وإرغامها على اللجوء إلى نفس الإجراءات التعسفية لجمع المال الذي تُدفع منه هذه المرتبات على غرار ما حدث أيام حكومة البكوات البائدة، كما كان خورشيد نفسه قمينًا بأن يعطيه المسوغ الذي يطلبه بسبب ما عرف عن عجزه وسوء تدبيره.

ولذلك فقد كانت المدةُ التي قضاها خورشيد باشا في الحكم، فترةَ نضالٍ مستمرٍّ بينه وبين محمد علي، وقد انتهى هذا النضالُ في صالح الأخير عندما أسفر عن المناداة بولايته.

حكومة خورشيد

بدأ النضال بين محمد علي وخورشيد منذ قُدُوم الأخير إلى القاهرة، واتخذ في هذه المرحلة الأولى صورةَ الرغبة من جانب محمد علي في فرض نفوذه على حكومة خورشيد؛ فقد سعى الوكلاء الإنجليز لوضع ترجمان قنصلهم «ريجيو» Reggio في حاشية خورشيد، وسعى الوكلاء الفرنسيون من جانبهم لإحباط هذا المسعى، وانحاز محمد علي إلى هؤلاء الأخيرين، فصار يضغط مع أحمد بك الزعيم الألباني الآخر — الذي ذهب إلى الإسكندرية لدعوة خورشيد إلى القاهرة في الظروف التي سبق ذكرها — حتى يعين الباشا في حاشيته أفرادًا من «الموالين لفرنسا»، فجعلاه يعين «ستفاناكي» اليوناني ترجمانًا له، وهو رجلٌ قال عنه «مسيت» في رسالته إلى حكومته في ٤ أبريل: إنه وكيل خسرو باشا الرئيسي، ويُخلص إخلاصًا كبيرًا لفرنسا؛ لاعتقاده أن في وسع الفرنسيين تحرير بلاد المورة من السلطان العثماني وإنشاء الجمهورية اليونانية القديمة بها مرة أُخرى.

ثم قال «ماثيو لسبس» عندما أبلغ حكومته نبأ هذا التعيين في ٤ أبريل أيضًا: إن له أيادي كثيرة على «ستفاناكي»، ومع أن «مسيت» نجح بعد لَأْيٍ وعناء في إقصاء «ستفاناكي» بعد ذلك، فقد كتب في ١٩ أبريل: «إن خورشيد باشا لم يلبث أن وجد نفسه في قبضة محمد علي وليس له من الباشوية سوى زخرفها وطلائها الخارجي، وذلك منذ أنْ دخل القاهرة دون أن يكون لديه مالٌ أو جُنْدٌ، بل وبلغ من خُضُوعه لمحمد علي أنه لم يستطعْ تأليفَ حاشيته كما يريد ويهوى.»

ثم لم تَمْضِ أيام قلائلُ حتى عاد «مسيت» يكتب في ٢٤ أبريل: «إن خورشيد يجد نفسه في صعوبات كثيرة بسبب حاجته إلى المال؛ ليدفع منه مرتبات الجند، ولاضطراره إلى اللجوء لإجراءات صارمة لجمعه، الأمر الذي جعله غيرَ محبوبٍ من الشعب، وأما محمد علي فقدْ أخذ لنفسه كُلَّ سلطة، ولو أنه ينكر دائمًا تحمُّل أية مسئولية.»

وزاد من حروجة مركز خورشيد أن البكوات منذ طردهم من القاهرة، قد عاثوا فسادًا في البلاد، ينهبون ويخربون، ويفر الفلاحون من وجوههم بسبب عسفهم وظلمهم، حتى باتتْ قرًى بأكملها خاوية ومقفرة من أهلها، وحتى صارت القاهرة مهددة بالمجاعة بسبب انتهاز العربان فرصة عجز الحكومة، فاتحدوا مع المماليك في نهب القرى، ثم صاروا يستولون على السفن المحملة بالمؤن المجلوبة إلى القاهرة من الصعيد أو من الوجه البحري. وسادت الاضطرابات في القاهرة بسبب اعتداءات الأرنئود على سُكَّانها من وطنيين وأجانبَ على السواء، وعلى نحو ما كانوا يفعلونه قبل طرد حكومة البكوات من القاهرة.

ومع أن خورشيد كان يسعى جهده لتأمين الأجانب على سلامتهم ومنع الإهانات عنهم، ويدرك أن مِن صالحه قيام العلاقات الطيبة بين حكومته وبين الدول الأوروبية، إلا أنه كما قال «ماثيو لسبس» في ٢٥ أبريل «لم يكن سيد نفسه، أو في وسعه أن يفعل ما يريد، بل تحتم عليه أن يخضع دائمًا لنزوات الأرنئود»، كما أن «خورشيد» بسبب حاجته إلى المال لدفع مرتبات هؤلاء؛ صار يفرض شتى المغارم على الأوروبيين ومحميي الدول بالقاهرة، وأخذ الجنودُ على عاتقهم ابتزاز المال من هؤلاء بشتى الوسائل، فحدث في أبريل أنْ ذهب حوالي خمسين منهم إلى بيت «روشتي» يطالبونه بدفع مبالغ كبيرة، وحبس جماعة آخرون من الأرنئود اثنين من أتباع «ماثيو لسبس» نفسه، واحتج الوكيل الفرنسي احتجاجًا شديدًا في ٢٢ أبريل واضطر خورشيد إلى عمل كل ترضية لازمة له وتعهد له في ٤ مايو باحترام أملاك الفرنسيين وبتأمين سلامتهم حسب الامتيازات الإمبراطورية.

وكان الأهلون هم الذين وقع على كاهلهم عبءُ أكثر هذه المغارم التي لجأ إليها خورشيد لدفع مرتبات الجند، وبخاصة عندما رفض هؤلاء السير ضد المماليك، وصار يتحتم عليه اللجوء إلى فرضها كلما تجددت مطالبتهم بعد ذلك وفي أثناء القتال ضد البكوات، فقد «طلب في ٢ أبريل مال الميري عن السنة المقبلة لضرورة النفقة» وتحصيل ذلك من جميع المديريات، فشكا الملتزمون والفلاحون، وتدخل بعض الوجاقلية والمشايخ «فانحط الأمر بعد ذلك على طلب نصف مال الميري عن سنة تسع عشرة؛ أي السنة المقبلة، وبواقي سنة سبع عشرة وثمان عشرة، وكذلك باقي الحلوان الذي تأخر على المفلسين، وكتبوا التَّنابِيهَ بذلك وقالوا: من لم يقدر على الدفع فليعرضْ تقسيطه على المزاد»، وفي أوائل مايو «طلبوا جملة أكياس لنفقة العسكر فوزعوا جملة أكياس على الأقباط والسيد أحمد المحروقي وتجار البهار ومياسير التجار الملتزمين، وطلبوا أيضًا مال الجهات والتحرير وباقي مسميات المظالم عن سنة تاريخه معجلة.»

وفي ٢١ مايو طلب كتخدا الباشا؛ أي وكيل أحمد خورشيد سلفةً من جماعة من الوجاقلية وطلبوا مبالغ من جماعةٍ أُخرى من الأعيان «وعملوا على الأقباط ألف كيس وحلف «أحمد خورشيد» أنها لا تنقص عن ذلك، وفردوا على البنادر مثل دمياط ورشيد وفوة ودمنهور والمنصورة وخلافها مبالغ: أكياس، ما بين ثمانين كيسًا ومائة كيس وخمسين كيسًا وغير ذلك لنفقة العسكر»، فبلغ من سخط الأهلين أنهم صاروا يُذيعون خبر تعيين أحمد الجزار لباشوية مصر؛ نكاية في خورشيد ثم اشتد السخط عليه عندما أرادَ أن يحمِّل المماليك جزءًا من النفقات مساهمة منهم — كما قال — في نفقات الحرب التي شنوها هم بأنفسهم عليه، فصار يفتش عن أنصارهم السريين في القاهرة ويَفرض عليهم الإتاوات الفادحة، وصار يأخذ نساءَ المماليك اللواتي بقين بالقاهرة «رهائن» لديه حتى يدفع أزواجهن هذه الإتاوات، ثم انتهى به الأمر في ٢٢ مايو بأن استقدم إلى القلعة الست نفيسة أرملة مراد بك بتهمة أنها تسعى لاستمالة رؤساء الأرنئود لتأييد المماليك نظير أن «تلتزم بالمكسور من جامكية العسكر»؛ أي أنْ تدفع لهم مرتباتهم المتأخرة، وبعث بها للإقامة ببيت أحد المشايخ «الشيخ السحيمي» بجوار القلعة كرهينة، «فتكدرت خواطر الناس لذلك»، واحتج القاضي ونقيب الأشراف السيد عمر مكرم والمشايخ: السادات والأمير والمهدي والفيومي، ونفت السيدة التهمة التي ألصقت بها، وعندما أصر خورشيد على استبقائها بدعوى «أنها تعمل لإفساد جنده لخدمة مصالح أعدائه وتجرؤ على وعدهم بزيادة مرتباتهم، وأنها يجب لذلك أن تفي بوعدها»؛ هدد الشيخ الأمير بأن هذا أمرٌ غيرُ مناسب وتترتب عليه مفاسدُ، وبعد ذلك يتوجه اللوم إلى المشايخ فإن كان كذلك فلا علاقة للمشايخ بشيء مما قد يحدث من جانب الأهالي المتذمرين بسبب هذا الحادث، وعندئذ وافق خورشيد على أن تُقيم بمنزل الشيخ السادات.

وكانت عديلة هانم ابنة إبراهيم بك قد ذهبتْ للإقامة عند الشيخ السادات منذ أن علمتْ بما حصل للست نفيسة، وفي ٢٥ مايو عاد خورشيد يَطلب دَفْعَ مال الميري «سنة تاريخه المعجلة بالكامل، وكانوا قبل ذلك طلبوا نصفها، وعملوا قوائم بتوزيع خمسة آلاف كيس استقر منها على طائفة القبطة خمسمائة كيس بعد الألف، وجملة على الملتزمين خلاف ما أُخذ منهم قبل ذلك، وعلى الست نفيسة وبقية نساء الأمراء ثمانمائة كيس»، وفي ٢٧ مايو فرض خورشيد على «أرباب الحرف والصنائع» خمسمائة كيس، فضج الناس، وأُغلقت الحوانيتُ وقصدت الجماهير إلى الأزهر، وفي ٢٩ مايو «اجتمع الكثير من غوغاء العامة والأطفال بالجامع الأزهر ومعهم طبولٌ وصعدوا إلى المنارات يصرخون ويطلبون وتحلقوا بمقصورة الجامع يدعون ويتضرعون ويقولون يا لطيف وأغلقوا الأسواق والدكاكين»، فطلب خورشيد السيد عمر مكرم؛ يوسطه في إعادة الهدوء لقاء رفع هذه الغرامة عن الفقراء، واحتج عمر مكرم بأن «كل أرباب الحرف والصنائع فقراء» ويشكون من الكساد ووقف الحال، وأنه لا علاقة لهم «بمغارم الجوامق للعسكر»، ولما أصر أصحاب الحوانيت على غلق حوانيتهم واستمر هياج الخواطر في القاهرة لم ير خورشيد بُدًّا من رفع هذه الغرامة.

ثم تنوعت أساليب خورشيد لابتزاز المال بكل وسيلة، فكان من هذه الحيل والأساليب أنه دعا في ٢٩ يونيو المشايخ والوجاقلية إلى «الديوان الكبير المعروف بديوان الغوري» لقراءة فرمان تقليده الولاية، وفرمانين آخرين كان أحدهما أكثر كلامًا من الآخر تضمن مدحًا لحكومته وقدحًا في البكوات «لعودهم إلى البغي والفجور» وغدرهم بعلي باشا الجزائرلي بعد أن صفح الباب العالي عنهم، وعرض لذكر طرد الأرنئود لهم من القاهرة، وعفو السلطان لذلك عن هؤلاء الأخيرين وصفحه عن أخطائهم السابقة، كما صار الباب العالي يأمر الأرنئود «بأن يُلازموا الطاعة ويكونوا مع أحمد باشا خورشيد بالحفظ والصيانة والرعاية لكافة الرعية والعلماء … ونحو ذلك من الكلام المحفوظ المعتاد المنمق» ثم خلع خورشيد باشا على الحاضرين الكساوي، على أن خورشيد أحضر في ذلك الوقت أيضًا «المعلم جرجس وكبار الكَتَبة وعدتهم اثنان وعشرون قبطيًّا، ولم تجر عادةٌ بإحضارهم فخلع عليهم أيضًا»، ولكن ما إن انقضى هذا الحفل حتى «طلبهم الباشا إلى القلعة فحبسهم تلك الليلة واستمروا في الترسيم وطلب منهم ألف كيس» يدفعونها كسلفة وفي نظير ما نالهم من شرف الاستماع إلى الفرمانات التي قُرئتْ عليهم.

وكان الغرضُ المباشر من جمع هذه الإتاوات والغرامات والسلف التي أثارتْ سخط الأهالي والمشايخ وأعيان القاهريين على خورشيد دَفْع مرتبات الأرنئود لحملهم على الخروج لقتال المماليك ومواصلته معهم؛ لأن محاربة المماليك كانت أولى المسائل الرئيسية التي عني بها خورشيد للأسباب التي سبق ذكرها، وقد استمر فرض الإتاوات والغرامات على الوطنيين والأجانب طوال المدة التي ظل المماليك يحاصرون في أثنائها القاهرة؛ أي منذ طردهم من القاهرة في مارس ١٨٠٤ إلى وقت فيضان النيل في شهر أغسطس من العام نفسه، واضطرارهم بسبب الفيضان للانسحاب إلى الصعيد.

وواجهت خورشيد في أثناء نضاله مع المماليك صعوباتٌ عديدةٌ أهمها امتناعُ الأرنئود في أول الأمر عن الخروج لقتالهم قبل أن تُدفع لهم مرتباتهم، واستمرارُهم على المطالبة بهذه المرتبات أثناء القتال، ثم انقسام الأرنئود على أنفسهم، حتى بات يُخشى منذ أوائل أبريل — ولما تبدأ العمليات العسكرية الجدية بعدُ ضد المماليك — أن ينضم فريق منهم إلى البكوات، بل حدث في أول يوليو أن انضم إليهم فعلًا جماعةٌ منهم حوالي ١٥٠ شخصًا برئاسة إدريس أغا أحد كبار الأرنئود، كما انضم إليهم بعد أيام قلائل جماعةٌ أخرى «من كبار العسكر بأتباعهم ومنهم من ذهب إلى قبلي ومنهم من ذهب إلى بحري».

أضف إلى ذلك أن القاهرة ذاتها عندما بدأت العمليات العسكرية كانت مسرحًا للانقسامات والفتن والاضطرابات، يُرابط المماليك دائمًا حولها، وقد أقام هؤلاء معسكرَهم في سفح أهرام الجيزة، وعلى مرمى طلقة مدفع من المدينة، وعلاوة على ذلك فقد كان البرديسي أيضًا بجهة البساتين منذ خُرُوجه مطرودًا من القاهرة في مارس، بينما غادر الألفي مخبأه في الشرقية بمجرد أن علم بما وقع للبكوات، وربض هو الآخر في مكان على الضفة اليمنى للنهر على مسافة يومين من القاهرة، وانتشر المماليك في سُهُول سقارة وفي جهة إمبابة، وقد تقدم كيف سَبَّب تضييقُهم الحصار على القاهرة نشر المجاعة بها.

ومع ذلك فقد استطاع خورشيد بعد لأي وعناء، وبعد أن دفع للجند قسمًا من مرتباتهم أن يقنعهم بالخروج لقتال المماليك؛ لفك الحصار عن القاهرة، وفتح المواصلات من الوجهين البحري والقبلي لدخول المؤن إليها وتخفيف وطأة المجاعة عنها، ووقعتْ مناوشاتٌ بسيطة بين الأرنئود والمماليك، حتى كمل الاستعداد للالتحام معهم في معركة كبيرة في سهول الجيزة في أول أبريل كان محمد علي يقود جنده الأرنئود أثناءها، ولكنها لم تكن في صالح الأرنئود، فاستُؤْنِف القتالُ وانتصر محمد علي في هذه المرة، وأطلقت المدافع في القاهرة في ٦ أبريل إعلانًا لهذا الانتصار على المماليك الذين أُرغموا على الانسحاب صوب الفيوم وعاد محمد علي وجيشُهُ إلى القاهرة، وعقدت الاجتماعات لبحث الخطط والعمليات التالية، وحاول المماليك — من جهتهم — توحيدَ صفوفهم استعدادًا للمعارك المقبلة.

فقد كان الانقسامُ بين البكوات لا يزال على أشده منذ حادث مطاردة الألفي، وحاول البرديسي إنهاء الخلاف مع الألفي بالرغم من الكراهية الشديدة التي فصلت دائمًا بينهما، ولكن الألفي كان لا يثق في نواياه، فبيت النية على استغلال النضال القائم بين خورشيد وبين البكوات بزعامة إبراهيم والبرديسي، حتى يقوم بدور مزدوج للتقرب من الفريقين والتفاهم مع كل منهما؛ لتهدئتهما من ناحية، وكسبًا للوقت حتى إذا أنهكت قواهما الحروب استطاع هو أن يحتل القاهرة ويستأثر بالحكم لنفسه، متوقعًا أن يأتيه التأييدُ الكامل من جانب الإنجليز من جهة، ومعتمدًا على جهوده في كسب معاوَنة بعض الدول الأجنبية الأخرى من جهة ثانية.

وكان تنفيذًا لهذه الخطة إذن أنْ أبدى الألفي رغبته في التفاهم مع البرديسي، بينما أرسل يعرض على حكومة القاهرة — كما كتب «ماثيو لسبس» في ٩ أبريل — أن يقوم هو بمطاردة البكوات أعدائه؛ أي البرديسي وإبراهيم إذا وافق خورشيد على إعطائه مديرية جرجا، وقال «ماثيو لسبس» إنه من المنتظر أن يلقى هذا العرض قبولًا من جانب خورشيد.

وكان خورشيد منذ تسلُّمه مهام منصبه في القاهرة، قد بذل قصارى جهده لفتح باب المفاوضة مع الألفي، وكان غرضه من ذلك — كما كتب «مسيت» في ١٣ مايو — «التأثير على الألفي حتى يبدأ عمليات عسكرية بسيطة ضد إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي في نظير أنْ ينال الألفي ثمنًا لذلك معظم الصعيد»، وعلى ذلك فإنه ما إنْ وصل علي كاشف الشغب رسول الألفي إلى البساتين في ٢٩ أبريل، وبعث إلى المشايخ ينبئهم بوصوله، وأطلع هؤلاء خورشيد على الخبر، حتى أذن الأخير بدخوله القاهرة، فذهب معه المشايخ والسيد عمر مكرم لمقابلة الباشا الذي «اختلى به حصة وقابله بالبشر ثم خلع عليه فروة سمور» واحتفى به حفاوة بالغة، وأهداه محمد علي حصانًا، وغادر علي كاشف الشغب القاهرة في ٣ مايو «بعد أن وافق خورشيد على إعطاء الألفي جرجا وعثمان بك حسن قنا وما فوق ذلك من البلاد.»

ولكنه لما كان غرضُ الألفي التمويه وكسب الوقت وتبييت النية — كما قدمنا — على الاستئثار بالحكم لنفسه، فإنه بدلًا من تنفيذ اتفاقه — أو معاهدته — مع خورشيد، كتب إلى «مسيت» يطلب رأيه لعدم وثوقه في وعود الأتراك — كما قال — وبعث إليه بقوله: إن خورشيد قد كتب إليه خطاباتٍ كثيرة، وإن كثيرين من المماليك قد حضروا إلى مُعسكره من أسيوط لمناصرته، وإن عسكر القاهرة وأهلها يريدونه حاكمًا عليها مما يسهِّل عليه الاستيلاءَ على القاهرة؛ ولذلك فهو يريد من «مسيت» النصيحة؛ أي معرفة رأيه: هل يقبل عروض خورشيد أم يزحف على القاهرة، ويبدو أن الألفي كان يريد أن يعرف من «مسيت» مباشرة أو غير مباشرة ما إذا كان الإنجليز على وشك إرسال حملة إلى الإسكندرية ومصر أو أنهم على استعداد لإرسال هذه الحملة لنجدته؟

وقد فطن «مسيت» إلى غرض الألفي؛ لأنه بادر بالإجابة على رسالته في ١١ مايو بصورة تَنَصَّل بها من الإدلاء برأي قاطع في الموضوع «خشية أن ينقل كلامه إلى الغير» — كما قال «مسيت» — فاكتفى بأنْ ذكر للألفي أنه يجهل ما لدى خورشيد من تعليمات «وأوصاه بألا يسترشد بالظروف فحسب، وألا يترك نفسه ينساق وراءها وينقاد لها».

وحتى ٢١ مايو لم يكن الألفي قد أعلن موقفه، فلا هو قام «بعمليات عسكرية بسيطة ضد إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي»، ولا هو اشترك مع البكوات في المعارك التي خاضوا غمارها مع جيش محمد علي.

فقد اشتبك محمد علي في مناوشات مع المماليك الذين اتخذوا مراكزهم في جهتي سقارة وإمبابة بعد هزيمتهم الأولى، وكان النصر حليفه فيها، ولكن المماليك ما لبثوا أنْ هزموه في معركة كبيرة في إمبابة في ٢٦ أبريل، ولم يشأ محمد علي الاعترافَ بهزيمته فيها، بل بعث يؤكد لخورشيد أن المماليك هم الذين حاقتْ بهم الهزيمةُ وأنهم اضطروا إلى الانسحاب تاركين في ميدان المعركة حوالي الأربعين من قتلاهم وأرسل إلى القاهرة سبعة رءوس علقت بباب زويلة، ثم انتهز محمد علي فرصة انشغال المماليك بنهب العتاد الذي خلفه جيشه وراءه وخرج عليهم فجأة من خنادقه المحصنة واضطرهم للتقهقر فانسحبوا إلى ناحية أهرام الجيزة، ولو أنهم ظلوا محتفظين بمراكزهم، وفقدوا في هذه المعارك حسين بك الوالي وإسماعيل بك صهر إبراهيم بك.

ولم تكن هذه المعارك حاسمة، فقد أعاد المماليك تنظيم صفوفهم، واستمروا يقطعون المواصلات مع الصعيد، ومنعوا عن القاهرة المؤن، حتى عظم البلاء والكرب بسبب اشتداد المجاعة بها، وبادر خورشيد باستدعاء الأرنئود من رشيد ودمياط، وقد زال عنهما الخطر الآن بسبب تركيز المماليك لكل جهودهم حول القاهرة لتضييق الحصار عليها، فاحتشد في القاهرة حوالي ثمانية آلاف من الجند الأرنئود.

وفي ٥ مايو ترك البرديسي وإبراهيم ومماليكهم مركزهم في دهشور على الشاطئ الأيسر للنيل وعبروا النهر؛ قاصدين إلى القاهرة، بينما أبقَوا حسين بك الزنطاوي مع جماعته بناحية دهشور لحماية سفنهم، وفي ٩ مايو «وصل فريقٌ منهم إلى جهة قبة باب النصر والعادلية من خلف الجبل ورمحوا خلف باب النصر من خارج وباب الفتوح ونواحي الشيخ قتمر والدمرداش، ونهبوا الوايلي وما جاوره وعبروا الدور وعَرَّوا النساء وأخذوا دسوتهم وغلالهم وزروعهم، وخرج أهل تلك القرى على وجوههم ومعهم بعض شوالي وقصاع ودخل الكثير منهم إلى مصر».

ثم تفرقوا بعد ذلك في الشرقية والقليوبية، وهاجموا بلبيس ونهبوها، كما هاجموا ونهبوا قليوب واضطر كاشف القليوبية إلى الهرب إلى بولاق، ثم اتخذوا مركزهم العام في بركة الحاج، يبعثون منه بالعربان إلى نواحي القاهرة؛ حيث وقعتْ بينهم وبين الأرنئود عدة مناوشات، بينما انتشر حوالي نصف المماليك يعيثون فسادًا في قرى الوجه البحري، وفي ١٧ مايو التحم الأرنئود معهم في معركة في سهل مكشوف انهزم فيها الأرنئود، واحتفظ كل من الفريقين بمواقعه، المماليك في بركة الحاج والأرنئود عند أبواب القاهرة، وكان وقتئذ حسين الزنظاوي قد اتخذ مراكزه مع مُشاته عند «زاوية المصلوب» يقطع المواصلات مع الصعيد، بينما وقف سليمان بك الخازندار «خازندار مراد بك وحاكم جرجا» عند بني سويف «والألفي الصغير في أثره بحري منية بن خصيب والألفي الكبير مستقر بأسيوط»، والانقسامات لا تزال مستحكمة بين الألفي وأتباعه «الألفي الصغير وسليمان بك» وبين البرديسي وإبراهيم وجماعتهما.

ويُعزى سبب ازدياد حدة الخلاف بين الفريقين إلى أن الألفي الصغير عندما لم تصله أية معلومات عن الألفي الكبير بعد نزوله من الفرقاطة الإنجليزية التي أحضرتْه إلى مصر في فبراير، وأعتقد أنه مات؛ كان قد ارتحل إلى الصعيد أيام حكومة البكوات بالقاهرة واستئثار البرديسي بالسلطة العليا فيها على نحو ما سبق بيانه، فرحب به سليمان الخازندار، وطلب منه الألفي الصغير وساطته لدى البرديسي للصلح معه، فتقدم سليمان بك نحو القاهرة لهذا الغرض ومعه كميات كبيرة من القمح وألف كيس لدفع مرتبات الأرنئود، ولكنه وصل في الوقت الذي كان فيه البرديسي وإبراهيم قد طُردا من القاهرة، فكانت دهشته عظيمة، وأنحى باللائحة على البرديسي الذي حمله وحده مسئولية ضياع القاهرة من قبضة المماليك، وعرف أن الألفي الكبير لم يَمُتْ، ومع أن البرديسي كان يُريد الصلح مع الألفي الصغير لاستثارته ضد سيده الألفي الكبير، فقد أصر سليمان على إبلاغ الألفي الصغير أولًا أن الألفي لم يمت وغادر البرديسي دون أن يترك له نقودًا، وكانت خيانةُ البرديسي ومحاولته الغدر بالألفي الكبير سببًا في انضمام سليمان الخازندار إلى الألفي، وقوي حزب الألفي؛ لاستعداد عثمان بك حسن في جرجا للانضمام إليه كذلك بسبب عدائه الشديد للبرديسي.

ولما كان الألفي قد ظل ممتنعًا عن الاشتراك مع البرديسي وإبراهيم في القتال الدائر بينهما وبين خورشيد — حكومة القاهرة — بالرغم من تظاهُره بالرغبة في التفاهُم والاتفاق مع البرديسي، فقد صار الأخير يطلب من سليمان الخازندار قتال الألفي، ولكن دون جدوى؛ لأن سليمان صار من جهته يندد بمسلك البرديسي نحو الألفي تنديدًا عنيفًا، وظهر عقب معركة «١٧ مايو» أنْ لا أمل في حدوث أي اتفاق أو تفاهُم بين فريقي الألفي والبرديسي.

وكان في هذه الظروف إذن أنْ حاول الألفي استئناف مفاوضته مع خورشيد، فبعث برسالة إليه وصلت القاهرة في ٢٠ مايو يطلب «أتباعه الذين بمصر»، ولكن خورشيد رفض إجابة هذا الطلب محتجًّا «بعدم تحقق صداقة الألفي للعثمانية»، كما أشيع «صلح الألفي مع عشيرته سرًّا» وأنه إنما يتظاهر بخلاف ذلك «مع العثمانية» وكتب «ماثيو لسبس» في ٢٨ مايو، أن المفاوضات مستمرة بين الألفي وخورشيد ولكن من غير نتيجة، «لأن الألفي كثير الهذر.»

ولما كان البكوات في بركة الحاج قد قوي مركزهم بعد واقعة «١٧ مايو» الأخيرة لانضمام جُمُوع كبيرة من العربان إليهم، فقد تزايد خطرهم، وكثرتْ إغاراتهم على أطراف القاهرة وضواحيها، وطالب الأرنئود بمرتباتهم مرة أُخرى قبل الخروج لصدهم وقتالهم، وتطرفوا في المطالبة إلى حد الوقاحة وذلك في وقت — كما قالت نشرة الوكلاء الفرنسيين الإخبارية عن حوادث «١٠–٢٠ مايو ١٨٠٤» — كانت الخزانة فيه خاوية، واختفت النقود والعُملة من التداول في الأسواق، ووجد خورشيد من الحكمة للمحافظة على أمنه وسلامته أنْ ينتقل إلى القلعة، فنزل الأرنئود منها وطلع هو إليها في ١٨ مايو، «لأنه لم يكن مطمئنًا من ناحية الحوادث الداخلية، بينما يغادر السكان ميسورو الحال القاهرة يوميًّا — على حد ما جاء في النشرة الإخبارية السالفة الذكر — فرارًا من المجاعة والاضطرابات السائدة بها، ولخوفهم من أعمال السلب والنهب»، وأدرك خورشيد أن بقاءه بالمدينة يعرِّضه للمخاطر فآثر الانسحاب إلى القلعة مع حاشيته.

ولما كانت قد وصلت عمارة تركية في اليوم نفسه إلى أبي قير، فقد بعث يطلب ٢١٠ جنود غادروا فعلًا الإسكندرية إلى القاهرة في ٢٨ مايو وفي ٢١ مايو كتب «ماثيو لسبس» إلى «تاليران» أن المماليك والعربان يحاصرون القاهرة، وقد جمع المماليك عشرين ألفًا من العربان وعدوهم بنهب القاهرة، وهم أسياد الصعيد بأسره، ويمتد سلطانُهم من بلبيس إلى دمياط، وفي القاهرة المحاصَرة ليس لخورشيد سوى سلطة ضعيفة ومزعزعة ولا يجرؤ الأرنئود على الخروج من القاهرة، وفي ٢ يونيو «أشيع وقوع معركة بين المصرلية والعثمانية» في بلقس — شمال بهتيم — ووصلت طائفة من المماليك إلى ناحية شلقان يقطعون الطريق على السفار في البحر.

وحاول خورشيد دفع الخطر الداهم عن القاهرة بالخروج بنفسه وصحبته «المشايخ والرعية» دفعة واحدة؛ لقتال البكوات، وطلب المشايخ يوم ٦ يونيو يعرض عليهم هذا الرأي، ولكن لَمَّا كان أكثر هؤلاء الرؤساء — في رأي «مانجان» — منحازين إلى البكوات؛ لسخطهم — ولا ريب — على خورشيد بسبب الإتاوات والمغارم التي فرضها على القاهريين، فقد رفضوا خروج خورشيد وخروجهم معه بدعوى أن أكثرية الأهالي لا يدرون شيئًا من فنون القتال، «وقالوا له إذا انهزم العسكر تأمر غيرهم بالخروج وإذا كانت الهزيمة علينا وأنت معنا من يخرج بعد ذلك؟» فانفض المجلس على غير طائل.

وكان مما زاد في حروجة مركز خورشيد أنه كان من المتعذر بسبب المجاعة — نتيجة لتضييق الحصار على القاهرة — تموين الجند المرابطين في أماكنهم الحصينة على أبواب القاهرة، ويرفض هؤلاء أنْ يُتركوا لشأنهم يموتون جوعًا — كما قالوا — بينما استمرتْ مطالبتُهُم بمرتباتهم المتأخرة، والتزم البكوات من جانبهم مناوشة الأرنئود والاقتصار على الالتحام معهم في معارك في سهل مكشوف دائمًا؛ لضمان الاستفادة من قوم فرسانهم، وفضلوا تجويعَ القاهرة بتضييقِ الحصارِ عليها بدلًا من الهجوم عليها وأخذها عنوة، وذلك حتى يرغموا المحاصَرين بها على الخروج للالتحام معهم في سهل مكشوف، ولم يجرؤ سوى محمد علي على الخروج لمناجزتهم، فاشتبك معهم في معركة في ١٠ يونيو بجهة قليوب واحتل قريتين قريبتين منها، ولكن المماليك ما لبثوا أن قطعوا خط مواصلاته مع القاهرة ووصلوا إلى أبوابها، فاشتبك معهم في معركة أخرى بعد يومين استطاع بعدها الحضور إلى القاهرة؛ حيث قضى بها ليلة واحدة ثم خرج لقتالهم مرة أخرى في ١٣ يونيو.

وانسحب المماليك من القليوبية إلى المنوفية ينهبون ويخربون، واستولى إبراهيم كاشف عثمان بك البرديسي على منوف، وطالب الأرنئود من جديد بمرتباتهم فاضطر محمد علي إلى العودة إلى القاهرة يطلب مالًا لدفع هذه المرتبات فقبض «بسلطته الخاصة» على اثنين من الأعيان هما مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي وحبسهما بالقلعة ولم يفرج عنهما بعد أيام إلا بعد أن دفعا له ثلاثمائة كيس (٢٩ يونيو).

فكان في أثناء اشتداد هذه الأزمة التي أخذتْ بخناق خورشيد من كل جانب؛ أنْ بدأ الألفي يتحرك من أسيوط؛ للزحف على القاهرة التي خيل إليه أن في وسعه الآن الاستيلاء عليها دون صعوبة، ولما كان يريد التمويه على حُكُومة القاهرة، حتى لا يفطن خورشيد إلى غرضه الحقيقي والمباشر مِن زحفه — وهو حصار القلعة والاستيلاء عليها — فقد وصل القاهرة في ١٥ يونيو رسولٌ يحمل مكاتبةً منه إلى خورشيد؛ يخبره «بعزمه على الحضور إلى مصر هو وعثمان بك حسن ويلتمس أنْ يخلوا له الجيزة وقصر العيني لينظر في هذا الأمر والفساد الواقع بمصر.»

غير أن خورشيد أصر على أن ينكص الألفي على عقبيه مرتدًّا إلى جرجا حسب الاتفاق بينهما إذا كان لا يزال طائعًا وممتثلًا، وله كما كان الولاية والحكم بالإقليم القبلي، ومع ذلك فإنه لم تمض أيامٌ قلائلُ حتى جاءت الأخبار في ٢٤ يونيو بوصوله إلى ناحية بني سويف وعثمان بك حسن في مقابلته بالبر الشرقي، ولما كان يعتقد أن القاهريين موالون له، فقد أراد تحريك المشايخ والعلماء رؤسائهم لمناصرته، بادعائه أنه لم يقصد من الحضور سوى رفع المظالم وتأمين القاهريين وباستغلاله لحادث الإهانة التي لحقتْ بالست نفيسة المرادية وسائر حريم البكوات، والتي كانت من عوامل زيادة السخط على خورشيد.

وعلى ذلك، فقد بعث برسول وصل القاهرة في ٢٧ يونيو يحمل كتابًا للمشايخ والعلماء كان بمثابة نداء سجل مضمونه الشيخ الجبرتي، وجاء فيه — موجهًا الخطاب إلى المشايخ: «لا يخفاكم أننا كنا سافرنا سابقًا؛ — أي إلى لندن — لقصد راحتنا وراحة البلاد ورجعنا بأوامر، وحصل لنا ما حصل — مشيرًا إلى مطاردة البرديسي ومحمد علي له — ثم توجهنا إلى قبلي واستقرينا بأسيوط بعد حصول الحادث بين إخواننا الأمراء والعسكر وخروجهم من مصر — أي القاهرة — وأرسلنا إلى أفندينا الباشا بذلك فأنعم علينا بولاية جرجا ونكون تحت الطاعة فامتثلنا ذلك وعزمنا على التوجه حسب الأمر، فبلغتْنا مصادرة الحريم والتعرض لهم بما لا يليق من الغرائم وتسليط العساكر عليهم ولزومهم لهم فثنينا العزم واستخرنا الله تعالى في الحضور إلى مصر لننظر في هذه الأحوال، فإن التعرُّض للحريم والعرض لا تهضمه النفوس.» وهذا عدا كلام كثير في هذا المعنى.

وأطلع المشايخ خورشيد على رسالة الألفي، ولكن خورشيد ظل متمسكًا بموقفه منه، ودفع حجته بقوله إن البكوات كانوا قد تركوا في الماضي نساءهم للفرنسيين، وأخذ هؤلاء منهم أموالًا، وأنه كان قد أعطى للألفي جرجا ولعثمان حسن قنا وما فوق ذلك من البلاد، وكان في عزمه أن يكتب للدولة ويطلب لهم أوامر ومراسيم لاعتماد ما فعله لهم ولضمان راحتهم «فحيث إنهم لم يرضوا بفعله وغَرَّتْهم أمانيهم فليأخذوا على نواصيهم.»

وكتب «مسيت» في ٢٨ يونيو يبرر في الحقيقة موقف خورشيد من الألفي فقال: إن الألفي على العكس مما كان يقتضيه واجب «المعاهدة المبرمة أخيرًا بينه وبين خورشيد» قد دخل في نوع من التحالُف مع عثمان حسن لامتلاك القاهرة سويًّا، وإنهما يمنيان النفس بسهولة الاستيلاء عليها بسبب الخسائر التي تكبدها الأرنئود والبكوات إبراهيم والبرديسي وبسبب تَذَمُّر أهل القاهرة من حكومة خورشيد، ونزل الألفي ومماليكه إلى ما تحت الأراضي المعينة له بمقتضى اتفاقه مع خورشيد؛ ولذلك فقد اعتبر الأخير أن الاتفاق السابق بينهما قد صار مُلْغًى.

ومن أوائل يوليو انفصمت كل علاقة بين خورشيد والألفي، فقتل خورشيد رسولًا أوفده الألفي إليه ٣ يوليو، وأنقذ أحد كبراء الأرنئود اثنين من أتباع الألفي في القاهرة من قبضته، ورأى الألفي من الحكمة الآن أن يتحد مع سائر البكوات، وكان الوكلاء الفرنسيون قد ذكروا في نشرتهم الإخبارية عن حوادث «٢٠–٢٩ يونيو»، أنه يبدو أن البكوات «جماعة إبراهيم والبرديسي» قد وصلتْهم تأكيداتٌ قاطعة بمعاونة الألفي الكبير والألفي الصغير وعثمان بك حسن لهم، والمتوقع أن هؤلاء في طريق زحفهم على القاهرة، فالألفيان على الشاطئ الأيسر للنيل على مسيرة يوم من الجيزة، وعثمان حسن على الشاطئ الأيمن عند طره، «ولو أنه لا يعرف بعد ما إذا كان الألفيان قد حضرا لتأييد قضية المماليك عمومًا أو لخدمة مآربهما الخاصة دون نظر لصالح سائر البكوات»، وبالفعل لم يلبث أن عُرف في القاهرة في ٥ يوليو أن الألفي الصغير قد وصل إلى إمبابة وعثمان بك حسن إلى حلوان، والألفي الكبير إلى الشوبك، وأن إبراهيم والبرديسي وباقي البكوات قد رجعوا إلى ناحية بنها بعدما طافوا المنوفية والغربية وقبضوا الكلف والفرد.

واتخذ محمد علي وخورشيد تدابيرهما لمواجهة هذه القوات التي تبغي الإطباق على القاهرة من كل جانب، فخرج كثير من الجند لتعزيز معسكر شلقان، كما خرج آخرون إلى ناحية طرة والجيزة، وجاءت الأخبار بوصول «الدلاة» الذين كان قد بعث خورشيد يستقدمهم من الشام لنجدته، وهم من الفرسان؛ أي القوة، أو السلاح الذي يفتقر إليه جيش خورشيد، وكانوا من الأكراد سموا بالدلاة أو الدلاتية؛ أي المجانين بسبب ما اشتهروا به من تهور وبطش، وبنى خورشيد لذلك آمالًا كبيرة على الانتفاع بهم في الوقت الذي دأب فيه الأرنئود على تعطيل العمليات العسكرية بسبب مرتباتهم.

واشتبك الأرنئود — بقيادة محمد علي وحسن بك خصوصًا — مع المماليك في عدة معارك ومناوشات في طرة والبساتين والمطرية وخارج أبواب القاهرة ذاتها، وأحرز البكوات نصرًا هامًّا عندما شتتوا شمل «الدلاة» عند قطية، ولكن «محمد علي» لم يلبث أنْ هزم جماعة الألفي الصغير في طرة (١٨ يوليو) وجماعة البرديسي في شبرا بعد أن تكبد الأرنئود خسارة كبيرة وكاد ينتصر المماليك عليهم، ثم وقعت معركة شلقان، وكانت مراكز المماليك بقيادة حسين الزنطاوي مع جنده السود ومُشاته ومدفعيته تستند على النيل بالقرب من شلقان، بينما وقف إبراهيم بك في الوسط، وكانت الميسرة بقيادة البرديسي، فهاجم محمد علي قرية شلقان في ليل ٢٢-٢٣ يوليو واستولى عليها، وانهزم المماليك فانسحبوا «إلى جهة الشرق بالخانكة وأبي زعبل»، وفي ٢٦ يوليو ترك البكوات الخانكة فجروا خلف القلعة والجبل في طريق انسحابهم إلى الصعيد، ووضعت معركة شلقان حدًّا لنشاطهم العسكري، وبدأ ينفك الحصار عن القاهرة.

وكان البكوات القبالي في أثناء العمليات العسكرية السابقة قد حاولوا توسيط المشايخ في الصلح مع خورشيد «وإخماد الحرب»، ووعدوا بالانضمام إليه وبأن يكونوا معه إذا هو فعل ذلك «على ما يحب ويأمر به، فيرتاح من علوفة العسكر التي أوجبتْ له المصادرات وسلْب الأموال وخراب الإقليم»، فيستطيع عندئذ الاكتفاءَ بعدد قليل من الجند ويُبعد الآخرين إلى بلادهم، ولكن خورشيد «أبى وقال ليس لهم عندي إلا الحرب» (١٣ يوليو) ثم حاول إبراهيم والبرديسي الصلح مع خورشيد وتوسيط أحد أعيان القاهريين «السيد بدر المقدسي» في ذلك، بدعوى أن خورشيد «لا يستقيم حاله مع العسكر ولا يرتاح معهم» ومن واجبه أن يعتبر بما فعلوه مع محمد باشا «خسرو»، وأما هم فيكونون معه على ما ينبغي من الطاعة والخدمة»، فقبض خورشيد على السيد بدر ولم يُطلق سراحه إلا بعد أن شفع فيه المشايخ (أول أغسطس) ولما كان النهر قد بدأ في الارتفاعِ بسبب الفيضان، فقد استمر البكوات ينسحبون إلى الصعيد، وتم انفكاك الحصار عن القاهرة، وأخفقت محاولات البكوات في الاستيلاء عليها نهائيًّا.

وخيل إلى القاهريين بعد انسحاب المماليك ورفع الحصار عن القاهرة أن بوسعهم الآن أن يتنفسوا الصعداء، ولكن الأرنئود العائدين إلى القاهرة بعد انتهاء العمليات العسكرية، وبعض عسكر «الدلاة» الذين استطاعوا الوصول إلى القاهرة كذلك بعد هزيمتهم على يد المماليك في قطية، ما لبثوا أن نشروا «إرهابًا» حقيقيًّا في العاصمة؛ بسبب اعتداءاتهم على سُكَّانِها من وطنيين وأجانب على حد سواء، حتى كتب «تابرنا» سكرتير البعثة الإنجليزية في القاهرة إلى «مسيت» بالإسكندرية في ٢٣ أغسطس سنة ١٨٠٤، أن حوادث القتل صارتْ تقع يوميًّا، ويكثُرُ نهب البيوت، وصار من الخطر أن يخرج إنسان إلى الشارع، بل ولا يأمن الأهلون على أنفسهم حتى وهم قابعون في بيوتهم، وضج الأهلون بالشكوى وعظم التذمر، وقد ترتب على هذه الفوضى وهذا الذعر أن كبار المشايخ والأعيان ما لبثوا أنْ ذهبوا إلى «تابرنا» في ٢٥ أغسطس يطلبون توسُّط الحكومة الإنجليزية لنجدتهم، «لأنها وحدها التي في وسعهم أن ينتظروا منها إقبالًا على مساعدتهم وتخفيف ويلاتهم.»

وطلب المشايخ من الحكومة الإنجليزية «أن ترسل جندًا إلى مصر لإنقاذ أهلها من الفناء»، وقالوا إنهم لا يمتنعون عن طلب هذه النجدة من فرنسا إذا تعذر عليهم الحصول عليها من إنجلترا، وكان من رأي «تابرنا» على نحو ما كتب في رسالة أخرى إلى «مسيت» في ٢٦ أغسطس أن خورشيد باشا عاجز كل العجز عن فعل شيء مع هؤلاء الأرنئود «العصاة» مصدر كل هذه المتاعب.

ولقد كان خورشيد عاجزًا حقًّا عن فرض سيطرته على الأرنئود، وكان من أسباب عجزه أن الأرنئود انقسموا إلى فريقين: أحدهما بزعامة محمد علي وهو يظهر الولاء لخورشيد، والآخر بزعامة حسن بك وعابدي بك قريب طاهر باشا وهو يظهر المداراة لخورشيد وللبكوات المماليك على السواء، ويخشى خورشيد جانب هذا الفريق؛ لأنه لو اتحد مع المماليك لا يلبث أن يهدد حتمًا كيانَ حكومته، وكان هذا الخوف من أهم الأسباب التي حملتْ خورشيد على الصعود إلى القلعة منذ ١٨ مايو والتحصُّن بها، وظهر عجز خورشيد مع الأرنئود عندما وصله الأمرُ من الباب العالي بإرسال الجند والذخائر إلى «ينبع» للمحافظة عليها ضد الوهابيين.

وجمع خورشيد رؤساء الأرنئود وكبار العسكر في ٢٥ يوليو وقرأ عليهم أوامر الباب العالي، ولكنهم امتنعوا عن الخروج إلى الحجاز «وقالوا نحن لا نخرج من مصر ولا نتقلد منصبًا خارجًا عنها»، وفشلت كل محاولات خورشيد معهم عندما وصلتْه الأخبارُ بعد ذلك بسقوط «ينبع» في أيدي الوهابيين، وواتت الفرصة خورشيد للتخلص من طائفة من رؤساء الأرنئود عندما أراد هؤلاء انتهاز فرصة العفو السلطاني عنهم ودعوتهم للرجوع إلى أوطانهم، وعزموا الآن على مغادرة البلاد، فصار خورشيد يشجعهم على ذلك، واستعد هؤلاء فعلًا للسفر من بولاق في ١١ أغسطس، وكان من بينهم أحمد بك «رفيق محمد علي»، ولكن لم يلبث أن تدخل الجند «وأحاطوا بهم ومنعوهم من السفر قائلين لهم أعطونا علوفتنا المنكسرة وإلا عطلناكم ولا ندعكم تسافرون بأموال مصر ومنهوباتها» واضطر هؤلاء إلى الإذعان والعدول عن السفر، وضاعت وقتئذ الفرصة على خورشيد.

على أن انتقال خورشيد إلى القلعة ترك الميدان فسيحًا طليقًا لمحمد علي في القاهرة حتى يستأثر لنفسه بكامل السلطة والنفوذ بها.

وكان من أسباب زيادة نُفُوذ محمد علي، حاجة خورشيد الملحة لخدماته ولمؤازرته له ضد حزب الأرنئود الآخر الذي يخشى من انقلابه عليه من جهة، ثم ضد المماليك وقتالهم من جهة أُخرى، كما كان من أسباب ذلك تعلق الشعب بمحمد علي؛ لأنه استطاع أن يفك الحصارَ المضروبَ على القاهرة، مما جعل من المتيسر دخولُ المؤن إليها وكسر حدة المجاعة بها، وفضلًا عن ذلك فقد حرص محمد علي، على مواساة القاهريين ومشايخهم ورؤسائهم وإظهار تألُّمه من الإجراءات التعسفية التي اتخذها خورشيد باشا لجمع المال حتى يدفع مرتبات الجند، لا سيما وقد استمر خورشيد يفرض الإتاوات والمغارم على القاهريين بعد وقف العمليات العسكرية عقب انسحاب البكوات صوب الصعيد.

فقد أمر خورشيد في ٢٠ أغسطس «بتوزيع فردة على أهل مصر لإغلاق جامكية العسكر» حُصِّلت من الوجاقلية وتجار البن وخان الخليلي وأهل الغورية وغيرهم «على سبيل القرض» وارتكب عمال الباشا فظائع كثيرة في تحصيله، كما تسلط الجند على المتخلفين عن الدفع، فاعتدوا على بيوتهم وارتكبوا القبائح والمنكرات، وحبس خورشيد «الأمير على المدني صهر الشيخ الجوهري»، وتوسط المشايخ لإطلاق سراحه فأفرج عنه في أوائل سبتمبر بعد أنْ تقرر عليه «أربعة آلاف ريال خلاف البراني»، وحجز خورشيد قوافل البن الآتية من السويس «وأخذها وأعطى أصحاب البن وثائق بثمنه لأَجَل، ووكل في بيعه وحول به العسكر يأخذونه من أصل علوفاتهم فبلغ ثمن المحجوز تسعمائة كيس».

وينهض دليلًا على مبلغ ما تمتع به محمد علي من نُفُوذ وقتئذ أنه استطاع إنهاء اضطرابٍ كبيرٍ نَجَمَ عن اصطدامٍ وقع بين الأرنئود والسكان الأوروبيين في حي الإفرنج بالقاهرة، ذكره الشيخ الجبرتي عند تسجيله حوادث «٢٨ ربيع الثاني ١٢١٩ﻫ/٦ أغسطس ١٨٠٤م»، فقال: «تشاجر شخص من العسكر مع شخص حكيم فرنساوي عند حارة الإفرنج بالموسكي فأراد العسكري قتل الفرنساوي فعاجله الفرنساوي فضربه فقتله وفر هاربًا، فاجتمع العسكرُ وأرادوا نهب الحارة، فوصل الخبر إلى محمد علي فركب في الوقت ومنع العسكر من النهب وأغلق باب الحارة وقبض على وكيل قنصل الفرنساوية وأخذه معه وحبسه حتى سكن العسكر»، وتفاصيل الحادث كما يؤخذ من تقارير «ماثيو لسبس ومسيت» أن طبيبًا يونانيًّا في خدمة خورشيد يتمتع بالحماية الإنجليزية كانت بينه وبين الطبيب الفرنسي «روير» Royer منافسة، فحرض اثنين من الأرنئود على قتله، ولما كان «روير» قد كان معتادًا على خدمة الأرنئود الذين تعودوا على الذهاب لتناوُل الخمر في منزل «ماثيو لسبس» الذي قال عنه «مسيت» إنه استغل إعفاءات الامتيازات التي مكنتْه من بيع الأنبذة والخمور بأثمان منخفضة فافتتح حانة في بيته كوسيلة من وسائل استمالته الأرنئود إلى تأييد المصالح الفرنسية، فقد ذهب الجنديان إلى «روير» في بيته بعد أن أسكرهما الطبيبُ اليوناني يطلبان خمرًا، فرفض «روير»، وفي المشاجرة التي حدثتْ جُرح أحد الجنديين ونزع من الآخر سلاحه، وتصادف في هذه الأثناء مرور داورية ألبانية برئاسة ممباشي، فقبضوا على أحد خدمة «روير» وأحضروه إلى محمد علي، فقام الأخير من فوره ومعه «ديسيسار» Desissards القائم بأعمال القنصلية في غياب «ماثيو لسبس» بالإسكندرية، وحاول تهدئة الحالة بالقبض على قاتل الضابط الذي كان من جُنْد حسن بك أخي طاهر باشا، ولكن دون جدوى وعاد أدراجَه، ولكن كخيا حسن بك مع حوالي مائة من العسكر لم يلبثْ أنْ جاء إلى حَيِّ الإفرنج وقبض على «ديسيسار» وسكرتير أول القنصلية الفرنسية «هلدبراند» Hildebrand فتوسط محمد علي بصورة أفضتْ إلى الإفراج عن الأول ونقل الثاني إلى منزله «كرهينة»؛ لأن الأرنئود أَصَرُّوا على تسليم القاتل إليهم وهددوا في الوقت نفسه بنهب القاهرة إذا لم يُجب مطلبهم، وأشرك الطرفان المتنازعان خورشيد باشا في الأمر، ولكن صاحب الفضل في إنهاء هذه الفتنة كان «محمد علي» الذي أقنع الأرنئود بقبول الدية بدلًا من القصاص من القاتل، فوافق زعماؤهم على إطلاق سراح خادم «روير» وكذلك «هلدبراند» نظير مبلغ من المال، كما وعدوا بعدم إيذاء «روير» أو غيره واعتبر الحادث منتهيًا (١٠ أغسطس).

وقد علل «مسيت» ما سماه «صرامة» من جانب محمد علي في هذا الحادث بسبب إصراره على تسليم القاتل أو دفع الدية لأهل المقتول، بأن «محمد علي» كان يعلم — كما قال «مسيت» في رسالته إلى «هوبارت» في ١٢ أغسطس — أن الممباشي المقتول من جند حسن بك أخي طاهر باشا «وهو صاحب نفوذ كبير على الأرنئود بسبب ذلك، فإنه لما كان من الجائز أن يكون حسن بك صديقًا مفيدًا لمحمد علي أو عدوًّا يخشى الأخير خطره؛ فقد أدرك — ولا شك — أنه إذا أيد مصلحة الفرنسيين في هذا الحادث إنما يُثير بذلك غضب حسن بك عليه ويحرم نفسه من تأييد هذا القائد ومناصرته له، مما قد يضطره علاوة على ذلك إلى الانسحاب من مصر كلية وضياع كل آماله»، فآثر إرضاء حسن بك على رعاية المصلحة الفرنسية، ومع ذلك ومهما يكن من أمر فقد دَلَّ نجاح محمد علي في تسكين الفتنة على مدى ما كان له من نفوذ على الأرنئود جعله يطمئن إلى قدرته على الاعتماد عليهم عند الحاجة، على أنه كان من ذيول هذا الحادث أن بعث «ماثيو لسبس» من الإسكندرية يستقدم الجالية الفرنسية وأعضاء البعثة الفرنسية كذلك من القاهرة، ورحل جميعهم إلى الإسكندرية في غضون شهرَي أغسطس وسبتمبر، ولم يبق بالقاهرة سوى «مانجان» فحسب؛ «لبضعة أيام ينهي فيها أعماله».

وأما محمد علي فقد جعله اطمئنانُهُ إلى ما يتمتع به من نُفُوذ على الجند يُقْدم بعد ذلك — كما قال معاصروه — على تجربة حظه مع القوة العاملة الأخرى في داخل القاهرة، وهم القاهريون أنفسُهُم الذين بلغ سخطهم أشُدَّه على حكومة خورشيد باشا؛ وذلك لمعرفة مدى سلطانه ونفوذه عليهم، وقد أسفرتْ هذه التجربة عن اقتناع محمد علي بأن الشعب متعلق به يؤيده ويريد بقاءه.

وتفصيل ما حدث، أن «مسيت» منذ حوادث «مارس ١٨٠٤» التي أفضت إلى تحطيم حكومة البكوات وطردهم من القاهرة، ظل يتهم «محمد علي» بالعمل لتعزيز المصالح الفرنسية وقبول الرشوة من الوكلاء الفرنسيين؛ لإنهاء حكم البكوات من القاهرة والحيلولة دون إقامة الحكومة القوية التي تستطيع رد عدوان الفرنسيين عن البلاد إذا جاءوا لغزوها، وزاد اعتقاده رسوخًا عندما أبلغ محمد علي الوكيل الفرنسي فحوى نصيحة كان «مسيت» قد كلف بها ترجمانه بالقاهرة لينصح الأرنئود بوضع عدد كاف من الجند في المراكز الساحلية لمنع نزول الجيش الفرنسي عند حضوره، وليوضح لهم نوايا الفرنسيين العدوانية نحو مصر والمورة، وساء «مسيت» أن يستأثر محمد علي بكل سلطة في شئون الحكم دون خورشيد الذي عده «مسيت» — كما تقدم — ألعوبة في يد محمد علي.

وتزايدت مخاوف «مسيت» من زيادة نفوذ محمد علي بعد معركة شلقان، واضطرار البكوات إلى الانسحاب صوب الصعيد بسبب الفيضان، وفك الحصار نهائيًّا عن القاهرة تبعًا لذلك رسائل «مسيت» لحكومته في ١٢ مارس، ٤ و١٩ أبريل، ١٣ مايو، ٥ أغسطس ١٨٠٤، وعلى ذلك فقد دأب «مسيت» على النصح لخورشيد بالتخلُّص من الأرنئود وإبعاد محمد علي، كما بادر بمجرد أن علم بمساعي محمد علي في القسطنطينية من أجل الحصول على باشوية مصر بالكتابة إلى حكومته في ١٠ أغسطس يبلغها نبأ هذا المسعى، ويفصح عن رجائه «في أن يرفض الديوان العثماني عروض محمد علي الخادعة»، ويبدي مخاوفه من نجاح مساعيه في آخر الأمر بسبب ما هو معروفٌ من إمكان رشوة رجال الباب العالي.

ولما كان قد بلغ «مسيت» أن الأرنئود الموجودين بالشام ينوون الحضور إلى مصر للإثراء فيها بسرعة على نحو ما فعل مواطنوهم؛ فقد صار يبذل قصارى جهده ليحمل خورشيد باشا على منع حضور هؤلاء العساكر الأرنئود إلى مصر بدعوى أن خورشيد سوف يجد نفسه وقد بات لا حول له ولا قوة إذا تزايد عدد الأرنئود، وفي وضع مشابه لوضع الباشوات العثمانيين في مصر قبل الغزو الفرنسي، وفضلًا عن ذلك فقد صار «مسيت» يكرر النصح لخورشيد بضرورة السعي لدى الباب العالي لإبعاد محمد علي من مصر، واستمع خورشيد لنصيحته.

وعلى ذلك فقد كتب «مسيت» إلى «هوبارت» في ١٦ أغسطس ١٨٠٤ «أنه يشعر بسرور وارتياح عظيمين؛ لأن في وُسعه الآن أنْ يبلغه أن الديوان العثماني قد عين «محمد علي» لباشوية سالونيك استجابة لتوصية خورشيد باشا بناء على ما أبداه «مسيت» من حجج ودعاوى» لإقناع خورشيد بعمل هذا المسعى في القسطنطينية، على أنه يبدو من إغفال «مانجان» والشيخ الجبرتي وغيرهما من المعاصرين ذكر مسألة تعيين محمد علي لولاية سالونيك، التي علم بها «مسيت» من خورشيد، أن خورشيد ربما فضل إخفاء هذا الخبر في وقت كان فيه محمد علي نفسه يبدي رغبته في العودة إلى بلاده، ويبدي غيره كذلك من رؤساء الأرنئود نفس هذه الرغبة.

زد على ذلك أنه لم يصدر فرمانٌ من الباب العالي بتعيينه لهذا المنصب، ومن الثابت أن خورشيد ظل يبذل مسعاه بعد ذلك لتعيين محمد علي لإحدى باشويات الإمبراطورية، ولم تتكلل مساعيه بالنجاح إلا في مايو ١٨٠٥ على نحو ما سيأتي ذكره، وعلى كل الأحوال فسواء أكان يعلم محمد علي بأمر هذا التعيين، أم كان يجهله وليس هناك قطعًا ما يدل على علمه به؛ فالثابتُ أن جماعةً من كبار الأرنئود ومن الذين منعهم الجندُ من السفر في ١١ أغسطس كانوا قد عقدوا العزم على العودة إلى بلادهم سريعًا، وعلى ذلك فقد انتهز محمد علي هذه الفرصة للقيام بتلك التجربة التي أراد بها اختبارَ مدى تعلُّق الشعب به، فقابل خورشيد وأبلغه أن فوضى الجند وعدم خضوعهم للنظام جَعَلَا من المستحيل على أية حكومة أن تقوم بوظائفها، بينما يجعل انتشارُ البؤس والضنك من المتعذر جمع المال اللازم لدفع مرتبات الجند؛ ولذلك فإنه لما كان مقتنعًا بأنه لم تعد هناك أية فائدة من بقائه واستمرار خدماته فقد أراد العودة إلى بلاده، فبادر خورشيد بإجابته إلى طلبه، وخرج محمد علي من هذه المقابلة يُعلن عزمه على السفر كما شرع يبيع بعض أثاث منزله.

وعلى ذلك فقد أُشيع — على نحو ما ذكره الشيخ الجبرتي في حوادث «٥ جمادى الثانية ١٢١٩ﻫ/١١ سبتمبر ١٨٠٤م» — سفر محمد علي إلى بلاده وكذلك أحمد بك وغيرهما من أكابرهم، وشرعوا في بيع جمالهم ومتاعهم، وبادر خورشيد باستبدال آخرين بهم في مناصبهم، فما إن ذاع الخبر في القاهرة حتى كثر لغط الناس وعَمَّ الاضطرابُ، وأغلقت المدينة أبوابها وخرجت الجماهير الصاخبة إلى الشوارع والأسواق وأغلقت الدكاكين والوكائل، واعتبر القاهريون الذين تعودوا الاعتماد على محمد علي في حمايتهم من الفوضى وإرهاب الجند لهم عودته إلى بلاده كارثة عظيمة، وازدادوا تمسكًا به عندما شرع الجند وسط هذا الهياج والاضطراب ينهبون ويسلبون مرة أخرى، ولجأ النساء والأطفال إلى بيت الشيخ المهدي، وسَبَّبَ ما حدث دهشة عظيمة لخورشيد الذي عجز عن اتخاذ أي إجراء لإعادة الأمن والهدوء، وخرج محمد علي بنفسه لتهدئة العاصفة في اليوم التالي (١٢ سبتمبر) فتجول في أنحاء المدينة «وهو ماشٍ على أقدامه»، وخلفه حسن بك أخو طاهر باشا وعابدي بك وأغاة الإنكشارية والوالي — رئيس الشرطة — وعدد كبير من الجند، يعمل لإشاعة الطمأنينة في نفوس الأهلين الذين استمعوا لنصحه فلزموا بيوتهم ومحالهم.

ووُقِّعَتْ عقوبةُ الإعدام على عددٍ من الجنود الذين اشتركوا في أعمال النهب والسلب، وعاود السكون القاهرة، وظهر محمد علي بمظهر الرجل الذي لا يتردد في التضحية بمصلحته الشخصية في سبيل الصالح العام، فلم يعد يذكر شيئًا عن رغبته في العودة إلى بلاده، وتيقن محمد علي من تعلُّق الشعب به، وطُويت كذلك مسألة تعيينه لولاية سالونيك، وبقي محمد علي، أما سائر الرؤساء كأحمد بك وصادق أغا وعلي بك أخي طاهر باشا فقد غادروا القاهرة في ١٣، ٢٣ سبتمبر.

وكانت مهمة خورشيد التالية استئناف القتال ضد المماليك.

وقد اهتم خورشيد باستئناف القتال ضد المماليك؛ تنفيذًا لرغبة الباب العالي الذي أراد إفناءَ المماليك والقضاءَ على سلطانهم، ولأن استئناف القتال ضدهم يقتضي خروجَ الأرنئود من القاهرة إلى الصعيد، فيتسنَّى لخورشيد عندئذ استقدامُ قواتٍ أُخرى يستعيض بها عنهم، ويتمكن بفضلها من دعم أركان حكومته، الأمر الذي استأثر بتفكيره دائمًا وسط كل مشاغله، وصح عزمه على تدبير هذا الانقلاب الذي سوف يخلِّصه منهم في أثناء غيابهم وانشغالهم بقتال المماليك في الصعيد بعيدين عن القاهرة، ولما كان قد ترك القاهرة ورحل عن مصر كثيرون من الرؤساء والجند الأرنئود حوالي الألفين فقد وجد الباقون أنهم فقدوا قدرًا كبيرًا من السيطرة التي كانت لهم، حتى إن «العثمانلي» الذين كانوا قد تزيوا بزي الأرنئود اتقاء لشرهم، ما لبثوا أن استعادوا زيهم العثمانلي القديم، ولم يكن من المنتظر لذلك أن يستمر الأرنئود يرفضون الخروج لقتال المماليك بالصعيد، أو يقاومون أوامر خورشيد، وبخاصة إذا دفع لهم شيئًا من مرتباتهم.

فكتب الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية عن حوادث «١٢–٢٣ سبتمبر ١٨٠٤»: «أن خورشيد قد عقد اتفاقًا مع زعماء الجند «الأرنئود» بأن تخرج جماعة من الجنود لقتال المماليك في الصعيد، وتذهب جماعة أخرى إلى الجيزة لتقيم بالثكنات الموجودة بها، وذلك بمجرد أن يدفع خورشيد مرتبات شهرين، وأما الذين لا يرضيهم هذا الاتفاق من الجند فيعودون إلى أوطانهم»، وشرع خورشيد يجمع المال اللازم، فلجأ إلى المشايخ يسألهم رأيهم، فتخلص هؤلاء بأن فوضوا السيد أحمد المحروقي في المسألة، فحصل خورشيد بواسطته على ١٥٠ كيسًا، ووافق الوجاقلية ورؤساء النقابات على إعطائه مبلغًا كبيرًا من المال (٢٦٠٠ كيس) يشرع في تحصيله فورًا على أن يجري توزيعُ كل ما يرد منه على الجند أولًا بأول وفي مدة غايتها ثلاثون يومًا، واستطاع الوجاقلية أن يدفعوا لخورشيد ١٥٠٠ كيس، وبهذه الطريقة تمكن من دفع المرتبات المتفَق عليها مع الأرنئود، وعندئذ لم يعدْ هناك مناص للجند الذين فضلوا البقاء في مصر وعدم العودة إلى بلادهم من الخروج في الحملة المزمعة ضد المماليك.»

وفي أواخر سبتمبر كان قد اجتمع الجند ورؤساؤهم في طرة، وفي ٢٣ سبتمبر قلد خورشيد سلحداره ولاية جرجا، وفي ٢٩ منه كان الجيش على قدم الاستعداد، فاستعرض خورشيد الجند في ٢ أكتوبر، وكانوا حوالي الأربعة آلاف، تولى قيادتهم سلحداره، وفي ٦ أكتوبر بدأ هذا الجيش زحفه صوب جرجا، واستعد في الوقت نفسه للخروج جيشٌ ثانٍ من حوالي ثلاثة آلاف من المشاة والفرسان وأعطيت قيادته لمحمد علي في ٢٤ أكتوبر، ولكنه تعطل سيره عندما اتهم أحد ضباطه «قادري أغا» بأنه يكاتب البكوات في الصعيد، «فمنعوه من السفر إلى قبلي وأمروه بأن يسافر إلى بلاده فركب في عسكره وذهب إلى بولاق وفتح وكالة علي بك الجديدة ودخل فيها بعسكره وامتنع بها، وانضم إليه كثير من العسكر»، وعبثًا حاول محمد علي وخورشيد اللذين ذهبا إليه، إقناعه بالسفر، ثم لم يلبث أن انضم إليه عدد من الأرنئود المتذمرين يتراوح عدده — حسب الروايات المختلفة — بين الستمائة والتسعمائة، وقال «مسيت» عند ذكره لهذا الحادث في رسالته إلى حكومته في ١٢ نوفمبر: «إن هذه القوة البسيطة من الأرنئود العصاة استطاعتْ أن تملي شروطها على خورشيد، وبمقتضى هذه الشروط أُعدت السفن لنقل قادري أغا وجماعته إلى الإسكندرية حتى يبحروا منها إلى أوطانهم، فترك بولاق في ٦ نوفمبر، ولكنهم عندما وصلوا إلى شابور لاحظوا تأخر سفينتي المدفعية اللتين كانتا في حراستهما فنزلوا إلى البر، وساروا بطريق الصحراء لغرض الانضمام إلى المماليك بمعسكر الألفي»، وقد أرسل محمد علي — على نحو ما ذكر الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية بتاريخ ٢٤ نوفمبر — لتعقبهم والبحث عنهم ولكن دون جدوى.

وتلقى محمد علي أوامر بالتحرك في ١٧ نوفمبر، على أن يتبع نفس الطريق الذي سار فيه جيش السلحدار؛ أي على الضفة اليسرى للنهر، ومهمته أنْ يحمي جناح جيش السلحدار من تهديد قوات الألفي له عند مدخل الفيوم؛ حيث كان الألفي رابضًا بهذا المكان، وكانت وجهة جيش محمد علي المنيا، وأخيرًا خرج جيشٌ ثالث في ٢١ نوفمبر من ١٢٠٠ مقاتل، أُعطيتْ قيادته إلى حسن بك الذي رفعه خورشيد إلى مرتبة الباشوية منذ ٨ نوفمبر، وكانت مهمة حسن باشا الزحف على الشاطئ الأيمن للنهر للاستطلاع، وحتى يحمي من هذا الجانب زحف الجيشين السابقين، وقد أنزل حسن باشا نصف قواته في النيل، بينما سار برًّا بالنصف الآخر.

وأما المماليك فقد ظهر الانقسام بينهم بوضوح بعد أن أنهى الفيضان عملياتهم العسكرية حول القاهرة؛ ولذلك فقد انسحبت جماعة الألفي وعثمان حسن صوب الفيوم، بينما انسحب إبراهيم والبرديسي صوب الصعيد، وحاول عقلاؤهم تدارُك الموقف، فبذلت المساعي لترتيب اجتماع بين الألفي والبرديسي بجزيرة في النهر بالقرب من طرة؛ لأن كِلَا الفريقين رفض العبور إلى الشاطئ الذي كانت به قواتُ زميله، ولكن هذه المساعي أخفقتْ عندما أعلن الألفي أنه سوف يختار وقتًا أنسب للمقابلة مع البرديسي، حتى إذا كان شهر أغسطس ١٨٠٤ أعلن البكوات الذين اجتمعوا في بني سويف خبر الصلح بينهم جميعًا بإطلاق المدافع، ولكن البرديسي لم يلبث أن استولى على بعض المراكب المحملة بالغلال والتي كانت قد خرجت من الميناء لحساب الألفي، فقضى هذا الحادث على الصلح بينهما.

وكان في هذه الأثناء أن جدد الألفي مساعيه مع الوكيل الإنجليزي «مسيت»؛ يبغي تحقيق مآربه منفصلًا عن سائر زملائه، فبعث إليه بمذكرتين وصلتاه وهو برشيد في ٢٨ أغسطس، إحداهما مُعَنْوَنة باسم الصدر الأعظم، والأخرى باسم وزير الخارجية بإنجلترا، ويرجو من «مسيت» وساطته لإرسالهما إليهما من أجل الوصول إلى اتفاق مع الباب العالي، ومع أن «مسيت» كان لا يثق في ولاء الألفي للإنجليز ويعتقد أنه إنما يسلك طريقًا يبغي به خدعة الإنجليز والفرنسيين على السواء، فقد بعث بمذكرته المرسلة إلى وزارة الخارجية إلى لندن، وبعث بالأخرى إلى «ستراتون» في القسطنطينية، وقال يعلل ذلك في كتابه إلى «هوبارت» في ٣ سبتمبر: «ومهما تكن نوايا حكومته؛ أي الحكومة الإنجليزية، نحو هذه البلاد؛ فإن ما يظهره المماليك أو على الأقل حزب من أحزابهم من إرادة حسنة ونوايا طيبة نحو إنجلترا سوف يعود عليها بالفائدة، وأنه قد وجد لذلك من واجبه وبعد أن أخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة؛ ألا يهمل أية وسيلة يتسنى بها كسب النفوذ على مختلف طوائف البكوات.»

على أنه كان من أثر هذا الانقسام بين البكوات أن اتخذ هؤلاء في شهرَي سبتمبر وأكتوبر مراكزهم منعزلين عن بعضهم بعضًا، فوقف البرديسي بجماعته بالقرب من أسيوط، وتخلى إبراهيم عن إدارة أعماله لولده مرزوق بك، وربض سليمان بك الخازندار في المنيا، وظل الألفي في الفيوم، بينما آثر عثمان بك حسن الانسحاب إلى أسوان «ملجئه القديم»، ومع ذلك فقد اعتقد كثيرون أن البكوات إنما كانوا يبغون التظاهُر بالانقسام فحسب، وذلك حتى يغروا خورشيد بإرسال جيوشه لقتالهم في الصعيد أي في عرينهم، كما اعتقد آخرون أن الاتحاد وثيقٌ بين إبراهيم وسليمان وبين البرديسي.

ومهما يكن من أمر فإنهم ما لبثوا أنْ وجدوا جيوش الأرنئود والعثمانلي تخرج لقتالهم، وعندئذٍ تجددت المساعي، يؤيدها في هذه المرة تأييدًا كبيرًا كلٌّ من إبراهيم وعثمان حسن؛ لجمع الكلمة وضم الصفوف، ونجحت وساطتُهُما بين الألفي والبرديسي، وعسكر الألفي الصغير بمماليكه وعربانه في الفشن لوقف زحف جيش سلحدار خورشيد باشا (ديسمبر ١٨٠٤).

وعند الفشن التحم الجيشان في معركة عنيفة، وهوجمت البلدة وسقطت في يد السلحدار وانهزم الألفي الصغير، وتعقب السلحدار جيشه في تقهقُره حتى بلغ أسوارَ المنيا، ولكن لم تلبث الهزيمة أن حلت بجيش السلحدار في ١٤ ديسمبر عندما التحم مع مماليك البرديسي في المقدمة، بينما أطبق عليه الألفي الصغير من المؤخرة، فاضطر السلحدار إلى التقهقر إلى بني سويف، وسقط من المماليك في هذه المعركة اثنان من البكوات هما: مراد بك الصغير خازندار البرديسي القديم وصالح بك من بيت الألفي الكبير، وذلك عدا كاشفين وسبعة من المماليك، ومع ذلك فقد استبدَّ الخوفُ من المماليك بجيش السلحدار بعد هذه الهزيمة، وصمموا على التقهقُر من بني سويف؛ لولا أن وصل محمد علي بقواته، فأعاد إليهم الثقة في نفوسهم، وسنحت الفرصة بفضل ذلك لاتخاذ خطة الهجوم والزحف صوب المنيا لحصارها في أواخر ديسمبر.

على أن الصلح الذي حدث بين الألفي والبرديسي قبل معركة الفشن؛ لم يلبث أنْ تحطم مرة أخرى؛ لأنه لم يكن في الحقيقة سوى هدنة وقتية وشخصية، تركتْ لكل منهما الفرصةَ لمحاولة بسط سيطرته المطلَقة على جُمُوع المماليك، فاختلط مماليكهما بعضهم ببعض، واشتركوا معًا في القتال، ولكن لم يكن هناك أي اتحاد صحيح بينهم، وعلى ذلك فإنه ما إنْ ظهرت قواتُ العدو أمام المنيا حتى تحصن البرديسي بها، بينما اقتصر الألفي على اتخاذ موقف المراقب والمشاهِد من معسكره فحسب على الجانب الآخر من النهر في مقابلة قرية تلا.

وأقام الأتراك تحصيناتهم وحفروا خنادقهم أمام المنيا، وحرصوا على وضع فرسانهم في مكان بعيد عن مرمى مدافع المماليك، وبدأ حصار المنيا، وكان حصارًا طويلًا استمر ستة وخمسين يومًا، وتضافرت أسبابٌ عدة على إطالة الحصار كل هذه المدة، كان أهمها — ولا شك — أن الأتراك نصبوا مدافعهم في الجهة المقابلة للوجه البحري، بينما تركوا الجهة المقابلة للصعيد مفتوحة يستطيع المماليك الخروج منها والانتشار في الريف يجلبون منه المؤن والأقوات، كما صار في استطاعتهم قطع المواصلات بين الجيش الذي وقف على حصار المنيا وبين حكومة القاهرة، كما أفاد البرديسي في أول الأمر من وجود الألفي في قرية تلا؛ لأن الأخير تمكن بدوره من قطع المواصلات من الضفة اليسرى مع القاهرة.

وكان مما ساعد المماليك على استمرارهم على المقاومة استيلاؤهم على قرية «أبو جرج» على مسافة ٢٦ ميلًا شمالي المنيا، مما زاد في حروجة مركز الأتراك الذين صاروا بدورهم الآن شبه محصورين، فالعدو أمامهم وفي مؤخرتهم، وعلى يمينهم الصحراء التي ينتشر فيها العربان وعلى يسارهم النيل الذي لا تحتمل الملاحة فيه سفنًا ذات حمولة ثقيلة، علاوة على قطع كل اتصال لهم مع القاهرة، وحاجتهم الملحة بسبب ذلك كله إلى المؤن والأغذية، وفضلًا عن ذلك فقد أُتيحت الفرصةُ للبكوات لجلب الأسلحة والذخائر وما إليها من الإسكندرية ورشيد والقاهرة ذاتها، فقال «مسيت» في رسالته من رشيد إلى اللورد كامدن Camden في ٦ فبراير ١٨٠٥: «إن البكوات بسبب ضعف حكومة خورشيد باشا؛ تأتيهم المؤن والأسلحة والأردية من الإسكندرية ومن القاهرة نفسها، وقد عرض حاكم رشيد للبيع بنادقَ وبسكويتًا وبارودًا مما جمعه أخيرًا من قلعة جوليان ذات السيطرة على مصب النيل الغربي والتي تقوم بمهمة الدفاع عنه، بينما باع القبطان بك الذي يقود الأُسطول العثماني في هذا الموقع جزءًا من المهمات التي في مخازنه البحرية»، ثم استطرد «مسيت» يقول: «وهكذا فإنه ما دامت هذه درجة إهمال عمال الباب العالي في هذه البلاد وفسادهم؛ فإن من المستحيل أن يتوقع إنسانٌ انتهاءَ هذا النزاع الدائر مع المماليك سريعًا.»

وشجع انتقال عثمان بك حسن من «جبل الطير» — تجاه ناحية أطسا — لنجدة إخوانه المماليك على الخروج لمحاولة النزول على بني سويف، فأعطى غياب جزء من الحامية الفرصة لمحمد علي حتى يقوم بهجوم على المنيا، في ٦ فبراير ١٨٠٥ ولكن المماليك ردوا المهاجمين بعد أن كَبَّدوهم خسارة كبيرة، وكان الفريقان قبل ذلك قد أمضيا شهر يناير بين هجوم ودفاع، حتى وقعت هذه المعركة الكبيرة، التي سرعان ما تلتها محاولةٌ أخرى في ١٩ فبراير، كانت في هذه المرة ناجحة، فقد اعتلى حسن باشا النهر في أثناء الليل ليركز هجومه على المدينة المحاصرة من الجهة القبلية — التي تركها الأتراك مفتوحة منذ بداية الحصار على نحو ما قدمنا، وكان يقف لحراسة باب المدينة المواجه للصعيد في هذه الناحية حسين بك الزنطاوي مع جنده اليونان والسود، ولكنه لم يلبث أن غادر مركزه بمجرد إطلاق النيران تاركًا جنده يلتحمون مع الأرنئود، فما إن تبين هؤلاء أن قائدهم قد تركهم حتى شاعتْ بينهم روحُ الهزيمة، وبلغ الأرنئود الباب وحطموه، وهرع البرديسي لتدارُك الموقف، ولكن الأرنئود كانوا قد دخلوا المدينة في اللحظة التي وصل هو فيها، وكاد يتم استيلاء الأرنئود عليها لولا أن أقبل عثمان بك حسن وسليمان بك وعديدون من الكشاف لنجدة البرديسي، فارتد الأرنئود بعد التحامات عنيفة في شوارع المنيا كبدت المماليك خسائر فادحة، واستؤنفت المناوشات البسيطة بين الفريقين.

على أنه حدث في ليل ٢ مارس ١٨٠٥ ما غَيَّرَ مِن سير العمليات العسكرية على تلك الوتيرة الواحدة التي لزمتْها، عندما أشعل «أبو ليلة» النار في أسطول الأتراك الواقف في المنيا، ولولا ما بذله محمد علي من همة لإنقاذ القوارب التي لم تمتد إليها النيران لكانت الخسارة كبيرة، وكان «أبو ليلة» متزعمًا لعصابة من اللصوص في الصعيد، عرض على البرديسي إحراقَ مراكب العدو، وتوقع البرديسي أن ينفع ذلك في رفع الروح المعنوية بين جنده المحاصرين، فرحب بهذا العرض، ولكن عبثًا حاول البرديسي بعد هذا الحادث أن يحيي شجاعة جنده؛ لأن المماليك وهم الذين تعودوا القتال في السهول المكشوفة، ما لبثوا أن أضجرهم طول الحصار وبرموا به.

ولما كان الألفي من مركزه في «تلا» قد أَفْلَتَ أتباعَه ينهبون ويسلبون في الجهات المجاورة وفي الفيوم خصوصًا، وذلك بدلًا من محاولته نجدة البرديسي في المنيا؛ فقد آثر كثيرون مِن مماليك هذا الأخير الانضمام إلى معسكر الألفي الذي رحب بهم.

ثم زاد ضعف البرديسي عندما انشق عليه إخوانه بسبب ما أبداه من غطرسة وعجرفة بمجرد أنْ بلغه وجودُ أسطول فرنسي في البحر الأبيض، واعتقد أن الفرنسيين سوف ينزلون على الشاطئ المصري قريبًا، مما يُرغم الجيوشَ المحاصرة له على الارتداد عن المنيا، كما توقع أن يظفر بالسلطة والحكم بسبب مؤازرة الفرنسيين المنتظرة له، فانسحب عثمان بك حسن إلى قنا، كما انسحب الألفي إلى الفيوم، وانفض مِن حوله جماعةٌ أُخرى من البكوات والكشاف، وفي مارس شعر البرديسي بعبث الاستمرار على المقاومة، فتمكن من إخراج مدفعيته وذخائره مع أتباعه متسللين من المنيا، فتركها وعسكر على مسافة مرحلتين منها، وحَذَت الحاميةُ حذوَه، فحملوا ما بقي من مدفعيةٍ وذخائرَ على السفن، وقصدوا إلى أسيوط، وفي ١٤ مارس ١٨٠٥ كان المماليك قد أخلوا المنيا، ودخلها محمد علي في اليوم التالي.

ولكنه في اليوم الذي استولى فيه الأرنئود على المنيا (١٥ مارس) وصلتهم الأخبار من القاهرة بأن حوالي ثلاثة آلاف من الدلاة قد وصلوا إلى القاهرة، وأنه سوف يتبع هؤلاء الفرسان «المجانين» جماعة أخرى، ومن المنتظر كذلك أن تأتي إلى مصر قواتٌ من المشاة والمدفعية، وظهر كأنما الباب العالي يريد من إرسال هذه النجدات إلى خورشيد الاستئثار بالسلطة في مصر وتحطيم قوة الأرنئود، فكان لهذه الأخبار أسوأ الأثر في نفوس الأرنئود عامة ومحمد علي وحسن باشا خاصة، وقرر الأخيران ألا يتركا لخورشيد الوقت الذي يكفيه لتنظيم هؤلاء الجنود والتقوِّي بهم، فغادرا المنيا بسرعة في ١٠ أبريل على رأس ٣٥٠٠ مقاتل، وفي ١٤ أبريل ١٨٠٥ بلغا طرة، ومن ذلك الحين بدأ النضال السافر بين محمد علي وخورشيد باشا على الولاية في مصر.

النضال بين خورشيد ومحمد علي

فقد أتاح غياب محمد علي الطويل مع الزعماء والجند الأرنئود في الصعيد الفرصةَ لخورشيد لتدبير ذلك الانقلاب الذي ظل يمني به النفس من وقت حصار القاهرة، ومنذ أن سعى في استصدار فرمان بنقل محمد علي من مصر، ولم يسفر مسعاه عن أية نتيجة، فصار يلح على الباب العالي في طلب نجدة من الدلاة لتعزيز باشويته بوصفه ممثل السلطان الشرعي في البلاد الذي يبغي دعم سيطرة الباب العالي وبسط نفوذه الفعلي في مصر.

ولما كان الباب العالي قد صار قلقًا من مدة طويلة من ناحية الأرنئود، وأخفقت محاولاته في إقناعهم بمغادرة البلاد ولم يُفِد العفو الذي أصدره عنهم في استمالتهم للعودة إلى أوطانهم، فقد تشكك في ولائهم، وأراد لذلك أن ينشئ في مصر قوة تكون بمثابة ثقل يوازن به كفتهم أولًا، وحتى يتمكن من تخليص البلاد منهم في النهاية؛ ولذلك فقد استجاب لرغبة خورشيد، وأصدر أوامره إلى هؤلاء «الدلاة» للتجمُّع من كل أنحاء الإمبراطورية ومن الأناضول في طرف الشام الغربي، حتى إذا احتشدتْ منهم قواتٌ كافية سَيَّرَهُمْ إلى مصر، فدخلوا القاهرة في ٢٩ فبراير ١٨٠٥، ونزلوا في مصر القديمة، وفي القرى المجاورة، وأثار مجيئهم مخاوف محمد علي الذي أوقف عملياته العسكرية في الصعيد، وأسرع في الحضور إلى القاهرة.

وقد كتب «مسيت» إلى حكومته في ٢٨ أبريل يعلق على ذلك كله بقوله: «إنه يبدو أن الباب العالي الذي اعتبر ولاء الأرنئود له أمرًا مشكوكًا فيه، وغير ثابت؛ قد قرر القضاءَ عليهم بمجرد أن يتمكنوا مشتركين مع الجند العثمانلي من إخضاع المماليك، ولكن «محمد علي» علم بهذه النوايا مبكرًا، واستطاع بفضل نشاطه وعمله أن يعطل وقتًا ما على الأقل هذه المشروعات التي تُدبرها ضده وضد أنصاره الوزارة العثمانية، فقد غادر المنيا لتحقيق غرضٍ ظاهر هو طرد أعدائه من مصر بقوة السلاح أو كسبهم لمؤازرته وتأييد مصالحه.»

وانزعج خورشيد انزعاجًا كبيرًا عندما بلغه أن «محمد علي» و«حسن باشا» قد غادرا مع جُندهما المنيا في طريقهما إلى القاهرة، وذلك قبل أن تُتاح له الفرصة الكافية لتهيئة «الدلاة» وتنظيمهم ووثوقه من ولائهم له.

ولما كان امتلاك القاهرة يؤثر تأثيرًا حاسمًا على مصير النضال المنتظَر بينه وبين محمد علي؛ فقد أراد خورشيد أن يضمن انحيازَ القاهريين ومشايخهم ورؤسائهم إلى جانبه، بأنْ يجعلهم حكمًا بينه وبين محمد علي وسائر زعماء الأرنئود؛ إذ توقع أن يجذبهم إلى تأييد قضيته ما سوف يسببه لهم من شعور بازدياد مكانتهم وارتفاع شأنهم اشتراكهم في هذا النضال، فطلب في ١٠ أبريل المشايخ والسيد عمر مكرم والوجاقلية «وأرباب الديوان»، وأبلغهم نبأ تقهقر الأرنئود الفجائي وانسحابهم من ميدان القتال، وهو انسحابٌ حدث — كما قال — ضد أوامره، ومن شأنه أن يضع مصر تحت رحمة المماليك والعربان، ويجعل من العاصمة ميدانًا للفوضى واختلال النظام لعدم رُضُوخ الأرنئود للطاعة، وشراستهم وخبث طويتهم، كما أنه لم يكن هناك أي مسوغ لعدم إذعانهم؛ لا سيما وقد رفضوا الذهاب لقتال الوهابيين بعد أن أذن الباب العالي بإعطاء زعمائهم كل ما يريدونه من مراتب الشرف لقاء ذلك، «فهم لا يُريدون قتالَ البكوات، ولا يريدون ترك مصر، فماذا تكون يا ترى أغراضهم؟! لا شك في أن خراب البلاد هو كل مقصدهم.»

وذكر الشيخ الجبرتي عند تسجيل ما حدث أن خورشيد قال في هذا الاجتماع: «إن «محمد علي وحسن باشا» راجعان من قبلي من غير إذن وطالبان شرًّا، فإما أن يرجعا من حيث أتيا ويقاتلا المماليك، وإما أن يذهبا إلى بلادهما أو أعطيهما ولايات ومناصب في غير أراضي مصر، ومعي أمرٌ من السلطان وكيل مفوض ودستور مكرم، أعزل من أشاء وأولي من أشاء وأُعطي من أشاء وأمنع من أشاء.»

وطلب خورشيد منهم مساعدته بنفوذهم ومشورتهم، ووافق المجتمعون على أن تتألف لجنة من شيخين واثنين من الوجاقلية، تتجدد كل يوم وتُلازم الباشا، ولكن هذه الموافقة لم تكن بمحض اختيارهم، كما كان مقترِح هذا الترتيب خورشيد باشا نفسه؛ لتشككه في نوايا المشايخ، ولعدم وثوقه بهم، فقد ذكر دروفتي في رسالته إلى تاليران من الإسكندرية في ١٦ أبريل ١٨٠٥ «أنه لما كان الباشا يجهل موقف الأهالي في الظروف القائمة، وغير متأكد من تأييدهم له، فقد أخذ من بينهم رهائنَ لضمان استقرار الهدوء، الشيخين: عبد الله الشرقاوي وسليمان الفيومي»، ثم أرسل خورشيد «الدلاة» إلى الجيزة وإلى طرة وأخذوا مدافع وجبخانة؛ استعدادًا لملاقاة محمد علي وحسن باشا، وعهد خورشيد بالدفاع عن القلعة إلى صالح قوش.

ولكن هذه الاحتياطات لم تلبثْ أن انهارت في إثر بعضها بعضًا.

فقد استطاع محمد علي عند وصوله إلى طرة استمالة رؤساء الدلاة بإهدائهم الهدايا الثمينة وكسوة الفرو، وأقنعهم بأنه هو وزميله لم يكونا ثائرين على الباشا، بل حضرا لمطالبته بالمرتبات المستحقة لهما وللجند والتي رفض أن يدفعها لهم، وأنه لا ضرر يقينًا من المطالبة بهذه المرتبات، وبفضل هذا المنطق الذي أقر استقامته الدلاة الذين خشوا أن يحرمهم خورشيد في المستقبل من مرتباتهم كذلك أسوة بما يفعله مع الأرنئود؛ تمكن محمد علي من الدخول إلى طرة، ثم السير بعد ذلك إلى القاهرة ومعه الدلاة أنفسهم فدخلها في أمان في ١٩ أبريل.

ومنذ دُخُول محمد علي القاهرة بدأ النضالُ الجدي بينه وبين خورشيد، وهو نضالٌ تضافرتْ عواملُ عدةٌ لجعل كفة محمد علي هي الراجحة في أثنائه، أهمها ما صار يرتكبه الدلاة من اعتداءات فظيعة على القاهريين كاقتحام بيوتهم واغتصاب نسائهم وقتلهن بعد هتك أعراضهن، واختطاف الأطفال، عدا حوادث السلب والنهب. حتى ضج القاهريون بالشكوى إلى مشايخهم منهم، ونقموا على خورشيد بسبب ذلك نقمة عظيمة، أَضِفْ إلى ذلك ما أبداه محمد علي من مهارة كبيرةٍ في كسب صداقة المشايخ والعلماء والسيد عمر مكرم وتوثيق علاقته بهم.

واسترشد الشعب بغرائزه الصحيحة دائمًا والتي جعلتْه يرى في محمد علي سيد الغد وإن كان خورشيد صاحب الحكم اليوم، فانفض الناسُ من حول خورشيد بينما قصدوا — من مختلف الطبقات — إلى بيت محمد علي يشكون إلى الرجل الذي واساهم في مِحَنِهم الماضية أيام حكومة البكوات المماليك خصوصًا ما يلاقونه من عنت وإرهاق، وما حل بهم من نكبات وكوارث على أيدي هؤلاء الدلاة الذين جلبهم خورشيد، ويتشاور المشايخ والرؤساء الشعبيون معه في أجدى الوسائل لعلاج هذه الحالة النكدة علاجًا حاسمًا سريعًا، وإنهاء البؤس الذي حل بساحتهم، وهكذا كان «الدلاة» مِعْوَلَ هدم قوض به خورشيد باشويته من حيث كان يرجو دعم أركانها، كما انقلبت القوة الشعبية سيفًا مسلطًا على عنقه من حيث كان يرجو الاعتمادَ عليها في إقصاء محمد علي والقضاء عليه.

وكان المشايخُ والعلماءُ هم قادة الشعب الطبيعيين في نظام اجتماعي وسياسي فرق بين الطبقتين الحاكمة والمحكومة، فتألفت الطبقة الحاكمة من العثمانلي وعلى رأس هؤلاء الباشا العثماني، وهم يمثلون صاحب السيادة الشرعية على البلاد، ويعتمدون في هذا التمثيل على أجناد من الإنكشارية والأرنئود والكرد ونظرائهم ممن كانوا جميعًا غرباء عن البلاد ويسيئون معاملة أهلها.

كما تألفت هذه الطبقة الحاكمة كذلك من المماليك الذين استبدُّوا بالسلطة الفعلية وأقاموا في البلاد طغيانًا عنصريًّا فصل بينهم وبين الشعب وأخضعه لمظالمهم، وأما الطبقة المحكومة فقد تألفت مِنْ سواد المصريين؛ أي من أولئك الذين نشدوا العزاءَ والسلوى في راحتهم الروحية، يبعثون شكواهم إلى رؤسائهم الدينيين، ويطلبون منهم النصحَ والإرشاد، ويتخذون منهم وكلاء يوسطونهم لدى السلطات القائمة من العثمانلي والمماليك على حَدٍّ سواء لرفع المظالم عنهم، فصار للمشايخ والعلماء نفوذٌ ومكانةٌ بين أفراد الشعب، وصار في وسعهم توجيههم وتحريكهم.

ولا جدال في أن استناد محمد علي على مؤازرة الشعب بمشايخه وعلمائه ورؤسائه كان العامل الحاسم في الشهور القليلة التالية؛ ليس في نجاحه على غريمه خورشيد فحسب، بل في وصوله كذلك إلى منصب الولاية؛ وذلك لأن الاعتماد على الشعب أو القاهريين جعله يطمئنُّ إلى وجود قوة إلى جانبه من الممكن تسليحها وقت الحاجة بل وكانت مسلحة فعلًا، وكان لا مناص من وجود هذه القوة الشعبية المسلحة إلى جانبه في وقت انحاز فيه بعض الرؤساء الأرنئود إلى خورشيد باشا، وهو أرنئودي سهل عليه أن يجد مناصرين له من بين أبناء جلدته كعمر بك وطاهر بك ثم صالح قوش الذي أعطاه قيادة القلعة — كما تقدم — حتى يؤثر بنفوذه على حاميتها من الجند الأرنئود.

زِدْ على ذلك أن حسن باشا زميل محمد علي، الذي حضر معه من المنيا، وآزره في كل خطواته السابقة؛ كان لا يزال يعتبر في هذه المرحلة منافسًا خطيرًا له، ومن المعروف أن الأرنئود هم القوة العاملة مع محمد علي.

زد على ذلك أيضًا قيام الدليل في أثناء الحوادث الماضية على أن القاهريين كانوا من عناصر المقاومة الشديدة في وجه حكومة البكوات، وقد أعانت ثورتهم على طغيان البكوات «محمد علي» على طرد هؤلاء من القاهرة، وفي وسعه لذلك أن يفيد من سخطهم على حكومة خورشيد باشا التي أرهقتْهم بالمظالم والمغارم وسلطتْ عليهم سوط عذابها باستقدامها الدلاة المجانين لتقويض عروش حكومة خورشيد نفسه، كما أن في وسعه بفضل استناده على القوة الشعبية؛ أن يضع الباب العالي أمام الأمر الواقع إذا تَسَنَّى له النجاحُ في نضاله مع خورشيد والظفر بالولاية.

ولم يكن هناك أي شك في أن «محمد علي» إنما يبغي مِن نِضاله مع خورشيد منذ أن دخل القاهرة بعد عودته من المنيا؛ خَلْعَه من الولاية والظفر بها لنفسه، بل إن هذه النوايا لم تَعُدْ أمرًا مكتومًا على القاهريين أنفسهم، فقال الجبرتي في حوادث «١٩ أبريل»؛ أي يوم وصول محمد علي وذهابه إلى بيته بالأزبكية «وأخذ محمد علي في التدبير على أحمد باشا وخلعه»، وعلاوة على ذلك فإن مؤازرة الشعب له في تحقيق أغراضه سوف تُفَوِّتُ الفرصةَ على الإنجليز والفرنسيين الذين بذل وكلاؤهم في القاهرة وسفراؤهم في القسطنطينية قصارى جهدهم لمؤازرة طوائف المماليك الموالية لهم.

وأما حقيقة ذلك كله، فتتضح من تتبُّع الحوادث التي وقعت متلاحقة في إثر بعضها بعضًا وبسرعة كبيرة منذ دخول محمد علي القاهرة في ١٩ أبريل حتى مناداة القاهريين بولايته في ١٢ مايو ١٨٠٥.

واستهل محمد علي نضالَه باللجوء إلى المطالبة بمرتبات جنده؛ أي بإثارة تلك المسألة الشائكة والتي كانتْ مبعث الصعوبات والمشاكل التي صادفها الولاة جميعُهُم وخورشيد باشا على وجه الخصوص منذ تسلمه مهام منصبه، فطالب بألفَي كيس وأمهل خورشيد مهلة قصيرة جدًّا لدفعها، ولم ير خورشيد مناصًّا من القبول، «ولكن من أين يأتي بها؟» ذلك كان تساؤل «دروفتي» وغيره من الذين لمسوا مدى الصعوبات التي واجهتْ خورشيد وبخاصة وقد كان الدلاة — وهم جنده الذين عَوَّلَ عليهم لمناصرته — يطالبون هم كذلك بمرتباتهم، فانتهز خورشيد وصول ست سفن محملة بالبن من جدة إلى السويس، وفرض على كل فرد من التجار ستًّا وعشرين ريالًا يدفع منها للأرنئود وللدلاتية، ولكن هذا المال الذي جمعه لم يَكْفِ لسداد مرتبات الأرنئود، فقال «دروفتي» — في رسالته إلى «تاليران» في ٢٨ أبريل — إن هؤلاء غيرُ راضين عن الجزء الذي دُفع لهم أخيرًا من مرتباتهم «ويطالبون بصوت عال بمبالغَ طائلةٍ لا يُمكن أبدًا دفعها؛ إذ يطلبون في الحقيقة اثني عشر ألف كيس، فلما قيل لهم إن الخزانة لا تستطيع إطلاقًا دَفْعَ هذا المبلغ؛ طالبوا بإرغام رجال الإدارة المالية على تقديم حسابات دقيقة غاية الدقة؛ لتوضيح النواحي التي أنفقت فيها الإيرادات المتحصلة من الميري والتي ادعوا أنها أنفقت على وجه الخصوص في دفع مرتبات الجيش»، وزاد «دروفتي» على ذلك «أن الدلاة — على ما يبدو — لا يريدون الاشتراك في هذه المناقشات ومناصرة أحد الفريقين على الآخر، وأن ما يجري الآن يجعل من السهل التنبُّؤ بما سوف يحدث، على غرار ما وقع في أيام خسرو محمد باشا.»

وكان محمد علي نفسُهُ هو الذي أثار مسألة الحسابات هذه، فكتب الوكلاء الفرنسيون إلى حكومتهم منذ ٢٣ أبريل: «أن سوء التفاهُم قائمٌ بين خورشيد باشا ومحمد علي منذ دخول الأخير إلى القاهرة، فلم يتزاورا بعد، ويطلب محمد علي تقديم حساب عن كل ما دخل الخزانة من مال منذ أن تسلم خورشيد باشا الحكومة»، فبدأت من ثم مناقشاتٌ عنيفةٌ بين خورشيد ومحمد علي، حرص الأخير في أثنائها على كسب القاهريين ورؤسائهم إلى جانبه، عندما أصر على عدم تكليفهم بأعباء مالية جديدة، ومحاولة منع خورشيد مِن فَرْض الإتاوات والغرامات عليهم لدفع مرتبات الجند وإنهاء هذه الأزمة بينه وبينهم، كما أنه استطاع بفضل ما قدمه من حجج وبسبب ما أدلى به خورشيد من ناحيته من دعاوى حاول بها دحضها؛ أن ينفر «الدلاتية» منه، وأن «يلعب بولائهم».

وقد أوضح «مسيت» ما حدث في رسالة بعث بها إلى حكومته في ٢٨ أبريل جاء فيها: أن «محمد علي» عندما تقوى مركزه بعد عودته من المنيا ما لبث أن أوفد أحد ضباطه إلى خورشيد باشا يُطالبه بأربعة ملايين قرش عثماني قيمة مرتبات ستة أشهر لجنده، وأعلن في الوقت نفسه أنه لا يريد أن تفرض إتاوات على الشعب لإجابة مطالب رجاله، حيث إن إيرادات مصر إذا حسن التصرف فيها وفق إدارة طيبة تكفي وحدها — كما قال — لسداد المطالب الشرعية التي للحكومة، وقد أجاب خورشيد على ذلك بقوله: إن لديه فرمانًا يستطيع بمقتضاه أن يطلب من محمد علي تقديم بيان أو حساب عن كل المبالغ التي نهبها طوال مدة إقامته في مصر أو فرضها على الأهلين وحصلها منهم أو تسلمها كمرتبات له ولرجاله، وأن المتأخرات التي يطالب بها محمد علي إذا استُنزلت من مجموع هذه المبالغ المختلفة لاتضح بدلًا من أن تكون له مطالب قانونية على الحكومة المصرية أنه هو نفسه في الحقيقة مدين بمبلغ كبير من المال للباب العالي الذي أوامره القطعية هي أنه يجب على «محمد علي» إرجاعه ودفعه ثانية.

ولكن خورشيد باشا عندما أعلن نوايا الديوان «العثماني» الخفية، ووجه تهم النهب والسلب والخطف وغصب أموال الناس، وأثار بذلك غضب محمد علي؛ لم يكن يعرف أن هذا الزعيم الماكر قد استطاع أن يلعب بولاء الجند الذين يعهد إليهم خورشيد بكبح جماح الأرنئود العصاة.

«وعلى ذلك، فإنه ما إن أدرك هذه الحقيقةَ حتى تنازل لاستخدام المشايخ والعلماء وغيرهم من ذوي المكانة كوسطاء بينه وبين محمد علي الذي رفض حتى الآن أن يستجيب لرجواتهم، ولو أن وعدًا قد بذل له بتحقيق كل مطالبه المالية بعد أسابيع ثلاثة فحسب، وسمح له ولجنوده دون تبصُّر بالدخول إلى المدينة.»

«ومع ذلك فإنه حتى ولو تم الصلح بين خورشيد ومحمد علي فلا يمكن أن يدوم؛ لِما هُنالك من تضارُب بين العمل على الاحتفاظ بالبقاء من جهة، وبين تحقيقِ الأطماع والذود عن أمن الإنسان وحياته وسلامته الشخصية من جهة أخرى، وكثيرون هم الذين يَعتقدون أن ثورة قريبة سوف تحدث في الحكومة.»

ولم ينفرد «مسيت» في القول بأن أي اتفاق أو صُلح بين خورشيد ومحمد علي لا يمكن أن يدوم؛ لتضارُب الأغراض التي يسعى كُلٌّ منهما لتحقيقها، بل كان من هذا الرأي أيضًا الوكيل الفرنسي دروفتي الذي علق على ذلك الاتفاق الذي تَعَهَّدَ بموجبه خورشيد بدفع ألفي كيس، مرتبات الجند المطلوبة، فقال منذ ٢٣ أبريل في رسالته إلى «تاليران»: «إن الموقف في مصر لا يبعث على الاطمئنان بالرغم من حصول هذا الاتفاق بين خورشيد ومحمد علي؛ لأنه حتى يستطيع المرء أن يطمئن فعلًا يجب عليه نسيان أن «محمد علي» إنما يستهدف باشوية مصر ذاتها، وأن جميع الأعمال التي بدا قيامه بها لصالح الباب العالي إنما تحمل طابع ما لديه من أطماع نحو السلطة العليا.»

والحقيقة أن «محمد علي» كان مصممًا على البقاء في القاهرة ومواصلة النضال مع خورشيد، فكان من مطالبه منذ أن بدأ الاصطدام الجدي بينهما (٢٣ أبريل) «أن يذهب الكخيا بك — وكيل خورشيد وكتخداه، والكخيا والكتخدا معناهما واحد — وقائد جند القلعة صالح أغا قوش على رأس الجيش الذاهب إلى الصعيد بينما يظل هو مقيمًا بالقاهرة»، وقد كان بالقاهرة وقتئذ، حوالي الثمانية آلاف أو العشرة آلاف جندي يطلبون مرتباتهم، وعبثًا حاول خورشيد أن يمنع المشايخ والوجاقلية وأعيان القاهريين من زيارته فقد ظل هؤلاء يزورونه وكثُر تردُّدُهم عليه، واستمتع محمد علي وقتئذ بنفوذ كبير على الجند والأهالي معًا.

وازداد تعلُّق القاهريين به عندما اشتد ضيقُ الناس بالدلاة الذين استمروا في إفسادهم ينهبون ويسلبون ويهتكون الأعراض و«يخطفون النساء والأولاد» بل ولا ينجو «الرجال الاختيارية» من فعالهم القبيحة، وعاثوا فسادًا — على وجه الخصوص — في مصر القديمة والقصر العيني ودير الطين وهي الجهات التي خصصت عمومًا لإقامتهم بينما حرص محمد علي في أثناء ذلك كله على مَنْعِ جنده الأرنئود من ارتكاب هذه الشرور والمعاصي واستعداء الأهلين عليهم.

واتخذ من جهة أخرى في علاقاته مع المشايخ والعلماء وسائر الرؤساء الوطنيين موقفَ مَن يريد التهدئة والتسكين والإصلاح وتخفيف آلام الشعب والحرص على المصلحة العامة، وأظهر غضبه وسخطه على هؤلاء الجند «الدلاتية المجانين» الذين أنزلوا النكبات والكوارث على الأهلين، وكتب «مسيت» وهو يستعرض حوادث هذه الأيام بعد ذلك وموقف محمد علي الذي مكنه من الوصول إلى الولاية١ «أنه من اللحظة التي سمح له فيها وللأرنئود بالدخول إلى القاهرة عقب عودته من الصعيد، شرع يبذل قصارى جهده بكد واجتهاد حتى يظفر بعطف الشعب وحُسن رأيه فيه ورضائه عنه، بينما صار يستثير الناس في الوقت نفسه ضد الجند «الدلاة» الذين وصلوا أخيرًا من الشام، والذين ظل يرمقهم بعين الحسد والغيرة بالرغم من إقرار هؤلاء بولائهم له مرات كثيرة، وإظهار إخلاصهم لقضيته.»

على أنه لم يكن هناك ما يدعو في الحقيقة؛ لأن يكد محمد علي ويكدح لاستثارة الشعب ضد الدلاة أو ضد خورشيد نفسه؛ لأن الشرور والإيذاءات التي ألحقها الدلاة بالقاهريين كانت قمينة وحدها بإثارة السخط عليهم، كما زاد من غضب المشايخ والعلماء والرؤساء الشعبيين حتى إنهم عولوا على تزعم الجماهير والشعب الساخط الصاخب بصورة فعَّالة حاسمة في كفاحه ضد حكومة خورشيد باشا، أن هذا الأخير ما لبث أن أجاز للدلاة إلزام بعض القرى في القليوبية بدفع إتاوات لهم يحصِّلون منها مرتباتهم، فكان معنى هذا — على حد قول «مانجان» وغيره من المعاصرين — أن الحكومة قد أعطت موافقتها الرسمية على المساوئ والشرور التي قاسى الشعب من ويلاتها الشيء الكثير على أيدي هؤلاء الجند العتاة الباغين، وأنها تؤيد رسميًّا ذلك الفساد الذي استحكم في البلاد.

فتحركت الثورة.

ذلك أن الدلاة التاثوا لوثة مفاجئة (يوم أول مايو) جعلتْهم ينطلقون في وحشية شنيعة في أحياء مصر القديمة يقتحمون المنازل، ويطردون السكان ويغتصبون النساء ويقتلونهن، ويخطفون الأطفال ويأخذون ثياب الأهالي ومتاعهم، ولم يستطع النجاة منهم «إلا من تسلق ونَطَّ على الحِيطان»، وصاروا يهددون بإتيان هذه الفظائع في القاهرة ذاتها، فما إن بلغ الخبر المشايخ حتى أذاعوه وطلبوا من التجار إغلاق مخازنهم وحوانيتهم، فأغلقت الجوامع والأسواق والوكائل، واحتشدت الجماهير الصاخبة في الشوارع «تطلب من المشايخ بصوت عال التصريح لها بالسير إلى مصر القديمة لطرد الدلاة منها»، ثم لم يلبث أن «حضر سكان مصر القديمة نساء ورجالًا إلى جهة الجامع الأزهر يشكون ويستغيثون من أفعال الدلاتية».

وطلب المشايخ من خورشيد وقف هذه الفظائع، فأصدر أمرًا للدلاة «بالخروج من الدور وتركها لأصحابها» فلم يمتثلوا، وخاطب المشايخ خورشيد مرة ثانية، ولكنه اكتفى بأن قال: إن الجند مقيمون ثلاثة أيام ثم يسافرون، فزاد الضجيج وانقضى اليوم في مظاهرات صاخبة، واجتمع المشايخ بالجامع الأزهر في صبيحة اليوم التالي (٢ مايو) لتدبر الموقف، واحتشدت الجماهيرُ في مظاهرات عنيفة مرة أخرى، وخشي خورشيد عندئذ سُوءَ العاقبة، فأوفد كخياه وأغا الإنكشارية المحافظ لمقابلة المشايخ بالجامع الأزهر ومحاولة تهدئة الخواطر، ولكنهما لم يجدا به أحدًا، وكان هؤلاء قد انتقلوا إلى بيوتهم لأغراض نفسانية وفشل مستمر فيهم — كما قال الشيخ الجبرتي — فذهب الكخيا — أو الكتخدا — بك إلى بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي «وحضر هناك السيد عمر أفندي «مكرم» وخلافه فكلموه وأوهموه».

واستقر الرأي على عقد هُدْنة يقف في أثنائها الهياجُ الشعبيُّ ويتخذ خورشيد من ناحيته الإجراءات الكفيلة بإعادة الأمن والهدوء إلى نصابهما، وكانت مدة هذه الهدنة ثمانية أيام تنتهي في ١٠ مايو حسبما طلب خورشيد نفسه، وقد وافق المشايخ على شريطة أن يطهر خورشيد في خلال ثلاثة أيام المدينة وما يجاورها من الدلاة كلية، وقابلت الجماهير الكخيا بك عند انصرافه برجمه بالطوب والحجارة «وشتمه وسبه».

ولم يكن من المنتظر أن يفي خورشيد بوعده لعجزه عن دفع مرتبات الدلاة بسبب خلو الخزانة، وكان هؤلاء يطالبون بمرتبات متأخرة عن ثلاثة شهور، ولم يجهل المشايخ هذه الحقيقة، وانتظروا ما يفعله خورشيد، وتركوا الحضور إلى الأزهر، «وبطل طلوع المشايخ والوجاقلية ومبيتهم بالقلعة» حسب الترتيب الذي كان قد وضعه خورشيد في أبريل، واضطر هؤلاء إلى الموافقة عليه مرغمين وقتئذٍ، ومع أن خورشيد استطاع بعد مشقة إبعاد قسم كبير من الدلاة فقد استمر مَنْ بقي منهم يعيثون فسادًا في العاصمة، وظل التوتر على شدته ولزم الأهلون بيوتهم.

ودأب محمد علي في أثناء ذلك كله على القيام بنفس الدور الذي قام به منذ بداية هذه الأزمة؛ فظل يقابل المشايخ والرؤساء الشعبيين والسيد عمر مكرم، يضم شكاواهم إلى شكاواه ويعرض عليهم خدماته ووساطته، وفضلًا عن ذلك فقد أفلح تمامًا في منع جنده الأرنئود من إهانة الأهالي أو الاعتداء عليهم، واعتبر القاهريون أن النزاع القائم ينحصر بينهم وبين خورشيد باشا وحده، وأن لا علاقة للأرنئود به، وانفصل الأرنئود عن العثمانلي وعاشوا في ألفة تامة مع الأهالي.

وأدرك خورشيد مدى الأخطار التي يتعرض لها إذا ظل في نزاعه مع محمد علي الذي اعتبره مسئولًا عن هذه المشاكل التي أحاطتْ به من كل جانب، فبذل قصارى جهده لحسم مسألة المرتبات التي يطالبه بها محمد علي، فكتب «دروفتي» من الإسكندرية إلى حكومته في ٥ مايو أن جانم أفندي الدفتردار ورؤساء المشايخ قد توسطوا بين الباشا وبين محمد علي، وأن هذين الأخيرين تقابلا في منزل جانم أفندي أخيرًا واتفقا على شروط تعهد خورشيد بمقتضاها أن يدفع نصف المرتبات المطلوبة للأرنئود عن السبعة شهور المتأخرة، وتعهد محمد علي من جهته بإرسال جنده إلى الصعيد لقتال المماليك، على أن يبقى هو مع قسم من رجاله بالقاهرة حتى يتسنى له الخروج لقتال العربان الذين يخربون في الوجه البحري.

ومع ذلك، فقد كان ظاهرًا أن هذا الصلح لن يستمر طويلًا، حتى إن «دروفتي» لم يلبث أن كتب في اليوم التالي (٦ مايو) يطلب تعليمات جديدة من حكومته، «لأنه بالرغم من الأخبار التي بلغتْه عن إتمام الصلح نهائيًّا بين محمد علي وخورشيد، يعتقد — كما قال — أن الحال التي عليها الموقف تقتضيه أن يرجو من الوزير إصدارَ تعليماتِهِ إليه فيما يجب أن يكون عليه مسلكه إذا قبض محمد علي على زمام الحكومة، أو إذا نجم عن حدوث أية ثورة داخلية أن سلب من ضباط الباب العالي سلطة السيادة العليا»، كما أن دروفتي طلب كذلك هذه التعليمات من القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية للاسترشاد بها مؤقتًا حتى تأتيه أوامر حكومته.

ودلت الحوادثُ على أن «دروفتي» كان محقًّا فيما ذهب إليه؛ لأن خورشيد الذي ظل يُواصل مسعاه لدى الباب العالي لاستصدار فرمان بتعيين محمد علي لإحدى ولايات الإمبراطورية وإبعاده بفضل ذلك عن مصر؛ قد نجح أخيرًا في مقصده، وأصدر الباب العالي فرمانًا بتسمية محمد علي لولاية جدة، ويبدو مما قاله محمد علي لوكيل «القومسييرية» الفرنسية العام في القاهرة «فيليكس مانجان»، أن «خورشيد قد احتفظ بنبأ هذا التعيين مدة شهرين سرًّا لنفسه، ثم أطلع عليه بعد ذلك بعض الأفراد الذين علم محمد علي منهم ذلك»، ومهما يكن من أمر فقد اختار خورشيد اليوم التالي لبداية الهدنة لإبلاغ محمد علي أن فرمانًا قد وصل من الباب العالي بتعيينه لولاية جدة، ثم دعاه للطلوع إلى القلعة ليبلغ ذلك رسميًّّا وحتى تتم مراسم التقليد، ولكن «محمد علي» الذي خشي من غدر خورشيد رفض الطلوع إلى القلعة، وأظهر استعداده لمقابلة خورشيد في أي مكان — خلاف القلعة — يقع عليه اختيار الباشا، فرفض خورشيد بدوره.

ولما كان المشايخ يرون في نوال محمد علي هذا التقليد رفعًا لشأنه وتعزيزًا لنفوذه، وأرادوا الانتصار على خورشيد ونواياه السيئة؛ لأنهم اعتقدوا — على ما يبدو — مثلما اعتقد محمد علي، أنه يريد الغدر بهذا الأخير فقد توسطوا بين الاثنين وتم الاتفاق — حسب رغبتهم — على اختيار منزل سعيد أغا وكيل دار السعادة — وهو رجل محب للسلام وموضع احترام الجميع، ومن أصدقاء محمد علي — مكانًا للمقابلة وحفلة التقليد، فنزل خورشيد من القلعة في ١٠ مايو وكان قد سبقه إلى نفس المكان محمد علي وبصحبته المشايخ ورؤساء الأهالي وحسن باشا وأخوه عابدي بك، وقرئ الفرمان، ولبس محمد علي الفروة والقاووق علامة التقليد وانفض الجمع.

واجتمع الجند الأرنئود عند خروجه يطلبون مرتباتهم المتأخرة؛ حيث كان من المنتظر أن يترك محمد علي البلاد، ولكن هذا قال لهم: «ها هو الباشا عندكم» فاطلبوها منه، ثم ركب «وذهب إلى داره بالأزبكية، وصار يفرق وينثر الذهب بطول الطريق»، وأما خورشيد فإنه ما كاد يتهيأ للذهاب حتى وجد الأرنئود قد اقتحموا دار سعيد أغا وهم في هياج وغضب شديدين يطالبونه بمرتباتهم، ويتهمونه بالاستحواذ على الإيرادات العامة واستغلالها في منافعه الخاصة، وقال الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية بعد ذلك بتاريخ ١٥ مايو: «إن أحدًا لا يخالجه أدنى شك في أن هذا العصيان كان بتحريك من محمد علي وحسن باشا وغيرهما من رؤساء الأرنئود»، ومنع الجند خورشيد من مغادرة المكان «إلى بعد الغروب»، وتدخل حسن باشا «فلاطفهم ووعدهم»، وكان هؤلاء قد صاروا يُطالبون برأس خورشيد باشا، فنجح حسن باشا في أخذه إلى بيته محافظة على حياته، «وأشيع في المدينة حبسه وفرح الناس وباتوا مسرورين».

ومما يجدر ذكره أن كل هذه الأمور جرتْ دون حدوث أي «رجة عنيفة» — على حد تعبير الوكلاء الفرنسيين في نشرتهم التي سبقت الإشارة إليها — بل إن القاهريين — كما ذكرت هذه النشرة ذاتها — ما لبثوا أن نادوا بمحمد علي واليًا على مصر، ولكن صالح أغا قوش وعمر بك وطاهر بك وهم رؤساء الأرنئود الذين كان خورشيد قد نجح من مدة طويلة في استمالتهم إلى تأييده؛ سرعان ما أظهروا استياءهم مما حدث وأعلنوا تذمرهم، وأنذروا بضرورة إطلاق سراح خورشيد باشا فورًا وإلا ساءت العاقبة، ونصح العارفون بنواياهم «أولئك الذين اشتركوا في القبض عليه بإصعاده إلى القلعة لتجنب إراقة الدماء» فأصعدوه إليها في آخر الليل بعد أن أعطى على نفسه العهود والمواثيق بدفع مرتبات الجند في بحر أيام قلائل، فكانت هذه الوعود التي طالما بذلها في الماضي ولم يوف بها السبب في إنقاذ حياته، «واغتم الناس ثانيًا» — على حد قول الشيخ الجبرتي — عندما ذاع خبر إطلاق سراحه في اليوم التالي.

وتزايد غضب القاهريين عندما طلب خورشيد في هذا اليوم (١١ مايو) ألفي كيس من جرجس الجوهري والسيد محمد المحروقي الذي كان والده «أحمد المحروقي» قد توفى فجأة في ٢٦ نوفمبر من العام السابق، وأحله خورشيد محل أبيه منذ ديسمبر ١٨٠٤، ثم «أشيع أنه؛ أي خورشيد، عازم على عمل فردة على أهل البلد وطلب أجرة الأملاك بموجب قوائم الفرنساوية»، وكان خورشيد قد أعلن أنه لما كان من المتعذر بتاتًا جمع شيء من المال عن طريق الميري؛ أي الضرائب العادية، لدفع مرتبات الجند، فقدْ وجب أنْ تُبادر العاصمة بمساعدته، فثارت ثائرة القاهريين، وصارت القاهرة في هياج واضطراب شديدين، وأعلن الأهلون أنهم لن يدفعوا أية ضرائب جديدة تُفرض عليهم، بل ومنعوا تحصيل شيء من قافلة بن كميرة ووصلت في اليوم نفسه، فامتنع عن خورشيد موردٌ كان من الممكن أن يفيد منه للخروج من مأزقه، وكان أكثر ما سَبَّبَ سخط القاهريين أنه عجز عن الإيفاء بشيءٍ من وُعُوده السابقة أساس الهدنة التي طلبها، والتي كان أهمها تخليص القاهرة من الدلاة وشرورهم.

فقد عرف أن ألفًا وخمسمائة من الدلاة، قد عدلوا عن مبارحة البلاد وأعلنوا الثورة على خورشيد الذي لم يوف بتعهداته لهم، واختاروا زعيمًا لهم كبيرهم «ابن كور عبد الله» أو كور أوغلي، ومعناها «ابن الأعمى» … «وذهبوا إلى قليوب ودخلوها واستولوا عليها وعلى دورها وربطوا خُيُولهم على أجرانها وطلبوا من أهلها النفقات والكلف … وحبسوا حريمهم عن الخروج واستمروا على ذلك حتى أخذوا النساء والبنات والأولاد وصاروا يبيعونهم فيما بينهم»، فكان لذلك أسوأ الأثر في القاهرة، فاستمرت غالب الأسواق مغلقة، ورفض الأهلون فتح دكاكينهم ولم يستجيبوا للمناداة بالأمان، «وقال الناس وأي شيء حصل من الأمان وهو؛ أي خورشيد، يريد سلْب الفقراء ويأخذ أجر مساكنهم ويعمل عليهم غرامات، وباتوا في هرج ومرج، فلما أصبح يوم الأحد ثاني عشر» (١٢ صفر ١٢٢٠ﻫ/١٢ مايو ١٨٠٥م) وقع الانقلاب الذي أوصل «محمد علي» إلى منصب الولاية.

انقلاب «١٣ مايو ١٨٠٥» والمناداة بمحمد علي

فقد وجد المشايخ أن الفرصة التي انتظروها طويلًا قد سنحت أخيرًا لمحاسبة خورشيد على فعاله ومطالبته — وبصورة جدية وحاسمة — برفع المظالم التي أَنَّ منها الشعبُ وشكوا منها هم أنفسهم كذلك، وتدبير ذلك الانقلاب الذي بيتوا النية عليه «من أمد طويل» — على حد قول المعاصرين — واشترك فيه محمد علي، بل وكان «بتحريكه» — على حد قول «مسيت» — ذلك أن المشايخ ما لبثوا أن ركبوا في صبيحة ذلك اليوم (١٢ مايو) إلى بيت القاضي، دار المحكمة أو مجلس الشرع، وكانت مظاهرة كبيرة، احتشد فيها «الكثير من المتعممين والعامة والأطفال» في فناء المحكمة وحولها، يصرخون «شرع الله بيننا وبين هذا الباشا الظالم، ومن الأولاد من يقول يا لطيف، ومنهم من يقول: يا رب يا متجلي أهلك العثمانلي، ومنهم من يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.»

وطلب المشايخ والرؤساء الشعبيون من القاضي «أن يرسل بإحضار المتكلمين في الدولة لمجلس الشرع»؛ أي كبار رجال حكومة خورشيد، حتى يستمعوا لمطالب الشعب ويعملوا على تحقيق العدالة، فحضر سعيد أغا والدفتردار جانم أفندي وآخرون، وأعلن إليهم المشايخ أن أحدًا لن يدفع الضريبة التي قررها خورشيد في اليوم السابق (١١ مايو) بل إنهم لن يعترفوا بسلطته إلا إذا خضع للشروط التي رأوها كفيلة بإعادة الأمن والهدوء إلى القاهرة وإنهاء مفاسد الجند وشرورهم ووضع حد لمظالم الباشا، واتفق الرأي على كتابة «عرضحال بالمطلوبات»، قال الشيخ الجبرتي: إنهم «ذكروا فيه تعدي طوائف العسكر والإيذاء منهم للناس وإخراجهم من مساكنهم والمظالم والفرد وقبض مال الميري المعجل وحق طرق المباشرين ومصادرة الناس بالدعاوى الكاذبة وغير ذلك».

وأما هذا «العرضحال» الذي أوجز الشيخ الجبرتي ما جاء به من مطالب فيما تقدم، فقد ذكره الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم المؤرخة في ٢٠ مايو كما سجلوا أهم بنوده، وذكرها كذلك «فنشنتزو تابرنا» — نيابة عن «مسيت» لمرضه — في رسالته إلى السير جون ستيوارت من الإسكندرية في ١٩ يوليو، وكانت هذه البنود الهامة ستًّا، أولًا: عدم إقامة أية قوات في المستقبل سواء من الأرنئود أم من غيرهم، وانتقال الحامية الحالية إلى الجيزة، ثانيًا: عدم السماح للجند «من الأرنئود وغيرهم» عدا الحراس والحَفَظة بدخول القاهرة بسلاحهم، ثالثًا: أن يكون مكان الحانات والمحال المعدة للترفيه عن الجند بجزيرة الروضة، رابعًا: أن يمتنع فرض أية إتاوات على المدينة «وفي رواية تابرنا، على البلاد»، خامسًا: إعادة المواصلات مع الصعيد، سادسًا: إمداد قوافل مكة بالحراسة اللازمة.

ويستطرد الوكلاء الفرنسيون فيقولون: «وأما بقية الشروط فثانوية، تتعلق بالوسائل التي يجب اتخاذها للتهدئة ولتأمين الأفراد في القاهرة وفي الريف على سلامتهم»، ويقول «تابرنا» في رسالته السالفة الذكر بصدد هذه الشروط: إن «محمد علي» بعد أن جذب إليه المشايخ وحرك القاهريين على حمل السلاح، قد جعلهم يطلبون من خورشيد باشا هذه الشروط التي كان يدرك تمامًا أنها غير مقبولة، ويبدو أن «تابرنا» بالرغم من وجوده مع «دروفتي» في أثناء هذه الحوادث بالإسكندرية، كان واقفًا على حقيقة ما يجري في القاهرة بسبب وجود الوكلاء الفرنسيين بها وخصوصًا «مانجان»، وقد كان معروفًا لهؤلاء منذ بداية الحوادث الأخيرة أن «محمد علي» هو المحرك لها، وأن غرضه كان الوصول إلى الولاية وعزل خورشيد باشا منها، يدل على ذلك أن «دروفتي» بعد حادث يوم ١٠ مايو وإطلاق سراح خورشيد، كتب من الإسكندرية إلى «باراندييه» Parandier القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية في ١٦ مايو يقول: «ولو أن خورشيد قد نجا بطلوعه إلى القلعة، فليس هناك ما يدل على أنه سوف يستطيع البقاء في حكومة مصر، وأنه؛ أي دروفتي قد رأى من واجبه أن يصدر تعليماته إلى الوكيل الفرنسي في القاهرة «مانجان» يشير عليه فيها بالخطوة التي يجب أن يتخذها مع محمد علي، وهي أن يوصيه كل التوصية بالابتعاد عن كل مسلك أو إجراء يستلفت الأنظار، ومن شأنه أن يصدم عمال الباب العالي؛ أي الموظفين العثمانيين في مصر، حيث تتحد علاوة على ذلك مصالح فرنسا مع مصالح الباب العالي نفسه فيما يتعلق بمنع الإنجليز من أن يكون لهم أَيُّ نفوذ في حكومة مصر.»

وكان السبب في ذكر هذه العبارة الأخيرة أن «أنصار المماليك» صاروا يشيعون منذ انسحاب محمد علي من الصعيد أنه يعمل بالاتفاق مع البكوات، كما كان الألفي حليف الإنجليز قريبًا من القاهرة يرقب سير الحوادث؛ حيث «حضر ومن معه من أمرائه وعربانه وانتشروا جهة الجيزة واستقر هو بالمنصورة قرب الأهرام، وانتشر أتباعه إلى الجسر الأسود، وأرسل مكاتبة إلى السيد عمر أفندي والشيخ الشرقاوي ومحمد علي باشا يطلب له جهة يستقر فيها هو وأتباعُهُ، فكتبوا له بأن يختار له جهة يرتاح فيها ويتأنى حتى تسكن الفتنة القائمة» بالقاهرة، فخشي «دروفتي» أن يكون هناك اتفاق بينه وبين محمد علي، ولو أنه رفض أن يصدق رضاء الأخير باقتسامه السلطة معه، وفضلًا عن ذلك فقد أوصى «دروفتي» الوكيل الفرنسي «مانجان» بالقاهرة في رسالة بعث بها إليه في اليوم نفسه (١٦ مايو) بأن يسعى جهده لكسب صداقة محمد علي، مع عدم نسيانه في الوقت نفسه اتخاذ قدر كبير من الحيطة والحذر في سعيه «حيث إنه قد أُتيحت الفرصةُ «لفرنسا» منذ حدوث الثورة الأخيرة في الديوان العثماني؛ أي سقوط الوزارة؛ لأن يتجدد رجاؤها في استعادة علاقاتها الودية القديمة وتفاهمها مع الباب العالي، وذلك أنه يبدو «لدروفتي» أن «محمد علي» بسبب ما اتخذه من خطوات أخيرًا إنما يريد الظفر بباشوية مصر، كما يبدو له أنه يريد الاستحواذ على السلطة برضاء المشايخ والشعب، بل ومن المحقَّق بسبب هذا المسلك أنه إنما يبغي أن يجعل الباب العالي يقبل بالضرورة — إعطاءه دون أي مقابل — منصبًا اقتحمه اقتحامًا.»

وأما عرضحال المشايخ فقد رفع إلى خورشيد في اليوم نفسه (١٢ مايو) ورأى خورشيد لأسباب ظاهرة أنه يستحيل عليه تنفيذُ ما تضمنه من شروط، ولَمَّا كان عمر مكرم في طليعة من أيدوها، واعتقد خورشيد أن في وسعه تحريك العامة ضده إذا هو رفضها؛ فقد قرر التخلص منه ومِن سائر رؤساء هذه الحركة الشعبية وبعث يدعوه من الغد مع القاضي والمشايخ ليعمل معهم مشورة، ولكن أحدًا منهم لم يجد من الحكمة قبول هذه الدعوة؛ خوفًا من غدره بهم، ثم ما لبثتْ أن تأكدت ظنونهم عندما «حضر بعد ذلك من أخبرهم أنه كان أعد أشخاصًا لاغتيالهم في الطريق ويَنسب ذلك الفعل لأوباش العسكر فيما لو عُوتب بعد ذلك».

وفضلًا عن ذلك فإنه لم يكن في نية أحد من أصحاب هذه العريضة — وبالرغم من تحريرها وتقديمها — الاتفاق أو التفاهُم مع خورشيد، بل كثر اللغط والكلام عقب الفراغ من إعدادها مباشرة بين القاضي والمشايخ والوجاقلية في موضوع واحد هو عزل خورشيد باشا والمناداة بولاية محمد علي، كما دار الكلام في ذلك بين أفراد الشعب نفسه.

وعلى ذلك، فإنه لَمَّا لم يُجب أحدٌ دعوة خورشيد، فقد أعلن هذا الأخير في صبيحة اليوم التالي (١٣ مايو) رفضه لشروط المشايخ وعريضتهم، فبادر المشايخ من فورهم بالاجتماع في بيت القاضي، واحتشدت الجماهير كعادتها، ولكنها منعت من الدخول «وحضر إليهم سعيد أغا والجماعة»، وأصر عمر مكرم على خلع خورشيد وعزله، ولما كان القاهريون يرجون من أي تغيير يحدث زوال بعض ما كانوا يعانونه من مظالم وتخفيف بعض الأعباء التي أبهظت كواهلهم، فقد تعالتْ صيحات الجماهير المحتشدة بعزله؛ لجوره وظلمه، فقَرَّ الرأي على طرد خورشيد من الولاية وتولية محمد على مكانه، وقصد المجتمعون إلى محمد علي في داره.

ويصف الشيخ الجبرتي ما وقع بين محمد علي وبين المشايخ الذين «قالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكمًا علينا ولا بد من عزله من الولاية فلما سألهم: ومن تريدونه يكون واليًا؟ قالوا له: لا نرضى إلا بك، وتكون واليًا علينا بشروطنا؛ لِما نتوسمه فيك من العدالة والخير، فامتنع أولًا ثم رضي، وأحضروا له كركًا وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر والشيخ الشرقاوي فألبساه له وذلك وقت العصر، ونادوا بذلك في تلك الليلة في المدينة.»

وكانت الشروط التي قبلها محمد علي هي نفسها التي رفضها خورشيد، والتي جعلهم محمد علي يطلبونها منه، وهو يعرف أن خورشيد لن يقبلها لاستحالة تنفيذها لعدم وجود المال لديه لدفع مرتبات الجند، وحملهم بذلك على الامتثال لأوامره، وإعادة الأمن والسلام إلى القاهرة بإبعادهم منها، علاوة على عجزه عن إخراجهم لهذا السبب نفسه — عدم دفع المرتبات — لقتال المماليك وفتح المواصلات مع الصعيد.

وفي رسالة «مسيت» إلى حكومته في ١٨ يونيو من الإسكندرية يذكر مسألة هذه الشروط التي قبلها محمد علي فيقول: إن المشايخ وأعيان القاهرة صمموا قبل رفع محمد علي إلى منصب الولاية أن يوقع على تصريح أو إعلام Declaration يتضمن نفس الشروط التي سبق ذكرها، والتي ذكر منها «مسيت» على وجه التحديد في هذا التصريح أو الإعلام عدم السماح للجنود ما عدا الشرطة بدخول القاهرة بسلاحهم «وعدم فرض أية إتاوات غير قانونية في أي جزء من أجزاء مصر»، بينما تضمن المنشور — أو الإعلام — موادَّ أُخرى أقل أهمية ولكن غرضها جميعها ضمان أمن الأهلين وسلامتهم.

وأبلغ المشايخُ الخبر إلى خورشيد، ولكنه أعلن تصميمه على التمسك بمنصبه؛ لأنه «مولى من طرف السلطان» — كما قال — فلا يعزل «بأمر الفلاحين»، وصَحَّ عزمُهُ على المقاومة، معتمدًا على ما لديه من قوات في القلعة التي بادر بحمل المؤن إليها، ومؤملًا خيرًا فيما هو واقعٌ من انقسام في صفوف الأرنئود أنفسهم ومناصرة فريق منهم له، عاقدًا آمالًا كِبَارًا في الوقت نفسه على ما قد تُسفر عنه جهوده التي صار يبذلها بنشاط لاستنهاض همة البكوات المماليك لنجدته من ناحية، ولإقناع الباب العالي بتأييده من ناحية أخرى.

ولقد كان خورشيد مخدوعًا في كل ذلك، ولم يلبث أن وجد نفسه محاصرًا في القلعة، حقيقة كان لديه ألف وخمسمائة جندي بها بقيادة بعض رؤساء الأرنئود من الذين انحازوا إليه؛ كصالح أغا قوش وعمر بك الأرنئودي الذي غادر مسكنه في بولاق في ١٤ مايو «وطلع عند الباشا بالقلعة»، وذلك بينما كان حسن باشا الزعيم الأرنئودي الآخر وزميل محمد علي ومؤيده في خطواته إجمالًا منذ حضورهما معًا من المنيا؛ قد أظهر ميلًا الآن للتمسك بموقف الحياد في النزاع القائم، ثم لم تلبث أن قويت الشائعات عن وجود تفاهم سري بينه وبين خورشيد، واستدعى خورشيد سلحداره «علي باشا» بجنده من المنيا، ثم شرع يتفاوض مع بكوات الألفي ومماليكه القريبين من أهرام الجيزة، واعتمد على إقناع البرديسي وإبراهيم وعثمان حسن بنجدته، وكان هؤلاء قد تركوا مراكزهم في الصعيد للزحف على القاهرة منذ أن علموا باضطراب الأحوال بها، وبدأ مساعيه بالقسطنطينية لتثبيته في الولاية، واتصل «بمسيت» يرجو أن يوصي بمسألته السفير الإنجليزي بالقسطنطينية، وكتب «مسيت» للورد كامدن في ٢٨ مايو «أن الفوائد المنتظرة من تأييد «خورشيد» في الولاية بفضل النفوذ الإنجليزي وتدخلهم ظاهرة»، وكتب خورشيد للدلاة في القليوبية يدعوهم للحضور، وأن واجب الولاء يقتضيهم «معاونته؛ صيانة لعرض السلطنة وإقامة لناموسها وناموس الدين، وأن الفلاحين يحاصرونه ومانعون عنه الأكل والشرب»، وأرسل هؤلاء كتابة إلى محمد علي، ولكن كل هذه الجهود التي بذلها خورشيد لاستبقاء ولايته كانت جهودًا فاشلة.

وكان محمد علي في الأيام الأولى يشعر بأن مركزه غير موطد طالما تمسك خورشيد ممثل السلطان الشرعي في البلاد بمنصبه، وأزعجه كثيرًا تحرك البكوات المماليك، أولئك المنتشرون منهم بالوجه البحري في الجيزة، ثم في دمنهور وطرانة حيث اتخذ الألفي بها مقره بعد ذلك، ثم أولئك الزاحفون من الصعيد، الذين سرعان ما وصلوا — بعد قليل — إلى منفلوط ومن المنتظر استمرار زحفهم إلى القاهرة، أضفْ إلى هذا تحرك العسكر الذين أخذوا يطالبونه بمرتباتهم، في الوقت الذي انحازت فيه طائفة منهم مع رؤسائهم إلى خورشيد، وخشي محمد علي انضمام حسن باشا إليه كذلك، زد على ذلك أنه لم يكن هناك معدى عن تسليح الأهلين للدفاع عن أنفسهم ضد الأرنئود الذين بدأتْ طائفة منهم بتحريض من زملائهم مع خورشيد اعتداءاتها على الأهلين، ولأن الباشا المخلوع كان مصممًا على التحصُّن بالقلعة ويعقد العزم على استرجاع ولايته المفقودة، وأدرك محمد علي أنه إذا استمر تسليح الشعب طويلًا، سُرعان ما يصبح عامل فوضى وانحلال يهدم سلطته هو نفسه بدلًا من تدعيمها؛ ولذلك فقد وجب عليه للخلاص من كل هذه المخاطر أن يصل بكل سرعة لحسم الموقف الذي أوجده عناد خورشيد بحمل هذا الأخير بطريق التفاهُم والتراضي على الاعتراف بالوضع الجديد اعترافًا كاملًا صريحًا أو على الأقل التسليم بالأمر الواقع، والتزام الحياد حتى يأتي إقرار الباب العالي — كعادته — بهذا الأمر الواقع.

ولذلك فقد رأى أن يوسط المشايخ في محاولة إقناع خورشيد بترك العناد، وبدأتْ أُولى هذه المحاولات من اللحظة التي عرف فيها إصراره على التمسك بولايته، فكتب المشايخ ومحمد علي إلى رئيسي الأرنئود المعضدين لخورشيد: صالح قوش وعمر بك «يذكرون لهما ما اجتمع عليه رأي الجمهور» من عزل خورشيد، وأن الواجب يقتضيهما عدم المخالفة والعناد «لما يترتب على ذلك من الفساد العظيم وخراب الإقليم»، ولما كان صالح قوش وعمر بك قد طلبا أن يريا «سندًا شرعيًّا في ذلك» فقد اجتمع المشايخ ببيت القاضي في ١٦ مايو «ونظموا سؤالًا وكتب عليه المفتون»: يثبتون الأسباب التي دفعتهم إلى توجيه الثورة ضد خورشيد، ووقعوه وصدق عليه القاضي، ولكن عمر بك وصالح قوش ومن معهما من سائر الرؤساء الأرنئود بالقلعة «لم يتعقلوا ذلك» وطعنوا في قانونية هذا الإعلام أو السند الشرعي.

وأصر خورشيد على عدم النزول من القلعة «حتى يأتيه أمر من السلطان الذي ولاه»، وطلب من المشايخ تدبير المرتبات المتأخرة للجند الذين هم معه والتكفل بنفقاتهم «إلى حين حضور جواب من الدولة» يحسم الخلاف القائم، وأبلغه المشايخ من جانبهم أن «نحو الأربعين ألف نفس قد حضروا يوم تاريخه بالمحكمة وطالبون نزوله أو محاربته وأنهم لا يمكنهم دفع قيام هذا الجمهور»، وأنذروه بأن هذا آخر المراسلات بينهم وبينه، وبعث المشايخ بالإعلام الذي كانوا قد أعدوه إلى القسطنطينية لتأييد قضيتهم ضد خورشيد باشا وتبرير عزله وتولية محمد علي، ومنذ ١٩ مايو ١٨٠٥ بدأ الأخير في حصار القلعة جديًّا «واجتهد السيد عمر أفندي النقيب وحرض الناس على الاجتماع والاستعداد».

وحاول محمد علي إقناع خورشيد بتسليم القلعة دون حاجة لاستخدام القوة، ولكن هذا الأخير — على نحو ما أبلغ «مانجان» وكيل القومسييرية الفرنسية بالقاهرة «دروفتي» بالإسكندرية في ٢٠ مايو — «أعلن أنه لن ينزل من القلعة إلا بالشروط الآتية وهي: أولًا: عدم مطالبته بتقديم أية حسابات، ثانيًا: الإقامة في سلام وأمن، بعد نزوله من القلعة، في بيت حسن باشا، ثالثًا: وضع ما يلزم من سفن ومؤن ضرورية تحت أمره للذهاب إلى الإسكندرية»، ولكن المشايخ والرؤساء الشعبيين ما لبثوا أن رفضوا بالإجماع الشرط الأول بالرغم من استعداد محمد علي لقبوله؛ لأنهم أرادوا معرفةَ الوجوه التي أُنفقتْ فيها الأموال التي جُمعت من القاهرة وحواليها، واستعد كل فريق للكفاح، وجرت الاستعدادات لمهاجمة القلعة التي أغلقت أبوابها، واقترح علي باشا سلحدار خورشيد — الذي كان قد حضر من المنيا — أن يعود إليها لإحضار جنده الباقين بها، كما دعا المشايخ القاهريين للتسلح ليلًا ونهارًا وصاروا يطلبون من محمد علي إنهاء هذه المسألة بسرعة — واستطرد «مانجان» يقول — «إن ططريا كما يقال — قد ذهب إلى القسطنطينية برسائل من المشايخ وعلماء القاهرة تطلب عزل خورشيد باشا وتثبيت محمد علي في باشوية مصر.»

وحاصر عدد عظيم من القاهريين المسلحين والأرنئود القلعة، وأقاموا التحصينات، وأطلقت النيران من على الأسطح ومنارات الجوامع لإزعاج حامية القلعة، وثارتْ حمية السكان، فاستبد الحماس بالشيوخ كبار السن والأطفال واشترك الأغنياء إلى جنب الفقراء، «والكل بالأسلحة والعصي والنبابيت ولازموا السهر بالليل في الشوارع والحارات»، ولما كان القاهريون لم ينسوا بعد فعال الأرنئود السيئة فقد صار يخشى من أن ينقلب حماس الشعب ضدهم وتحطيم جهود محمد علي والمشايخ، ونزل الأخيرون إلى الشوارع لتهدئة الجماهير الصاخبة المتحمسة، وبذل محمد علي مجهودًا آخر مع خورشيد، ولاحت الفرصة لإنهاء الأزمة وديًّا عندما توصل إلى اتفاق معه لتسليم القلعة سلمًا، وتبودلت الرهائن بين الفريقين ضمانًا لتنفيذ هذا الاتفاق في ٢٢ مايو.

ولكن خورشيد سرعان ما غير رأيه فجأة في اللحظة الأخيرة وعدل عن النزول دون سبب ظاهر، وأعلن تصميمه على البقاء بها حتى يرجع الرسل الذين ذهبوا إلى القسطنطينية برأي الباب العالي القاطع الأمر الذي كان لا يريده محمد علي عندما كان ظاهرًا أن مِن صالحه التعجيل في سير الحوادث ووضع الباب العالي أمام الأمر الواقع إذا سلم خورشيد وعدل عن عناده، فاستمر الحصار ورفعت المدافع إلى جبل المقطم لضرب القلعة، واعتمد محمد علي في نشاطه على مؤازرة المشايخ وقادته له وخصوصًا السيد عمر مكرم الذي تولى تدبير المقاومة الشعبية والإشراف عليها وتوجيهها.

وكان السيد عمر مكرم بفضل ما أوتيه من جرأة وشجاعة وقتئذ أعظمَ نفوذًا على القاهريين من سائر الرؤساء والمشايخ، واستطاع الشعب — أو العامة، أو الرعية، أو الجمهور على حد تعبير الجبرتي — أن يقوم بالمهمة التي عهد بها إليه على خير وجه، من حيث المحافظة على الأمن ودفع اعتداءات الجند على القاهريين بل والانتقام لأنفسهم من الأرنئود، ومنع الجند المحاصرين بالقلعة من الخروج، وقال الوكلاء الفرنسيون إن السكان أنفسهم صاروا يقومون كل ليلة بالحراسة على نحو ما كان يحدث في باريس وغيرها من المدن والقرى أيام الثورة الفرنسية الكبرى، كما قالوا: إن الناس يهرعون كذلك لشراء السلاح ويحذو في هذا الصغار حذو الكبار، ويُقيمون المتاريس في الشوارع، وقد قدر هؤلاء عدد السكان المسلحين الذين اشتركوا في هذه الحوادث بأربعين ألفًا قالوا عنهم إنهم يطيعون السيد عمر مكرم طاعة عمياء وينفذون أوامره بحذافيرها، حتى إن عمر مكرم صار يعتبره الجميع زعيم القاهرة بأسرها، ولو أن «مسيت» — كما كتب بعد ذلك في ٢ يوليو ١٨٠٥ — كان يعزو ترؤس عمر مكرم لهذه الحركة بفضل ما لديه من نفوذ عظيم على القاهريين، إلى وعدٍ أُعطي له بنهب القلعة وأخذ أسلابها عند سقوطها مكافأة له على جهوده.

ثم لاحت فرصة أخرى لتسليم القلعة وديًّا عندما تدخل حسن باشا لحسم الخلاف بين خورشيد ومحمد علي، وكان حسن باشا «ومن معه من الأرنئود يراعون من بالقلعة من أجناسهم؛ لأن غالبهم منهم»، وأراد الآن التدخل للوصول إلى حل يراعي فيه صالح خورشيد، وكان محمد علي — من جهته — يَتُوقُ لإنهاء النزاع وديًّا ودون حاجة إلى قتاله حتى لا يبدو في صورة الثائر على ممثل صاحب السيادة الشرعية، والباشا الذي كان تقليده قائمًا من الناحية القانونية، بينما لم يكن في وسع محمد علي أن يقطع برأي فيما إذا كان الباب العالي سيستجيب لإرادة المشايخ والعلماء والرعية فيعزل خورشيد من الولاية، أو أنه سوف لا يقر هذه الرغبة ويعترف بها ويعتبر لذلك «محمد علي» عاصيًا وخارجًا على القانون، فصار مما يهمه إذن وقد خطا خطوته الكبرى نحو الولاية أن لا يتجدد الآن ذلك الموقف الذي أظهره بمظهر التمرد والعصيان لأوامر الباب العالي عند مقتل علي باشا الجزائرلي، أضفْ إلى هذا أنه لم يكن مطمئنًّا كل الاطمئنان إلى متانة مركزه من الناحية العسكرية للانقسام بين الأرنئود — على نحو ما سبق ذكره — وتحريض الفريق المنضم لخورشيد بالقلعة للفريق الآخر، وصعوبة كبح جماح الأرنئود الذين بالمدينة والذين صاروا يعتدون على أهلها ويلتحم معهم القاهريون من وقت إلى آخر، وكان الدلاة علاوة على ذلك لا يزالون منتشرين في الجهات القريبة من القاهرة، بل ولا يزال بعضهم موجودين بالعاصمة، كما كان البكوات المماليك لا يزالون قادرين على القتال وفي وسعهم — إذا اتحدوا وجمعوا صفوفهم — الانتصار على جنده.

وعلى ذلك فقد بعث حسن باشا بأخيه عابدي بك لمقابلة خورشيد (٢٤ مايو)، الذي احتجزه رهينة بالقلعة، بينما أرسل من جانبه عمر بك الأرنئودي للمباحثة والمفاوضة، «وأمروا برفع المتاريس وتفرق من بها وأشيع نزول «خورشيد» من الغد، وبات الناس على ذلك تلك الليلة وهم ما هم عليه من التجمع والسروح والحيرة»، وفي ٢٥ مايو قابل عمر بك السيد عمر مكرم، فوقعت بينهما «مناقشة في الكلام طويلة»، تقررت في أثنائها مبادئ على جانب كبير من الأهمية في تاريخ الفكر السياسي في مصر من حيث إنها أفرغت النتائج الواقعية لحادث خلع خورشيد والمناداة بمحمد علي في «نظرية سياسية» محدودة المعالم هي حق الشعب في عزل حكامه إذا أساءوا الحكم أو بعبارة أخرى، الأخذ بمبدأ استقرار السيادة العليا في الشعب نفسه.

وتفصيل ذلك أن عمر بك حاول إقناع عمر مكرم بأن المباحثة في عزل والي أو حاكم عَيَّنَهُ السلطان مسألةٌ لا تدخل في نطاق سلطة الشعب — أو الرعية أو العامة أو الجمهور — وحقوقه، ومن شأنه إلغاء القانون الأساسي والسياسي الذي قامت عليه الدولة التي مصر إحدى مقاطعاتها وولاياتها، كما أنه يتعارض مع مبادئ الشرع الحنيف؛ حيث قال الله في كتابه الحكيم: أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فكان جواب عمر مكرم أن أولي الأمر في هذه الآية الكريمة إنما المقصود بهم «العلماء، وحَمَلة الشريعة، والسلطان العادل» الذي يسهر على تنفيذ أحكام الشريعة بتطبيق القوانين العادلة، وقد جرى العرف حسب التقاليد القديمة على أن يخضع لكلمة الشعب الأمراء من أصغر صغير إلى أكبر كبير فيهم بما في ذلك الخلفاء والسلاطين أنفسهم إذا اتضح أنهم لا يستحقون شرف الحكومة على رعاياهم وفي استطاعة الشعب عزلهم واستبدال غيرهم بهم، وخلص من ذلك إلى أنه لما كان خورشيد طاغية مستبدًّا وحاكمًا ظالمًا فقد وجب عزله ومن حق الشعب أن يعزله.

فلما حاول عمر بك إقامة الحجة على أنه لا يجوز شرعًا محاصرة قلعة حاميتها من المسلمين، وأنه لا يجوز تجويعهم وقتالهم لأنهم ليسوا «كفرة»، أجاب عمر مكرم بأن حصارهم وتجويعهم وقتالهم جائز شرعًا ما دام قد أُعلن عن رجال الشرع أنهم عصاة «وقد أفتى العلماء والقاضي» بجواز قتال «جماعة خورشيد» ومحاربتهم لأنهم عصاة، فقال عمر بك: «إن القاضي هذا كافر، فقال «عمر مكرم»: إذا كان قاضيكم كافرًا فكيف بكم وحاشاه الله من ذلك، إنه رجل شرعي لا يميل عن الحق»، وانفض المجلس.

وكان ذلك قولًا جديدًا.

وعبثًا حاول الشيخ السادات كذلك إقناع مندوب خورشيد بعد أن «خاطبه في مثل ذلك فلم يتحول عن الخلاف والعناد»، واستمر «اجتماع الناس وسهرهم وطوافهم بالليل واتخاذهم الأسلحة والنبابيت حتى إن الفقير من العامة كان يبيع ملبوسه أو يستدين ويشتري به سلاحًا»، فرجع عمر بك إلى القلعة في ٢٨ مايو وعاد عابدي بك إلى أخيه حسن باشا، واستؤنف الحصار بشدة، وفقد خورشيد الأمل في تأييد الدلاة له عندما حضر كبارُهُم إلى القاهرة يقدمون ولاءهم لمحمد علي الذي رحب بهم «وخلع عليهم خلعًا وكساوى» في ٩ يونيو وبعث بهم لمحاربة الألفي، ولو أنهم تركوا القليوبية حتى يسطوا على البلاد والقرى المجاورة «يأخذون الكلف وينهبون ويقتلون … ولم يذهبوا إلى ما وُجِّهوا إليه».

وتجدد أملُ خورشيد عندما حضر سلحداره علي باشا من المنيا بِجُنده بعد أن ترك بها حامية صغيرة، فاستولى على الجيزة وأدخل بعض المؤن إلى القلعة، فزاد نشاط خورشيد، وتبادل الفريقان — فريقا خورشيد ومحمد علي — إطلاق المدافع، ولقي محمد علي بعض الصعوبات في أثناء نضاله، وكان مبعثها اشتراط رجال مدفعيته في ميدان الرميلة لاستمرارهم في الضرب أن يدفع لهم مرتباتهم المتأخرة، «وتركوا المتاريس التي حوالي القلعة فتفرقوا وذهبوا»، وأنقذ الموقف «جماعة من الرعية الذين تترسوا في مواضعهم» (٤ يونيو) — واستدان محمد علي مبلغًا من المال من أحد التجار الفرنسيين دفع لهم منه مرتباتهم، أضف إلى هذا استمرار وقوع اعتداءات الجند على الأهالي، والتحام القاهريين معهم؛ دفاعًا عن أنفسهم، وحصول مصادمات ومعارك بين جماعات الجند أنفسهم، حتى «اختلطت القضية واشتبه أمرها على أهل البلد فلا يعرف كلا الفريقين الصاحب من العدو، فتارة يتشابك العسكر مع أهل البلد وكذلك أهل البلد معهم، وتارة تتشابك فرقة منهم مع الكائنين بالقلعة، وتارة الفريقان يساعد بعضهم بعضًا».

وحاول خورشيد تدبير مكيدة بالاشتراك مع سلحداره لإخماد المقاومة الأهلية وانتزاع المتاريس من أيدي القاهريين، وطلب بعض رجال السلحدار من عمر مكرم أن يُفسح لهم طريقًا إلى القلعة بدعوى الرغبة في التوسط لإنهاء الأزمة، ولكن عمر مكرم علم بالمكيدة في الوقت المناسب، وخرج «حجاج الخضري ومن معه من أهالي الرميلة» لمقابلة القوة التي رأسها السلحدار مع قافلة كبيرة من الجمال التي تحمل الذخيرة إلى القلعة، «فضربوهم وحاربوهم» وقتلوا وأسروا عددًا منهم واستولوا على جمالهم.

واستمر الضرب بين الفريقين، ولكن تكرُّر اشتباك القاهريين مع الجند واهتمامهم بدفع أذى هؤلاء عنهم، جعل الحصار المضروب على القلعة ضعيفًا، وأمكن إمدادها بالماء والمؤن والذخائر، وحاول محمد علي والسيد عمر مكرم وقف اعتداءات الجند حتى يمكن التفرغ لحصار القلعة ومهاجمتها، فأعلن محمد علي أن كل جندي يقبض عليه معتديًا على أحد من الأهلين يُضرب عنقه فورًا، وزيد عدد المدافع المصوبة إلى القلعة.

نزول خورشيد

وكان في أثناء ذلك أن وصل إلى الإسكندرية في ٢٤ يونيو مندوب من السلطان سليم قال «مسيت» إنه أوفده «لإنهاء الانقسامات الداخلية في مصر»، كما قال إن جماعة من أتباع هذا المندوب — القابجي باشي صالح أغا — قد اجتمعوا به للتشاوُر معه بشأن «الثورات» التي حدثت في الماضي من جهة، وبشأن الموقف الراهن من جهة أخرى، وبلغ الخبر القاهرة في ٢٨ يونيو وأذيع أن «على يده جوابات بالراحة» ويحمل أوامر في صالح القاهريين الثائرين على خورشيد، «فحصلت ضجة في الناس وفرحوا ورمحوا بطول ذلك اليوم وعملوا شنكًا تلك الليلة … ورموا صواريخ في سائر النواحي وضربوا بنادق وقرابين بالأزبكية وخارج باب الفتوح وباب النصر والمدافع التي على أبراج الأبواب».

وخيل إلى خورشيد بالقلعة وسلحداره علي باشا بمصر القديمة «أن العساكر الذين في قلوبهم مرض تحاربوا مع أهل البلد»، وحاول الاثنان مهاجمة القاهرة فأنزل خورشيد جندًا من القلعة وبعث علي باشا جندًا آخرين من مصر القديمة لهذه الغاية، ولكن القاهريين وعلى رأسهم «حجاج الخضري وأهل الرميلة» هبوا لمحاربتهم مع «من معهم من عسكر محمد علي»، واشتد ضرب مدافع القلعة تجاوبها مدفعية محمد علي، وساهم عمر مكرم بقسط وافر من الإشراف على نشاط الأهلين، وانجلت المعركة عن هزيمة جند خورشيد وسلحداره.

وأما القابجي باشي وسلحدار الصدر الأعظم الذي جاء معه من القسطنطينية، فقد اضطرا إلى التوقف بعض الوقت في رشيد خوفًا من الوقوع في أيدي المماليك والعربان والدلاة كذلك المنتشرين في الوجه البحري، وفي أول يوليو أرسل محمد علي والمشايخ والأعيان وفدًا لاستقباله وملازمته مع طائفة من العسكر «لخفارته»، ودخل صالح أغا القاهرة في ٩ يوليو، وفي اليوم نفسه وفي بيت محمد علي باشا قرئ «المرسوم الذي معه ومضمون الخطاب لمحمد علي باشا والي جدة سابقًا ووالي مصر حاليًّا من ابتداء عشرين ربيع أول ١٢٢٠ﻫ/١٨ مايو ١٨٠٥م؛ حيث رضي بذلك العلماء والرعية، وأن أحمد باشا «خورشيد» معزولٌ عن مصر، وأن يتوجه إلى الإسكندرية بالإعزاز والإكرام حتى يأتيه الأمر بالتوجه إلى بعض الولايات.»

ويفسر «مسيت» ما حدث بقوله في رسالته إلى «كامدن» من الإسكندرية في ٢٣ يوليو، «إن صالح أغا كان يحمل فرمانين مختلفين: أحدهما في صالح خورشيد باشا والآخر في صالح محمد علي، وكان عليه أن يبرز الفرمان الذي يتلاءم مع الظروف التي يجدها، ولكن «صالح أغا» أسرع بالذهاب إلى القاهرة ولذلك وضع نفسه هناك تحت سلطان محمد علي والأهالي الذين كان خمسة عشر ألفًا منهم مسلحين بالبنادق، وضعف هذا العدد مسلحًا بالنبابيت، فلم يستطع «صالح أغا» عدم التحيز في مسلكه حتى إذا كان هو نفسه يميل إلى ذلك، وبناء عليه فقد سلم إلى ديوان القاهرة فرمانًا يثبت بمقتضاه عزل الباب العالي لخورشيد باشا وتعيين محمد علي لولاية مصر.»

وشرح «روفان» Ruffin من رجال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية مسألة هذين الفرمانين المختلفين في رسالة له إلى «تاليران» في ٢٢ يونيو، فقال: «إن «القابجي» الذي أُوفد إلى مصر قد أُرسل في مهمة خاصة ولديه مراسيمُ تقليد لحكومة مصر، وهو مكلف بالنظر فيما إذا كان خورشيد باشا أو محمد علي صاحب القدح المعلَّى والسلطة والنفوذ في مصر، وعليه أن يعطي التقليد — أو الباشوية — للأقوى منهما.»

وفي ١١ يوليو أُرسلت صورة من «المكاتبة الواردة مع صالح أغا» إلى خورشيد، ولكنه رفض الإذعان بدعوى أنه مقلَّد بمقتضى «خطوط شريفة» من السلطان وليس مجرد مرسوم وأنه لا ينعزل «بورقة مثل هذه»، ثم طلب مقابلة القابجي باشي وسلحدار الصدر الأعظم للمباحثة معهما، ولكن المشايخ «ومحمد علي» رفضوا طلوعهما إليه، ومع ذلك فقد أوقف خورشيد الضرب من القلعة مؤقتًا، وخفف محمد علي والمشايخ من جانبهم شيئًا من صرامة الحصار المضروب على القلعة، حتى قام بين الفريقين نوع من الهدنة، كان سببها من ناحية خورشيد أنه عول على انتظار ما تسفر عنه مساعي سلحداره علي باشا مع البكوات الذين كان قد بدأ خورشيد صلاته بهم منذ مدة على نحو ما سبق ذكره، وكان سببها من ناحية المشايخ أن هؤلاء ما لبثوا أن ضجوا من انتشار الفوضى والفتن بالقاهرة عندما تعود عدد كبير من الأهلين بسبب الحوادث الأخيرة ملازمة الشوارع والميادين العامة والانصراف عن أعمالهم ومزاولة حِرَفِهم، وكثرت المشاحنات بينهم وبين العسكر، واعتقد المشايخ أن بوسعهم الاطمئنان إلى أن السلام سوف ينشر لواءه نتيجة للأوامر الواردة من الباب العالي، فأرادوا إنهاء هذه الفتن، فأبلغوا «محمد علي» في أنه قد صار «حاكم البلدة والرعية ليس لهم مقارشة في عزل الباشا ونزوله من القلعة، وقد أتاه؛ أي محمد علي الأمرُ»، فعليه أن ينفذه كيف شاء، وفوضوه في جمع السلاح من الأهالي، واستطاع محمد علي جمعه دون صعوبة، وبالرغم من تَذَمُّر الشعب الذي اتهم مشايخَه بالجبن وقصر النظر «ونزل المشايخ إلى الجامع الأزهر وقرءوا بعض الدرس، ففترت همة الناس ورموا الأسلحة وأخذوا يسبون المشايخ ويشتمونهم لتخذيلهم إياهم.»

غير أن العسكر — من الدلاة خصوصًا — انتهزوا هذه الفرصة فعادوا إلى أذية القاهريين «وتعرضوا لقتلهم وإضرارهم»، ثم ساد الذعر عندما اقترب المماليك من العاصمة، وعندئذ «ضج الناس وأغلقوا الدكاكين، وكثرتْ شكاواهم وأبلغوا السيد عمر النقيب» الذي حَمَّلَ الشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير مسئولية «أمر الناس برمي السلاح»، وانتهى الأمر عند اشتداد الهياج بالعودة إلى حمل السلاح «والتحذر» (١٥ يوليو)، وكان بكوات الصعيد في هذا اليوم قد وصلوا إلى قرب الجيزة، وعبر جماعةٌ منهم النيل إلى البر الشرقي في جهة دير الطين والبساتين، واستولى البرديسي وإبراهيم وعثمان حسن على طرة وهدموا قلاعها (١٦ يوليو).

فقد شاهدنا كيف أن البكوات بمماليكهم قد انسحبوا إلى الجنوب بعد سقوط المنيا (١٤، ١٥ مارس ١٨٠٥)، ثم عادت طوائفُ منهم إلى الظهور في مصر الوسطى والوجه البحري بعد مغادرة محمد علي وحسن باشا المنيا إلى القاهرة، واقترب الألفي بك من القاهرة بعد أن استقدم خورشيد سلحداره بالقسم الأكبر من جنده من الصعيد، فاتخذ الألفي مواقعه في الجيزة أولًا ثم أقاليم الوجه البحري في دمنهور ثم في طرانة ثم في الجيزة عند المنصورية بالقرب من الأهرام يرقب الحوادث، كما شاهدنا كيف بدأ خورشيد صلاته بالألفي وببكوات الصعيد يطلب مساعدتهم له، وقد ذكرنا أن الألفي — حوالي منتصف مايو — سأل «محمد علي» والمشايخ الدخول إلى القاهرة، ولكن هؤلاء طلبوا منه «التأني» حتى تسكن الفتنة، وذلك في الوقت الذي كانت فيه المفاوضاتُ دائرةً بين الألفي وخورشيد، وكان السبب الذي جعل «محمد علي» يرفض مطلب الألفي الذي عرض محالفته عليه، عدم اطمئنانه إلى أية محالفة مع البكوات بعد أن حطم حكومتهم بالقاهرة أولًا، وطارد فريقًا منهم «جماعة الألفي» في الوجه البحري، وأوقع الهزيمة بفريق آخر «جماعة البرديسي وإبراهيم» في الوجه القبلي.

ولكن خورشيد الذي أراد الاستعانة بهم في محنته لم يتردد عن قبول محالفة الألفي وبكوات الصعيد، وقام سلحداره علي باشا بدور الوسيط بينه وبينهم، ورحب أكثرهم بعروض السلحدار، وتقدموا من الصعيد «منفلوط» على مراحل متتابعة حتى صاروا قريبين من أسوار الجيزة التي تحصن بها السلحدار علي باشا، وأنشأ منها خطًّا للاتصال بالقلعة لإمداد خورشيد بالمؤن والذخائر في كل مرة تخف فيها وطأة الحصار المضروب عليها.

ومع ذلك فقد استطاع محمد علي والقاهريون — على نحو ما رأينا — وقف هذا الاتصال في أكثر الأوقات، كما منعوه بتاتًا عندما اتخذت التدابير لإنهاء مسألة خورشيد بكل حزم وسرعة بعد أن فشلت المحاولات لإقناعه بالتسليم، على أن وصول المماليك إلى الجيزة الآن لم يلبث أن أفقد التوازن بين قوات محمد علي والقاهريين من جانب، وبين قوات خورشيد بالقلعة وسلحداره بالجيزة من جانب آخر، زد على ذلك أن البكوات والسلحدار قطعوا كل المواصلات مع القاهرة وفرضوا عليها نوعًا من الحصار المتحرك، فامتنع وصول المؤن إليها، وبدأت المجاعة تطل برأسها، وبدأ هياج القاهريين وصخبهم، وعاد الأرنئود إلى التمرد والعصيان وإيذاء الأهلين والاعتداء عليهم، ووجد محمد علي لزامًا عليه القيام بعمل حاسم ضد البكوات.

وفي ١٦ يوليو خرج محمد علي لمناجزة البكوات: محمد المنفوخ وعباس بك ورشوان كاشف الذين كانوا قد عبروا النهر إلى جهات مصر القديمة ودير الطين والبساتين، وخرج معه حسن باشا وعابدي بك، وتبادل الفريقان الضرب بالمدافع طيلة هذا اليوم واليوم التالي، ولكن حدث في هذا اليوم الأخير (١٧ يوليو) أن انتهز «الدلاة» الموجودون بالبر الغربي فرصة خروج الجند الأرنئود لقتال المماليك، فعبروا النهر وانضم إليهم إخوانهم المقيمون بجزيرة بدران، وانقضوا على بولاق يعتدون على أهلها، وشكا هؤلاء إلى السيد عمر مكرم، ولكن جهود الكتخدا بك، وكيل محمد علي لم تفد في منعهم.

وهكذا كانت القاهرة على وشك الخضوع للحصار يضرب عليها من جديد، وانتشار المجاعة بها نتيجة لذلك، ثم الانغماس في فوضى داخلية شديدة، عندما جاءتْها الأخبارُ في ١٩ يوليو بوصول القبطان باشا إلى الإسكندرية وأبي قير «وصحبته مراكب كثيرة».

وبينما كان القاهريون يجهلون أخبار هذه العمارة العثمانية؛ أي الغرض من إرسالها، كتب «مسيت» من الإسكندرية في ٢٣ يوليو، ينبئ حكومته بوصول ثلاث بوارج وفرقاطة وإبريق بقيادة القبطان باشا، ألقت مراسيها في أبي قير في ١٤ يوليو، ثم قال: «وأما إذا كان الغرض من إرساله إرجاع الهدوء والسكينة إلى مصر فإن الوسائل التي لديه لا تكفي لتحقيق هذا الغرض، كما يعتقد مسيت أن أية قوات برية يكون القبطان باشا قد أحضرها معه إنما تزيد من حدة الفوضى والاضطراب الموجودة الآن، فإذا أخذ بعين الاعتبار نضال الأحزاب المختلفة في مصر فيما بينها، والعجز الظاهر عن إجابة مطالب الأرنئود المالية؛ أي دفع مرتباتهم، فإنه يصعب معرفة كيف يستطيع الباب العالي إنهاء الكوارث التي حلت بمصر من غير مساعدة قوة أجنبية له»، ويستمر «مسيت» فيؤكد أن هذا هو رأي سكان الإسكندرية كما أنه رأي أكثر كبار الضباط الأتراك بها، وأن جميعهم مُتَّحِدون في طلب إرسال جيش بريطاني لإنقاذهم من هذه التعاسة التي هم بها.

والواقع أن الباب العالي الذي شهد الحجاز يكاد يسقط بأسره في أيدي الوهابيين المنتصرين في كل مكان، والذي تيقن من عجز مصر عن إرسال النجدات اللازمة إلى بلاد العرب لإنقاذهم من أيديهم ما دامت فريسة للفوضى، لم يلبث أن قرر إنهاء هذه الفوضى السائدة في مصر.

زد على ذلك أن الباب العالي منذ أن بلغته أنباء انقلاب «١٢، ١٣ مايو»، والنزاع الدائر بين خورشيد ومحمد علي، وانتهاز المماليك الفرصة للزحف على القاهرة، صار يخشى أن تؤدي هذه الاضطرابات إلى فقد مصر، واعتقد أنها بتدبير الإنجليز الذين يريدون الاستيلاء على البلاد، فقرر منذ أواخر يونيو إرسال القبطان باشا إلى مصر، وخوله سلطات واسعة لإنهائها بأي ثمن.

وكان المشايخ عندما بلغهم الخبر بوصول القبطان باشا قد قرروا كتابة عرضحال يذكرون فيه الأسباب التي دعت إلى عزل خورشيد والمناداة بمحمد علي «يرسلونه إليه مع بعض المتعممين»، واختلفت آراؤهم، وظلوا على هذه الحالة، حتى وصل السلحدار القبطان باشا إلى بولاق في ٢٤ يوليو، وكان يحمل أمرًا إلى خورشيد بالنزول من القلعة دون إبطاء والذهاب إلى الإسكندرية، وأمرًا آخر إلى محمد علي «بإبقائه في القائمَّقامية؛ حيث ارتضاه الكافة والعلماء والوصية بالسلوك والرفق بالرعية»، وأن يرسل عسكرًا إلى الحجاز.

ولكن خورشيد طلب أن «يطلع إليه السلحدار الواصل ويخاطبه مشافهة»، فطلع إليه ومعه القابجي باشي صالح أغا، وأظهر خورشيد امتثاله لأوامر السلطان، ولكنه طالب بخمسمائة كيس باقية عليه لصالح أغا قوش وعمر بك الأرنئودي استدانها منهما لدفع مرتبات الجند؛ حيث إنه «لم يبق عنده شيء سوى ما على جسده من الثياب»، وبحث السلحدار والقابجي المسألة مع محمد علي، ولكن دون نتيجة، وتوقفت المفاوضة.

وكان السبب في ذلك أنه حدث ثاني يوم وصول السلحدار، أن صادر محمد علي خطابًا مرسلًا من علي باشا سلحدار خورشيد وياسين بك الأرنئودي من ضباط علي باشا بالجيزة إلى خورشيد باشا يتضمن تفاصيل مؤامرة لمباغتة القاهرة حدد لها يوم ٢٧ يوليو، وذلك أنه عند ظهور الإشارة المتفق عليها وهي إطلاق سبعة صواريخ من الجيرة، يضرب خورشيد من القلعة بيت محمد علي بالمدافع «والقنابر»، وينتهز علي باشا وياسين بك فرصة انشغال محمد علي، فيعبران النيل إلى مصر القديمة، بينما يطرق البرديسي القاهرة من خلف المقطم، ويأتي سائر البكوات من ناحية طرة، ويقوم القاهريون على من بها من الأرنئود «فيشغلون الجهات ويتم المرام».

وفي ٢٦ يوليو وصل بكوات الصعيد إلى حلوان، ودخل فريقٌ منهم إلى الجيزة، وفي اليوم التالي عدى ياسين بك من الجيزة إلى متاريس الروضة واستولى على ما بها من مدافع وأبطل ما لم يستطع الاستيلاء عليه منها، «فثارت رجة بمصر القديمة والروضة وضربوا بالمدافع والرصاص» ورجعوا قافلين إلى الجيزة، وفي اليوم نفسه حضر الألفي إلى طرانة، وزاد تعقيد الأمور، ولكن سلحدار الصدر وصالح أغا ثابرا على محاولاتهما مع خورشيد، وفي ٢٧ يوليو أبلغ صالح أغا السيد عمر مكرم «أنهم تواعدوا مع «خورشيد» إما أن ينزل في اليوم التالي أو يستمر على عصيانه»، ولكن خورشيد لم يلبث أن أعلن في اليوم التالي عزمه على المقاومة وأخلى القلعة من النساء والأطفال، ولما كان محمد علي قد صار يخشى الآن يقينًا من وقوع الهجوم على القاهرة وتوقع أن يحدث ذلك من ناحية «إمبابة» على الخصوص فقد بادر باحتلالها (٣٠ يوليو).

ومع ذلك فقد استمرتْ محاولات السلحدار وصالح أغا القابجي باشي، وبشير أغا القابجي الذي كان قد حضر من القسطنطينية قبل حوادث «١٢-١٣ مايو» فاستأنفوا مساعيهم مع خورشيد (٣ أغسطس)، وطلب «القلعاويون شروطًا وعلائفهم الماضية»، وكثرت مباحثتهم مع خورشيد ومحمد علي، وتعدد طلوعهم ونزولهم من القلعة، وأخيرًا وافق خورشيد على النزول يوم ٥ أغسطس، وكان محمد علي قد أحضر له الخمسمائة كيس التي طلبها، وسلم القلعة إلى سرجشمة حسن أغا الذي تسلمها باسم محمد علي، وفي اليوم التالي نزل خورشيد نفسه وذهب إلى بولاق ومعه صالح قوش وعمر بك الأرنئودي وصحبهم كتخدا محمد علي (٦ أغسطس) «وأرسل «السيد عمر مكرم» فنادى تلك الليلة باستمرار الناس على التحذر والسهر وضبط الجهات» خوفًا من غدرهم، ولكن خورشيد ما لبث أن غادر بولاق في ١١ أغسطس، «وتخلف عنه كتخداه وعمر بك وصالح قوش والدفتردار وكثير من أتباعه، ولم يسهل بهم مفارقة أرض مصر وغنائمها — على حد قول الشيخ الجبرتي — مع أنهم مجتهدون في خرابها.»

وتعجب «مسيت» — في رسالته إلى ستراتون من الإسكندرية في ١٢ أغسطس — من تسليم خورشيد، وإقدامه على هذا العمل البعيد عن الحكمة، والرضاء «بوضع نفسه في أيدي أعدائه بعد أن صار مستحقًّا للعقاب بسبب علاقاته مع المماليك»، ثم تساءل «مسيت»: «لماذا سلم رهنًا في يده كالقلعة لأعدائه قبل أن يعرف نتيجة ما قدمه من رجاوات، وقام به من مساعٍ لدى القبطان باشا؟» وفسر «مسيت» ما فعله خورشيد بأنه ربما كان نتيجة نزوة من النزوات أو تقلُّب الخاطر.

ولكن كانت هناك أسبابٌ كثيرة أرغمت خورشيد على النزول في النهاية؛ منها: نشاط المقاومة الشعبية وإصرار القاهريين ومشايخهم على عزله، ثم صدور أمر الباب العالي الذي اعترف — كعادته — بالأمر الواقع بتثبيت محمد علي في الولاية ومطالبة خورشيد بالانسحاب.

ولعل أهم عوامل هذا الفشل، كان انقسام البكوات المماليك الذين أراد خورشيد الاستنجاد بهم، وتردد الألفي، وتوهمه أن بوسعه أن يلعب دورًا مزدوجًا — كسابق عادته — مع خورشيد ومحمد علي ومع الوكلاء الإنجليز والقبطان باشا بينما قصر رجاله نشاطهم على النهب والسلب في الوجه البحري، ورفض أن يتحد في أية عمليات مع إخوانه الذين حضروا من الصعيد بمجرد أن نمى إليهم ما تعانيه حكومة خورشيد بالقاهرة من مصاعب وأعلن تصميمه على الوقوف موقف الحياد، حتى إذا شاهد بكوات الصعيد يقتربون من القاهرة، خشي إذا نجح هؤلاء في الاستيلاء عليها أن يظل هو خارج أسوارها، فكان بعد تباطؤ طويل — على حد قول مسيت — أن عول على الاشتراك في هذا الحادث، حادث دخول القاهرة المنتظر، فتحرك في ٧ أغسطس من البحيرة كي ينضم إلى سائر البكوات بالجيزة، واستعان هؤلاء بهذه القوة الجديدة في تنفيذ مأربهم، ولكن هذه الخطوة جاءت متأخرة؛ لأن خورشيد — كما تقدم — كان قد سلم القلعة وغادرها منذ ٦ أغسطس، وفضلًا عن ذلك فقد استطاع محمد علي أن يكيد للبكوات مكيدة كبيرة.

فإن هؤلاء الذين توهموا أن القاهريين يؤازرونهم سرًّا؛ شرعوا الآن يستميلون رؤساء الأرنئود إليهم في محاولة أخيرة لاقتحام القاهرة قبل اضطرارهم إلى الانسحاب بسبب فيضان النيل الذي أخذ يعلو، فقال «مسيت» في رسالته إلى «كامدن» في ٢٩ أغسطس يصف ما حدث، إنهم «وزعوا أموالًا كثيرة بين الرؤساء الأرنئود الذين وعدوا البكوات بطرد محمد علي وأعوانه من القاهرة، فوثق هؤلاء بهذه الوعود» وانخدعوا بها، ونشأت من ثم مراسلات بين الفريقين، قال المعاصرون: إن الرسائل التي كتبها الضباط الأرنئود باسمهم وباسم المشايخ والأهلين كانت تصنع في سراي محمد علي نفسه وتحت بصره، وأوهم كاتبوها البكوات أن القاهريين يريدون الثورة على محمد علي «ذلك الأجنبي الذي جعلهم طغيانه الذي لا يطاق يأسفون على حكومة البكوات، وأنهم ينتظرون بفروغ صبر اللحظة التي يتمكنون فيها من طرده واستدعاء البكوات.»

فاتفق الرأي على تحديد يوم خروج محمد علي في الاحتفال السنوي المعتاد بوفاء النيل وفتح الخليج (١٦ أغسطس) حيث يقام الاحتفال دائمًا خارج أسوار القاهرة، موعدًا لدخول البكوات، ولكن «محمد علي» الذي كان يعلم بهذا التدبير «أمر بكسر السد ليلًا»، وفي اليوم المعهود «لم يذهب الباشا ولا القاضي ولا أحد من الناس ولم يشعر «البكوات» بذلك»، وجاء هؤلاء «البكوات» يحاولون الدخول من باب الفتوح، فتركهم الأهلون الذين كانوا في الحراسة يدخلون فتقدم البكوات عثمان حسن وعباس، وأحمد كاشف سليم بك وشاهين بك المرادي وغيرهم «كشاف وأجناد ومماليك وعبيد كثيرة نحو الألف» وقصدوا بطبولهم وزمورهم إلى الجامع الأزهر، وذهب فريق منهم مع البكوات إلى بيت السيد عمر مكرم فامتنع عن مقابلتهم، فتوجهوا إلى بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي ونزل البكوات عنده، وحضر إليهم عمر مكرم وطلبوا منهم النجدة وقيام الرعية، ولكن دون جدوى، فخرجوا وغادروا القاهرة من أحد أبوابها «باب البرقية»، وكان جند الباشا قد حضروا لمناجزتهم ولكنهم لم يدركوهم، فنَجَوا، وأما الفريق الآخر فقد انهال عليهم الرصاص من جانبهم ولم ينفع جماعةً منهم التجاؤهم إلى جامع البرقوقية، وكانت مقتلة عظيمة، ولم ينج منهم سوى حسن بك شبكة واثنين من الكشاف افتدوا أنفسهم بالمال.

وقال «مسيت» في رسالته التي سبقت الإشارة إليها، والتي ضمنها بعض تفصيلات هذا الحادث، إن غرضه من ذكرها إنما هو إظهار أن «نتيجتها قد قضت على كل رجاء في أن حكم الأرنئود — والمقصود محمد علي — سوف ينتهي من مصر».

وكان من أسباب فشل خورشيد، إخفاق تلك المساعي التي أشار إليها «مسيت» وذهاب رجواته للقبطان باشا سدى، فقد بعث خورشيد سلحداره علي باشا، كما بعث الألفي بكخياه «محمد» برسائل لمقابلة القبطان باشا بالإسكندرية، «وكان الغرض من إيفادهما — على نحو ما ذكر مسيت في رسالته إلى ستراتون في ٦ أغسطس — التوسل والتضرع للقبطان باشا حتى يعترف بخورشيد باشا واليًا على مصر، فيعطي بذلك موافقته الرسمية على الحرب التي كان جند خورشيد — بالاتحاد مع المماليك — على وشك أن يبدءوها ضد محمد علي وأنصاره».

فوصل الاثنان إلى الإسكندرية في ٣ أغسطس — أي قبل تسليم القلعة بثلاثة أيام فحسب — وتوسط «مسيت» لدخول كخيا الألفي ورسول خورشيد تحت حمايته، واستضافهما في منزله أربعة أيام وهي المدة التي قضياها بالإسكندرية، وفي أثنائها قابلا مرتين القبطان باشا الذي دخل الإسكندرية «متخفيًا» لمقابلتهما، وكانت الرسائل التي بأيديهما تعلن إليه اتحاد جميع البكوات وانضمامهم إلى حزب خورشيد باشا، «كما دعي القبطان باشا — كما ذكر «دروفتي» في إحدى رسائله إلى حكومته في ٣ أغسطس — للذهاب إلى القاهرة مع كل الجند، حتى يعمل — بالاشتراك مع الحزبين المتحدين — لطرد الأرنئود واتخاذ الوسائل الكفيلة باستتباب النظام وإعادة الهدوء».

وأيد «مسيت» مسعى السلحدار علي باشا ومحمد كخيا الألفي، ويقول «دروفتي» في رسالته في اليوم التالي (٤ أغسطس): «إن القنصل الإنجليزي ومندوبي الألفي وخورشيد باشا قابلوا أمس القبطان باشا وعرضوا عليه مقترحات الألفي، وبذلوا كل ما وسعهم من جهد وحيلة لإقناعه بضم قواته إلى قوات الألفي لطرد محمد علي والأرنئود من مصر، الطريقة الوحيدة لإعادة السلام إليها، والتي بدونها تستحيل القاهرة أطلالًا، كما أنهم حاولوا إقناعه بأن الباب العالي يجب عليه أن يخشى دائمًا من حدوث غزوة فرنسية على مصر، وحيث إن تركيا ليس لديها قواتٌ كافيةٌ لدفع الفرنسيين فمن المحتمل أن تتخذ إنجلترا ما يلزم من وسائل لمنع سقوط هذه البلاد التي يهمها أمرها في أيدي أعدائها.»

ولكن كل هذه المحاولات أخفقت «ولم يفلحا في مفاوضتهما»، كما كتب «مسيت» إلى حكومته في ٦ أغسطس، «لأن القبطان باشا أعلن أن لديه أوامر قاطعة بوضع محمد علي على رأس الحكومة»، وعلاوة على ذلك فقد سعى «دروفتي» لإحباط هذه المفاوضة، فقابل ترجمان القبطان باشا وأوضح له — كما قال في رسالته المؤرخة في ٣ أغسطس — ضرورة أن يذكر للقبطان باشا أن الألفي عدو للحكومة الفرنسية، كما بين للترجمان أن اتحاد بكوات الصعيد مع الألفي خطوةٌ غير عملية، الأمر الذي تدل عليه تلك العداوة التي ظهرت أخيرًا من جانب الألفي نحو سليمان بك صنيعة البرديسي والإشارة هنا إلى ما فعله الألفي الذي بعد أن ارتحل من دمنهور التي أخفق في حصارها والإغارة عليها لم يلبث «أن كبس على سليمان كاشف البواب ونهب ما معه».

كما أن اتحاد الألفي وخورشيد باشا ما هو إلا إجراء مؤقت مبعثه الرغبة في انتهاز الظروف فحسب، وأن الإنجليز لا يأبهون لحقوق السيادة التي للباب العالي على مصر، بل إنهم يمدون عدو الباب العالي وهو الألفي بالذخائر، وإن إقامة أحد وكلائهم طويلًا مع هذا الأخير والإشاعات التي يُذيعونها من مدة طويلة عن قُرْب وصول جيش إنجليزي لوضع الألفي على عرش مصر؛ لَمِمَّا ينهض دليلًا على ذلك، وقال «دروفتي» إن هذه الحجج والدعاوى قد تركت أثرًا ظاهرًا — كما بدا له — على ذهن ترجمان القبطان باشا، وفي ٤ أغسطس أكد «دروفتي» فشل المفاوضة وجواب القبطان باشا «أن لديه أوامر لا يحيد عنها، وأن الباب العالي قد سمى «محمد علي» واليًا على مصر وخورشيد باشا واليًا لجدة، وأن الأخير يجب عليه أن يذهب إلى مركزه مع سلحداره علي باشا، وأنه بمجرد عودة الهدوء إلى مصر بفضل هذا الترتيب سوف ينظر في مصير البكوات.»

وفي ٥ أغسطس غادر كخيا الألفي وعلي باشا سلحدار خورشيد الإسكندرية وهما يؤكدان — كما قال «مسيت» — «أنهما بمجرد وصولهما إلى معسكراتهما المختلفة سوف يبدأ هجوم عام على القاهرة.»

ولكن في اليوم التالي لمغادرتهما الإسكندرية سلم خورشيد القلعة (٦ أغسطس)، كما أن كل الهجوم الذي حدث بعد ذلك كان تلك المحاولة الخاسرة التي أوقع فيها محمد علي بالبكوات يوم ١٦ أغسطس، وكان هؤلاء بكوات الصعيد، ولم يشترك الألفي في هذا الهجوم.

زِدْ على ذلك أن هذا الحادث أشاع اليأس في نفوس جند السلحدار علي باشا وعرض هؤلاء تسليم الجيزة لمحمد علي مقابل إصدار عفو عام عنهم (٢٢ سبتمبر)، ودخل ياسين بك الأرنئودي في خدمة محمد علي، وانسحب علي باشا السلحدار للإقامة مع البكوات، ثم ذهب إلى الإسكندرية لينضم إلى خورشيد.

فكان من أثر ذلك أنْ زاد تمسُّكُ القبطان باشا بموقفه، فكتب إلى القسطنطينية يطلب تثبيت محمد علي في الولاية، وبذل عملاء، أوْ وكلاء محمد علي قصارى جهدهم في القسطنطينية لإقناع الباب العالي بتثبيت محمد علي في ولايته مستندين في ذلك إلى ما أبداه المشايخ والعلماء من رغبة ملحة في توليته، وما يعتزمه محمد علي من إصلاحات إدارية لانتظام شئون الحكم في مصر، وإلى أن السلطان في وسعه من الآن فصاعدًا أن يعتمد على حكومة محمد علي في إمداده بالنجدات من المال والرجال للقتال ضد الوهابيين وإنقاذ الحرمين الشريفين.

ينهض دليلًا على ذلك ما فعله محمد علي من تعيين قريبه طاهر أغا على رأس جيش معسكر خارج القاهرة، وينتظر صدور الأمر للسير فورًا إلى الحجاز، وقد أفلحت هذه الأقوال مع طلب القبطان باشا تثبيت محمد علي في ترجيح كفة هذا الأخير لدى الديوان العثماني وتسليمه بالأمر الواقع، فوافق الباب العالي على ذلك، وأصدر فرمانًا بتعيين خورشيد لولاية سالونيك، فغادر القبطان باشا الإسكندرية إلى أبي قير في ١٢ أكتوبر ليُبحر منها إلى القسطنطينية في اليوم التالي، كما أبحر معه خورشيد باشا وسلحداره علي باشا، وبذلك خلص الحكم في مصر لمحمد علي.

وهكذا انتهت ولاية خورشيد باشا بعد حكم استمر ستة أشهر وأربعة عشر يومًا، فكان ارتقاؤه الولاية وخلعه منها من صنع رجل واحد فقط — محمد علي — عرف كيف يتخذ من تنصيبه وسيلة لخدمة مآربه بعد أن تمهد له الطريق إلى السلطة عقب طرد البكوات من حكومة القاهرة.

ولا جدال في أن عزل خورشيد في الظروف التي شهدناها كان مبعثُهُ ضعف الباب العالي الذي عجز عن فرض سيطرته على البلاد بسبب تلك الروح الثورية التي ظلت سائدة بها من أيام الفتح العثماني الأولى، ولقد جعل هذا الحادثُ خروج هذا الجزء الهام من الإمبراطورية العثمانية بصورة عملية في مستقبل الأيام أمرًا مفروغًا منه؛ ذلك أن خورشيد كان آخر الولاة الذين تلقوا أوامرهم من القسطنطينية مباشرة، كما أن تنحيته عن الحكم كانت الثمن الذي وجب عليه دفعه عن أخطاء حكومةٍ ظاهرةِ العجز والضعف، ونعني حكومة الباب العالي.

وكان القبطان باشا صادقَ النظرِ حينما قال عند عودته إلى القسطنطينية: «لقد تركت في هذه البلاد؛ أي مصر رجلًا سوف تجد فيه الإمبراطورية — ولا شك — يومًا من الأيام ثائرًا من أخطر الثوار على سلطانها، فلم يحدث بتاتًا أن كان لسلاطيننا والٍ أكثر حنكة سياسية، وأعظم نشاطًا وأعمق دهاء من هذا الباشا»؛ أي محمد علي.

وكانت مهمة هذا الباشا في السنوات التالية تذليل الصعوبات التي صادفتْه لدعم أركان الولاية التي ظفر بها بعد مثابرة طويلة وجهود شاقة مضنية، وأفاد لبلوغ غايته من ضعف الباب العالي، والصراع القوي بين السياستين: الإنجليزية الإيجابية، والفرنسية السلبية وانقسام البكوات وتفرُّق كلمتهم، وعدم نضجهم السياسي، ومؤازرة القاهريين ومشايخهم له.

١  رسالة مسيت إلى لورد كامدن من الإسكندرية في ٢٨ مايو ١٨٠٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤