الفصل الرابع
ومن قوله: «والآن يتألف المتَّكئون على مائدتي من سبعةَ عشرَ إنكليزيًّا ومن فرنسيين ومن شخصي الصغير، ونجلس على أقصى حدٍّ أريستوقراطي؛ أي بالقرب من دوك كليفلاند ودوكتِها وابنةِ أخيهما المس رسَّل التي هي أنيسةٌ جذَّابة.»
وتلائم ذوقه لورا، تلك الحسناء الهيفاء الإنكليزية والابنة لِدُوك، فلما غادرت إكس كانت خطيبةً لأوتو، وكان أوتو خطيبًا لها سرًّا.
أجَلْ، ولكن كيف يكون لديه من المال ما يستعين به على تزوُّجها؟ وتتراكم ديونُه كما في الروايات.
أُنبئك عابرًا أنني خاطب مفكر في أن أدخل عهد الزواج مثلك، وذلك بأن أتزوج فتاةً إنكليزية شقراء باهرة الجمال وإن لم تعرف كلمة ألمانية واحدة، وسأرافق أسرتها إلى سويسرة، وسأودعها في ميلانو، مسرعًا إلى أبويَّ اللذين لم أرهما منذ سنتين، وعليك أن تذهب معي إلى إنكلترة لتحضر عُرسي في الربيع.
وعن ذلك يُجيب المتهمُ بسمارك متكبِّرًا حين يقول: «ليس من مقاصدي أن أَعرِض حسابًا عن شئوني الشخصية على إدارة إكس لا شابِل الملكية، وسأقدِّم شكوى حول قِحَة التدخُّل هذه في حقوقي الخاصة.» ويُخاطَب الأبُ في أمر تلك الديون فيغضب، ويرفض في نهاية الأمر أن يستمرَّ على المراسلة في هذا الموضوع، فكان هذا آيةً على الاستقلال الذي يتمتع به أولئك السادة تجاه سلطان حكومة يستخفُّون بها مستعلين، ويرجعون إليها وَفق منافعهم مستمدِّين، ويُقبل بسمارك في إدارة بُوتِسدام مع ذلك، وذلك بفضل ما حُبيَ به من حماية، وبفضل ما أُعطي من عهدٍ خطيٍّ بأن يقوم بوظيفته نشيطًا غيورًا.
وما كان تصرف أوتو الشاب في بُوتِسدام أحسن مما في إكس؛ فما رآه من صِغر رقعة المديرية ومن هُزال البطانة وحذلقة الرؤساء والتدقيق في ساعات الحضور، فقد أسفر بعد ثلاثة أشهر عن تواريه بلا إذن، وما يُحدِق بأملاك أبيه من دمار فيلوح قريبًا، وتمرَض أمُّه في الحقيقة، ولا ينظر أحدٌ إلى ذلك بعين الجدِّ ما حصرتْ عنايتها في نفسها، وفي نفسها فقط، ويعجِز أبوه الشائب من فوره عن إدارة ما يملك، ويقول الأب بإجارة العقار، وتقول الأم بصُنع السكر، وفي برلين يرى الطبيب أنها مصابةٌ بالسرطان، وفي برلين تبقى للمداواة، ويكون ابنها بجانبها في الغالب، وتموت بعد مدة، ويحقِد عليها لحملها إياه على تلاوة كتب في التصوف بصوت عالٍ عند وِسادتها.
ويا ليته يُعفى من الخدمة العسكرية! ويبلغ الثالثة والعشرين من سِنِيه فيقول في كتاب إلى أبيه: «لقد حَبِط ما سعيتُ إليه في برلين أخيرًا لإعفائي، ويجعلونني آمُلُ ترك الخدمة بعد قليلِ زمنٍ بسبب ما في عضلات ذراعي اليمنى من ضعفٍ نتيجة لضربةِ سيف، وأزعمُ أن مما يُؤلمني مدَّ ذراعي إلى الأمام، ولكن هذا ليس علةً خطيرة مع الأسف، وليس الأمر في أن أدخل قبل الميعاد بأسبوعين أو ثلاثة أشهر، فلا بد من ختام التدريب استعدادًا للاشتراك في العرض؛ ولذلك فإنني سأؤخر وقتَ ابتدائي بالخدمة إلى شهر مارس مثلًا؛ أي إلى أقصى ما يمكن من المدة، ومن ثَم تُبصر ما كان يساور بسمارك الفتى المفتول الساعدَين من فتور حول الجندية، ومن ثَم تُبصر تظاهرَه بما لم يكن فيه بالحقيقة من ضعف عضليٍّ طمعًا في تركها، والعامل في ذلك هو عدم احتمال هذا الأستاذ في الفروسية والمسايفة والرماية لكل إكراه، فأقام بذلك دليلًا جديدًا على إقدامه الذاتي وبأسِه الشخصي، وليس زهوه بالذي يَنثني، وهو لم يُعتِّم أن تصادم هو والضباط حينما وجب عليه أن يكون من جنود الحرس، «فما أنا بالذي يُطيق السير تحت إمرة ضابط».»
وفي تلك الأثناء تسير الأمور في البيت من سيِّئ إلى ما هو أسوأ منه؛ فربَّةُ المنزل مريضةٌ مدلَّلة، والولدانِ في الخدمة العسكرية، ولا يُنتجان شيئًا ويحتاجان إلى نقود، ولا يقدر الأب على إجابتهما إلى طلبهما فيستدينان بفائدة ١٢ في المائة، ويؤدي كل ذلك إلى أزمة، وفي تلك الأثناء يَعِنُّ خاطر، ومن أين؟ ومَن يقدر على بيانه؟ أمِن الأم المحتضَرة، أم من الأب المضطرب، أم من أرشد الأخوَين الذي ما فتئ يداوم على دروسه، أم من ذلك البطَّال الذي لا يميل إلى أيِّ عمل كان؟ ومهما يكن الأمر فإنهم أبصروا من خلال ورطتهم أن يذهب الأولاد إلى الريف لإنقاذ الأسرة من الإفلاس، ومما لا مراء فيه أن سير بسمارك الموجب لليأس قد عجَّل الأزمة، وبسمارك هذا قد ذهب إلى أمِّه وأخبرها بأنه لا مناصَ له من عمل شيء.
ويكتب الأب إلى ابنه الأكبر قولَه: «إن أوتو بلغ من كُرْهه لوظيفته في الحكومة ما يحفزه إلى النفور من الحياة، ولو كرَّس معظم سِنِيه للوظيفة لأصبح رئيسًا مع ألفَي تالير راتبًا على ما يحتمل، ولكن لا شيء يُرجَى من الطالع، وقد التمس من أمه أن تجد له عملًا يقوم به، وهو يرى أن نعود إلى صنع السُّكر وأن نُرسله إلى مَغْدبُرغ ليتعلمه ثم أن نعهَد إليه في إدارة المصنع بكنيبهوف، وإن مما يزعجني كثيرًا أن أجده تَعِسًا إلى الغاية، وقد رأيتُ في كنيبهوف درجة اكتراثك للزراعة، وأُبصر ما ينتظرنا من البَوار إذا ما بقيتُ في برلين، فتراني قد عزمت على نقل كنيبهوف إليكما واكتفائي بدخْل شُونْهاوزِن.» وريثما يحدث ذلك وجب على الأخوين أن يُجاوزا الامتحان.
ولا يعسر ذلك القرار على الأب اللين البالغ سبعين سنة من عمره، وتعود موافقة الأم عليه إلى دُنوِّ وقت البوار، وإلى انحلال صحتها على ما يحتمل، ويقترب أجلُ الأم، ونودِّع هذه المرأةَ الطَّموح التي تُوفِّيت بعد بضعة أشهر من تاريخ ذلك القرار، وقد كان عمرها خمسين سنة، وكانت أسيفةً مصابة في جميع آمالها بأولادها فتفكِّر في أبيها غيرَ مبصرة تحقيق هذه الأماني بعد ثلاثين عامًا بما يقضي بالعجب.

والحق أن حب الوطن هو الذي يدفع أقطاب السياسة القليلين المشهورين في البلدان ذات النظام الملكيِّ المطلق على الخصوص، إلى سلوك سبيل الخِدَم العامة، وفي الغالب يتجلَّى الباعثُ في الحرص وحب القيادة والطمع في إعجاب الناس والرغبة في الشهرة، ولا أرى غير الاعتراف بأنني لست مبرَّأً من هذا الهوى، فأجد كثيرًا من المميزات، كالتي يتصف بها الجنديُّ في ميدان الوغى والقطب السياسي في البلد الحر مثل بيل وأوكونيل وميرابو … إلخ، والرجل الذي يمثِّل دورًا في الانقلابات السياسية، مما يستهويني ويجتذبني اجتذابَ النور للبعوض.
وأراني أقلَّ انجذابًا إلى كلِّ نجاح يأتيني من الطرق المعبَّدة بالامتحانات والدسائس والوثائق والقِدَم وعطْفِ الرؤساء، وأجد — مع ذلك — أُوَيقات لا أفكر فيها من غير أسف على المسرَّات الزاهية التي تنتظرني في الخدمة العامة والانشراح الذي يتَّفق له من الاعتراف الرسمي بقابلياتي حينما أرتقي بسرعة، والانبساط الذي يلائم عزَّتي وقتما أُعَدُّ رجلًا ماهرًا نافعًا، والمجد الباطنيِّ الذي يحفُّ بي وبآلي في نهاية الأمر، ويبهرني جميع ذلك كثيرًا إذا ما شربت زجاجة خمر جيدة، وأحتاج إلى تأمل دقيق رزين لأُبصر ذلك من الوهم والعُجب الذي يحكى انتفاخَ المِغناج بفعل لباسه أو غرور الغنيِّ بفعل ماله، ومن الغفلة واللغو أن يبحث المرءُ عن السعادة في رأي الآخرين، ومن الواجب أن يعيش الرجلُ الرشيد من أجلِ نفسه ومن أجلِ ما يراه صِدقًا وحقًّا، لا من أجل تأثيره في الآخرين، ولا من أجل ما يُقال عنه في الحياة وبعد الممات.
ولست أُغوَى بما يُساورني من تلك الفوائد الزهيدة ومن رغبة كبيرة في أن أُدعى بالسيد الرئيس ومن وثوقي بأن أكون نافعًا للبلد بنسبة ما أُكلِّفه مع الزيادة، فقد عزمتُ على حفظ استقلالي ونشاطي وهمَّتي، وعلى عدم التضحية بقواي الحيوية، مع وجود أُلوف من الأشخاص، ومنهم الأكفياء، مَن يعدُّون تلك الأمور ثمينة فيفرحون بشَغل المنصب الذي أتركه لهم مختارًا.
ومن تلك الوثيقة الأولى عن نفس بسمارك يظهر كِبْرُه وبصَره وزَرْيُه وجسوره فتتألف من هذه الأمور عناصرُ خلُقه وعوامل نجاحه وأصل عطَله من حسِّ السعادة وأسبابُ عِراكه الأدبيِّ القادم، ومن تلك الوثيقة الأولى عن نفس بسمارك يظهر احتقارُه لكلِّ حقير وصورةٌ هزلية للطَّموح الطامع في أن يُدعَى بالسيد الرئيس ذات يوم مهما كلَّفه الأمر. وهو بذلك لا يعتقد سعادةَ الموظف الذي يكون له رئيسٌ دائم مع عَطَل من الحرية، وفي ذلك آيةٌ على ما يواثب شابًّا في الثالثة والعشرين من سِنِيه من حال روحية يُعارض بها ما يَبهر بالهوى، والغرورَ بالصيت، والاشتراكَ بالانفراد، والمقامَ بالسلطان، وذلك مع تركه القارئَ يُبصِر ذلك التلذُّذ العصبيَّ بنعَم الحياة نتيجةً لأثر الكحول، وقد رأينا ذلك الرجلَ الريفي الذي يودُّ أن يقوِّيَ بدنه، وأن يضع صحته فوق المهنة، والغابة والصيد فوق الكرسي والمكتب.
وفوق كلِّ ذلك نُبصِر فتًى ذا عُجب لا يُوصف راغبًا عن إطاعة أيٍّ كان شاعرًا مقدَّمًا بتَفَه أيِّ مكافأة تقتضي تضحيتَه بحريته، ويا لَلْعزة التي يدفع بها دليل حبِّ الوطن ويطرح بها الأوهام القومية والمسائل الحكومية التي تُحلُّ أو تُبسَّط ليَنفُذ واثقًا كلمة الميل والهوى في القلب، وهو إذا ما مُنح سلطانَ الطاغية انقضَّ انقضاضَ البعوض على الضياء ليقود ويشتهر، لا لتحقيق فكرة، غير أن هذا لا يمكن الآن في سوى الدول الحرة كإنكلترة، وفيما هو يدوِّن ذلك كتابةً تجدُ بِيل، الذي كان رئيسًا للوزارة بالأمس، يجاهد في مجلس النواب من أجل حرية المبادلة ضدَّ حزبه الخاص، وتجد أوكونيل يجاهد — أيضًا — من أجل استقلال إيرلندة، فذانك ثوريَّان، لم يُعوِّلَا على غير نشاطهما ورأيهما الخاص، لا على رغائب مَليك، وكلاهما دعَا إلى انقلاب، حتى إن ميرابو أراد تحديد امتيازات النظام الملكيِّ، ولكنك ترى في بروسية، ولكنك ترى هنا، ولكنك ترى في هذه البقعة الألمانية العاطلة من دستور، العاطلة من مجلس شيوخ ومجلس نواب؛ أن ذلك كلَّه حُلُم بارونٍ خيالي يحاول عبثًا إحداث حركة سياسية.
تلك هي صورة عن بسمارك، ويشعُر هذا المولود طاغيةً بقواه الخاصة التي لا يحفِزه إليها ولاؤُه للمَلك ولا خوفُه من الله ولا مسئوليتُه تجاه المجتمع، هو وحيد، هو عظيم، هو يزدري الرجال، وينتظر هذا المكافحُ، هذا الثوري الفارغ الصبر، تبديلًا، ويحتقر هذا المغامر كلَّ ما هو راكد، ولا يودُّ نشاطُه العصبيُّ الإدارة، بل يودُّ التحويل، وهو يرغب في القيادة كما يشاء، وهو لا يصفح عمَّن يعلوه.