الفصل الأول

«يساورني كبيرُ سأَمٍ هنا، لا يفتأ النمسويون يحوكون الدسائسَ تحت ستار من اللطف العنيف، وعلى العموم يبدو ممثلو الدول الصغيرة دُمًى دِبْلُميَّة ذوي شعور مستعارة، وهم ينتحلون منظرًا رسميًّا إذا ما سألوني عن نار لشَعْل سِيغار، وهم يُعنَون بنظراتهم ويختارون ألفاظهم إذا ما أرادوا مفتاح مستراحٍ. ولو كان وجودي هنا لأمر خاص بي لطهَّرْت حقلي من العُشْب البريِّ أو لعُدْت إلى داري من فَوري، وسأشعر بانحداري وخُسْري لحريتي بلا سبب ما لم يُحوَّل ذلك إلى ما هو أحسن منه بسرعة، ثم إنني لا أعرف كيف أتساوق مع سياستنا الألمانية ما دمتُ غيرَ ماسكٍ بالحبل الأصلي، وإذا عدوتُ مقام الملك ومنصب رئيس أركان الحرب ووظيفةَ وزير الخارجية لم أجدْ في ميدان الدِّبْلُمِية البروسية ما يُشبع الطموحَ والنشاط في رجلٍ رشيد.»

وهكذا يترجَّح بسمارك في أول عمله الدِّبْلُمِي بين الضجَر وعدم الصبر، وبين المهزأة والمنزلة، ولمَّا تمضِ بضعةُ أسابيعَ على تحقيق بسمارك لأمله القديم، وعلى مسكه بقسط من تلك السلطة التي أراد أن يقبض على زمامها بأسْرها لكي يُحرِّك ساكن بروسية، والآن تُبصره يُصرِّح بأنه لا يجد في عمله ما يستحق أن يُبذل في سبيله نشاطُ رجل راشد، والآن تُبصره يَعُدُّ زملاءه محلًّا للهزوء، والآن تُبصره يودُّ أن يضَع عنه القَيد الذي اختاره، وهو لو سُئل أن يتمهَّل إحدى عشرة سنةً أخرى، وهو لو سمع هاتفًا يقول له إنك لن تمسك الحبلَ الأصلي قبل سنة ١٨٦٢ «لاعتزلَ العمل في الحال ولفَرَّ مسرعًا إلى شُونهاوْزِن»، ومما لا مِراء فيه أنه كان راغبًا عن رئاسة أركان الحرب، وأنه كان يتطلع إلى المُلك، ولو تمَّ له ذلك لحُلَّت المعضلة الألمانية بغتةً، ولحُلَّ لغزُ بسمارك.

وبيان ذلك أنَّ الذي يُثير أعصابه هو ما كان عليه أن يتلقَّاه من الأوامر للمرة الأولى، وما كان من شعوره بوجود مولًى فوقه، وما كان من بصره إطاعة هذا المولى لمَن يعلوه، وإلى زوجه حنَّة يكتب قولَه يوم وصوله إلى فرانكفورت: «يجب عليَّ أن أتعود تحوُّلي إلى عامل جافٍ منتظمِ الساعات مخصِّصٍ أوقاتًا لسَير الأمور وتقدُّم العمر، وقد فات زمنُ الرقص واللعب عندي، فكأن الله وضعني في مكان أُصبح فيه رجلَ جِدٍّ.» وهو بهذا الوقار يخاطب زوجته، وهي في الحقيقة لا تودُّ مثلَه أن تعتقد أنه لم يكن رجلًا جدِّيًّا حتى ذلك الحين، وأنه سيغدو رجلًا جافيًا، وهو في الحقيقة يظلُّ رجلَ عواطفَ قويةٍ كما كان في كلِّ وقت، ويُسرع هذا المتبرِّم في ازدراء ما وُفِّق لنَيله، ويدَع غيرُ القانع هذا ما أنقذه فاوست بعد جهد طويل، يتفتَّت بين يدَي مِيفيسْتوفِل.

وفي كتاب إلى غِرْلاخ يقول: «إن تعييني في هذه السنة لأتخرَّج في أتفه المفوَّضيَّات بألمانية أمرٌ يفوق ما كنت أنتظر.» وفي الواقع أن كلَّ شيء كان يلوح له أفضل من هُزال ثَرثرة النواب الذين ما انفكَّ يَهزأُ بهم منذ ثلاث سنين، بيدَ أن الدِّبْلُميِّين الذين أخذ يختلط بهم لأول مرة في حياته لم يُعتِّموا أن بدَوا له «أدعى إلى السخرية من نواب المجلس الأدنى في الأهمية. والآن أعرف جيدًا مقدارَ ما نصنعه في سنة أو سنتين أو خمس سنين، فأستطيع أن أُنجزَه في أربع وعشرين ساعة إذا ما ملَك الآخرون حواسَّهم وسلكوا سبيلَ الرشاد ليوم واحد.» ولكنه لم يكَدْ يعود إلى المحيط البرليني الذي كان قد مدحه، والذي ما انفكَّ يستهويه في سنوات فرانكفورت، حتى بدأ يصبُّ جامَ١ غضبه على «لَجاجات المجلس غيرِ المجدية، وجميعِ الحماقات التي تُثير السُّخط. والحق أنني أميل إلى مناقشات مجلس الجامعة التي تقوم على المجاملة مع أنها مُمِلَّة.»
ذلك هو القريض الذي يخفِقُ له قلبُ بسمارك؛ وذلك لأن بسمارك بمزاجه السَّعِر٢ يزدري — قبل كلِّ شيء — كلَّ ما ينال، لا لأن بسمارك يعرف فقط أن يَحُلَّ ببصره الحديد وعقلِه الجبَّار معظمَ المسائل بأسرع مما يستطيعه أحد المجالس، وبسمارك يضيع إذا لم يُقارع، ولو صار بسمارك سيدَ العالم لاعتراه السأم.

ويرتعش بسمارك تجاه ما عرَفه من إمكان إهمال الملِك فردريك وِلْهلم لتعيينه سفيرًا بضغطٍ من النمسة، ويا لَسرور أعدائه! وفي ذلك يكتب إلى غِرْلاخ قولَه: «إنني لست طموحًا بالمقدار الذي يظنُّه أخوكم، ولكن مشروع تعييني إذا ما عُدَّ تدبيرًا حزبيًّا كان إلغاؤُه دليلًا على عدم أهليتي لذلك المنصب. ولذا فإنني أتمسك بتعييني عن طموح.» وهكذا تُبصره يحمل على أحد الأخوَين غِرْلاخ على حين يُبلِّغ الأخَ الآخر بأنه لا يرغب في جعله سفيرًا، وهو يودُّ من ذلك أن يَقُصَّا كلاهما النبأَ على الملِك، بيدَ أنه واثقٌ بمستقبله في قرارة نفسه، وآية ذلك قولُه في كتاب إلى زوجه: «نستطيع أن نعيش هنا — مع ضيق — براتب ثلاثة آلاف تالير وقليل دخل، وإذا لم أُعيَّن حتى الصيف سفيرًا لدى البُندِشْتاغ طالبتُ بزيادة الراتب، وإلا اعتزلتُ العمل كلَّه.»

ويتغلب أصدقاء بسمارك على تردُّد الملك، ويصبح بسمارك الذي لم يكن ذا سابق خدمة في الدولة سفيرًا في السادسة والثلاثين من سِنِيه خلافًا لكلِّ عادة؛ وذلك لأنه كان فارس الملك نائبًا، ولأنه كان لرئيس فرسان الملك صديقًا.

والتأنيث هو أول شيء يصنعه لعدم خبرة زوجه في ذلك، ولأنها ليست معه، وهو — كما في شبابه وشَيبته — يَنشُد الراحة ويودُّ حيازته لبعض الأشياء، ويبلغ راتبُه — سفيرًا — واحدًا وعشرين ألف تالير، ولم يقَع أن تصرَّف بمثل هذا المقدار للإنفاق فيما مضى، وهو يوسِّع على نفسه لذلك، ولكن مع الاقتصاد، وهو يقول في كتاب إلى أخيه: «ومَن كان يظنُّ منذ عام، حتى منذ ستة أشهر، أنني أستأجر منزلًا بخمسة آلاف فلورين، وأنني أستأجر طاهيًا فرنسيًّا إعدادًا لعشاء في عيد ميلاد الملك. ويترجَّح ما أنفقتُه على تأنيث البيت بين عشرة آلاف تالير واثني عشر ألف تالير، ولما أفرُغ من ذلك، ويتألف الأثاث — على الخصوص — من الأواني الفضية والبرونزية والزجاجية والصِّينية، ولم يكن ثمن البُسُط والرياش عاليًا مثل ذلك، وهنا لا يأكل أحدٌ طبقَين بشوكة واحدة فيجب أن تحتويَ الوليمة لثلاثين شخصًا مائة طقم من السكاكين والشوكات والملاعق على الأقل. والآن أجدُني مكلَّفًا بإقامة حفلة راقصة لثلاثمائة شخص. والاستغلال من دأب العُمَّال والتجار هنا، والنفقات العقيمة عظيمةٌ هنا، دع عنك الخدَم الاثنَي عشر الذين يتألف نصفُهم من الذكور ونصفُهم الآخر من الإناث، وأُفضِّل على ذلك إمرَتي على ثلاثين خادمًا في الريف.»

ولم يحدث في مجتمع الطمَّاعين ذلك أن بدأ أحدٌ مثلَ مهنته بمثل طبيعته، ولكننا عندما نسمع بسمارك — بعد رحلات يتوجَّه إلى البلاط، وبعد زيارات يقوم بها لدى البلاط — يجادل في عدد السكاكين والملاعق، أو عندما يقول إن حوذيَّه الشائبَ في حُلَّته الجديدة يبدو كأحد الكونتات؛ نُبصر أنه نشأ متوسط الحال مع أخيه، وأن «رجل العالم العظيم» — كما تدعوه فتيات بُومِيرانيَة — ليس سوى شريف قليلِ اليُسر دُعيَ إلى تمثيل الدولة بغتةً، وما كان من تلك الأوصاف الفلاحيَّة؛ أي من اقتصاده الذي هو وجهٌ جديدٌ لسابق إسرافه، ومن رغبته في زيادة تراثه، ومن دفعه الضرائبَ عن أملاكه، ومن حيازته جديدَ الأملاك وجمعِه الغابَ والقُرَى في سبيل حفدته، فأمورٌ لازمتْه حتى آخر عمره، وهذه الأمور، وإن كانت سببًا لغضبه في بعض الأحيان، ما انفكَّت تكون مصدر قوة له على العموم؛ وذلك لِما كانت توجبه من حكمته في اقتصاد الدولة كما في تدبير شئونه الخاصة، وقد نَمَتْ تلك الأمور في ربِّ الأسرة الذي أضحى ربَّ الشعب.

والزهو الطبقيُّ أمرٌ بارزٌ لدى ذلك الشريف الذي شقَّ طريقَه فجأةً إلى المجتمع الراقي، والزهو الطبقيُّ في ذلك الشريف أعظمُ مما في الكونت تون الذي كان شعورُه بمنزلته يأذن له في دعوة أثرياء التجار بفرانكفورت إلى العَشاء، ويجيء في تقرير رفعَه بسمارك إلى رئيسه وزيرِ الخارجية مانْتُوفِل: «إن من موجبات سروري أن رقصتُ رقصةَ الكَدريل مع كثير من نساء ملتزمي الأثاث في منزلي، وما وجدتُه من أُنْس هؤلاء السيدات فيُنسيني ما يُسلِّمه إليَّ أزواجهن من القوائم العالية والسِّلَع الرديئة، وكانت تجاهي زوجةُ ماجدٍ بلغتْ من الرقَّة ما كانت تُتحفني معه بالسغاير، وبلغ زوجُ جارتي من اللطف ما جهَّز معه زوجتي، أول من أمس، بستائر النوافذ.» فهذه لهجة رجل لا يرى مَعدِلًا له عن نزاع الطبقات حتى في السياسة الداخلية.

وإذا عدَوتَ أخاه لم تجِد أحدًا يُدرك حقيقته في تلك الأمور، وأخوه ذلك لم يُدرك حقيقته في كلِّ أمرٍ مع ذلك، وأخوه ذلك كان «بسمارك في صورة مالكٍ شريف بالمارش»، ومع ما كان من انفصال أحدِ الأخوين عن الآخر في الأمور المالية وفقَ ما اتَّفقَا عليه سابقًا، ومع ما نراه من عدم الأدلة على أن بسمارك الدِّبْلُمِيَّ أعطى أخاه المالك الشريف أيةَ وكالةٍ مهمة في إدارة أملاكه؛ نُبصر بسمارك كان يُطلع أخاه ذلك على وضْعه الماليِّ الخاص، وهو يبثُّ شكواه إلى الحكومة المحلية، التي ينتسب إليها في الوقت الحاضر، حول العلاوات، وأعمال الأسداد الإضافية التي يُطالب بها سيدُ شُونهاوْزِن العتيد، «وإني، بعد أن قبضتُ ما بقيَ لي من الإجارة بشُونهاوْزِن، أجد لديَّ من الخطط ما أُطفئ به الديون، فأنا بخيل ككلِّ واحدة من أرباب رءوس الأموال.» وهو إذا ما دُعيَ مع زوجته إلى بيت أحد الدوكات في يوم من الأيام، وهو إذا ما دُعيَ معها في يوم آخر إلى بيت دوكٍ كبير، حَسَب فوجَد «أن مثل تلك الرحلات مع الحقائب والخدَم والحُلْوان وأجرةِ العربة يُكلِّف بدلًا أعلى مما يُكلِّفه تناول عشاء في منزلي»، ثم يَعُدُّ ما يقيمه من الولائم بسبب منصبه، «وما يتطلَّبه جميع ذلك من مال يُدفَع فيستلزم حذَرًا من قِبَلي أكثرَ مما تعوَّدْته نحو أعمالي النقدية فيما مضى، والآن نعيش مقتصدين؛ تأديةً لنفقات الشتاء الماضي، وستعود ميزانيتي إلى مجراها الطبيعي في اليوم الأول من يوليو»، ويُطالَب ذاتَ يوم بألف تالير كنفقاتٍ كانت الدولة تقوم بها، فبلغ من الغيظ ما غدا معه «أكثرَ تقتيرًا مما كان عليه سابقًا في الأمور الاجتماعية»، وما كان يُكثِر من الحديث في كثير من رسائله عن أُولَى ولائم العَشاء التي يُقيمها فقط، بل تجد مثل ذلك فيما كتبه حتى بعد ستِّ سنوات أيضًا، ومن ذلك «أن فضلاتِ المائدة تُؤلمني في كل مرة، فإذا ما ابتلعتُها وحدي أفسدتُ مَعِدتي، وإذا ما دعَوتُ شبابَ النِّهام وشِيبَهم إلى أكل تلك الفِضال شربتُ حتى سكرتُ معهم فلا يلائمني ذلك.»

ثم يجد بسمارك حياة الوظيفة مُمِلَّة؛ فقد جاء في كتاب إلى حماته: «من العادة أن أقضيَ وقتي من ساعة تناوُل الشاي صباحًا حتى الظهر في استقبال السفراء وسماعِ تقارير الموظفين، ثم أحضُر جلساتٍ تنتهي على غير انتظام بين الساعة الواحدة والساعة الرابعة، فإذا ما حلَّ ذلك كان لي من الوقت الكافي ما أركب فيه جوادًا وما أقوم فيه بكتابة الرسائل حتى الساعة الخامسة، ثم نتناول العشاء — عادة — مع واحدٍ أو اثنين من مُلحقِي السفارة، وتكون ساعة الهضم أفضلَ ساعات النهار على العموم، وإن كنتُ أُضطرُّ إلى الذهاب، في الغالب، قبل أن أَزدَرد آخرَ لقمة، وأُدخِّن تَبغًا مستلقيًا على كرسيٍّ طويلٍ مستورٍ بجلدِ نمرٍ مع جلوس حنَّة والأولاد حولي، فأتصفح نحو عشرين جريدة، ونُخبر في الساعة التاسعة أو في منتصف الساعة العاشرة بانتظار العربة، فنلبَس ثيابنا على عجَل، ويساورنا سُوء مزاج وألف تأملٍ مُرٍّ حول غرابة ما يُحسُّ من «الملاذِّ» في مجتمعٍ أوروبيٍّ كالذي نذهب إليه، وهنالك تُثرثِرُ حنَّة مع الأمَّهات على حين أرقص مع البنات أو أَهذِر مع الآباء، ونعود إلى المنزل حوالَي منتصف الليل فأقرأُ مستلقيًا على السرير ما تيسَّر، ثم أنام إلى أن تُنبِّهَني حنَّة وتسألَني ثلاث مرات عن عزمي على النهوض.»

وفي المنزل تسليةٌ لا شكل لها، ولا نظامَ في المنزل، وتجيء الراحة في المنزل قبل الرسميات، ويزور الأمريكيُّ موتلي صديقَه القديم بسمارك في فرانكفورت، فيقول: «إن ذلك هو أحد البيوت التي يصنع فيها كلُّ واحدٍ ما يودُّ. وتقع الغُرَف الخاصة في الخَلف، وهي تُشرف على حديقة كبيرة، وهنالك يجتمع الشباب والشِّيب والآباء والأبناء والكلاب، وهنالك يأكلون ويشربون ويُدخِّنون، وهنالك يُعزَف على البِيان، وفي الحديقة تُطلَق العيارات النارية، ويقع ذلك كلُّه في وقت واحد، وفي ذلك المنزل يُقدَّم كلُّ ما يُؤكل ويُسقَى، وفي ذلك المنزل يتناول الإنسان ما طاب من ضروب الشراب كالبورتو والسُّودا والجِعَة والشَّنْبانية والبُورغون والبُورْدو. وفي ذلك المنزل يُدخِّن الجميعُ أجودَ سغاير الهافانا على الدوام.» وإذا ظلَّ بسمارك في مباذله ذات الصور كالأزهار حتى الضحى — حتى الظهر أحيانًا — ظهر طيِّب المزاج، وبسمارك إذا خرج من المنزل وجَب أن يكون كلُّ شيءٍ عنده على ما يرام، قال بسمارك: «أُفضِّل خمسةَ أقمِصة من أحسن نوعٍ على عشرة أقمصة منشَّاة، ولن يُشترَى قميصٌ لائق بتاليرين.»

وذلك الطراز من الحياة يُجدِّد شبابه إلى حدٍّ ما، وذلك كما يُستدلُّ عليه من الصورة الزيتية التي صوَّره بها صديقُه بِيكِّر، والآن يَفقد بحلْق ذقنه شيئًا من وقاره الذي لازمه قبل سفارته وبعدها، وحلقُ الذقن تضحيةٌ في سبيل الدِّبْلُمِيَّة، وقد قال لزوجه: إنه حلَق ذقنه ببرلين إجابةً إلى رغبةٍ أبدتْها، وهو لم يحلقه بالحقيقة إلا عملًا بنصيحة نيسِلْرود حين وجَب تقديمُه في برلين إلى القيصر الذي كان لا يحبُّ اللِّحَى، وكانت تلك الحياة الحضرية جديدةً عليه وكان يكرهها في الغالب، ويشتكي «من اطِّراد الأعشية والاستقبالات المُملَّة الموجبة لضياع الوقت، ويُسفِر ازدرادُ ما في الأطباق من أطعمة ناعمة عن بَيْدِ٣ الكبد، ويؤدي عدم الحركة في أيام إلى داء السَّكتة»، ويُشير الطبيب عليه بالنهوض من الفراش في الساعة الخامسة صباحًا وبِلفِّ بدنه بنسيج ثريٍّ،٤ فيُفضِّل عليه «ضَرْبًا من الموت أقربَ إلى الطبيعة، إذا كان لا بدَّ من الهلاك ذات يوم».

وله توازنُه بركوب الخيل وبالصيد، وهو يَغضَب في كل مرة تحمله أعمالُه على العدول عن رحلة صيد، «فالصيد أحسنُ وسيلة لقتل الوقت، والآجام أحبُّ شيء إليَّ لما لا يصل إليَّ فيها إنسانٌ ولا رسالة برقية، وما أكثر ما يساورني حنينٌ إلى حياة الريف. ويمرُّ العمر، وأودُّ الهدوء»؛ ولذا يطلب إلى أخيه أن يجد له سَرْج فرَس، «لثقلي ومنظري، ولستُ أبالي برشاقة الدابة ما دمتُ محتاجًا إلى تمرين عنيف.»

والفرق بعد عشر سنين واضحٌ في ذلك الكتاب الذي يطلب فيه فرسًا، فلم تكن الخيل والنساء لديه ذواتِ نَزَقٍ كافٍ في الماضي، والآن لا يريد ترويض أحد، والآن يريد الهَمْز٥ فقط، وهو لا يثور فيَهدِر٦ أحيانًا إلا عند قضائه ليلةً عاصفة على ظهْر مركب في دانيماركة، أو عند سماعه في هنغارية أن اللصوص دهَموا أصحابه في غابة فأطلقوا النار عليهم، أو عندما يكون في الخارج فيقول: «لا يُبتلى المرء في فرانكفورت المملَّة بمثل ذلك.»

والحقُّ أن منصبه الجديد يُقدِّمه في السنِّ بسرعة، ويظلُّ بسمارك سفيرًا من السنة السابعة والثلاثين إلى السنة الثامنة والأربعين من عمره، ولكن مع نقْص عميق في قُواه الحيويَّة، وليس ذلك لِما اتَّفق له من راحة بال، بل لزيادة سرعة انفعاله، وبصرِه انقضاءَ الزمن، وعجزِه عن تغيير شيء في بروسية مع استيائه في عشر سنين مما يحدُث فيها، ونفادِ نشاطه في كتابةِ سلسلةٍ من التقارير والرسائل، وقد كتب بعد عامين يقول: «ما كنتُ أظنُّ أنني أتعوَّد العمل بهذا المقدار من الانتظام هنا. وأُعجَب بنفسي كلَّ يومٍ حين أرى درجة كفاحي لكسلي الطبيعيِّ ومَقْتي الغريزيِّ للمِداد.» وإذا تمثَّلنا ما كان عليه بسمارك بدَا لنا أنه كان مروَّضًا حينما اتَّهم نفسَه برعونة الصِّبا لعطلِه من الصُّحف في سياحة أسبوعين، ويتحسَّر بعد ثلاث سنين، فيقول في فرانكفورت: «وذلك لرُقادٍ في الأمور!»

ولا يخفى علينا أنه أشار بذلك إلى أمور السياسة العليا، لا إلى الأمور اليومية التي تركها لمرءوسيه، ويكتب رسائلَ إلى أُسرته في غضون اجتماعات البُندِشْتاغ وعند إلقاء الخُطب المُملَّة فيه، ويرى لزامًا عليه ذات يوم أن يَحمِل على وقْف شابٍّ متَّهم بأمر سياسي، ويذهب ليرى هذا الفتى باكرًا، ويصل إليه بعد صعود درجِ ثلاثِ طبقات في المنزل الذي يقيم به، ويقول له: «خيرٌ لك أن تَقصد بلدًا أجنبيًّا بما يمكنك من السرعة!» ويتردد الفتى، ويقول بسمارك: «يظهر أنك لا تعرفني، ويحتمل أنك محتاج إلى نقودٍ نفقةً للرحلة، فخُذْ هذا المبلغ وأسرعْ في مجاوزة الحدود؛ لكيلا يُقالَ إن الشرطة أبرَع من الدِّبلُمِيِّين.» وفي سان بطرسبرغ أيضًا يُعرَف أثيمٌ في السفارة، فيُعطيه ثيابًا أخرى، ويُهرِّبه من الباب الخلفي، ثم يَهزَأُ بالشرطة لأنها تركته يفرُّ، فمِن خلال ذلك الشذوذ النادر نُبصر ظهور مغامرات شبابه مرةً ثانيةً.

ويبدو عمل دماغه مُضاعَفًا حين إملائه الرسائل؛ فقد روَى أحدُ ملحَقيه أنه يَذرع الغرفة إذ ذاك ذهابًا وإيابًا لابسًا بِذْلتَه الخضراء فيلوح أنه يُفكِّر جهارًا في جُمَل تتدفق بفروغِ صبرٍ ويتخللها كثيرُ تفسير، وهو إذا ما لاءمه ذلك فاستطاع أن يُمسك أمينَ سرٍّ داوم على الإملاء من منتصف الليل إلى الصباح، وهو كرئيس منصِفٌ لطيف، فلا يحتمل أمناءَ السرِّ الذين «يُبدون من الاحترام الهائل ما لا يُرتاح إليه»، وهو يدعوهم إلى الصيد وتعاطي الشراب معه، وهو يُخشَى جانبُه في الأمور الظرفية، وهو إذا ما أُنجز له عملٌ بعناية لم يُبدِ رضًا، ويتَّحد اثنان من أمناء سرِّه في قولهما إنه يعامل أمناءَ سرِّه كتلاميذ مدرسة متمردين، وهو إذا لم يُنفَّذ له أمرٌ قال: «أراكم ستأسفون على ذلك؛ وذلك لأنني أعتقد أنكم تشاطرونني رأيي في أن الرجل الشريف يُنجز ما أوجبه على نفسه.» وما كان يُبدي من مثل هذه الملاحظات بصوتٍ ليِّن فيُثلِج سامعيه إلى فَقارهم، وقد تأتون عملًا خاطئًا من الناحية التاريخية، فيقول لكم حينئذٍ بأدب ذَرِب:٧ «يظهر أن صفحاتٍ فاتتكم من التاريخ العام لبيكِّر!»
١  الجام: الكأس.
٢  السَّعِر: المجنون.
٣  البَيْدُ: الهلاك.
٤  الثري: الندي.
٥  همز الفرس: نخسه بالمهماز ليعدو.
٦  هدَر الرعد: صوَّت.
٧  الذرب: القاطع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤