الفصل الثالث عشر

يصبح بسمارك برلمانيًّا، وينقطع إلى هذه المهنة فيما بين الثالثة والثلاثين والسادسة والثلاثين من سِنِيه، وعلى مَن يَحارُ من رقْصه على إيقاعها أن يتمثل الغَيرة التي يحاول بها أن يتدارك السنواتِ العشرَ التي أضاعها، وتبدأُ الزوج والأملاك باحتلال المكان الثاني منه بالتدريج وعلى وجهٍ غير محسوس، وتستحوذ الحُمَيَّا عليه فيسير وراءَ طموحه الغريزيِّ فيدفعه ذلك إلى المفاخرة، والآن يتمتع بصحة تامة، فيأكل بنَهَمٍ ويشرب بوفرةٍ، «فعليَّ أن أضع حدًّا لذلك، فلقد أفرطتُ في العشاء، فلا أستطيع أن أظلَّ جالسًا.» «ولمَّا حان وقت النوم طَعِمْنا١ — ثلاث مراتٍ وبلا خُبزٍ — أمعاءً محشوَّة باللحم، مستعينين بسكين الصيد، ولم يكن الطرف الرقيق طيِّبًا كالطَّرف الثخين، ولكنَّ الانطباع العامَّ كان وافيًا إلى الغاية.» «وفي هذا النهار بلغتُ من أكل التين ما اضطُرِرت معه إلى شُرب مقدار من عرَق السكَّر.» «ثم تناولتُ عشائي وأنا أذْرَع الغرفة فالتهمتُ معيًا كبيرًا لذيذًا محشوًّا باللحم، وشربتُ قَعبًا٢ من جِعَة٣ إرفورت، والآن حين أكتب إليك آكُلُ علبة ثانية من المعجونات. فالحقُّ أنني حسَنُ الصحة، ولكن مَعِدتي مملوءةٌ بالمعيِ المحشوِّ باللحم.»
وما يصنعه بسمارك فبعنفٍ، وهو يعود إلى المنزل منهوكًا «بعد نُزَهٍ طويلة جدًّا»، وهو يقضي عدة ساعات مع صديقٍ عَدوًا على الخيل، وهو ينام كثيرًا على الدوام، وهو يتميَّز من الغيظ إذا ما نُبِّه باكرًا، وهو إذا ذهب إلى صيد الدجاج البرِّيِّ قتَل نهارَه في ذلك، «وفي الليل آكُلُ سمكًا نهريًّا غيرَ مرة وأشرب مقدارًا من الجعة الخفيفة.» وهو يسير تحت ماء المطر مدةً تترجَّح بين ساعة واحدة وأربع ساعات، فيستريح ثلاثَ مرات، «وما أكثر ما أشعر بأنني أكاد أسقط من شدة الإعياء، فأستلقي تحت شجر الخَلنْج٤ النديِّ فأدَع ماء السماء ينزل عليَّ، غير أنني كنتُ عازمًا عزمًا تامًّا على رؤية دجاجٍ برِّيٍّ، وقد أبصرتُ كثيرًا منه من غير أن أقدر على إطلاق النار لبُعده من نطاقها. وفي الساعة الخامسة كنتُ في المنزل، فأكلتُ كثيرًا بعد صيامِ أربعٍ وعشرين ساعة، وشربتُ كأسَين من رحيق الشنبانية ثم نمتُ أربع عشرة ساعة؛ أي حتى الساعة الواحدة بعد الظهر، والآن أشعر بأنني في عافيةٍ أحسن مما كنت عليه قبل الرحلة، والآن أتمتع بما حباني به الربُّ من طبيعةٍ رائعة تمكَّنتُ بها من صنْع جميع ذلك.»

وهو يدرُس حسْنَ الإلقاء، وهو يُحاول التغلبَ على «الحياء الفطري»، وهو يتكلم رابط الجأش كغوتة في الثلاثين من عمره، ما دام قد صار ذا أثرٍ في الحياة أكثرَ مما مضى، وهو إذا ما وجد قليلَ معارضة غدا عاجزًا عن القول الذي يرضَى به، وهو يألم بعد ذلك مما في خُطبته من خلل، «وفي الصباح كنتُ ذا رَعَنٍ ونسيانٍ بسبب الزكام، فذهب عن بالي أحسن ما كنت أريد أن أقوله فصِرتُ كالمُسمَّر»، ويعترف بسمارك اعترافًا عامًّا فيقول: «وفي المساء أكون مُتبرِّمًا في عزلتي على الدوام ما لم أكن تَعِبًا على التمام.»

ويتذمَّر بمرارةٍ من قضائه حياةَ عزيب في برلين، وينعَت الأعمالَ بالدسائس والمساوئ، ويُقيم بتلك العاصمة أكثرَ مما تدعوه إليه الضرورة مع ذلك، وهو إذا ما استأجر مسكنًا لأشهُر الشتاء وصَف غُرَفه لزوجته وصفًا دقيقًا، وذكر لها مكان المُتَّكأ والمَهْد والمِشكاة٥ فيه، وهو يُخبرها بأنه يدفع ثلث راتب نيابته إجارةً، وهو في جميع حياته يُعنَى كلَّ العناية بالمحل الذي يعيش فيه ويأكل، «وتجدين جميعَ أشيائي مبعثرةً على الأرض، وليس عندي مَنْ يُرتِّبها، ومتى نستطيع أيتها الحبيبة أن ننام نومًا هادئًا خلف الستارة الحمراء وأن نشرب الشاي معًا؟»

والآن تسير حياتُه الزوجية سيرًا هادئًا، كما في السنين الأربعين القادمة، وتنطفئ نارُ مغامراتِه الغرامية، لا لأن حنَّة تفوق جميع النساء؛ بل لأنه اتخذها زوجًا حين ختام كفاحه للنساء وتحويلهِ نشاطَه إلى قتال الرجال، ويُسجِّلان بعض الملاحظات في يومية، ويكتب في عيد قرانهما السنوي ساخرًا كلمة: «متأهِّل!» وتُقيِّد ذاتَ يومٍ الكلمةَ: «مضى يومٌ في التعزير، فليُقضَ يومان في الصمت.» فيمحو ذلك ويُسجِّل في أسفله الكلمةَ الشعرية: «يا له من جوٍّ جميلٍ!» أو يكتب إليها قولَه: «لقد مضى على فراقنا ٤٢ ساعةً فقط، فيلوح لي مرور أسبوع منذ أبصرتكِ واقفةً بين شجر الصنوبَر على الربوة مشيرةً إليَّ من بعيد، فسالت دموعي على لحيتي، والذي أرى أن هذه هي المرة الأولى التي بكيت فيها منذ بكائي عند انتهاء العُطَل المدرسية مودِّعًا … وما يكون من صَرْفي البصرَ إلى الوراء، فمما يجعلني أشكر للربِّ — من صميم فؤادي — إمساكي أمرًا يؤلمني الانفصال عنه.»

وتضع ابنةً لهما فيقول لها: «إنه سعيد لأن ولدهما الأول أنثى، ولو كان المولود هِرًّا لشكرت لله ساجدًا سلامة حنَّة.» وفي أيام نِفاسها ينام وراءَ الستار من غُرفتها لثقة زوجته به أكثرَ مما بالظِّئْر،٦ وقد قال بعد أُمَّة:٧ «وهكذا أقضي بعضَ الوقت في مكتبي بين المعارك السياسية والخِطط كفارس سان جان دوشيلِّر، وهكذا أقضي بعضه الآخر ممرِّضًا فوق وسادتها، وهكذا أجد المقارنة طيِّبة لديَّ.» وهو يُصبح عصبيًّا إذا مَرِضَت الزوجُ والأولاد أو كادوا، وتقتصر نصرانيتُه حينئذٍ على الدعاء بأن يحفظ صحة الجميع وألَّا يموتَ أيُّ واحدٍ منهم، ويقول في كتاب إلى زوجته: «إنني أيتها الحبيبة قلقٌ جدًّا في الأيام الأربعة؛ أي منذ إصابة ولدي بالحُمَّى القِرْمزيَّة، ولا يكون الأمرُ غيرَ ذلك بعد كتابك الأخير، ولو كنتِ مريضة لوجدتُ من يتصدق عليَّ بكلمة، فأنا لا أُطيق هذا الهلَع،٨ وقد مرَّ بخاطري جميعُ الممكنات المخيفة في هذه الأيام القليلة.» ويموت ابن الظِّئر ببرلين فيُرسل ثلاثةَ كتب إلى أهله مشيرًا بالأسلوب الذي تُنَبَّأ به؛ لئلا يكونَ للصدمة التي تُمنَى بها أثرٌ سيئٌ في الطفل الرضيع.

وينمو جبروتُه العاطفيُّ بسرعة؛ فهو بعد أن ترك زوجَه وحيدةً عدةَ شهور منعها من النِّفاس عند والدَيها، «فوضْعُكِ في رينفيلد يعني: نصفَ طلاق، فلا أستطيعُ ولا أريدُ أن أبقى زمنًا طويلًا بغيركِ، ولنا الكفايةُ من سابق فراقنا.» ويكتب متلهِّيًا كلمةَ «كتابكِ الظريف الخفيف.» وهي تسأله مضطربةً عن وجود كثير من كتبها لديه، وتُرسل كتابًا إلى صديقة لها في الحين نفسه فيرجو منها «كتابةَ العنوان نثرًا؛ فقد وضعتُ عنوانًا جديدًا كبيرَ الحروف باسم صديقتك إليزابِت، فأحِبِّيها كما تودِّين باطنًا، ولكن كوني فاترةَ المجاملة على الغلاف كما تقتضيه العادة.»

وهو وإن رغِب أيام مجاملاتهما الأولى في تدريبها على ما لم يقرر العود إليه آنئذٍ من معاشرة الأكابر، تراه الآن راغبًا عن إشراكها فيما عاد إليه من تلك المعاشرة هنالك، وقد كتَب يقول لها: «لا جَرم أن هذه الحوادثَ مما يُهِمُّ والدَكِ كثيرًا، وأما أنتِ فلا تُدركين من أمرها شيئًا.» وعادت كتبُهُ لا تَعْدو حدَّ النَّجاوَى، مازجًا فيها الشئون السياسية الدولية بالأمور المنزلية مَزْجًا عجيبًا، «وإذا أخذ الولدُ يخسَر صحتَه مع هذه المرضعة وجبَ عليكِ أن تصنعي كما تشيرين. وخطابُ العرش خِلْوٌ من الخلْط الثوريِّ، فلعل ذلك يقف عند ذلك الحدِّ. ومن الطبيعي أن يبقَى ما كان على ما كان ما أعرضت دولة النمسة والدول الأخرى عن معرفة شيء من تاريخ فرانكفورت. ولا أستطيع عَدَّ رغبتي، ولا معدِل لي عن الإذعان، وكلُّ شيء خِلْطٌ مِلْطٌ في حقيبة السفر، فاعْفِي عني، فسوف أُعيد الأمر إلى محلِّه يوم الأحد.»

ويقول في كلِّ كتاب يُرسله إنه سيعود إلى البيت بسرعة، وهو لا يعود إليه مع ذلك، وتلومه ذاتَ يومٍ على تلهِّيه بين العُشراء على حين تقضي وقتَها عند والدَيها فيقول لها بكياسة: «عليَّ أن أتغدَّى وأتعشَّى كلَّ يوم، فأرجو أن تفعلي مثلَ ذلك حيثُ أنتِ هنالك.»

وهو سمحٌ في حياته المنزلية على العموم، ولا يثور ذَوقُه وحسُّ طبقته واتِّزانُه في أموره البيتية إلا حين عَرْضِ هذه الأمور على الجمهور، ويُولَد ابنه البكر هِرْبِرت في السنة الثالثة من زواجه ويَسيح الجميع معًا.

ويُعرب عما يُساورُه من كدَر في كتاب فَكِهٍ إلى أخته فيقول فيه: «والآن أُصوِّر نفسي مع الأولاد على رصيف محطة جِنْثِين، ثم يقضي اثنان منهم ضرورتها في عربة القطار على غير استحياءٍ فتفوح رائحةٌ كريهةٌ، ويبدي المسافرون الآخرون تقزُّزًا، وتخجَل حنَّة من إعطاء ثديِها للطفل، ويزعق الطفل حتى يزرقَّ، ثم يزعَق مع قِردَين زيَّاطَين٩ في محطة ستِيتِين. وبالأمس بلغتُ من اليأس تجاه مثل تلك المناظر المؤذية ما عَنَّ لي معه أن أعدِل عن جميع هذه الرحلات. وفي هذه الليلة هاجمتني حنَّة بغتةً حاملةً الطفل بين ذراعَيها، فأبدت من ضروب المكر النِّسْوي ما خسر به الجنَّةَ عِرقُ البشر، ومن الطبيعي أن قلبَت عقلي فنجحَت في إبقائي على خِطَّتي، بيدَ أنني أبدو لنفسي إنسانًا أُصيبَ بظلمٍ عظيم، ومما لا ريب فيه أنني سأُضطرُّ إلى السفر في السنة المقابلة مع ثلاثة مُهُود١٠ ومع مراضعَ وقُمُطٍ١١ وفُرُش. ويا ليتهم يزيدون راتب نيابتي ما دمتُ ربَّ أسرة! وتصوُّري تبذيرَ ما بقيَ من ثراء رائعٍ في السفر مع رُضَّع، ألا إنني عاثِرُ الجَدِّ١٢ جِدًّا!»

واليوم يعيش مقتصدًا لذلك السبب، واليوم ليس له ولَعٌ بغير الرَّاح، ومَن ذا الذي يعتقد أنَّ ذلك تحاوُر أخوَين حسيبَين حين يكتب بسمارك إلى أخيه الأكبر قائلًا له: «كانت حالُ سوق الصوف هنا كما كانت في ستِيتِين. وفُلَّت عزائم البائعين في أربع وعشرين ساعة، مع أنَّ الوالد كان يحاول أن يَبرُك ساكنًا خمسة أيام أو أسبوعًا على كيس الصوف في سالف الأزمان، وفي عشية السوق بعتُ ﺑ ٧٣ تاليرًا على حين كان يجب عليَّ أن أبيع ﺑ ٧٥ تاليرًا. وعندي أنك بعتَ بخمسة تاليرات دون الثمن.»

والحقُّ أنَّ بسمارك كان محتاجًا إلى النقد على الدوام، وما كان من نقْص سبعين تاليرًا فحالٌ يدعو إلى شغْل البال، وجيادُ الركوب هي التي تُقرَن بالعربة، ويبلغ ما يعود عليه من بدل إجارة شُونهاوزِن ثلاثة آلاف تالير أو أربعة آلاف تالير، «وقد بلغَتْ نفقات البستان في أثناء هذه السنة ١٠٣ تاليرات، ولا بدَّ من إضافة أربعين أو خمسين تاليرًا إلى ذلك حتى عيد الميلاد في سبيل العَزْق١٣ والقطْف، وذلك عدا ما يقتضيه الوقود»، ويرسل إلى زوجه حسابًا دقيقًا كما يأتي: «زيت ﺑ ٨٫٨ من التاليرات، وسُكَّر وتوابل ومِلح ﺑ ٩٫٢ من التاليرات».
ويَحسُب كلفةَ خدمِه فيقول إنها دون التقدير، وفي هذا يقول: «إن قسمًا من نفقات تكلفتهم يستتر تحت جعائل١٤ البستانية ما داموا يستنفدون محاصيلَ من البستان.» ويُرسل إليها من برلين اثنين وعشرين رطلَ شاي مع قوله لها: «يجب عليكِ أن تُضيفي نفقاتِ العربة إذا ما رغبتِ في التنزُّل عن شيء منه.» ومن بواعث سعادته أن يوفِّر شيئًا من راتب نيابته.

وهو إذا ما جاء إلى البيت انتحل وضْعَ الطالب في العُطَل، «فأقضِي حياة كسل هائل، فأقضِي وقتي في التدخين والمطالعة والنُّزَه وملاعبة الأولاد، وفي الاطِّلاع على السياسة من قراءة جريدة كروزْزَايتُنغ. ولي كبيرُ متعة من هذه العزلة الرعائية الشعرية، وأستلقي على الكلأ وأقرأ قصائدَ وأستمع إلى الموسيقى، وأنتظر نُضجَ الكرَز»، ويسلك سلوك الحضري، ويبدو صاحبًا لسرِّ الرجل الذي يعمل بعقله كأنه لم يَعِش عشرَ سنين في سواء الريف!

وهو إذا ما جاء إلى البيت وحدَه لاحت له الأيام الثلاثةُ الأولى وحدَها رائعةً كأنه كان ينتظرها حين شدِّ العُدَّة عليه، وهنالك الدِّرْوَاس١٥ أودين الذي لم تتركه أصولُه وفروعه قطُّ، وهو يأسف على أن زوجه لم تُبصر الذُّرَة التركية «ذاتَ السوق التي يبلغ طول الواحدة منها ثلاثَ أقدام، فلا أقدِر على بلوغها بيدي»، وهو يُسَرُّ من نُموِّ الأشجار الجديدة في الحقل الحديث، وإذا ما انقضت بضعةُ أيام بَدا الاختلافُ وبدأ السأَم؛ لوجود حنَّة عند والدَيها ولوجوب مراقبته الأسداد، ويصبح لِزامًا عليه أن يُسرِّح الطاهية مع معارضة حنَّة لذلك؛ وذلك لقذارتها وإرسالها للغَسل — مع ذلك — مقدارًا من الثياب لا يُصدِّقه العقل، «ووسخُ المطبخ أمرٌ واقع، وهي رعناء فضلًا عن ذلك، فهي تحرق شماعد، ومن المحتمل أن تكون هذه الشماعد لنا ما دمتُ لا أعرف مكان حفظها ولا عددَ ما كان منها»، ولسرعان ما يزول كلُّ شعور بالراحة والرضا، فيشعر بالبؤس لأنه وحده؛ فالحقُّ أن بسمارك يحتاج إلى زوجه ما دام عاطلًا من العمل المنتج، وهكذا يكتب إليها في ثلاثة أسابيع من أكتوبر مجلدًا من الرسائل، وهناك يتجلَّى سابقُ لهجته، فيُسمَع من بعيدٍ صوتُ الخوف من أن يُحكَم عليه، ذات يوم بالعزلة وبحياة فاترة.

وقد بلغتُ من السأَم ما لا أكاد أُطيق البقاء معه هنا، وتُحدِّثني نفسي باعتزال خدمة الحكومة وبترك شئون الأسداد وبالذهاب إلى رينفيلد. فاكتبي إليَّ كتبًا كثيرةً إذن، ولو كانت أجرة البريد مائةَ تالير، وأخشى أن تكوني مريضةً، واليوم غدت نفسي من الحال ما ودَدْت به أن أسير إلى بُومِيرانيَة ماشيًا، وأراني عظيمَ الشوق إلى الأولاد وإلى أُمِّك وأبيك، وإليكِ قبل كلِّ إنسان أيتها الحبيبة. وصِرت لا أعرف الراحة، وما قيمة شُونْهاوْزِن بغير وجودك، يُوحي إليَّ خلوُّ غرفة النوم وخلوُّ المُهود وصمتُ الخريف ذي الضباب بأنكم من الموتى، ويُخيَّل إليَّ دومًا أن كتابَكِ القادمَ سيأتيني بسيئ الأنباء. ويحتمل ذلك في برلين، مع وَحْدتي فيها، ما دمتُ أعمل وأتكلم في اليوم كلِّه، وأما هنا فيكفي ذلك لجنون الرجل، ولا بدَّ من أنني كنت امرأً آخر فيما مضى حتى صبرْت على ذلك.

وهنالك رِزْمة لها يفتحها ويُسجِّلها فيجمُل بعضَ الشيء فيقول في كتاب يرسله إليها:

أبصرتُ وِشاحًا مع شريط أحمر، وجواربَ للأولاد، فبدا لي هذا أمرًا ظريفًا جدًّا، وقد ظننتُني قريبًا منك، فساورني سرورٌ كبير، ثم تذكَّرتُ الفراسخَ السبعين التي تَفصلُ بيننا والتي لا خطوطَ حديدية في خمسة وثلاثين منها، والحقُّ أن بُومِيرانيَة واسعة جدًّا، وتصِل إليَّ كتب كثيرة من المجلد، ويخبرني الخياط بأنه استطاع أن يصنع لي خمسةَ لباسات من قطعة النسيج، وأفترضُ أنه يلبَس السادسَ. أسبَغ الله عليك نعمته.

المخلص: فون بسمارك
ونُبصر من خلال ذلك العطف الحارِّ أن بسمارك — الرجل المُلغِز — يخالطُه وجَلٌ من زوال سعادته، وهو كلما زاد ازدراؤُه للناس عظُم ارتباطُه في زوجته وأولاده، وفي تلك الأسابيع يبلغ هلعُهُ حول هؤلاء درجةَ الخُباط،١٦ مع أنهم يتمتعون بصحة رائعة، ومن ذلك ما اعتراه من جزَع كبير لعدم وصول كتاب إليه منذ يومين أو ثلاثة أيام «حتى صرتُ عاجزًا عن صنْع شيءٍ خلا الجلوس أمام الموقد فألاحظ تأجُّجَ النار وانطفاءَها فيه، فأتمثَّل ألفًا من ممكنات المرض والموت وخطأ البريد وخِطَط السفر واللعنة على إدارة الأسداد والعُرَفاء»، ثم يقول: «وتَنفَد سغايري من فَوري، والآن — وللمرة الأولى — أُدرك أنكِ مع أطفالك جزءٌ كبيرٌ مني كما أُدرك مقدارَ ما تملئين به فؤادي، وفي هذا سرُّ ما يبدو من فُتُوري تجاه كلِّ إنسان سواكِ وسوى أمِّك، ولو أصابني الله بأكبر شقاء ففقدْتُكِ، لتمسكتُ بأبوَيك كثيرًا ولتوجعتْ والدتُك من إزعاجها بغرامي.»

وهكذا يبلغ ذلك الأنانيُّ الغايةَ من العلوق بأقرب الناس إليه وأعزِّهم عليه فيؤمِّن نفسَه ضدَّ فَقْدِهم ويوجِّه قلبَه إلى أُناس عاش حتى ذلك الحين بغيرهم، وهكذا يفرُّ — دومًا — أمام أنانيته المائجة باستمرار.

ولم يجد نجاةً في إيمانه الجديد بيسوع، وليس الربُّ في السنوات الأولى الثلاث من زواجه غيرَ الحَكَم الذي يطلب منه العون لمن هم أعزاء عليه، ونشعر بمعنًى عميقٍ في قوله لزوجه إنه يدعو لهم في كل وقتٍ من «الليل، عند الساعة الثانية، بغيرةٍ أشدَّ مما أدعو به لسلامة نفسي مع الأسف»، ولا ترى له كتابًا لا يدَع فيه زوجَه وأولادَه لعناية الله، ولا تكاد ترى دليلًا غيرَ ذلك على أنه مؤمن، «وأضرَع إليه في الغرفة وفي الشارع لكيلا يَنزِعَ منَّا ما أنعم به علينا»، والأمر كذلك عند اشتداد مرضِ ولدٍ له، ولكنه عندما سمِع خطيبًا نصرانيًّا يرفع عقيرتَه١٧ ضدَّ إعدام روبرت بلوم قاطعه بقوله صارخًا: «ذلك خطأٌ، ذلك خطأٌ كبير، فإذا وُجِد عدوٌّ تحت سلطاني وجب عليَّ أن أُهلكَه!»
figure
بسمارك في سنة ١٨٣٥.

وذات يومٍ يُحلِّل في كتاب يُرسله إلى حماته مبارِكًا لها بعيد ميلادها ومستعينًا بالأُسلوب البِياتيِّ ما يفصلُه عن الإيمان من تبايُن فيقول: «يا ليتني أستطيع بعون الله أن أدفع الغضب عن قلبي. ومهما يكن الأمرُ فالله هو الذي يستطيع بعنايته أن يجمع فيَّ شخصين وأن يقوِّيَ فيَّ نصيبَه الأمين الذي يقضي على نصيب الشيطان، ولْيحدُث هذا، وإلا ساءت الأمور عندي، ولا مِراء في أنَّ الله سيُعين نصيبَه حتى يظلَّ سيدَ البيت، فلا يَقدِر صاحبُ النصيب الآخر على غير الظهور في سوى السرداب، وإن كان يبدو أحيانًا كما لو كان سيدًا في الحقيقة.»

والواقعُ أنَّ ذلك الاتِّضاع هو أقصى ما يَسمح به كبرياؤه، وإذا عدوتَ ذلك وجدتَه يتطلع إلى السلطة العليا من مسكنه، وتثور زوجتُه في أحد الأيام، فيقول لها: «لا تدَعي ما يدعوكِ إلى الشك في أنني أحبُّكِ كجزءٍ من نفسي، وأعتقد أنني كنتُ لا أنالُ رضا الرب لو لم أنَلْكِ، فأنتِ مِرساتي في المكان الأمين من الميناء، فإذا كُسرتْ هذه المرساة دعوتُ الله أن يرحم روحي.» فالسلام والإيمان، والزواج والدعاء، أمورٌ بلغت من الاشتباك فيه ما يداوي معه بعضَها ببعض من ناحيةٍ وصولًا إلى ممارسة عواطفه كما يشاء من ناحية أخرى.

ولذوقِه — أيضًا — تأثيرٌ حاسم في بِياتيَّتِه، وهو كما يُقدِّر البِياتِيَّة في النساء وحدهنَّ يمقُت ترتيلَ الكنائس البروتستانتية، وهو يقول: «أُفضِّل عليه الموسيقى الجيدة التي يقوم بها في الكنيسة ناسٌ عارفون أن يُصَلُّوا بها من أجلي، وأفضِّل عليه قُدَّاس مُرلاخي الذي يُرتِّله بين دُخان الشمع وعُثان١٨ اللُّبان قسِّيسون لابسون ثيابًا بيضًا. وكان لبُوشِل جَوقة من الصبيان، فكان هؤلاء يُرتِّلون بغير أُرغُنٍ مع خطأ ولُكنة١٩ برلينية.»
ولكن العالَمَين اللذَين يودُّ فصْلَ أحدهما عن الآخر في الحين بعد الحين يريدان أن يُمرَجَا،٢٠ فهنالك يقع في الوضْع الغريب الذي يحاول الرجلُ أن يوازن به بين الطموح والواجب الحكوميِّ والحبِّ الزوجي، فهو قد دُعيَ إلى مَغدبُرغ كمُحَلَّف، وهو قد دعاه الملك إلى الصيد معه في اليوم نفسه، وهو قد وعد زوجه بالذهاب إلى رينفيلد ليراها في ذلك النهار، وهو تِجاه ذلك تتجاذبُه العوامل بين القصد الحسن والعاطفة والمغالطة، فيُخيَّل إلى المرء أنه يسمع برهنةَ مراهقٍ، إذ يقول:

لقد ألقيتُ قُرعة حول الأمر، فلم أعرف حين أتيتُ هذا العملَ الصبيانيَّ هل أتوجَّه إلى الربِّ أو لا، وتتَّجه أفكاري إليه في آخر الأمر؛ وذلك لأنني لا أستطيع أن أرفض الدعوة من غير أن أقول الكذب؛ وذلك لأن ذِكْري أنني عظيمُ الشوق إليك مما لا يُقبل في البلاط وإن كان لهذا السبب ما لغيره من الوجاهة.

وإذا ما قلت الكذب ووجب عليَّ أن أبقى هنا مع ذلك كانت لي حسنة في ذلك، وإذا ما قلت الحقَّ استطعت أن أقول على أية حال: سيكون ما يشاء الله؛ (أي في مَغدبُرغ أو لا).

ومهما يكن الأمر فإن الملك يودُّ أن يُحدِّثَني. وأكتب إليكِ عن ذبذبة أفكاري منذ ساعتين، فأُبدي لكِ كيف تبدو لي نفسي تارةً كرجل يعمل بمشيئة الله فيعدِل عن لقائك سريعًا، وكيف تبدو لي نفسي تارة أخرى كرجل ينظر إلى الصيد بمثل نظر الثعلب إلى العنب فيخشى أن يقع في شَرَك بما يُلقيه من معاذير كاذبة.» وهو يتفلَّت في نهاية الأمر من حبائل شعوره فيقبَل الدعوة في البداءة محتفظًا لنفسه بحقِّ رفضها ضِمنًا، «فمن الممكن ألا أكون قد أتممت عملي في أمور الأسداد.

وهو — وإن كان يحاول أن يواثب ظِله على ذلك الوجه — يندم في كلِّ مرة تقريبًا على قبوله الحلَّ الذي ارتضاه، ويهجَع٢١ بجانب طموحه ازدراء لنتائج ما أبصر فسادَه في فتائه، فتُبصر تأهُّب هذا الازدراء للهبوب عند أقلِّ اضطراب، فإذا ما سار أمرٌ سيرًا معوجًّا، أو إذا ما أثاره أمرٌ، لم يُعتِّم أن يُبديَ شوقه إلى «تطليق السياسة واعتزال حياتي البرلمانية وإلى الحياة بجانبكِ في شُونهاوْزِن، فأقتدي بوالدي الذي كان يقطع الغابة الصغيرة مع رجال وكلاب فيرقب في كلِّ مرة هربَ الثعلب بِجِدٍّ، حتى عند علمه مثلي عدمَ وجود ثعلب هنالك».
وبسمارك لم يترك الكفاح قط مع تبدُّد وهْمه، فهو لا يهجُر السياسة أبدًا، وهو لا يجد العِوَض في غير الالتجاء — دومًا — إلى الطبيعة والعزلة استهانةً بالناس والأشياء، ثم تتدفق حَوباؤُه٢٢ وينطق فؤادُه ويعود صَباؤُه٢٣ فيصير شاعرًا، «وقد كنت جالسًا في تيرغارتِن على مقعدنا أمام حوض الإوَز، وتغدو فراخ الإوَز التي كانت غيرَ ناقِفَة٢٤ في الجزيرة الصغيرة، ناميةً رماديةً فتعود هناك وهنالك بين البط القذر. وأصبح ورق الجَرْمَشَق٢٥ الجميل الطويل أسمرَ ضاربًا إلى حُمرة. ويستر الطرقَ أوراقٌ صُفر ذات خَفْخفة٢٦ بعد سقوطها من الزَّيزَفون والحور وما إلى ذلك من الشجر. وتُذكِّرني نزهتي كثيرًا بكنيبهوف وبما يقع فيها من صيد الدجاج البريِّ ومن القَنْص بالأشراك، وكلُّ شيءٍ أخضرُ غضٌّ كما كان عليه أيام كنَّا معًا هنالك يا عزيزتي»، وهذه التصرفات تُثير فيه ببساطة ومن غير سفسطة حنانًا حقيقيًّا إلى الحياة المحدَثة، وهو إذا كتب إليها حول موضوع بَيع الحطب فلِكي يقولَ لها بلهجته العجيبة: «والآن تركتُ حطبنا القليلَ حيث هو فعُدت لا أُطيق قَطْعه.» أو إنه يذهب إلى الصيد فلا يلبث أن يرى نفسه عاجزًا عن شدِّ زَنْد البندقية؛ «لأنني لا أستطيع أن أرى سوى الأمهات والأطفال.»

ويضطرب الموج في أعماق نفسٍ لا تحتاج إلى عقيدة، وتُبصر اتصال مراهقته الوثيقَ بشبابه، وذلك هو تيَّارُ الخليج الذي يَفيض من فؤاد بسمارك عند زيارته مصادفةً، مدرسته الأولى (التي غادرها في السنة العاشرة من عمره)، وحين قام فيه أسَفٌ لطيف مقام ارتيابه المعهود، «فيا لَصِغر هذه الحديقة التي كنتُ أعدُّها كلَّ العالم! فأين المدى الواسع الذي كنت أركض فيه لاهثًا؟ وأين بُستاني الصغير وما فيه من الجرجير؟ وأين الأمكنة التي قامت عليها قصور الهواء الخرِبة اليوم؟ وأين ضباب الجبال الأزرق الذي كان يبدو خارجَ السِّياج ذي الأوتاد؟ وما أكثر ما اجتذبني العيش والعالَم! لقد بدَتِ الدنيا الملوَّنةُ لي، عند وجودي في الحديقة، وفقَ ما كان لديَّ من أفكار حول غابها وحصونها وما كان ينتظرُني من الحوادث، ومن المحتمل أن كنتُ أبكي لو لم أُنادَ بصوتٍ عادي. وهنالك ذكرتُ أن تلك الحديقةَ لا تزيد على بُقعة صغيرة في وِلْهلمسترَاس وأنه لا شيء يقف النظر خارجَ سياجها الخشبيِّ. وأن مساحة دُورنْبِرْغ في كنيبهوف ستةَ عشرَ فدَّانًا، وأنه كان لنا عملٌ مع القائد غِرلاخ».

١  طعِم: أكل.
٢  القعب: القدح الضخم الغليظ.
٣  الجعة: ما يسمونه البيرة، نبيذ الشعير.
٤  الخَلنْج: شجر كالطرفاء، وزهرُه أحمرُ وأصفرُ وأبيضُ، وحَبُّه كالخردل، وخشبُه تُصنع منه القِصاع.
٥  المِشكاة: كل كوَّة غير نافذة، كل ما يوضع فيه أو عليه المصباح.
٦  الظِّئْر: المرضعة.
٧  الأُمَّة: الحين.
٨  الهلَع: الجزع.
٩  الزياط: كثير الصياح.
١٠  المهود: جمع المهد.
١١  القمط: جمع القماط، وهو خِرقةٌ عريضةٌ، تُلفُّ على الصغير إذا شدَّ في المهد.
١٢  عاثر الجد: تعس.
١٣  عزق الأرض: شقَّها.
١٤  الجعائل: جمع الجعيلة، وهي أجر العامل.
١٥  الدِّرْوَاس: الكلب الكبير الرأس.
١٦  الخباط: الهستيريا.
١٧  رفع عقيرته: رفع صوته.
١٨  العثان: الدخان.
١٩  اللكنة: العجمة.
٢٠  مرج الشيء: خلطه.
٢١  هجع: نام.
٢٢  الحوباء: النفس.
٢٣  الصباء: الصغر.
٢٤  نَقَف الفرخُ البيضةَ: نقَبَها وخرج منها.
٢٥  الجرمشق: شجر يُستخرج من مائه سكر.
٢٦  من خفخف الرجل القرطاس: إذا حرَّكه فسُمع له صوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤