مقدمة المترجم

هذه هي ترجمةُ كتاب «بسمارك» للكاتب الألماني الكبير «إميل لُودفيغ». وربما كان هذا السِّفر أَعْمَقَ ما وضع لودفيغ من كتب التراجم وأدقَّ، ولا نستثني من ذلك كتاب «نابليون» الذي امتاز بحسن التحليل، ولا كتاب «ابن الإنسان» الذي امتاز بقوة الوصف. والكتب الثلاثة هذه هي خيرُ ما أَلَّفَ لودفيغ من رسائل السِّيَر على ما نرى. ولا عجب؛ فموضوع الكتاب ألمانيٌّ يشغل بال الألمان والعالم بأسره، والكاتب ألمانيٌّ لم يألُ جُهدًا في أَسْر أفئدة الناس أجمعين.

والمؤلف يقول: «وَلَمَّا حلَّت سنة ١٩١١ حاولتُ أن أقف حيال أسطورة هذا الوزير الحديديِّ في رسالة نفسية، عارضًا فيها بطريق الوصف طبيعةً عُدَّت من الألغاز، ثمَّ انقضت عشرُ سنوات فوضعت روايةً مؤلَّفة من ثلاثة فُصُول عن بسمارك طامعًا أن تُمثَّل على المسرح الألماني. ويختلف السِّفر الوصفيُّ الحاضر عن ذلك السِّفر غير السياسيِّ الباكر. وليس في هذا الكتاب اللاحق ما هو مُقْتَبَسٌ من ذلك الكتاب السابق؛ فما في هذا الكتاب من عَرْض لبسمارك فقد تمَّ على نور جديد، ولا تُبصر في الكتابين من أوجه الشبه سوى الصورة الأساسية التي تجلَّت بها تلك الطبيعة المعقَّدة. ومما اقتضى وضع كتاب جديد عن بسمارك أكثر ملاءمةً لأُصُول النقد؛ ما أسفرت عنه الحرب الأخيرة من نشر وثائقَ قاطعةٍ ومذكِّراتٍ مفيدةٍ، وما اتَّفق لنا من النضج.»

وعلى كثرة ما يتردد اسم «بسمارك» في الرسائل والصحف، وعلى كثرة ما يدور اسم «بسمارك» على الألسُن، وعلى ما مثَّله بسمارك من الدور العظيم في تاريخ العالم، عَطِلَت العربية من كتابٍ كبير أو صغير عن حياة هذا الإمام في السياسة، عن تاريخ هذا الذي لم يتحرَّج أحدُ فلاسفة١ فرنسة من وصفه ﺑ «صاحب الدماغ القدير المتصرف في المصير.»

وبسمارك هو الذي جعل من ضعف ألمانية قوَّةً، وبسمارك هو الباني للإمبراطورية الألمانية والمُوجِد لألمانية الحديثة والرافع لذِكْرها والمُعْلي لشأنها والمُظهِر لها فوق الجميع، وبسمارك هو الجامع لأجزاء ألمانية بعد تفرُّق والموُحِّد لأقطارها بعد شتات، فإذا ما ذُكِر قيام الدول وتأسيس الجامعات وتوحيد ما اختلف من الجهات؛ كان بسمارك أولَ من يبدو للأعيُن نِبراسًا يُهتدَى به وللأبصار قبسًا يُسارُ على نوره.

وقد بلغ ما شاده بسمارك من القوة درجةً لم تَسطِعْ أن تدكَّه حربان طاحنتان؛ فالأساس متينٌ والأصول ثابتةٌ، وإذا ما قُطِعت الفروع أخرجت السوقُ شطْأً أقوى مما كان؛ كما ثبت بعد الحرب العالمية الأولى، وكما يلوح بعد الحرب العالمية الثانية. ولو خلا من الرعونة من قبضوا على زمام الأُمُور في ألمانية بعد بسمارك، وبين تَيْنِك الحربين أيضًا، فكان لهم مِثلُ ما له من اتِّساع الأفق وأصالة الرأي؛ ما أُصيبت ألمانية بغَلَبٍ بعد طويلِ جهادٍ وعظيمِ دفاعٍ، ولظلَّت ألمانية أول دولة في العالم على ما يُحتمل.

والمؤلفُ في هذا الكتاب — كما في كتاب نابليون — سار مع بسمارك سيرًا طبيعيًّا من ولادته إلى وفاته بأُسلوبٍ أخَّاذٍ مؤثِّر لم يسبقه إليه أحد. ولا نرى أن نُسهب في بيان ما وجدناه من إبهام والتباس وغموض في هذا الكتاب، ولا في بيان ما بذلناه من جهود مضاعفة في جعل عبارة الكتاب واضحةً جهد المستطيع؛ فذلك يقدِّره قرَّاء كتب لودفيغ، ولا نرى أن نضع مقدمة مطوَّلة نعرض فيها مناحي الكتاب؛ لِما قصدناه من ترك ذلك للقارئ، وإنما نذكر أن هذا الكتاب هو خير ما أُخرِج للناس عن بسمارك — على ما نعتقد.

نقدِّم هذا الكتاب إلى الأمة العربية في وقتٍ هي في أشدِّ الاحتياج إلى مثله؛ فلعلَّ العرب يُبصرون من مطالعته كيف تُقام الجامعات وكيف توحَّد الشعوب والدول على أُسُس صحيحة بعيدة عن الرئاء والشعوذة والكيد والتخاذل والمظاهر الخادعة، قائمةٍ على الإيمان والإخلاص والبذل والتضحية والجهاد الصادق. فإذا كنتُ قد نقلت هذا الكتاب إلى العربية نقلًا يكاد يكون حرفيًّا معتمدًا على ترجمته إلى الفرنسية والإنكليزية، فإنني أكون قد نلت ما أرجو.

«نابلس»، عادل زُعَيتِر
١  الدكتور غوستاف لوبون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤