الفصل الثاني عشر
يمضي شهران فيجرؤ الأميرُ وِلْهلم على العودة من إنكلترة حيث فَرَّ، ويمرُّ من سكسونية فينتظرُه بسمارك في محطة صغيرة، ويرى بسمارك أنَّ من الحَذَر أن يكون خلف الآخرين، ويعرفه الأمير (الذي حدَّثَتْه الأميرةُ عن زيارة بسمارك لها، فذكرَت له نيَّتَه من غير أن تُفشيَ له سرَّها)، فيشقُّ طريقًا له بين الجَمع ويصافحُه، ويقول له: «أعرفُ أنك عملت بنشاطٍ ما فيه مصلحتي، فلا أنسى لك ذلك أبدًا!»
وهكذا يقترن سوءُ تفاهُم منطقيٌّ عجيب بتصافح ذَينك الرجلَين اللَّذَين — وإن فرَّق بينهما حقد الأميرة — اتَّحدَا على منصَّة التاريخ العام فيما بعد.
لقد قرَع آذانَهم الصادقة صوتٌ خائن، قرَع آذانَهم قولٌ بأنك لن تكون بروسيًّا، بل تكون ألمانيًّا، والآن يتموَّج العلَمُ الأسودُ الأحمرُ الذهبيُّ تحت وهَج الشمس، والآن يُطوَى العلم ذو النَّسر مُدنَّسًا، وهنا ينتهي تاريخكم المجيد يا آلَ زولِّرن، وهنا يَخرُّ مليكٌ بلا قتال، وليس علينا أن نسير وراء النجوم الهاوية، فيا أيها الأميرُ سيؤنِّبك ضميرُك على ما صنعتَ هنالك، ولن ترى كالبروسيين إخلاصًا!
ويسمع الأمير ذلك فيَذرِف سخينَ العَبرات، فلا يراه بسمارك يفعل ذلك غيرَ مرة واحدة في قادم الأيام، ويدلُّ شكل الوَجْد ذلك لدى رجلَين جسورين شخصيًّا على تقارُب وضعهما في بعض الأحوال العالية، لا على تشابُههما في مِزاجهما، وكان عمر وِلْهلم يزيد على خمسين سنة، وكان قد قضى حياة كامدة ولكن ناعمة، وإذا عدَوتَ بعض الأقاصيص الغامضة عن فتائه وما اضطُرَّ إلى ترْكه من المعاشق وجدتَه لم يُلاقِ أيَّ عائقٍ جدِّيٍّ كان، والآن مع خَدْع النُّدَماء إياه حول زوال الخطر يُبصر في بيان بسمارك أولى الحقائق السافرة، وبسمارك قد عرف كيف يعرضها عليه في نشيد جندي.
– «الأمور عندنا سيئة يا صاحب الجلالة.»
– كنت أظنُّ أن الوضع عندكم حسنٌ؟
– «أجلْ، إن الوضع كان حسنًا جدًّا، ولكنه ساء منذ تسرَّبت فينا الثورة بفعل سلطة الملك وختومه، فلم تبقَ هنالك ثقةٌ بمعونة الملك.»
ويروي بسمارك أن الملكة خرجتْ من مكمنٍ آنئذٍ فقالت: «كيف تجرؤ على مخاطبة الملك بهذه اللهجة؟»
بيدَ أن الملك فردريك وِلْهلم قال: «دعينا يا إليزة، فسأبلُغ مَرامي، وبماذا تَعيبونني إذن؟»
– «بإخلاء برلين.»
– لم أُرِد ذلك.
وكان ذلك على مسمعٍ من الملكة، فقالت: ليس الملك هو الذي يُلام على ذلك، وهو الذي لم يَقدِر على النوم ثلاثة أيام.
– «على الملك أن يستطيع النوم!»
– العودةُ من دائرة البلدية خيرٌ من الذهاب إليها، وأنتم يا رجال المجلس الاشتراعي أدرى من غيركم، وليس التأنيبُ أقومَ الوسائل في تقويم عرْش منكوس، ولا بدَّ لذلك من المعاضدة والهمَّة والتضحية لا النقد والتنديد.
وهكذا كانت مقابلة بسمارك السياسية الأُولى لملك بروسية، وقد كان وضعه سهلًا في الحقيقة، فهو ملكيٌّ عذَل الملِكَ، وكان وضْعُه صعبًا من حيث الشكل؛ فهو قد دخل القصر ليعنِّف في الواقع، وهو قد غُلب لمعاملته بالحسنى، ويرضَى الملك بنقده مترفِّقًا به رفقًا أبويًّا، ويوصي غِرْلاخ بعد زمن قليل بتعيين بسمارك النائب وزيرًا فيُعلِّق الملك على ذلك قوله: «يُنتفع به في وقتٍ يكون الحكمُ فيه للحِراب.» فهذا الحكم الباطل سياسيًّا صحيحٌ نفسيًّا في ذلك الدور الأول؛ فالحقُّ أن بسمارك عازمٌ عزمًا صارمًا على الدفاع عن أمره بكل وسيلة.
وتودُّ الحكومة أن تسيرَ على غِرار البلاد الأخرى، فتُلغيَ مبدأ إعفاء الأراضي الإقطاعية من الضرائب فيكتب بسمارك إلى الملِك كتابًا خاصًّا يقول فيه مبالغًا: «إن هذه المصادرة تطعَن الأملاك الكبرى طعنًا استبداديًّا لم يأتِ بمثله غيرُ الطغاة والفاتحين حتى الآن، فذلك عملٌ قسريٌّ ظالم موجَّهٌ إلى رعايا عُزْل من السلاح في الوقت الحاضر، مُخلصين للعرش منذ قرون. وإننا مع أكثرية الشعب الشاملة نعُدُّكم — يا صاحب الجلالة — مسئولين أمام الله والأعقاب إذا ما أبصرنا اسمَ الملك الملقَّب أبوه بالعادل في ذَيل القوانين القائلة بترْك الدَّرب الذي سار عليه ملوك بروسية فاشتهروا معه اشتهارًا أثيلًا بإنصاف نظيف غير مشوبٍ فجعلوا من طاحون سانسوسي أثرًا تاريخيًّا.» وبتلك اللهجة المتوعِّدة يجرؤ — ضالًّا — على مقاومة مليكه الذي لم يُلقَّب أبوه بالعادل قط.
وهو — في الوقت نفسه — يكتب مقالاتٍ للفلاحين ضدَّ الثورة محاولًا إبطال عمل الجرائد التقدُّمية والصحف الثورية، وهو يغدو من مؤسسي الحزب الزراعي وصحيفتِه المسماة كروزْزَايتُنغ، فيكتب لها الشيء الكثير في السنوات القليلة القادمة، وهو لا يألو جُهدًا في سبيل انتخابِه نائبًا في المجلس الوطنيِّ ببرلين، فإذا ما سقط في الانتخاب اشترك اشتراكًا عنيفًا في «دسائس القصر والمجلس»، فتُسفِر هذه الدسائس عن انقلاب في نوفمبر يؤدِّي إلى حلِّ ذلك المجلس قوةً وطغيانًا، وهو يضع نفسَه في حِرز حريز قبل وقوع ذلك، فيقول في كتاب يُرسله إلى زوجته: «لا أرى أن أنتظر استفحال الأمور هنا، كما لا أرى أن أُرغِّب الربَّ في حفظي من الأهوال التي لا أودُّ البحث عنها، ولكن الخَرْق إذا ما اتَّسع وُجدتُ بجوار الملك مع ذلك، فلكِ أن تثقي بأنه لن يكون خطَر هنالك، مُعرِبًا عن أسفي على ذلك.»
ولم يدَّخرْ وُسعًا لإعادة انتخابه، ويحاول نَيل مؤازرة دائرتَين لنفسه، ويبلغ من الاتِّضاع ما يُشِيد معه بممادحه، ويُرسل إلى بُودِلْشوينغ كتابًا يلتمس فيه، عند عدول مخاطبِه هذا عن دائرة تِلتوف، وذلك بفضل إمكان الانتخاب في دائرتين، أن يوصيَ الناخبين هنالك بأن يُصوِّتوا للأستاذ ستاهْل بدلًا منه، «وإذا كانت مناحي هذا الأخير الدينية تَحولُ دون ذلك أمكنكم أن تُحوِّلوا جهدَكم إليَّ، فلديَّ ما يجعلني أعتقد أن توصية منكم يا صاحب السعادة ذات أثر فعَّال في ذلك. وتجدونني جادًّا في نَيل مبتغاي بهافْلِند «برانْدبُرغ» مع قليل أمَل، ريثما أظفَر بذلك. خادمكم المخلص، فون بسمارك.»
ويُنتَخب، وهو لم يكَد يُنتَخب حتى ترفَّع عمَّن تودَّد إليهم، ويقول في كتاب إلى أخيه: «لقد سَخِرت من نفسي غيرَ مرةٍ لِما فرَط من تحبُّبي إلى جميع أولئك الناس التماسًا لأصواتهم، وتُختَم الانتخابات فتُقام مأدبة غداء لأكثرَ من أربعمائة شخص، ويُنشَد نشيدُ: «الشكر لله»، ونشيدُ: «سلامٌ عليك أيها المتوَّج بالنصر»، والنشيد البروسي، وفي اليوم التالي أُصاب بالصُّداع، وأُحِسُّ ألمًا في عضَل يدي اليمنى بفعل المصافحة، وفي اليوم الثالث تُكسَر نوافذُ فريق من أصحابي ويؤذَى بعضُهم، على حين كنت مطمئنًّا بجانب حنَّة.»
ويمضي أربعون عامًا، ويدَّكِر بسمارك ذلك السياقَ فيسجِّل في مذكِّراته قولَه: «لو حدَث أن استُغلَّ انتصار ١٩ من مارس ١٨٤٨ — وهو الانتصار الوحيد الذي تمَّ في أوروبة على الفتن — استغلالًا حازمًا ماهرًا لحُقِّقَت الوحدة الألمانية بأحكم مما وقع أيام اشتراكي في الحكم، ولا أبِتُّ في القول: هل كان يحدث ما هو أفيدُ مما حدث وأدوم، فأترك الأمر مفتوحًا. إن الوحدة التي يكمل أمرُها بقتال يقع في الشوارع تختلف نوعًا وتقصر معنًى عن وحدة تُكتسب في ميدان الوغَى. وإن مما يُشَكُّ فيه أن تكون الوحدة التي تتمُّ بأقصر الطرق وأسرعها نتيجةً لانتصار مارس سنة ١٨٤٨، ذاتَ تأثير تاريخي في نفوس الألمان كتأثير الوحدة الراهنة التي تُوحي إلى النفس بأن الأُسَر المالكة حتى التي اشتهرت بالأثَرة فيما مضى، أشدُّ تعلُّقًا بألمانية الموحَّدة من الفِرَق والأحزاب.»
ونعيشُ جيلًا بعد تسجيل ذلك الشيخِ نشيدَه الختاميَّ فيكون لتأمُّلاته تلك كبيرُ أثرٍ فينا، وهو يُخبرُنا بأن ما أتمَّه بقوة السلاح في حروب طويلة كان يمكن إتمامُه من غير حرب مُحكَمًا سريعًا، وهو قد أخافته المتاريس وذُعِر من قتال الشوارع، وهو لذلك يفضِّل ميدان الوغَى على ذلك، وهو كما يلوح لا يُقابِل بين مائة القتيل أو مائتي القتيل الذين صُرِعوا في أيام مارس ومئات ألوف القتلى الذين خرُّوا في الحروب الثلاث، ولم يعِشْ بسمارك ليرى أنَّ الوحدة الألمانية دامت بعد تواري الأُسَر المالكة، ولم يعِشْ بسمارك ليرى أن الأُسَر المالكة التي وصفها بتألُّفِ ألمانية الموحَّدة (وإن سَخِر منها في أمورٍ أخرى) لاذَتْ بالفرار تاركةً للفِرَق والأحزاب إنقاذَ الإمبراطورية الألمانية.
وفي الساعة العتيدة يُشاطر بسمارك مليكَه وجهاتِ نظر بقدْر ما يعرف منها، وفي اليوم الثاني من أبريل يعتقد وفْدُ فرانكفورت، حتى رئيس وزراء الدولة الكونت برانْدبُرغ أنَّ الملك في اليوم التالي يقبَل التاج الإمبراطوريَّ المعروض عليه، ويَحلُّ الغد فيرفض الملك — الذي لا يُحزَرُ له أمرٌ — ذلك التاجَ في خطبة أعدَّها بنفسه، وذلك بعبارات بلغَت من الغموض ما تساءل معه الأميرُ وِلْهلم وسِيمْسون (زعيم الفرانْكفورتيين) مساءً عن رفض الملك للتاج الإمبراطوري حقًّا، ويُدهَش الشرفاء أنفسهم بعد أن أَمضَوا قبل يوم في اللَّنْدتاغ، العريضةَ التالية، فقُدِّمت إلى الملك، وهي: «إن ما لِممثِّلي الشعب الألمانيِّ من الثقة يدعوكم — يا صاحب الجلالة — إلى الأمر المجيد القائل بأن تكونوا الإمبراطورَ الأول لألمانية المبعوثة. وإننا — يا صاحب الجلالة — نخاطِب مع الاحترام قلبَكم، فنلتمس ألا تتجاهلوا نداءَ المجلس الألماني القومي.»
وعلى قلة مَن يعرفون الأمر، وعلى جهل جميع مترجمي بسمارك للأمر؛ نرى بين الإمضاءات على تلك المذكرة إمضاءَ فون بسمارك شُونهاوزِن وأقربائه من آل كِليست وأرنيم ووزيرين من الشرفاء (انظر إلى ص٣٥٥–٣٥٧ من التقرير الاختزالي)، وهكذا يعترف بسمارك بتعبير كنيسة بولس البغيضة (مجلس فرانكفورت الوطني) عن صوت الشعب الألماني، فينصح مليكَه بقبول ذلك التاج من تلك المشكاة الشعبية معتقدًا أنه راغب فيه! ويرجع إمضاؤُه ذلك إلى اليوم الثاني من أبريل سنة ١٨٤٩، وفي اليوم الثاني من أبريل سنة ١٨٤٨ كان قد نطَق بتلك الخطبة الثائرة ضد الملك لتَوَدُّده إلى الشعب فلم يَسْطِع أن يُتمَّها بسبب بكائه الشديد، فهذا ما اكتسبه ذلك السياسيُّ الناشئُ في سنة واحدة من الوفاء والولاء!
ولم يكَد الملك يرفض ذلك التاج؛ خلافًا لِما كان يُنتَظر حتى تَنفَّس الشرفاء الصُّعداء، وفي اليوم الحادي والعشرين من أبريل يقول بسمارك من فوق المنبر: «إنني أعُدُّ مقررات مجلس فرانكفورت الوطنيِّ غيرَ الشرعية التي حاول أن يُحقق بها مطامعَه الطاغية (مقاطعة، الرئيس يدقُّ الجرس) غيرَ ذات فعل لدينا.» ثم يصف جميع المفاوضة بأنها «فوضى قائمة عرَضتْها فرانكفورت.» فيرفض «منحَ طمعِ فرانكفورت في السيادة أصواتَنا.»
وهو إذا خَلا إلى خُلَّانه سخر من المجلس الذي بذل جهدًا غيرَ قليل في سبيل دخوله فعدَّه قاعةً «يُقرِّر فيها ٣٥٠ شخصًا مصيرَ وطننا، ولا تكاد تجد خمسين من هؤلاء يعرفون ماذا يصنعون. وثلاثون من هؤلاء الخمسين — على الأقل — يَبدون لصوصًا حِراصًا بلا ضمير أو ممثلين فاسدين مغرورين»، ويألَم من فتن تشتعل في جنوب ألمانية، فيقول لليرشِنْفِلد: «أدعو اللهَ أن يهزم جيشكم حيث يتقلَّب، فهنالك يشتدُّ الكفاح، وتكون النتيجة حاسمةً عند بُرء الجرْح، وسننجز غرضَنا وغرضَكم، وكلما اشتد الخَطْب طاب!» ويساورُه حقدٌ إلحاديٌّ قويٌّ، فلما زار قبور أبطال الحرية في فردرِيكشِن بعد عام من أيام مارس كتب يقول لزوجته: «لا أقدر على العفو حتى عن الأموات، فأرى كلَّ كتابة على صُلبانهم تَنِمُّ على تبَجُّح بالحرية والحقِّ فتنطوي على سبِّ الرب وشتْم الناس!»
وبذلك يربط بسمارك نفسَه بتقاليدِ أجدادِه العُصاة، فيتحدَّى سلطةَ الملك موجبًا دهَش حزبه، فالحقُّ أنه إقطاعيٌّ أكثر من كونه نائبًا منتخبًا من قِبل الشعب.
وحِسُّ الطبقة، والسياسةُ أمران متشابكان لديه، فعندما سألت صحيفة الكِلادِيرَّاداش بعد خُطبته تلك: «أين كانت قيادة المدعوِّ فون بسمارك إذن؟» أجابها عن ذلك من فَوره متحدِّيًا قائلًا إنه لا يودُّ غير استعمال الصحافة للردِّ من ناحيته، وأما أجداده فقد كان منهم أربعةُ ضباط يحاربون في سنة ١٨١٣ (لا أبوه حقًّا)، «وأما من حيث الشتائم التي وُجِّهت إلى آلي فإنني أفترض — إلى أن يقوم دليلٌ معاكس — أنَّ طِرازكم غيرُ بعيد من طِرازي كثيرًا. فلي أن أنتظر منكم اعتذارًا لا يأبى منحَه شريفٌ في مثل تلك الأحوال.»
ويلوح أن لذلك الكتاب قيمةَ مذكِّرةٍ وزارية عند بسمارك، والآن حين أخذ بسمارك يرى ماذا يكون مستقبلُه أو كيف يوجِّه جهودَه، أصبح لزامًا عليه أن يجد في نفسه مناعةً ضد العاطفة منذ البداءة، والحقُّ أنه رقيقُ القلب وأن المؤثِّراتِ النصرانيةَ قد جرَّدَته من بعض عُدَّته، وأن الزوجة التي يُحبُّها خطرٌ عليه من هذه الناحية ولو كانت تُحِبُّه؛ وذلك لأنها بنتُ أمِّها أيضًا، ولأنها تقضي أشهرًا من شهور السنة مع والدتها بين أشراف الولاية العاطفيين الذين يكرهون الطغاة كما يكرهون الأحرار، وتنطوي تلك السطور على إنذار، ويبحث بسمارك عن السلامة في بيته ضدَّ أعدائه قبل أن يُجاهدَ خارجَ داره، وهو يُحصِّن معسكرَه قبل أن يقيم به.