الفصل الثاني

كانت النمسة أكبرَ خصم، وما كان بسمارك محتاجًا إلى اختبار كبرياء آل هابسبرغ في فرانكفورت حتى يَكرَه النمسة وتَغدو هدفَ منازعاتِه، وإلى ذلك النفور الفطريِّ من ذلك البلد يُضاف ارتيابُه فيزيد عِداءَه الموروث، وما ارتيابُه من كلِّ دولة تودُّ أن تأخذ مكان بروسية إلا كارتيابه من رؤسائه الأربعة الذين تناوبوا المكانَ الذي كان يريده بوزارة الخارجية في سنوات الانتظار الاثنتَي عشرةَ بفرانكفورت، وإن كانت ألمانية بأَسْرها — ما عدا بروسية — تبدو له بلدًا أجنبيًّا فضلًا عن النمسة، وقد كان لدور الأمور في أولْمُوتز من جَرْح عِزَّته ما لم يكن لشروط المعاهدة نفسها، وهو لم يدافع عن هذه المعاهدة اجتنابًا للحرب، بل لتأجيلها إلى أن يحلَّ الوقت الذي تُمثِّل عواملُ طموحه دورَها في مجرى عمله.

وكان حقد ذلك الذي لا يَقدِر أن يشغل مكانَ الصدارة حادًّا منذ البداءة، وما كان أوتو بسمارك بصفته الشخصية ولا بصفته بروسيًّا ليُطيقَ بزهوه أن يجلس مع اثنَي عشر سفيرًا حول مائدةٍ برئاسة غيره، وما ذلك الرجل الجالس في المكان الأول هنالك إلا قنيصةً لذلك الصياد الموهوب، وما ذلك إلا الكونت تون الشبيهُ بشوارْزِنبِرغ غطرسةً ومَكرًا، وتون «إذ يقوم بمنصب الرئاسة لابسًا سُترتَه القصيرة المصنوعة من نسيج صيفي زاهٍ والمزرَّرة لإخفاء عدم الصُّدرة مع ربطةِ رقبةٍ وهمية يُلقي خُطبتَه بلهجة المحادثة»، فتُبصر في هذا الوصف الأول الذي أتى به بسمارك ازدراءَ هذا المستمع الحديث لذلك الرئيس، ولسنا بالذين نُصدِّق زعمه أنه يلاحظ ذلك الحادثَ بهدوء العالم الطبيعي. «ويقامر تون في النادي حتى الساعة الرابعة صباحًا، وهو يرقص من الساعة العاشرة إلى الساعة الخامسة بلا انقطاع، وهو في الوقت ذاته يشرب مقدارًا كبيرًا من رحيق الشنبانية المثلوج، وهو يتعشَّق نساء التجار الحِسان بقصد المباهاة والتأثير في الحضور أكثرَ مما بقَصد اللذة والسرور، وهو مزيج من الأريستوقراطية الفاترة ومَكْر الفلاح السُّلافي، والمراوغة مع الحذَر أبرزُ صفاته»، وعن البارون، مساعد تون، يقول بسمارك: «إنه شاعرٌ في الحين بعد الحين، هو رقيق العواطف، هو بكَّاء في دار التمثيل، هو ولد صالح لطيف، هو يشرب أكثرَ مما يُطيق.»

figure
بسمارك في سنة ١٨٤٧.
ولتلك التهكُّمات تأثيرٌ مدمِّر، ولكنها لا تكشف عما يستتر تحتها من كلمات ونظرات توجب السوء، ويزور بسمارك — أيام كان مستشارًا للسفارة — تون، ويقوم بتلك الزيارة مع موظف برليني آخر، ويعرف تون النمسويُّ أن تعيين بسمارك سفيرًا صار قريبَ الوقوع فلا يُشركه في الحديث عمدًا جُهدَ الاستطاعة، ويقول بسمارك لرفيقه «بصوت متهدِّج»:١ «ألم ترَ كيف عاملني تون؟» ويُسوَّى الأمر شخصيًّا بذلك، ومن موجبات العجب أن استقبل تون بسمارك سفيرًا في وقت آخر جالسًا مدخِّنًا سيغارًا لابسًا قُنًّا٢ لشدة الحرِّ ظاهرًا، ولم يُدخِّن بسمارك سيغارًا بنفسه إلا في زيارته الثانية موجبًا حيرة زملائه، وبسمارك أراد في اليوم التالي أن يعرف الناسُ خبرَ ذلك.
ويكتب بسمارك كتبًا خاصةً في جلسات البُندِشْتاغ، «ويصعُب وضْعي بما عُرِّضت له من نفَس جاري (x وy)، فأما الأول فيمكنك تصورُ رائحته التي هي خليطٌ مما ينبعث من أسنانه النَّخِرة القذرة ومن بعض ضلوعه عندما يفتح سُترتَه، وأما الآخر فتَنِمُّ رائحتُه قبل وجبات الطعام على اختلال هضمه نتيجةً لأعشيةٍ كثيرة وتمرينات رياضية حقيرة، فهذه هي رائحة الدِّبْلُمِيِّين ومريشالات البلاط الطبيعية.»

وليس فناء الأمور بفرانكفورت في المسائل الشخصية من ذنوب بسمارك فقط، وإنما ذلك أيضًا من مقتضيات جوِّ البُندِشْتاغ حيث الجميعُ متساوون في الظاهر عدا النمسة التي لها الصدارة بين نظائرها كما في تاريخ الأزمنة الحديث، وكيف لا يُنتظَر من ممثل النمسة ألَّا يهدِفَ إلى إهانة ممثِّل بروسية حول تلك المائدة، وعلى مشهدٍ من العالم، بعد أن ترَكت بروسية مكانَها منذ ثلاث سنين قاصدةً إيجادَ مائدةِ اتحادٍ أخرى لها بغير النمسة ثم عادت إلى مكانها نادمةً؟ والآن يمكن النمسةَ أن تركنَ إلى معظم الدول الأخرى، على حين يمكن بروسية أن تعتمد على أصوات أربع إمارات صغيرة واقعة في شمال ألمانية، ويرتاب جميعُ الدول الأخرى من بروسية؛ لاعتقادها أن بروسية تُريد أن تَحملَها على الخضوع لاتحادها وأنها تحمِل فكرة الثورة مستعينةً بألمانية السيئة الحظِّ، وذلك إلى أن النمسة القويةَ تجتذب إليها جميع أنصار العروش الشرعية، ومن ثَم جميع الأمراء تقريبًا.

وهكذا لا يَجد بسمارك في فرانكفورت أمرًا يأخذه على غِرَّة، بل أبصَر فيها ما يؤيِّد وِجهات نظره السابقة، حتى إن بسمارك يتكلم في شَيبته عن صداقة البلدين، بروسية والنمسة، فلا يراها أكثرَ من «حلم الشباب نتيجةً لحروب الإنقاذ وتأثيرِ المدارس» ويصِل بسمارك إلى فرانكفورت خصمًا للنمسة، ويظلُّ بسمارك مع ذلك دَهِشًا من شدة عِداء النمسة لبروسية، وفي فرانكفورت يعلم بسمارك للمرة الأولى خبرَ برقية الأمير شوارْزِنبِرْغ عن موضوع أُلْموتز القائلة «بإهانة بروسية أو العفو عنها بِسَراوة»٣ وكانت تلك البرقية المملوءة غطرسةً وانتفاخًا قد أُرسلت أيامَ دفاع بسمارك عن معاهدة أُولْموتز في اللَّنْدتاغ البروسي، ويا لَهَول ما يُصاب به عُجبُه عند اطِّلاعه على تلك الكلمات!

ولم يمضِ على وجود بسمارك في فرانكفورت ستةُ أسابيع حتى أعرب عما في نفسه بقوله: «سيظلُّ النمسويون أكثرَ اللاعبين خِداعًا كما هم الآن، ولا أعتقد أنهم ينتهون إلى حِلْف شريف معنا لشمول طموحهم ولخلوِّ سياستهم الداخلية والخارجية من العدل والإنصاف.»

ويحلُّ شهر نوفمبر فيُحاول بسمارك إنزالَ ضربته الأولى، فيقول: «يَسير الكونت تون على غِرار بوزا في الكلام فيأتي بتُرَّهاتٍ حول ألمانية الكبرى، وأُتمُّ بيانَه فأقول: إنه إذا ما نُظر إلى الأمور بعينه وُجد كيانُ بروسية والإصلاحُ الديني أمرَين مؤسفين. ألَا فليعلمْ أنه لا يوجد في أوروبة شيءٌ يقال له بروسية «مع العدول عن تراث فردريك الأكبر» كما يُصرِّح به، وإنني قبل أن أُشيرَ على بلادي بمثل هذه السياسة لا أرى غير السيف حكمًا.» فهذه قطعةٌ من محاورة بين حليفتَين صديقتَين ويُمزَّق اثنا عشر حجابًا ويَحارُ المرء من أن حرب بسمارك لم تُشهَر إلا بعد خمسَ عشرة سنة.

ويُنقل نبأُ ذلك الجفاء إلى فِينَّة بدقةٍ، ومن الطبيعي أن يزيد الحسدُ بين الدولتين، والجوُّ حتى في برلين لم يكن ملائمًا حينما قرأ غِرْلاخ على الملك بصوتٍ عالٍ طائفةً من رسائل بسمارك، فجاء فيها أن مصدر كلِّ بلاء هو ما كان من تسليم إلى النمسة، ومما ورَد فيها: «إن مَن يشاطرني فراشي يَسهُل عليه أن يضربني أو يَسُمَّني أو يَخنُقَني، ولا سيَّما عند اتِّصاف من يشاطرني فِراشي بالقسوة والنَّذالة.» وليس مما يساعد على تحسين الحال أن يُستدعَى الكونت تون وأن يُستبدلَ به ذلك الذي ظلَّ سفيرًا للنمسة في برلين حتى الآن.

كان الكونت بروكش أوستِن أكثرَ إمتاعًا من تون؛ لحسن اطِّلاعه على شئون الشرق الأدنى وسموِّ ثقافته وأصالة أوروبِّيَّته، ولكنه كان يعاسر زميلَه البروسيَّ بعلل أخرى، فإذا عدَوتَ زيارةَ بروكش أوستن لبسمارك كثيرًا ومكوثَه عنده طويلًا ولطفَه في ملاعبة الأولاد وإطالةَ الحديث معه في الاجتماعات؛ «وجدتَ صِلَتي به أوضَح من صِلَتي بأوتون؛ فأوتون يقول الصدق أحيانًا، وبروكش لا يقوله أبدًا»، وبسمارك يقول — مع ذلك — إنك تستطيع أن تقرأ حقائقَ الأمور على وجه بروكش، ومن دواعي الأسف أن ترْك بروكش — عن إهمال — وثائقَ ضدَّ بروسية في مكتب باعَه، وتلك الوثائق هي مسوَّدات مقالاتٍ ثوريَّة لتُنشَر في الصحف البروسية، فكانت تُعزى قبل ذلك إلى الديمقراطيين، ويشير بسمارك باتخاذ تدابيرَ هجوميةٍ ودفاعية على ذلك الغِرار. ومن الخطأ أن تُفضَح أساليب ذلك السفير في فِينَّة؛ لِما يُوجبه ذلك من تعذُّر بقائه في فرانكفورت؛ فالرأي إذن «أن يُجعَل غيرَ مطمئن إلى وَضْعه وأن يُسرَّ إلى حلفائنا بالأمر، حتى يتَّضحَ لهم شدَّةُ صبرنا» ومن الصواب أن يُنشَر شيءٌ من مقالات بروكش غيرِ الشرعية مع القول ضمنًا بأن رِيَبَ الحكومة نشأتْ للمرة الأولى عن اكتشاف تلك الوثائق عند أحد الناس.

وهكذا يُسيِّر بسمارك الأمرَ بدهاء، وبسمارك هو الذي يتَّهم خصومه بعدم الإخلاص على الدوام، بيدَ أن بروكش عالمٌ بالرجال، فإليك قولَه السافر عن بسمارك: «يُعلن فون بسمارك أن بروسية هي مركزُ العالم. هو ذو مَيل عظيم إلى تقويض دعائمِ الجامعة. لو نزل ملكٌ من السماء ما استقبله بغير سمةٍ بروسية. هو كمكيافيلِّي مكرًا ومَلْمسًا فلا يترفع عن أيَّة وسيلة تَصِل يدُه إليها، وعلينا أن نعترف بأنه ليس رجلًا يقول بأنصاف التدابير. وهو لذلك لا يألو جهدًا في القضاء على الجامعة. وهو يُسرف في استخدام الصحافة فيَعرف أن يُلقيَ الذنب على عاتق النمسة، وهو قد بلَغ من التأثُّر برسالة بروسية ما صرَّح لي به غيرَ مرة بضرورة توحيد ألمانية تحت سلطان بروسية، ولم يحدُث قبل الآن أن لاقَيتُ رجلًا مثلَه مُقيَّدًا بعقائده معتدًّا بنفسه معتمدًا على أعماله.»

وذلك الحكم مما كان بسمارك يوافق على صحته، وقد أيَّده الأعقاب، وما كان بسمارك ليتأخرَ عن شَهْر فَرْده عند أدنى إهانة تُوجَّه إلى وضْعه البروسي، ويحتدُّ الكونت ريشبِرغ الفينيُّ بعد إحدى الجلسات فيُعلِن أنه يطالب باعتذارٍ في غابة بوكِنْهايِم فيُجيب بسمارك عن ذلك هادئًا: «ولمَ نُزعَج بالذهاب إلى مكان بعيد كذلك المكان، فيوجد محلٌّ لتبادل العيارات النارية في الحديقة هنا حيث يجاور ضباطٌ من الألمان والنمسويِّين، وإنما أطلب أن تأذَن لي في تسجيل سبب النزاع؛ لأنني لا أريد أن يَعُدَّني مليكي سائفًا٤ صَلِفًا يُسيِّر الأمور الدِّبلُمِيَّة بقوة السلاح.» ويبدأ بسمارك بكتابة تقريره، ويُبصر رِيشْبِرغ سوءَ ما صنع، ويرجع عما رأى ويُسوِّي المسألة.

ويسافر بسمارك إلى فينَّة فتؤدي هذه الرحلة إلى زيادة البغضاء بينه وبين النمسويين، وبيان الأمر أن الاتحاد الجمركيَّ الألماني، وهو الخطوة الأولى نحو الوحدة الألمانية، كان أقوى رابطة بين بروسية ودولِ ألمانية الأخرى، وتَطمع النمسة أن تَثْلم ما لذلك الاتحاد الجمركيِّ من حدٍّ سياسيٍّ بأن تُعيدَ تنظيمه على أُسُس جديدة، فتوَدُّ أن تتدخل بين دُوَله وتُوَجِّه المسائلَ الجمركية توجيهًا سياسيًّا ويَعرض بسمارك عقْدَ معاهدة تجارية بدلًا من ذلك، ولا يتزحزح بسمارك عن موقفه قيدَ أنملة.

ويعود بسمارك إلى بلده من فينَّة تاركًا الأمورَ كما كانت، ويُعَدُّ ذلك أولَ فوز كبير له؛ لِما أدَّى إليه من بقاء الاتحاد الجمركيِّ بغير النمسة وعلى الرغم مما حاكته النمسة من الدسائس، والشخصُ الوحيد الذي راقه في فينَّة وفي أوفن (بودا) فرَضيَ عنه هو الإمبراطور الشابُّ الذي كان في الثانية والعشرين من عمره، وهو حينما قرأ لإمبراطور النمسة كتابًا من ملك بروسية لم يستحسن فيه أكثرَ من اعتراف هذا الملك بأن آله سكَنوا المارش قبل آل هوهنْزلِّرن، وفي ذلك الحين قال مُثنيًا على فرنسوا جوزيف: «إن لديه نارًا ووقارًا واعتدالًا وتأمُّلًا وصراحةً وصدقًا ولا سيَّما عندما يضحك.»

وبسمارك لِما له من الحُظوة لدى الملك تجد له منذ البداءة، وفي جميع تلك السنوات وضعًا خاصًّا تجاه رئيسه الذي يَضغَن عليه بحكم الطبيعة، وكان تعيين بسمارك قد أثار مقتَ رئيس الوزراء لتدبيره من قِبَل رهْط غِرْلاخ الذي كانت تَشينُ صداقةَ مانْتوفِل له مُزوزةٌ، ويتَّصف سلطان مانْتوفِل في السنوات الثماني التي كان يعمل بسمارك تابعًا لها في أثنائها بفرانكفورت بالقِصَر والفتور والمكر والطموح والترنُّح والديمقراطية، وما كان بسمارك — بالحقيقة، وفي الغالب — إلا أكبرَ تأثيرًا في تسيير الأمور من مانْتوفِل لنفوذه المزعج المستمر، وكان مانْتوفِل يَشعر بأن سفيرَه بسمارك سيَخلُفه، وكان يعلم أن بسمارك قادرٌ غير صابر، فلم يَسطِع أن يعاملَه رئيسًا، وإنما كان يكتفي أحيانًا بمقاومة نفوذه أمام الملك في الأمور الجزئية وبعنادٍ عجيب، ومن ذلك أن أبرَق بسمارك من فرانكفورت بضبط أمتعة قنصل مشتبه فيه فجعل مانْتوفِل من ذلك مشكلةَ وزارة بدعوته ذلك القنصلَ إلى العشاء في البلاط، ومن ذلك أن رفض مانْتوفِل إحالةَ شائب عاجز في سفارة فرانكفورت على المعاش لإيصاء بسمارك بذلك، ومن ذلك أن غِرْلاخ استدعى بسمارك إلى برلين، فوُخِز مانْتوفِل بذلك، فكتب إلى بسمارك يقول له ألا يَلبَث كثيرًا في برلين.

ويُحدِّثنا بسمارك من ناحيته بأنه كان أكثرَ «كسلًا مما كان عليه في العام الماضي؛ وذلك لأنني لا أجد في برلين صدًى لنشاطي ولا نتيجةً لنا هنالك.» وعلى ما كان من ملاطفة مانْتوفِل لبسمارك وتبادلِهما رسائلَ كثيرة ومع كَون مانْتوفِل أبًا في العماد لابن بسمارك، عَيَّن مانْتوفِل وكيلًا سرِّيًّا دَرِبًا بسرقة البرقيات ليقبِضَ على المحفظة التي تسافر فيها رسائلُ الملك وغِرْلاخ وبسمارك ذهابًا وإيابًا، ويمضي بضعُ سنوات فيسأل الملكُ سفيرَه بسمارك، بواسطة رئيس الوزراء مانْتوفِل، عن رغبته في أن يغدوَ وزيرًا للمالية، فيأخذ مانْتوفِل على نفسه أن يُجيبَ الملكَ بقوله: «إن بسمارك يسخر مني!»

ومصدر تلك المكايد، وزعيمُ الحكومة الخفيُّ، هو رئيس أركان الحرب وصديقُ الملك لِيُوبُولْد فون غِرْلاخ، فهذا القائد الحربيُّ هو الذي أوجب تعيينَ بسمارك ليقوِّيَ حزبَه ضدَّ مانْتوفِل، وإذا استثنيتَ بسمارك الذي وَدَّ غِرْلاخ أن يُدرِّبَه وصولًا إلى مقاصده؛ وجدْتَ غِرْلاخ هذا كان يزدري جميعَ مَن يتصل بهم فكان يقول عن مانْتوفِل إنه وزيرٌ بلا مبدأٍ فلا يُركَن إليه، وكان يقول عن الملك: «إنه سيدٌ ذو شذوذ فلا يُعتمَد عليه كثيرًا»، وهذا يعني بصريح العبارة أن الملك مجنونٌ، وكان غِرْلاخ محنَّكًا تقيًّا معلِّمًا في فنِّ الكَيد، وكان أسنَّ من بسمارك بخمس وعشرين سنة فيَعُدُّ بسمارك من اكتشافاته، ويَعُدُّ بسمارك ولدًا له بالتبنِّي، وهو ما كاد يُبصِر أن هذا الولد المتبنَّى، الذي هو دونه سنًّا ومنصبًا بمراحلَ، لم يَلبَث أن فاقَه، وفاقَ الملك ومانْتوفِل أيضًا في حَوكِ الدسائس، ولم يُدارِ بسمارك إنسانًا باحترازٍ كبير مثلَ مداراته لصديق الملك ذلك ما دام الملك جالسًا على العرش، ولكن وِلْهلم لم يكَد يصير وصيًّا على العرش حتى فتَرتِ الصِّلاتُ بين بسمارك وغِرْلاخ؛ لأن وِلْهلم كان لا يُطيق غِرْلاخ.

ولم يكتب بسمارك إلى شخصٍ من الكتب الكثيرة الجديرة بالذكر كالتي كتبها إلى ذلك؛ فهي لا تُقدَّر بثمن لدلالتها على آرائه السياسية كدلالة كُتُبِه إلى زوجه على مشاعره المنزلية، وهي تتلألأ بالأفكار الحيَّة والتهكُّمات الزاهية، وهي تَسْطَع بعبارات العِداء النارية، وبالخِطط الماكرة الهادرة٥ التي تَهدِف إلى بلوغ السلطان، وكان كثيرٌ من تلك الكتب يبلغ اثنتَي عشرة صفحةً مطبوعة، وكانت تُقرَأ على الملك في الغالب، وكانت لهذا السبب وسيلةَ نفوذ لبسمارك لدى الملك أبلغَ من الكلام ما دامتْ نتيجةَ تفكيرِ أستاذٍ وقلمِ مُعلِّمٍ، وكان بسمارك يخاطب غِرْلاخ فيها ﺑ «صاحب السعادة وصديقِكم الوفيِّ وخادمِكم المخلص»، ثم عدَل عن ذلك إلى «لي الشرف بأن أكون صديقَكم»، ثم عدَل عن هذه إلى «صديقكم المخلص». وفي تلك الكتب تُعرَض الدول كقرًى، والأشخاص كأناسٍ ذوي صفات على غِرار شكسبير، ويَطفَح بعضُ تلك الكتب حُبورًا، ومن تلك الكتب ما تُبصره مملوءًا هَذْرًا داعرًا٦ ونوادرَ عن القصر، وهذا كلُّه للترفيه عن المرسَل إليه المستتر (الملك) فضلًا عن غِرْلاخ المرسَل إليه المباشر.

وترى مع ذلك أن الأب بالتبنِّي كان يعمَل على ألَّا يَركَب ابنُه بالتبنِّي ظهرَه، فصرَف الملك عن نَصْب بسمارك وزيرًا في سنة ١٨٥٤ معترضًا دون اكتسابه نفوذًا عظيمًا في حزبهما المحافظ، وفي أمور أخرى ينتحل غِرْلاخ وضْعَ كهنوتي على أفكهِ وجه، ويودُّ بسمارك «أن يستخدم طالحًا لاقتضاء المصلحة ذلك»، ويرى غِرْلاخ «أن يُذكِّرَه بتحذير الرسول من الأشرار حتى يأتيَ الخير؛ وذلك لأن دَينونتَهم أمرٌ لا مفرَّ منه»، وبسمارك هو الذي يقهَر كبرياءَه دومًا في أوقات التوتُّر تلك؛ وذلك لكيلا يخسرَ ذلك الوسيطَ الذي لا يُعوَّض؛ وذلك لأن بسمارك يُجيب المقاتل القديم غِرْلاخ بلهجة من التقوى تَنفُذ الفؤاد.

«أحاول كلَّ يومٍ أن أنال ثقتك بالدعاء والإذعان للمولى الذي جعلني في هذا المنصب.» «أراني مجذورًا٧ تمامًا إذا لم أتَّصلْ بك، ولا أستطيع أن أخدِمَ المليك مسرورًا ما لم أشعر بصلتي القلبية الوثيقة بك أنت الذي لم أكُن رفيقَه في النضال إلا في الأيام السُّود. أنت الذي لم يكن ليَفصلَني عنه أيُّ اختلاف في المبادئ والخطط.» «يمكنك أن تشُكَّ في كون النجوم من نار … إلخ، كما في رواية هَملِت، ولكن لا تشكَّ في محبَّتي!» «لا تدَعْ أمرًا يُضَعضِع ثقتك بي؛ فأنا صبورٌ على كلِّ محنة في سبيلك وسبيل الملك.» ويا لَهُزوء بسمارك بمُرسلي مثل تلك الرسائل عند أخذه ما يَعدِلُها بعد حين!
أجلْ، إن على بسمارك أن يُنشئَ الجسر المؤدي إلى السلطة، وإن على مَن يريد بلوغَ السلطة، حتى عند عدم طموحه، أن ينالَ تأييد الملك المطلق متذرِّعًا بجميع الذرائع الممكنة، وقد أُولعَ هذا المليكُ ببسمارك منذ سنين في الحقيقة، وكان بسمارك يتملَّق الملك بقوله: إنه «اكتشفه»، «وكان المليك يرى فيَّ البيضةَ التي أَلقى بها فيَرخُم٨ عليها.» وكان بسمارك الشابُّ نافعًا للملك مع ذلك، لعدِّه غولًا يُخوِّف به وزراءَه، أو ليَحمِل مانْتوفِل على الطاعة — كما يقول — ويزيد الملك حماقةً فيغدو خَدْعُه لوزرائه من دَأْبه، وتُعِدُّ له بطانتُه رسائلَ مستعجلةً مهمَّة من غير استشارة مانْتوفِل، فيُرسل مشروعها إلى بسمارك بفرانكفورت، ويتَّصل بسمارك بمانْتوفِل ليُكلِّمه في الأمر، ويدعو مانْتوفِل إليه رجلًا من الجالية الفرنسية، وينتظر عدة أيام إلى أن يجد له هذا الفرنسيُّ أحسنَ تعبير فرنسيِّ «يكون وسطًا بين المُغبِس٩ والمُلتبِس والمُريب والمرعب»، ويطلب الملك من بسمارك في أيامٍ أُخَر مذكراتٍ ينقُض بها مذكرات وزارة الخارجية، وبسمارك على ما يتمتع به من حُظوة يشكو الآن من نزَوات الملك الباطلة، ويُحدِّث عن «تقلُّب آرائه واختلاط أعماله وتأثُّرِه بالأصابع الخفيَّة».

ويُدعى بسمارك في السنوات الأولى من وجوده بفرانكفورت من قِبَل الملك أو من قِبَل غِرْلاخ عند كلِّ مناسبة، فيقطع في عام واحد ألفَي فرسخ بين فرانكفورت وبرلين، ويقع ذلك في الغالب وقتما يمتنع مانْتوفِل عن إجابة الملك إلى ما يرغب فيه، وإذا حدَث أحيانًا أن أخَّر بسمارك سفره إلى برلين بسبب عمل خاص بمنصبه فلم يَنتهِ إليها على عجَل فإن الملك فردريك وِلْهلم لا يستقبله حين وصوله كما أنه لا يأذن له في العودة إلى محلِّ عمله، «وذلك ضربٌ من أصول التربية كما في المدارس حيث يُقصَى التلميذ عن صفِّه ثم يُسمَح له بالرجوع إليه، فكنتُ أبدو معتقلًا في قصر شارلوتِنبِرْغ من بعض الوجوه فيُلطَّف اعتقالي بما يُقدَّم إليَّ من الغداء بظَرف.» ويريد الملك تعيينَ بسمارك سفيرًا في فِينَّة، فيُجيب بسمارك بأن ذلك يعني تسليمه إلى خصمه فلا بدَّ من إصدار أمرٍ صريح في ذلك، فيقول الملك: «لا آمُرُك، وإنما يجب عليك أن تذهب إلى هنالك مختارًا ثم أن ترجوَ مني الرعاية. وعليك أن تشكر لي عنايتي بتربيتك، لاستحقاقِك مثلَ هذا الجهد.»

وتلك هي علاقةُ الملك بمحبوبه المُكلَّف بالصبر على تقلُّبات مزاجه كما يصبر على تقلُّبات الجو، ويدعو الملك بسمارك ذات يوم إلى رُوجِن ليكتبَ مذكِّرة مخالفة للتي كان مانْتوفِل قد سلَّمها إليه، ويُرسل الملك هذه المذكِّرة ويُثني عليها لبسمارك ويُمسِكه وإن كان بسمارك يريد منذ طويل زمن أن يذهب إلى زوجه المريضة، ثم يسافر بسمارك بلا إذْن فيُجازيه الملك على ذلك بوَقفه المذكِّرةَ برقيًّا وباستردادها وتحريفها، فبمثل هذا كانت تُساس المملكة البروسية.

وما كان بسمارك ليُفرِطَ في تقدير قيمة ذلك، وهو يعلم كيف تزول الحُظوة لدى الأمراء، ويَمضي عامٌ فيقول بسمارك في منزله: «والآن — حين وصولي — تُشرق الشمس؛ فالبلاطُ يلاطفني، والأكابرُ يُدارونني، والأصاغر يريدون شيئًا مني أو يودُّون نَيل شيء بواسطتي، وليس عسيرًا عليَّ أن أذكر أن هذا المجد الذهبيَّ مما يزول بين عشيةٍ وضُحاها، فأرى في مهرجان يُقام في البلاط من الظهور الجامدة حولي بمقدار ما أُبصر الآن من الوجوه الناضرة.»

ولا ريب — إذن — في أنه لم يُدهَش بعد خمس سنين حينما كتب إلى غِرْلاخ قولَه: «أرى تغيُّرَ كلِّ شيء، فإما أن أكون عند الملك رجلًا عاديًّا كبقية الناس، أو أن يكون الملك قد بلَغه قولٌ سيئٌ عني، وقد يكون هذا هو الصحيحَ. والخلاصةُ هي أنَّ صاحب الجلالة أقلُّ مَيلًا إلى رؤيتي مما في الماضي، وأن نساء الشرف لديه يَبتسِمْن لي بأفترَ مما في الماضي، وأن الرجال يُصافحونني بأبردَ مما في الماضي.» ثم يُغيِّر لهجته فيقول: «ولكنني يا صديقي الجليل أعتقد أنك منزَّهٌ عن مثل سفاسف رجال القصر تلك، وإذا كانت ثقتُك بي قد قلَّت فإنني أطلب إليك أن تُبديَ لي سببًا لذلك غيرَ تقلُّبِ عطف البلاط.»

وهكذا يخفِض بسمارك بلطف لهجةَ رثاءِ عزيزٍ خسر حُظوتَه فيرفع ذلك إلى مسمع نديم تقي، وهكذا يستطيع أن ينتقل برقَّةٍ من عَذلٍ معتدلٍ إلى عقلٍ حكيم.

١  تهدج الصوت: تقطع في ارتعاش.
٢  القنُّ: كمُّ القميص.
٣  السراوة: المروءة والسخاء.
٤  السائف: الضارب بالسيف.
٥  هدر الرعد: صوَّت.
٦  الداعر: الخبيث.
٧  جذره: استأصله.
٨  رخم عليه: احتضنه.
٩  المغبس: المظلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤