الفصل الخامس

بيوت العمال المستطيلة بكنيبهوف مغطَّاة بالتِّبن، وفي كل واحدٍ من اثني عشر من هذه البيوت يسكن أربعُ أُسَر، وهذه الأُسَر فقيرة إلى الغاية، ولا يكاد الرجل منها يكسب تاليرًا في الشهر الواحد، وعلى الرجل أن يعمل عدَّة أيام من السنة بلا عِوض، ولأولئك مساكنُ وحطبٌ وأفدنة ثلاثة ومرعًى وعلف وحبٌّ، ولهم عونٌ في الموسم السيئ إذا ما أراد سيدهم، وإذ إن كنيبهوف ضرْب من الإمارات الإقطاعية؛ فإن السيد فيها يُعدُّ رئيسًا للشرطة ورئيسًا للعدل ورئيسًا للكنيسة، وله كرسيٌّ في مجلس الولاية وله أن يبدوَ حاكمًا فيُباح له أن يساعد من يودُّ ويؤذيَ من يريد، وفي الواقع لم يكن لأولئك الفلاحين حقوقٌ ولا ضماناتٌ حتى سنة ١٨٤٠، بل كانوا عبيدًا متَّصفين بولاء العبيد، وأجدادُ هؤلاء كانوا يخدِمون أجدادَ سيدهم الكريم.

ويعاملهم بسمارك وديًّا ويظلُّ لهم سيدًا، ويُرسل صديقٌ له كتابًا يقول فيه: «حقًّا إنك أوتو المحبوب، حقًّا إنك الشريف الذي يحمل قلبًا عطوفًا على رجاله، ومما يسرُّني أن يُحدِّث رجالي عني بأطيب القول كما يُحدِّثون عنك.»

ولكن الفلاح يرغب ذات يوم عن الاصطفاف ليدعَه يمرُّ، ويُسفر ذلك عن اصطدام هائل، وتقاوِم عربةُ الفلاح وتُحطَّم عربة السيد على الطريق، ويمكن تمثُّل ما ينجم عن ذلك من النتائج، وهو يوضح من البداءة كيف يسير بهذا النوع الجديد من الحياة، وهو يقول في كتاب يُرسله إلى صديقه إنه عازم على أن يكون «سيدًا، لا خادمًا، وعلى ألا ينسخ الرسائل.»

وعلى ما كان من حبِّه القلبي لأخيه لم تَدُم شركتُهما زمنًا طويلًا؛ فما كان بسمارك ليُطيق العيش مع أحدٍ مساوٍ له في الحقوق، فاقتسمَا الميراث بعد وقت قصير لذلك، والأمر هو كما جاء في كتاب له: «إنني أكاد أقتسم الميراث مع أخي لِما وجدته من مشترٍ يعرِض ثمنًا عاليًا، فهذا هو عزمي.» ثم يعمل كلٌّ من الأخوين على إطفاء الدَّين بتؤدة ومشقة.

وأراد بسمارك أن يعرف شيئًا عن الزراعة فقضى من جديد بضعةَ أشهر في الجامعة، وحضر دروس كيمياء في غرِيفسفالد وإلْدينا، وحمل كِيزرلنغ على إرسال كتب في النبات إليه، ووجد طبيبًا يعلِّمه قليلًا من الكيمياء. وتقع مبارزاتٌ جديدة ومصادمات مع الشرطة، ويغدو غيرَ تلميذ، ولا يغدو سيدَ نفسه من جميع الوجوه، ويجلس حول المائدة بين كبار الملَّاكين الذين أتَوا إلى السوق، «وأُصغي إليهم كثيرًا، ثم أفكر فيما يقولون وأحلُم ليلًا حول البَيدر١ والسماد وجُرامة البُرِّ».٢
ويحافظ على لهجته التهكمية في الحقيقة، ولكنه إذا ما صار في ملكه «مع ما في ابن المصر٣ الصالح للكتابة من جهل تامٍّ»، حاول أن يرفع مستوى زراعته جُهد الاستطاعة، وجلب عددًا من الكتب بواسطة الجمعيات الزراعية في الولاية، وأمسك حسابه بنفسه مع كبير عناية، ومسألة القروض التي تُؤخذ وتُدفع هي أهمُّ ما في دفاتره، وتعوزه النقود في الغالب، لا على الدوام، ويسافر فيُرفِّه عن نفسه ويُنفق عن سعة، ويقامر في الحين بعد الحين، ولكن مع اعتدال في المقدار، وهو يُدخل إلى الحساب جميعَ نفقاته الخاصة كما يُدخل إليه ما يَكسب وما يخسر حول مائدة الميسر، ويرافقه خَوليٌّ٤ أو لا يرافقه، فيطوف أحيانًا راكبًا حصانًا، فيعلم ويفحص ويرتب، ويُسرُّ على ظهر جواده كالبَ، وهكذا يتعلم كيف يعرف العوامَّ والفلاحين والتجار وحقائق الأرض وكيف يُقدِّر قيمة الوقت والجزئيات، ويُنمي ذاكرته بما يُثير العجب، ويقوِّم لسانه بمائة استعارة زراعية، وفي هذه الحياة العملية يزيد تقديره للوقائع ويزيد ازدراؤه للآراء، فإذا ما عاد إلى منزله عِشاءً أخذ يطالع ويشرب كئوس الشنبانية والبورتو بكثرة.

وتمضي تسعُ سنين فيقضي بسمارك ثلاثةَ أرباعها في الأرياف على ما يحتمل، وبسمارك يقول: «تَرجع معارفي العامة إلى ذلك الدور الذي لم يكن لديَّ ما أصنعه فيه فوجدتُ عند وصولي إلى مُلكي مكتبةً كاملة فالتهمتها.» ويقرأ كثيرًا من كتب التاريخ، ولا سيما تاريخَ إنكلترة، ويقرأ ما تيسر من علم الاجتماع حتى كتب لويس بلان، ويقرأ غير قليل في اللغات الأجنبية، ويقرأ كتب شكسبير — على الخصوص — وكان الكُتَّاب المفضَّلون لديه هم بايرون ولينو وبولفير. وهو قد كُوِّن في العزلة، والعزلةُ هي التي كوَّنته، وفي العزلة وجد أوقاتًا سعيدة فلم يكن لأحد أن يُزعجه فيها. ومما كتب: «لا بدَّ من الإقامة بعاصمة أو بالريف.»

وفي سنتين يروق ذلك العملُ هذا الرجلَ البالغ خمسًا وعشرين سنة من عمره «بسبب استقلاله» بيد أن هذا الوهم لم يُعتِّم أن تبدَّد، فاسمع قوله: «لقد علَّمتني التجربة أن أعرفَ عبث الكلام حول السعادة الأركادية٥ في حياة خُصِّصت للزراعة، مع إمساك الدفاتر بالطريقة المزدوجة، ومع المباحث الكيماوية.» ويودُّ التنوُّع فيمتطي الخيل أو يذهب إلى الصيد أو يزور جيرانَهُ ثم يُهَمهم فيقول: «لأن يَشتري هؤلاء غِلالي أفضل من أن أُدعى إلى الغداء معهم، حتى إن أحدًا منهم لم ينظر إلى خِرافي، والأثمانُ تهبط في برلين يومًا بعد يوم.» ويركب زورقًا أحيانًا فيصطاد بطًّا، ولكن زجاجة الشنبانية لا تفارقُه أبدًا، ويقرأ كُتُب بايرون في الفينة بعد الفينة، ويناقض سلوكه كرجل دُنيوي سلوكَ المالكين الآخرين كل مكان، فقد قام بسياحات طويلة وكان في دار القضاء، وهو يعرف أن يتكلم بطلاوة، وهو يركب الخيل بجرأة، وهو ذو إقدام مع النساء، وهو لديه غيرُ سبب ليَسخر من أولئك الناس، «فإذا ما سُئل أحدهم عن صحته أجاب بقوله: إنها جيدة جدًّا، ولكنني ألِمْت في هذا الشتاء من الجُلبة.»٦

ويُكسَف صيتُه شيئًا فشيئًا؛ وذلك لأنه كلما ضَجِر حاول أن يتلهَّى بدُعابات مشئومة وأن يُلقي الحيرة في نفوس الآخرين ممن يعيش بينهم، وتُصبح الخدمة العسكرية ذاتُها أُلهيَّة لديه، ويغدو ملازمًا مساعدًا في كتيبة الرماة، ويشترك في التمرينات، وتعيش أختُه الصغرى عنده الآن، وتثِب معه في العربة، ويسوق العربة بأسرع ما يمكن على الرغم من حصانَي الركوب اللذَين قرنهما بالمجرِّ بقوة. وهو إذا عاد من منادمة على الشراب في ساعة متأخرة من الليل كبَا غير مرة، ولم يرجع إلى وعْيه إلا بعد حين، ويستحمُّ كثيرًا ويسبح غالبًا، وعليه في كلِّ وقت أن يتغلَّب على أثَر البرد أولًا. وهو يجِد خليلاتٍ في جميع الطبقات، وهو يهزَأ بأولئك الذين يعيشون رسميًّا مع أزواجهم، ومما حدث يومًا أن تأخر أصدقاء له عن الحضور في الساعة المقررة من الصباح، ومما حدث أن أراد هؤلاء أن يُداعبوه فسدُّوا بابهم بصِوان الثياب، ويُطلِق الرصاص من النافذة المفتوحة على سقف الغرفة حتى يتساقط الجِصُّ عليهم، ويتغدَّى ويجلس على متَّكَأٍ، ويُطلق النار على الهدف متعمدًا، وما كان ليُزعَج من إتلافه خشبَ الجدار بذلك، ويسقط سائسُه في الماء ويُنقذه مجازفًا بحياته.

وإذا ما زاره شخصٌ عرض عليه رحيقَ الشنبانية وراح بورتو، ثم قال له: أعِنْ نفسك، وبعد منادمةٍ كتلك يذهب — ذات يوم — إلى الدَّسكرة٧ المجاورة مارًّا عدَّة ساعات من طرُق وحلة فيغتمُّ الجَمْع الأنيق من مظهره المُخزي، وهكذا ينال لقب السيد المجنون، وإن لم يكن مجنونًا في الحقيقة، وهو ينال هذا اللقب بسبب شدة نهمه وكثرة شُربه وطِراز صبره، ويدعوه المدرَّعون فيُطلَب منه أن يأخذ الرَّشفة الأولى من القعب٨ الذي يَعدل زُجاجة كاملة فيجرَع ما فيه دفعةً واحدة مثيرًا دهشَ عُشَرائه، وعلى ما كان من عدم انشراحه حتى ذلك الحين يقول لنا: «إن مَعِدتي ظلت أربعةَ أسابيع أحسن مما كانت عليه.» ويتكلم أحيانًا عن سياسة العاصمة مع عدم احترام على الدوام، ويمضي قليلُ وقت فيجد الفتياتُ الكُونتِسات من الممتع دعوتهن إلى الغداء، ولكن وجودهن حول المائدة بجانب فون بسمارك مما يؤلم أمهاتِهنَّ.
ويصبح ذات حينٍ موضوعَ قول في الصحف؛ فقد نشرت إحدى صحف الساحل البَلطي الحرة شكوى من الضرر الذي يُحدِثه أشراف بُوميرانيَة بحُصُنهم الإنكليزية وكلابهم السَّلوقية حين الصيد في الحقول التي لا يحميها شيءٌ غير المالك نفسه، ويحاول بسمارك الذي يرفض المحررُ نشرَ جوابه فيصل إلينا هذا الجواب مسوَّدة مع كثير ترميج٩ أن يُثبت أن تلك المواكب لا تُوجب أيَّ أذًى في المزروعات، وأنها تنفع في تحسين جنس الخيل، وأن الحُصُن هي ألمانية، وأن السِّياط وحدها هي إنكليزية، وأنه يودُّ «أن يفضح كثيرًا من كبار الأشرار الذين يجلبون سياطًا من إنكلترة فضلًا عن صابون الحلاقة والقُمصان والجُبن المعروف بالشِّسْتري.» ثم يهاجم كاتبَ تلك المقالة فيقول إن عوامل شخصية لا عوامل جديَّة، هي التي حفزته إلى كتابتها. ومن الواقع أن كان اسمه الخاص وفروده قبْضتَه، ومن الواقع أن تناول المسائل الاجتماعية والسياسية، فقال: «إن مما أعلمه جيدًا أن يبدوَ أشخاصٌ لابسون معاطفَ حُمرًا مستوون على صهوات١٠ الجياد سائرون في مواكب صيدٍ مع كلاب سَلوقية مُطارِدين أرنبًا، راضون عن أنفسهم وعن عملهم، فيمقتهم الأرانبُ ومَن ليس قانعًا بنفسه ولا بالعالم، ومَن هو لابس ثيابًا سودًا، ومَن ليس عنده خيلٌ ولا كلاب ولا قَنص ولا هوَس إلى الرياضة.» وقال: «إنه من طبقة أولئك الأشراف الذين يقوم امتيازُهم الشامل على إضافة كلمة «فون» إلى أسمائهم، كسحاب مركوم تنقله قوى الدهر الغامض الأمر فيحجب عن ألمانية الحزينة شمسَ المساواة المدنية والاجتماعية.» ثم ختم كلامه بقوله: «إنه تُرِك للبوميراني من المنافع ومن الحرية الشخصية ما يمكنه أن يتلهَّى معه بماله كما يشاء.»
ذلك هو أول اعتراف سياسي صدر عن بسمارك أيام كان في الثامنة والعشرين من سِنِيه بسبب بعض الأرانب وجُذامة١١ بعض الحقول، ولكن مع تعزير أولئك الذين يريدون تحدِّيَ امتيازه، وبذلك يسير خطوةً إلى الأمام، وبذلك لا يقف بسمارك عند الدفاع عن طبقته العليا، بل تبصره يهزأ بالطبقة الدنيا التي لا صيدَ لديها مع جوابه الخبيث القائل إنه ليس عندها أيُّ هوَس إلى القَنص، وبسمارك يقابل بين الأرنب وابن الطبقة الوسطى أو الفلاح الذي ينظر حاسدًا على الموكِب حين مروره مسرعًا، ولو سأله أحدهما تعويضًا عادلًا لأعطاه إياه من فَوره، ولكن مهاجمةَ امتيازاتِه عند صولة المبادئ الجديدة مما يحمله — في الحال — على التسلُّح بسلاح أجداده. ولم تكن كلمات بسمارك السياسية الأولى إلا كلماتِ رجلٍ يجاهد في سبيل طبقته.

وقُبيل ذلك يقوده السَّأَم إلى خِطبته الثالثة، وخطيبتُه في هذه المرة هي ابنةٌ من الجوار اسمها أُوتيلي فون بوتكامر، وتعارض أمُّها في زواجها به، وفي ذلك يقول: «مضت خمسة عشر يومًا فتشاجرتُ مع أمِّ خطيبتي التي أرى من الإنصاف أن أصِفها بأخبث امرأة عرفتها في حياتي، والتي لم تُبصر أنها بلغت من الكِبَر ما لا ينبغي أن تعشق معه.» وتودُّ هذه السيدة أن تفرِّق بين الخطيبين سنةً كاملة لسوء سمعة أوتوفون بسمارك، ويتوسط أبوه فرديناند في الأمر كتابةً. وأوتو هو الذي أملى ذلك الكتابَ السياسي — كما هو واضح — ولا يسعنا غيرُ الضحك حينما نقرأ فيه وصفَه لنفسه بأنه «ذو حيوية وعقل عند الإغضاء عن كبريائه»، بيد أن الحماة ظلت صعبة المِراس، فأملَت على ابنتها (خلافًا لما هو مألوف في كنيبهوف) كتابًا مؤذيًا جائرًا.

ويُسقَط في يد بسمارك بسبب الإهانة على الخصوص، لا بسبب تلك الفتاة التي نسيَها في غضون السنة تقريبًا، ويرى بسمارك أن «مما ينافي عزَّته أن يُبديَ ألمَ فؤادٍ جريح، وأن يُفرِّج عن نفسه بإطلاق نارٍ على الإخوان»، ويسيح ويقصد من سياحته «أن يُزيل غمَّه في البلدان الأجنبية»، ويصرِّح بعد ذلك بقوله: «إنني بلغت من فتور الهمة ما أَعُدُّ به من السعادة العظيمة ذلك الذي جعلني أغضب على القدر.» ولكن ذلك الجَرح ظلَّ ذا أثرٍ عميقٍ في كرامته، فلما انقضت أربعةُ أعوام أرادت الأمُّ وابنتُها تسويةَ الأمر وإعداد الزواج، فأبى ذلك وقد قال لصديقٍ له: «إن ما كان من مساورة تلك المشاعر في سنوات لإحساسي المُهان ومن إخفار ذمَّتي ومن إخزاء كبريائي ترَك فيَّ بقية مرارة لا أظنني قادرًا على استئصالها. ومما يعسُر عليَّ أن أنسى — بعض النسيان — سبًّا مؤثِّرًا مع رغبتي الصادقة.» وفي ذلك الحين يقول مؤكِّدًا: «إنني لا أستطيع أن أحب.» وهكذا تُبصر رسوخ الزهو والحقد في قلب يبدو الغرام والتضحية غريبين عنه في الساعة الراهنة.

وتسوقُه تلك السياحة التي قام بها في السنة السابعة والعشرين من عمره إلى إنكلترة في بَدْء الأمر، وينزل إلى البرِّ في هول، ويُبدي ملاحظاتٍ حول الصفير يوم الأحد، ويعود إلى السفينة من فوره، ويتوجَّه إلى اسكتلندة، ثم يُبصر خارج مجلس اللوردات بلندن حُصُنَ ركوبٍ تنتظر هؤلاء «بدلًا من العربات»، ويُبصر أُناسًا من الوجوه يمرُّون مسرعين على ظهور الخيل فيؤثِّر ذلك كلُّه في نفسه كثيرًا، ويقيِّد كلَّ شيءٍ خاص بعالمه، ويقول في كتابٍ يُرسله إلى أبيه: «إن ما يُخصَّص من العلف لخيل فرسان يُورْك التي لم تشتغل حتى الآن هو بُوشل١٢ جُلُبَّان واثنا عشر رطل تِبْن. ويبدو لي عدم الأهْراء١٣ أمرًا غريبًا، ويُجعل القمح في كُدْس يترجَّح طولُه بين اثني عشر أُونًا١٤ وخمسين أُونًا على ما يحتمل، ولا تجد بجانب الهواء المغطَّى سوى هُرْيٍ صغير من مدَر.»١٥ ثم يُثني بسمارك على «لُطفِ الإنكليز وأدبِهم الجمِّ الذي يفوق ما أنتظرُه، حتى إنك إذا ما كلمت العوامَّ وجدتَ فيهم تهذيبًا وتواضعًا وذكاءً.» ويروق بسماركَ ما لدى الإنكليز من شهوة طعام فطرية، فيقول في ذلك الكتاب: «ذلك هو بلد النُّهَماء، وفي ذلك البلد لا يُقدَّم إليك الطعامُ أجزاءً، وفي ذلك البلد تجد أمامك حين الفَطور — أيضًا — أطعمةً هائلة لا تخطُر ببالك، فتقتطع منها ما تودُّ وتأكل منها ما تريد من غير أن يُضاف شيءٌ إلى حسابك.» ولا يُدرَك أمر تلك الملاحظات التي أبداها لأبيه حول الطعام النفيس الوافر إلا إذا عرفنا ما اشتملت عليه رسائلُه من نصوص كثيرة، بحَث فيها عن ملاذِّ المائدة بجدٍّ عظيم حتى أواخر أيامه.

ويبدو أن مَن في الدار أقلُّ تأثُّرًا بروح السيطرة من ذلك السائح الذي وصل إلى سويسرة، فيطلب من أبيه وأخيه دفْعَ ما استحق من الضرائب، وكان لا بد من مطالبة هذا أو ذلك بنقدٍ، «أو من المساومة بالقمح أو المسكرات، فآملُ راجيًا أن تنظر إلى هذا الأمر المستعجل بعين العناية كما لو كان خاصًّا بك.»

ويعود فيجد ما يُغضبه من فَوره، وماذا يصنع في هذا الخَرْق؟ إن بوميرانْية بلدٌ ضيقٌ، وألمانية بلدٌ كئيبٌ، والناس في الخارج أحبُّ إلى النفس.

ويجلس بجانب الموقد، ويقرأ ديوانَ بايْرون، وينسخ أكثر قصائد هذا الشاعر الإنكليزي تحدِّيًا، ثم يفكِّر في تقليد هذا اللورد، ويخبط ذلك الديوان مع دفتر الحساب، ويفكر في رحلةٍ يقوم بها مع رفيق المدرسة أرْنيم «في مصر وسورية، وفيما هو أبعد من ذلك — على ما يحتمل — على أن تسير التدابيرُ التي أُبصرها حول ما أملك كما أروم. ويلوح لي أن أمثِّل دور الآسيوي بضعَ سنين؛ لأُحدث تغييرًا في زخرف روايتي ولأدخِّن سجايري على الغَنْج، بدلًا من الريغا.» ولكن ذلك الرفيق يعدل عن مغامرات السياحة تلك مولَعًا بأخت بسمارك الحسناء مالْوين البالغة من العمر سبعَ عشرة سنة.

وتطرح الهند جانبًا، فقد كتب الأب الشيخ فرديناند إلى ابنه «رسالةً مبلَّلة بالدموع يُحدِّث فيها عن شيبته (وعن بلوغه الثالثة والسبعين من سِنِيه أرملَ أصمَّ)، وعن دُنُوِّ أجله وعن طمعه في رؤية ولده»، والآن يسألُهُ صديقٌ له عن سبب عدم ذهابه إلى الهند، فيُجيبه عن سؤاله هازلًا: «لقد أردتُ أن أخدم في الهند تحت الراية الإنكليزية، ثم فكَّرت فيما أصابني به الهنود من أذًى.» فبهذه النتيجة البوميرانيَّة انتهت خطتُه في السياحة العالمية على الطريقة البايرونية.

وروائية المالك الشريف في الولاية هي التي تهدف إلى الحركة والأُلْهيَّة، فتسخِّر الحكومة إلى هذا الغرض مهما حدث من سوء، ويبلغ الثلاثين من عمره فيقول في رسالة له: «أعيش في الريف وحيدًا منذ خمس سنين، ولكنني غدوت غيرَ صابر على حياة العزلة شريفًا ريفيًّا، فأتحرَّق لأعرف هل أعود إلى الإدارة أو أقوم برحلات طويلة، وتراني مستعدًّا لشَنق نفسي تخلُّصًا من سَأَم الانفراد هنا، ويخيَّل إليَّ أن هذه هي حال المثقَّف الذي يعيش عزيبًا في الريف.» وحوالَي ذلك التاريخ يكتب في مذكِّرته: «قمتُ بأمور حسابية في النهار كلِّه، وقمتُ بجولة راكبًا وماشيًا في النهار كلِّه تحت وهَج الشمس، فالحق أن الحياة تبدو كفانوس سحري.» ويرغب في حين آخر أن ينتحل لنفسه حياةَ الخواص فيقيِّد اسم عسَّاسه١٦ ومصفِّيه باسم حارس الليل والخادم المقطِّر.

وتتحول عدميةُ الطالب إلى سوداءَ شديدة في فارس وحيد في قصره، «فتجدني منذ حضوري هنا فاقدَ الحسِّ أدبيًّا تقريبًا، وأقوم بأعمالي في الأوقات المقررة، ولكن من غير اكتراث خاص، وأُحاول أن أجعل الحياة مقبولةً لدى أُجَرائي، وأُلاحظ — غيرَ غاضب — ما يأتونه من اختلاسي، وفي الصباح أكون عسيرًا وبعد الغداء أكون يسيرًا، ويتألف رفقائي من الكلاب والخيل وأشراف الأرياف، ولي حرمةٌ عند هؤلاء لقدرتي على القراءة بسهولة، ولادِّثاري كرجل في كلِّ حين، ولاستطاعتي تقطيعَ القنيصة كقصَّاب، ولامتطائي صهوةَ الجَواد بسهولة وإقدام، ولتدخيني سجاير كبيرة، ولاقتداري على الشرب معتدلَ الدم على حين يقع ضيوفي تحت المائدة، ومن المؤسف أنني لا أبلغ درجة السُّكر، مع أن ذاكرتي تخبرني بأن هذه هي حالة سارة، وهكذا أعيش كساعة عظيمة من غير رغائبَ خاصة، أو مخاوفَ خاصة، وتُبصر حياتي مملوءةً انسجامًا وطافحةً غمًّا.»

ويغوص أحيانًا في عِشرة الخواصِّ، ويرجع من رحلة في بحر الشمال الذي يصفه بالمحبوب، ويبلغ ما خسِره هنالك من المال حول مائدة الميسر ما يُسَرُّ معه أن يقول: «كنت حسَن التصرف في الحدود فلم أدفع ضريبة دخول.»

والآن تتزوج أختُه فيزيد فؤاده كدرًا أكثر من قبل، وقد كان عاشقًا لها، وقد ظلَّ مغرمًا بها مدى حياته، ويعدُّها عنوانَ الذكاء والكياسة ما دامت فتاةً تعبَث بغِلظته عبثًا عجيبًا، ويقضي عدة شهور عند أبيه الشائب قارئًا مدخِّنًا آكلًا شِلْقًا١٧ «ممثِّلًا معه أحيانًا روايةً يُحب أن يدعوها بصيد الثعلب»، ويصف لأخته إحاطة الصيادين والكلاب السَّلوقية في يوم ماطر بارد لغابةِ صَنوبَر صغيرة مشتملة على شرذمة من العجائز المحتطِبات — كما هو معلوم — ويصف لأخته كيف يُخرج رئيسُ القَنص من الأصوات الحلقية الغريبة ما يحمل به الثعلبَ الوهميَّ على الخروج، «فيسأل الوالد بسذاجة عن مشاهدتي ذلك، فأُجيبه بكلمة: كلَّا، مبديًا أقصى الدهش، ويدوم ذلك ثلاثَ ساعات أو أربع ساعات، فإذا ما انقضت هذه المدة زُرنا بستان البرتقال مرتين، وزُرنا الزريبة١٨ مرة واحدة في اليوم الواحد، وفي كل ساعة نقابل بين موازين الحرارة في الرَّدهة، وننقُر زجاجها فنعلم أن الجو جميل، ونجعل ساعتِنا الدقَّاقة من الاتِّساق مع الشمس ما تدقُّ به معًا على حين تتأخر ساعة المكتبة دقَّة واحدة.» وهو بعد أن يتندَّر بمرارة على ذلك الوجه يحرِّض أخته على الكتابة إلى الأب عن أعمالها الصغيرة، «فتحدِّثه عن الخيل وعن سلوك الخَدَم وعن صرير الأبواب وإغلاق النوافذ وعن أمور أخرى، وهو لا يطيق أن يُدعى بالأب لنفوره من هذه الكلمة.»

وهكذا ينمو الصلاح والسَّأم والتسامح والغمُّ على مقياس ضيِّق في قلبه، فلا غروَ إذا ما حاول في الثلاثين من سِنِيه أن يعود إلى خِدَم الدولة للمرة الثالثة، «وذلك لأحرِّر نفسي من متاعب بيئتي التي تُبغِّض الحياةَ إليَّ.» ويكتب ذلك الفتى الشريف إلى رئيس برانْدبُرغ الأول معتزًّا؛ إذ يقول: «غدتْ أحوالي لا توجب إقامتي بالريف في الوقت الحاضر؛ فالآن يمكنني أن أسير مع مَيلي إلى خدمة الدولة.» أفلا يُقال بعد ذلك: إنه يَفترض انتظارَ الدولة عرْضَ نفسه عليها فقط؟

وتدوم التجربة الثالثة أسبوعين، ولم تكد هذه المدة تنقضي حتى تصادم هو ورئيسُه. ويكتب الرئيس الأول قائلًا مذعورًا: «لقد مرَّت عليَّ أمور كثيرة في حياتي، فلم أَرَ حتى الآن اقترافَ رجل قانوني لثلاثٍ وستين أغلوطة.» وله من المعاذير المألوفة ما يغادر معه وظيفتَه بسرعة، وهو إذ لم يقابلْه الرئيس من فَوره، قال للخادم: «بلِّغ الرئيس أنني ذاهبٌ غير آيب.»١٩

وفي مساء ذلك اليوم يجتمع بالرئيس في وليمة فيسألهما بعضُ الحضور: «أيعرف أحدكما الآخر؟»

بسمارك : لم يكن لي شرف ذلك!

ويقدِّم بسمارك نفسه ويُعرب عن عظيم سروره بذلك اللقاء!

وما كاد بسمارك يصِل إلى منزله حتى دوَّن مشاعرَه كتابةً، قائلًا إنه قام بتلك التجربة «كنشرٍ نفساني للخشب؛ وذلك لأُعيد الصحة إلى دماغي بعد أن رَهِلَ٢٠ قليلًا في الوظيفة بسبب نمطية العمل كما هي العادة. وما أبداه رؤسائي الرسميون من تعاظم عقيم وعطف سخيف فكان غيرَ محتمل لديَّ أكثر مما في أيِّ زمن بعد أن فقدتُ عادته منذ زمن طويل.» وهو لم يُعَتِّم أن مَرِض من العمل هو و«خَيلي أيضًا» حتى بعد أن حلَّ محلَّ أخيه عمدةً للناحية، ولسرعان ما ترك هذا العمل كذلك.
«وهكذا ركبت نهر الحياة عاطلًا من الإرادة ومن أيِّ خدْفٍ٢١ خلا عطْفِ الفَينة،٢٢ ولستُ أُبالي بالشاطئ الذي ستقذفني الأمواجُ إليه.»
١  البيدر: الموضع الذي يُدرس القمح ونحوه فيه ويداس بالنورج.
٢  جرامة البر: ما بقي من القمح بعد الحصد.
٣  المصر: المدينة.
٤  الخولي: القائم على المال الذي يدبِّره.
٥  نسبة إلى منطقة أركادية الجبلية من بلاد اليونان.
٦  الجلبة: القشرة تعلو الجرح عند البرء.
٧  الدسكرة: بيوت الأعاجم يكون فيها الشراب والملاهي. وقيل: بناء كالقصر، حوله بيوتٌ تجتمع فيها الشطَّار.
٨  القعب: القدح الضخم الغليظ.
٩  رمج الكاتب ما كتبه ترميجًا: أفسد سطوره بعد كتابتها.
١٠  الصهوة: مقعد الفارس من الفرس.
١١  الجذامة من الزراع: ما بقي بعد الحصد.
١٢  هو مكيال إنكليزي للحبوب (٢٥٫٢٤ لترة).
١٣  الأهْراء: جمع الهُرْي، وهو بيت كبير يُجمع فيه القمح ونحوه.
١٤  الأون: مقياس ألماني (١٫١٨٨ متر).
١٥  المدر: الطين اليابس العلك الذي لا يخالطه رمل.
١٦  العسَّاس: من يطوف بالليل للحراسة.
١٧  الشِّلْق: واحد الأشلاق، وهي طائفة من الأسماك رخصة العظم.
١٨  الزريبة: حظيرة المواشي.
١٩  آيب: عائد.
٢٠  رهل: استرخى.
٢١  الخدف: سكان السفينة، أي دفتها.
٢٢  الفينة: الحين والساعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤