الفصل الثالث
كان القيصر نِقُولا أقوى رجل في أوروبة، ويظلُّ كلُّ شيءٍ هادئًا في إمبراطوريته وحدها، ويبقى الاسترقاقُ هنالك أمرًا غير ظاهر، فلما اشتعلت الثورة في هُنغارية استطاع القيصر أن يُرسل إلى الشاب فرنسوا جوزيف فيلقًا، فأبلَى هذا الفيلقُ في القتال بلاءً حسنًا، وصار القيصرُ بعد هذا ينظر إلى فرنسوا جوزيف نظرَ المتبوع إلى التابع، ويحلُّ الوقت الذي فيه يطالب القيصرُ بالآستانة وبتقسيم تركية التي دعاها بالرجل المريض للمرة الأولى.
بيدَ أن نابليون الثالث لم يُرد أن يترك له مفاتيحَ القبر المقدس، وكان يودُّ أن ينتقم لما أُصيب به عمُّه من الهزائم بين سنة ١٨١٢ وسنة ١٨١٤، وأن ينتقم لما كان من مخاطبة القيصر المتكبر إياه في رسائله، ﺑ «ابن عمِّي» بدلًا من «أخي»، فعلى مثل هذه التُّرَّهات كان يتوقَّف مصير أوروبة في ذلك الحين. وفي أوائل سنة ١٨٥٤ توشك الحرب أن تقع بين روسية وحِلفٍ مؤلَّف من فرنسة وإنكلترة وتركية، وكانت النمسة تخشى توسُّعَ روسية في البلقان فقررت الانضمام إلى الحِلف الغربي، ويُبحث في الأمر ببروسية.
ويقول جميعُ أحرار بروسية بالانحياز إلى الحِلف الغربي ضد روسية، ويقول كثيرٌ ممن هم حول الملك بالحرب، ويبدو الأمير وِلْهلم على رأس هؤلاء، وكان مانْتوفِل قد وافق على فكرة إرسال إنذار إلى سان بطرسبرغ، والمحافظون وحدهم ويقودهم غِرْلاخ هم الذين قاوموا الرأي في مهاجمة حصن الرجعية الروسي الحصين متذرِّعين بأن روسية كانت حليفةَ بروسية في سنة ١٨١٣، وتبلغ الأزمة حدَّها فيستدعي غِرْلاخ تلميذَه «بسمارك» إلى برلين، ويدعوه وِلْهلم إليه من فَوره، لا لأنه يحبُّه، بل لِما يعرفه من نفوذه الكبير لدى أخيه المتردد، وهذا إلى ما بينه وبين بسمارك من حُسن صِلات، وإلى ما كان من وقوفه بجانب مانْتوفِل أبًا في المعمودية لابن بسمارك الثاني وِلْهلم الذي عُرِف باسم بيل فيما بعد.
ويُخيَّل إلى بسمارك أنه يسمع بذلك صوتَ أُوغُوستا التي يعلَم أنها ذاتُ عواطف مضادَّة لروسية معاكسة لأمِّها الروسية وشعورًا بمحاكاتها له في نفوره من والدته، ثم إن أُوغُوستا تبدو له «امرأةً تُعنَى بما هو أجنبيٌّ أكثر من عنايتها بما يقع تحت نظرها عادةً»، وكان قد أُنشئَ في كوبلِنز — حيث يعيش وِلْهلم وأغوستا — بلاطٌ منافس لبلاط سانْسُوسي.
وتلك هي المرة الثانية التي يتقابل فيها وِلْهلم وبسمارك كخصمَين، فمنذ أربع سنين أراد وِلْهلم شَهْرَ الحرب على النمسة فأراد بسمارك الذهاب إلى أولْموتز، فعدَّ وِلْهلهم تعيينَ خصمه بسمارك سفيرًا في فرانكفورت حينئذٍ علامةَ خضوعٍ للنمسة، واليوم يخشَى هذا الأمير خِزْيًا أمام روسية، وكيف لا يظهر بسمارك له جبانًا؟ ومهما يكن الأمر فإنه يكتب إلى مانْتوفِل قولَه مغاضِبًا: «إن نشاط هذا الرجل السياسيِّ هو كنشاط تلميذ في إحدى الكليات.»
والحقُّ أن تلك هي المرة الأولى التي يَعمل فيها بسمارك على مقياس واسع في الحقل السياسي، وهو يُصبح من أقطاب السياسة بأوروبة في أثناء حرب القرم، ومما كان يرى أن ما تصنعُه بروسية يُحَوَّل إلى ما فيه منفعةُ النمسة في نهاية الأمر؛ فلذلك لم يُرِد «أن يَقرنَ بارِجتَنا الأنيقةَ الصالحة للملاحة بمدرعة النمسة النَّخِرة. ومن شأن الأزمات الكبرى إعدادُ العاصفة التي تنمو بروسية بها، والتي يمكننا في أثنائها أن نحوِّل الأمور إلى ما فيه نفعُنا غيرَ خائفين وغيرَ ناظرين إلى أيِّ داعٍ آخرَ على ما يحتمل. وكيفما كان الحال أرى أن الأمور كلما استفحلت زادتْ قيمةُ عَونِنا.» وعلى فِينَّة أن تعترف بسلطان بروسية على ألمانية في مقابل شدِّ بروسية لأزْرِها! ولم يَعرف الملكُ الضعيف ماذا يفعل في ذلك الحين، واليوم يَعقِد حِلفًا دفاعيًّا هجوميًّا مع النمسة، وفي الغد يترك أنصار هذه السياسة ويُبصر انصرافَ أخيه ساخطًا للمرة الثانية، وهو يعرف قولَ أهل برلين عنه: «إنه ينام مع فرنسة وإنكلترة في سانسوسي على فراشٍ واحد ليلًا ليصحوَ مع روسية صباحًا.»
وبسمارك في العام القادم ينفصل عن البلاط وعن الملك انفصالًا أوسعَ من ذلك، ويَقصِد باريسَ بلا إذن، ويعود من باريس ولا يرى ما يمنع من السير مع نابليون الثالث عند ملاءمة الأحوال، ويُثير هذا الرأي ذُعرًا في سانسوسي، ويكتب غِرْلَاخ كُتُبَ تقْوَى ضدَّ «الاقتران بالشيطان»، ويُبدي الملك جفاءً، ويوجب ذهابٌ آخرُ إلى باريس تأييدًا لبسمارك في سياسته.
والخطأُ أساسيٌّ، فبسمارك يكون صريحًا عندما يُريد الإرهاب أو الخداع، لا عند ثقة خصمه به، وقد أراد بسمارك بجوابه أن ينال ثقة نابليون، فوُفِّق لِما أراد، وبسمارك قد حذَف التفصيلَ من تقريره كما وعَد، وبسمارك قد قصَّ كلَّ شيء على غِرْلاخ وعلى الملك عند عودته إلى بلده مع ذلك، وبسمارك، مع وصْفه نفسَه بأنه البروسيُّ الوحيد القادر على كتمان ذلك الاقتراح؛ كان القادرَ وحده على نصيحة الملك بأن يدعوَ نابليون الثالث إلى برلين على حين كانت كرُوزْزَايْتُنغ تسبُّ نابليون ذلك بلا انقطاع، وبسمارك الواقعيُّ الأكبر يُعارض في إبَّان تقدُّمِه روائيِّي بُوتِسْدام للمرة الأولى، وبسمارك العاطل من المبادئ يقاوم أنصارَ العرش الشرعي للمرة الأولى، وبسمارك يتحلَّل للمرة الأولى من حزبه الذي لم يُقسم له يمينَ الولاء قط، والآن وبعد أن تبادل هو وغِرْلاخ رسائلَ كثيرةً، يتخلَّى عن رئيسه هذا لأسباب نفعية وبلا تورُّع، والآن يُضحِّي بمبدأ العرش الشرعي الأساسي الذي كان يُفترض وفاؤُه له؛ فالحقُّ أنَّ هذا الرجل الحزبيَّ غدَا رجلَ دولةٍ راغبًا في ترْك أحكامه الخاصة العقيمة.
«والرجل «نابليون» لم يملأْ عيني قط، ولديَّ قليلُ استعداد للإعجاب بالرجال، وربما كان هذا نقصًا في باصرتي التي أرى بها المساوئَ قبل المحاسن. وإذا ما أشرْتُم إلى المبدأ الذي يُطبَّق على فرنسة وعلى شرعيَّتها وجدتموني موافقًا على رَبط هذا المبدأ بمذهبي البروسي في الوطنية، ولتعلموا أن اكتراثي لفرنسة هو بما يكون له من الأثَر في وضْع بلادي، والآن لا نَقدِر على غير إنشاء الصلات بفرنسة الموجودة فعلًا. وفرنسة ليس لها من القيمة عندي أكثر من قطعةٍ ضرورية على رُقعة الشطرنج السياسية التي لا أجد لنفسي رسالة فيها غيرَ خدمة مليكي وبلادي، وما لديَّ من حِسِّ الواجب في خدمة بلادي الخارجية فلا أُسوِّغ به العاطفة أو النَّفرة فيَّ وفي الآخرين نحو الدول الأجنبية والأكابر من الأجانب، فمثلُ تلك العاطفة أو النفرة يحمل بذورَ عدم الولاء للملك والبلاد. وعندي أنه لا يحقُّ للملك أن يجعل مصالحَ الوطن تابعةً لشعوره الشخصيِّ تجاه الأجانب حُبًّا أو حقدًا.
وهنا أسألكم: هل ترَون في أوروبة وزارةً تَرغب بغريزتها أكثر من رغبة وزارة فينَّة في عدم ترك بروسية تتقوَّى، ومن ثَم في خفْض شأنها في ألمانية؟ ولو سألتَني عن البلدان الأجنبية ما وجدْتَني عاطفًا في حياتي على غير إنكلترة وسكَّانها، ولا أزال أحمل هذا الميلَ نحوهما، بيدَ أنَّ القوم لا يقبلون صداقتنا، وإذا وُجد من يُثبت لي أن هذه السياسةَ وليدةُ تأملٍ وتفكير نظرْت بعين الرضا إلى إطلاق كتائبنا النارَ على الفرنسيين والروس والإنكليز والنمسويين.
ومتى عادت تلك الدولُ لا تكون ثورية؟ وما هو الدليلُ على ذلك؟ فالذي يلوح أنَّنا سنغفِر لها عدمَ شرعيَّتها ما غدَتْ غيرَ خطِرة علينا، وليس لنا أن نجدَها مذنبةً مبدئيًّا ولو داومَت على القول بعدم شرعيَّتها غيرَ نادمة، أو فخورًا بخِزْيها. وإذا ما بحثنا عن أصل دنيوي للثورة وجَب علينا أن نطلبَه في إنكلترة أكثرَ مما في فرنسة ما لم نَنشُده في ألمانية ورومة منذ زمن بعيد. وما هو عدد الكَينونات التي لا تجد لها جذورًا في أرض ثورية؟ انظروا إلى إسبانية والبرتغال والبرازيل وجميعِ الجمهوريات الأمريكية وإلى بلجيكة وهولندة وسويسرة واليونان وإسْوِج وإنكلترة، حتى إلى الأملاك التي اقتطع أمراءُ ألمانية في الزمن الحاضر بعضَها من الإمبراطور والإمبراطورية، والتي اقتطع بعضُهم من بعضٍ قسمًا آخرَ منها، لم تجدوا واحدة منها مستندةً إلى وثيقة شرعية.
وهنا نُلاقي بسمارك السياسيَّ للمرة الأولى، وفي كتابه ذلك إلى غِرْلاخ نُبصر أُسُس سياسته، وما كان لديه من آراء في ذلك عند بلوغه الثانية والأربعين من عمره؛ فقد ظلَّ كما هو عند بلوغه الثانية والثمانين من سِنِيه، ولنفترضْ أنه كان لدى الأحرار دائرةُ استخباراتٍ نشيطةٌ كما لدى الحكومات فاستطاعتْ أن تضبط ذلك الكتاب، فماذا كان يقول نائبٌ من نواب أحزاب الشمال عما يشتمل عليه من عبارات ذاكرًا ما نطَق به منذ سنين قليلةٍ ذلك الشريف «بسمارك» من تعزير البلدان والتِّيجان التي نالت أوضاعها بفضل الثورات ومقاتلات الشوارع؟ يقول ذلك النائب: «هل الأمر كذلك؟ إذن، نحن كلُّنا من أصل ثَوري، والأمر يتوقف على مدة مرور الزمن، وقد لا يتوقف عليها، وما كانت لتأتيَ من الله تلك التيجان التي قيل إنها جاءت بفضل الله، وما صدَر عن الشعوب من الفتن وما أبداه الأمراء من حرصٍ وما وقَع بين الطبقات من نزاعٍ، وما كان بين الدوكات من تنافُس فيما مضى؛ فأمورٌ قرَّرت بالعنف مصيرَ البلاد وحوَّلتها إلى أملاك مقدارًا فمقدارًا، وليس ما يقع الآن غيرَ ذلك، ولمَ يكون آلُ هُوهِنزُلرن شرعيين أكثرَ من آل بونابارت؟ ولمَ يكون آلُ رومانوف شرعيين أكثرَ من آل سافوي؟ وبمَ تُسوَّغ امتيازات الأشراف؟»
وهل الذي نطَق به ذلك المكافح من حقائقَ عن الملوك والشرفاء قد أُوحيَ به إليه مصادفةً للمرة الأولى؟ كلَّا، فبسمارك كان يعرف جميع ذلك منذ سبع سنين كما يعرفه اليوم، وبسمارك سيجهَر بإنكار ذلك في الغد كما صنع في الماضي إذا ما وجب الدفاع في بلده الخاصِّ عن طبقته الخاصة، ولكن بسمارك يرى أن يسير في الخارج طليقًا كما يراه نافعًا لبلده الخاص، وليس عنده أوهامٌ مُقرَّرة في الأمور الخارجية، وما يَعُدُّه عقيدةً في بلده فيراه من المشاعر في الخارج، وما هو من شئون الدولة في الداخل فيراه من المهازئ الرِّوائية في الخارج، والحقُّ أنَّ من مبادئ بسمارك الأساسية أن تقوم السياسة الداخلية والسياسة الخارجية على مقياسَين مختلفين، وليس من التجوُّز أن يقال إن بسمارك هو الذي أدخل ذلك المبدأ ذا الوجهَين إلى ألمانية سائرًا على غِرار رِيشيلْيُو، ولكن هذا الانفتاق هو مصدر مختلف الأوهام والأضاليل التي ساورَت الألمان في الداخل على حين كان سلطانُ الدولة يزيد في الخارج مع الشعور بقدرة ذلك القطب السياسيِّ.
وتتجلَّى عظمةُ بسمارك وحدودُ نفوذه في عزمه الذي لا يُكدِّره مبدأٌ ولا تَهزُّه عاطفة فلا يَهدف إلا إلى سلطان بلده الخاص، وفي هزوئه بالآراء التي كانت تُوجِّه أوروبة وعصرَه، وفيما كان هذا المناضل ينال لبلده نصرًا بعد نصر في الخارج كان يدوس حقوق الأمة في بلده تحت قدمَيه، كان يطأ برجلَيه تلك الحقوق التي لا يمتهنها أيُّ رجل سياسي من غير أن يُجازَى، وذلك بدلًا من الموازنة بينها بقوًى متكافئة، ومما يَسُرُّه أن يرى جنودًا يُطلقون النار على الأجانب أو على الألمان إذا ما كان في ذلك نفعٌ لبروسية، وما يُبديه في المستقبل من مَيل إلى مطاردة الجيش لعُصاة بروسية الراغبين في إدارة بلدهم بأسلوب يخالف أسلوبَه فينطوي على عوامل كسر شوكته.