الفصل السابع
والزوجةُ هي أولُ شيءٍ يبحث عنه سيدُ المنزل القديم، وقد كان هذا موضوعَ النقاش الدائم بكنيبهوف في سنوات أبيه الأخيرة، ومن هنالك ومن أوتو في رحلاته كانت تُرفع إلى الوالد تقاريرُ كثيرةٌ مريبة حول الأمر، «وأعرِف لويز (س) وهي تبدو باهرةَ الجمال أحيانًا، وسوف تفقد نضارتَها باكرًا فتغدو حمراءَ الوجه، وقد عشقتُها مدة أربع وعشرين ساعة، ومما يسرُّني أن تصبح زوجًا لماير فتقيمَ بسيلوف»، ويفرِز النساء في جزيرة نوردِرْني، فيميز الكونتس ريفنْتلو «ذات الأسنان الرائعة واللون النحاسيِّ، والتي ستصير يومًا رئيسةً جليلة لإحدى المبرَّات»، والسيدة فون ريتزنشتاين «التي تُعدُّ بنتُها البالغُ من الحِسان فتكون زوجةً رائعة العِشرة في نُزهة، وهي تتصف بالطول والنحول وحسن الفهم، وهي من بنات الموزيل، وهي حسنة الخِلقة، وهي ليست بالفاترة ولا بالمُرَّة.»
وكلُّ نعت ينمُّ على العارف بالنساء، فهو يفرز السيدات كتاجر الخيل، وهو يكترث لنسبهنَّ أكثر مما لثرائهنَّ؛ فما كان بسمارك ليتزوجَ من أجل المال، والآن يبدو الأمر جدِّيًّا في شونْهاوزِن؛ فقد جاء في كتابٍ أرسله إلى أخته: «يجب أن أتزوج حقًّا، وليستحوذ عليَّ الشيطان، وذلك أمر جليٌّ لديَّ؛ وذلك لأنني أشعر منذ وفاة والدي بأنني وحيدٌ متروك، ويجعلني الجوُّ الرخو الرطيب سوداويًّا خموليًّا غراميًّا، وسيكون الحبوط نصيب كلِّ مقاومة في ذلك، وسأتزوج ﻫ. ا. في النهاية، وكل إنسان يتمنى لي ذلك … أجلْ، إنها توحي إليَّ بالفتور، ولكن هذا هو شأن غيرها من النساء أيضًا، والعِفريت يعرف من أين يأتي ذلك، ولا معدِلَ لي من الاعتراف بأنني لا أزال ذا هُيام بزوج صانع العجَل الخئون، ولي في ذلك تقديرٌ لنفسي مع ما فيه من ضعف، ومن الجميل ألا يستطيع المرءُ تغييرَ حبِّه كتغيير قُمُصه، وإن ندَر هذا العمل الأخير.»
وقد قضى عامًا أو يزيد في بيئة البِياتيِّين أيام تلك الاعترافات الصريحة «بأسلوبه الخاص» وذلك الغرام المذكور آنفًا، وقد تعرَّف بحنَّة فون بُوتكامِر قبل موت أبيه بسنة واحدة في الحقيقة، فكان لديه قليلُ استعدادٍ ليؤثِّر في طراز عيشه تأثيرًا باطنيًّا إذن، بيد أن آل بِلانْكنبُرغ ما فتئوا يفكرون في الزوجَين اللذَين لم يكن اجتماعُهما في وليمة عرسهم وليدَ مصادفة، وهذا ما حفزهما إلى دعوة بسمارك وحنَّة إلى السياحة معهم في جبال الهارز صيفًا، ومما لا مِراء فيه أنهم لم يكونوا خالين من الرأي في إنقاذ روح أوتو بتزويجه تلك البنت التقيَّة، ومن الرأي في مشاهدتها تتأهَّل بشريف ملحد، ومما لا ريب فيه أن بِلانكِنبُرغ حدَّث صديقه عنها قبل أن يجتمع بها، «وهي ذكيةٌ إلى الغاية، وهي بارعة في الموسيقى، وهي عذبة موهوبة مبدعة خالصةُ التقوى، وهي ماهرة في رقصة الدوران مع روعة وبساطة بما لم تقع عيناي على مثله قطُّ، فتعالَ وانظر! فإذا ما رغبتَ عنها اتخذتُها مثل زوجة ثانية.»
وفيما يلوح أن حنَّة تنال حُظوة بسرعة في أثناء تلك الرحلة بجبال الهارز، وفيما «يُعجَب بسمارك بأُنسها ودلالها» كان يتبادل الحديثَ هادئًا هو وماري التي هي أنضجُ وأكبر عقلًا وأرقُّ قلبًا منها فتُلقي ماري نورًا على ذلك في مذكِّرتها بقولها: «هو يحبُّ العزلةَ، هو يَنشُد الراحةَ، هو يحاول كلَّ شيء على غير جدوى.»
فهذا هو استسلامُ رجلٍ يعرف أن خيارَه قد يسوقُه إلى السعادة، ولكن مع دلالته على الإقلاع والعُدول، وبمثل هذه المشاعر يقتحم بسمارك سياجَ الزواج.
يعبِّر حزني الأول عن أثرَة عاطفية بسبب ما مُنيت به من فقْد. والحقُّ أن هذه هي المرة الأولى التي أخسر فيها شخصًا بالموت، لِما ترك ارتحالُه من فراغ كبير غير منتظر في حياتي، وفُقدان الأبوين من نوعٍ آخر، فما بين الولد والوالدين من صلة فليس صميميًّا بتلك الدرجة عادةً، وما كان من شعور عميق بأنني لن أرى مَن هي عزيزة عليَّ لازمة لي، وبأنني لن أسمعها فأمرٌ جديد يصعبُ عليَّ أن أعتقدَ معه صحةَ ما حدث فأصدِّقَه.

ويرى صديقَه الأرمل ثانيةً فيَنطق بالكلمات المؤثِّرة الآتية: «ذلك هو الفؤاد الأول الذي فقدته والذي أعلم أنه كان يخفِق بحرارة من أجلي، والآن أُومِن بالأبدية، وإلا لم يخلق الله العالم!»
ويكتب بسمارك من بيته في عشية سفره كتابًا إلى صديقه فيلخِّص له الحادثات، ويصف له ما أورثتْه إياه من الانطباعات، ويثور صدْر الصديق بِلانكِنبُرغ ويبكي، ويقول بصوت عالٍ: «إنك تُلقي من السعادة في نفسي ما يعجز القلم عن وصفه!» فتلك التصريحات الطبيعية الصادقة الصادرة بعد محَن الأسابيع الأخيرة عن بسمارك المرهف الحس وفق مزاج آل بيته، تُوحي برغبته في نَيل تلك الفتاة التي عاش أبوها خالصَ التقوى فلم يكن بياتيًّا فقط، بل كان متصوِّفًا أيضًا، وما كان إعرابُه عن إيمانه بالله خداعًا، بل عن غرور ذاتي — على الأكثر — وما كان له نفعٌ ماديٌّ من ذلك الزواج بالحقيقة، وما كان الهوى ليحفزَه إلى الاقتران بتلك الفتاة في الحقيقة، فهو قد أرادها لمحيطها الخاص الذي صار مقامًا ثانيًا له، ويبدو إيمانها غريبًا عنه، ويغدو مقبولًا لديه مع بعض التحفُّظات، وبينما ترنُّ في نفسه دعوةُ امرأة محبوبة لم يملِكها قط تتحولُ مشاعرُه إلى دعوةِ امرأة أخرى يجدها أهلًا لتكون رفيقةً صالحةً له فيودُّ أن يتزوجها لهذا السبب.
ويُدبِّج ذلك الكتابَ يراعُ سياسيٍّ ماهر موهوب بروح ما عليه المرسَل إليه من التقوى، ولم يحدُث أن أكثر بسمارك من ذكرِ اسم الله في كتاب إكثارَه من ذلك الكتاب وفي الكتاب الآخر الذي أرسله إلى فون بوتْكامر، مستعملًا تعبيراتٍ إكليريكيَّةً غريبة عن أسلوبه العادي، وهو يعرف ضرورةَ الاعتراف بسابق خطيئاته وجحوده ليُعتقَد إيمانه الحاضر، وعلى صحة جميع ما صرَّح به وُفِّق في صَوغه توفيقًا جالبًا للنجاح؛ كالاتهام الذي كان قد صُوِّب إلى مدير الأسداد الأخير، وهو إذا ما تكلم فيه عن الربِّ فبتواضع، ومن قوله: «إن الله لم يستجبْ دعائي هنالك، وهو لم يتركني مع ذلك؛ وذلك لِما أجده من نشاط في دعوته، وإني إذا خلوتُ من راحة البال وجدتُ في نفسي من الثقة والإقدام ما لا عهدَ لي به منذ طويل زمن، وإني أعتقد أن الله مع الصالحين لسبب ما عرضتُه عليك دون غيرك بصراحة وصدق.»
وهو إذا حدَّث عن نفسه كان ذلك بإباء. ومن ذلك قوله: «إنني أعتذر عن مشاعري ونيَّاتي في أمر الآنسة ابنتكم؛ وذلك لأن الخُطوة التي أتخذُها تنطق بصوت أعلى من الكلام وأبلغ، وأعتذر عن العهود أيضًا، فلن أقطع لكم عهدًا لِما تعلمونه من تقلُّب قلب الإنسان ما لا أعلم، ويقوم ضماني لسعادة الآنسة ابنتكم على صلاتي نَيلًا لبركة الربِّ.»
ويأبى الأبُ العابد أن يهب ابنتَه لرجل «سمع عنه كبيرَ سوء وقليلَ خير»، ويأخذ بسمارك الجوابَ الطليق غير المرتبط في وعْد فيتخذ خطَّةَ الهجوم فيظهر في رينفيلد من فَوره فيجد «ميلًا إلى إطالة المفاوضات وعدم وقْفها عند حدٍّ. ومن يدري ماذا تكون وجهتُهم لو لم أقبِّل خطيبتي لدى نظرتها الأولى فيُدهش والداها، ولو لم أضع الأمور في نِصاب آخر فأمهِّد كلَّ شيء تمهيدًا موفَّقًا.» وهنا يتجلى بسمارك الحقيقي، وما كان من تنفيذ هذا القطب السياسي ما أعدَّه وفكَّر فيه زمنًا طويلًا تنفيذًا سريعًا جريئًا فقد ظلَّ لازمته العجيبة دومًا.
والآن يُلقي إلى أولئك الآل بما لديه من المودَّة، فيتغلب عليهم من فَوره، ويشرب خمرَ الشنبانية ورحيق الهوك الرينيِّ مع الشيخ الشريف، ويرقص مع خطيبته على حين يعزِف الهرفون بوتكامر على البيان، حتى إن الأمَّ نفسها على ما فيها من عُسر مِراسٍ وسموِّ ثقافة لم تُعتِّم أن «شمِلت ذلك المُلحدَ الملتحيَ بصميم فؤادها»، وهو الذي كان مُرسِلًا لحيته الشقراء في ذلك الحين.
وهل يحتاج إلى ما هو أصرحُ من ذلك؟ ومن خلال تفوُّهاته نرى ذوقَ العليم بالمرأة وصدى تجاربه للقلب النسويِّ وحقدَه القديم على أمِّه، وهو لو بلغ ضفَّة الأردن الأخرى لكان على الجسر السريع الانكسار، وهو يعبِّر عن جميع تاريخ «هدايته» بمعاهدة باسو؛ أي بالتسامح المتقابل بين المتحاربين الدينيين، وهو إذ تروقه بياتية النساء تجده مسرورًا لقول امرأتِه بهذا المذهب.
وترى وضعَه العام وضْعَ رجل دنيوي تِجاه خِطبته، ولا تجدُ غيرَ قليلِ حديثٍ عن الله فيما يكتبه إلى أخيه وأخته، وتجد طويلَ قولٍ عن فارسٍ شارد، وتُبصره ليِّنًا عن كبرياء، ويُهرول إلى المنزل بعد أن طاف كثيرًا، فيقول: «أظُنني عظيمَ السعادة أكثر مما كنت أرجو، وذلك بأن أتزوج مع اعتدال في القول بامرأة ذاتِ ذكاء عزيز ونُبل نادر وأُنسٍ متناهٍ ويُسرِ حياة؛ أي ذات صفات لم أرَها في أية امرأة قط … وغايةُ القول أنني راضٍ عن الأمر إلى الغاية، فأتمنَّى أن تجدوا فيه ما يسرُّكم أيضًا.» وإذا ما نُظِر إلى أمر المال كان ما تُحضر منه قليلًا، فلا بدَّ من نَيله بنفسه إذن، ومن قوله: «وأما التفصيلاتُ الأخرى، كحَيرة الأهالي التي لا حدَّ لها وتَبرُّم العجائز، فمما أقصُّه عليك فمي إلى فيك، وأما الآن فأطلب إليك وإلى أوسكار أن تكونَا ذوَي مشاعر كريمة نحو زوجتي القادمة، وتقرُب رينفيلد من حدود بولونية، ويسمع الإنسانُ عُواء الذئاب ونُباح الأهالي في كلِّ ليلة، وفي هذه الولاية وفي الولايات الستِّ المجاورة يسكُن ثمانمائة شخص في كلِّ فرسخ مُربَّع، والبولونية هي اللغة التي يتكلم بها القومُ هنا، والبلد جميلٌ جدًّا.» ولا يبعد عقاره غير بضع ساعات من هنالك.