الفصل السادس

كان القيصر إسكندر الثاني ابنًا لأُخت وِلْهلم، وظلتْ قرابةُ الدم هذه ضمانًا للصداقة بين البلدين ما دام وِلْهلم حيًّا، أي مدة ثلاثين سنةً، فيَندُر تصادمُ مصالح ذَينك البلدَين خلافًا لِما يقع اليوم، وما كان من حدودٍ متراميةِ الأطراف بين البلدين فسببٌ صالح لبقائهما مُتحابَّين، وما كان من اتصاف وِلْهلم وأخته القيصرة الأمِّ الذكية بحسِّ الأسرة مع البساطة، فيَحول دون نشوب الحرب بين البلدَين في عهْد وِلْهلم الأولِ على ما بينهما من مائة مشكلة.

ومن الصعب مسايرةُ إسكندر الثاني مع ذلك؛ فهذا القيصر كان في الأربعين من عمره، وكانت ملامحه لا تدلُّ على معنًى، وكان متعصِّبًا فظًّا بذيئًا، وكانت جُدُر بيوته الخاصة مستورةً بالصُّوَر الداعرة التي لم يطَّلع العالم على أمرها إلا في أيامنا، وكان يظهر فاتنًا منفعلًا إذا ما استحوذ عليه الخيال، وكان طموحه يحفزه إلى الحرية حينًا وإلى الانتقام حينًا آخر، وكان صيَّادًا كبيرًا لا جنديًّا لفزَعه.

ويلوح أنه صورةٌ روسيةٌ مطابقة لخاله فردريك الرابع؛ فهو وإن كان أكثرَ من خاله هذا ظرفًا وضعفًا يَعدِلُه خُبَاطًا،١ وهو إذا ما حرَّر الفلاحين فلِمَا عليه من الهوى والجُبن، وقد ظل مرسومُه في ذلك عاطلًا من العمل سنين كثيرة كما عَطِل الدستور الذي منحه فردريك وِلْهلم الرابع لبروسية، والآن يغتبط ابنُ الأخت «القيصر» كما اغتبط الخال «الملك» ببارون بُومِيرانْيَة العظيم «بسمارك»، ولعلَّ القيصر يُسَرُّ بما في بسمارك من إبداع، ويتقبَّل القيصر بسمارك كرسول للأسرة، ويُفضِّله في البلاط على جميع الأجانب الآخرين، ويأذَن له في التدخين بحضرته مكرِّمًا إياه ومثيرًا غيرةَ زملائه.
وذلك إلى ما بين القيصر والسفير الجديد بسمارك من الأواصر٢ السياسية، وبسمارك هذا كان ملكيًّا عدوًّا للنمسة، وفيما يصل بسمارك إلى سان بطرسبرغ يتذرَّع نابليون الثالث بنصوص حِلْفه لكافور فيَشْهر الحربَ على النمسة انتصارًا لساردينية، ويعود الوضعُ إلى ما كان عليه في أيام حرب القِرم منذ خمس سنين، فيقول نصف ألمانية بالحرب بجانب النمسة «الألمانية» ضدَّ العدوِّ التقليديِّ ما قيل: إن نابليون الثالث يُريد السيرَ على غِرار نابليون الأول، فيَهدِمُ النمسة ثم بروسية، فيجب إذن أن يُدافعَ عن الرَّين على ضفاف نهر البو٣ وأن يُستولى على الألزاس واللورين؛ ضمانًا للأمن، وتتوعد صحيفة كروزْزَايتُنغ ابنَ الثورة «نابليون الثالث»، ويُشير بالحرب مُولتكه الذي عيَّنه الوصيُّ على العرش رئيسًا لأركان الحرب، غيرَ أن وِلْهلم يرتعد فَرَقًا من اقتراف مثلِ خطأ أبيه، فيجد نفسَه وحيدًا مثلَه تجاه فرنسة الظافرة، وهل من الممكن بَعْثُ الحِلف المقدس باسمٍ آخر؟ وتُواثِبُه حميَّة الجندي، فيذكرُ ما كان من دخوله المجيد باريسَ سنة ١٨١٥ أيام كان شابًّا، ويأذن للشيخ غِرْلاخ في تقديم الحُسام إليه للهجوم على فرنسة مرةً أخرى.

ومن بين رجال الدولة يُبدي بسمارك وحدَه رأيًا مخالفًا للحرب، ولو أظهره ذلك بمظهر المقاسم لمشاعر الأحرار المعارضين للنمسة بحرارة، والمؤازر للبولونيين والإيطاليين، واليوم — كما في أيام حرب القِرم — لا يُريد بسمارك أن يُهبَّ إلى نَصْر ِآل هابِسْبُرغ، واليوم يجهر بسمارك بأن النمسة «بلدٌ أجنبيٌّ»، واليوم يطالب بسمارك بحياد بروسية على الأقل، واليومَ يُصرِّح بسمارك بأن الأفضل لبروسية أن تنحاز إلى ناحية فرنسة، وبسمارك ينعت صحيفة كرُوزْزايتُنغ ﺑ «البلاهة»، وبسمارك يحذِّر من إنجاد عدوَّةِ بروسية، وبسمارك يُبدي لأخيه مخاوفَه بالكلمة الرائعة الآتية، وهي: «أخشى أن نغدوَ نشاوَى بالنمسة، كما وقع سنة ١٨١٣.»

ويُغلَب النمسويون في شهر يونيو بماجِنتَه وسُولفِرِينو، ويودُّ وِلْهلم أن يزحف مساعدًا لهم ويُعبِّئ قواه، ويرتمي كلٌّ من العدوين بين ذراعَي الآخر؛ خشيةَ تدخُّل جيش سليم آخر، وما كان نابليون ليجازفَ بمجده الحربيِّ الجديد، وما كان فرنسوا جوزيف ليجازفَ في ألمانية بمقامه العتيد، فيُعقَد الصلحُ في شهر يوليو، ويتميَّز البروسيون مع الوصيِّ على العرش من الغَيظ، ويُسَرُّ بسمارك وحدَه من عدم اشتراك بروسية في القتال، وقُل مثل هذا عن القيصر الذي هتف لهزيمة النمسة فيُحيط سفير بروسية الجديد (بسمارك) بدخان كثيف من التبغ أكثرَ مما في أيِّ زمنٍ كان.

ويُحسَن استقبالُ بسمارك، ويعمل بسمارك على توثيق الصِّلات بين بروسية وروسية، فيرى أنه في بيئته، ويستولي بسمارك على قلب القيصرة الأمِّ، ويبلغ من فَتْنِه لها ما قالت معه أميرةٌ في الرابعة من عمرها باللغة الروسية على ما رَوَى: «هي تُحبُّ الجنرال، ولكنها لا تُريد السلام عليه؛ لأنه يَذفَر»٤ وتمرض القيصرة الأمُّ، ويجلس بسمارك بجانب سريرها فيتكلَّم ويسمع فيعلم بذلك أمورًا أكثرَ مما يعلمه بالاجتماعات أو بمساعدة الجواسيس، ويعرف أيضًا كيف يُجاري رئيسَ الوزراء المكَّار المتدين الشائبَ غُورشَاكُوف، فيُبدي له احترامَ التلميذ، ويُداري له حتى غرورَه، وبسمارك في جميع ذلك لا يحقد على مولاه الذي لم يرفع درجتَه العسكرية، فتكون نتيجةُ هذا في العُروض العسكرية «أن يبدوَ سفيرُه «بسمارك» ملازمًا ضخمًا بين جميع أولئك الجنرالات الشُّمَّخ»، وبسمارك مع رؤيته القيصر باستمرار يُخبر برلين بأنَّ من مقاصده: «أن يَعدِل بعد الآن عن فرصة مشاهدة القيصر في غير المهرجان الشتوي؛ فالحقُّ أنني لستُ مع أهلي في هذه الخدمة.»
ويصبح بسمارك راضيًا ببطرسبرغ في الحين بعد الحين، ولبسمارك في بطُرسبرغ كلُّ ما يُرضيه؛ فله فيها منزلٌ مريحٌ شغَل بالَه بجزئيَّاته حتى قبل وصوله، وبسمارك يلتفتُ إلى رِياش بيته ذلك أكثرَ مما إلى شئون منصبِه الرسميِّ، وبسمارك يَصفُ جميعَ هذا البيت المستأجَر لزوجه فيذكُر لها غُرَف الخدَم ويُخبرها بأن غُرَف الأولاد تَنعَم بشعاع الشمس إلى وقت الظهر على الأقل، ويأبَه بسمارك إلى تلك الدقائق كما كان يصنع حين ظهوره شريفًا معسِرًا، وتعلَم زوجُه غلاءَ ثمن الأثاث في روسية، فتحصُل على ما يَلزم من دارْمِستاد لعدم مغادرتها فرانكفورت بعد، «وللنماذج الحريرية القطنية مثلُ منظر الحرير وهي تَصلُح لجميع الأثاث، ولا سيَّما أثاثَ غرفتي الأخضر، كما تصلح للستائر أيضًا. ولا أرى خزائنَ الكتب لائقةً، وأرى القاعدة جيدة، وإن وجَب أن تكون أعلى مما هي عليه، وسأبحث عن متاع أضَعُه عليها.» وجاء في الذَّيل: «إذن، لا تَنبُت أسنان الأولاد الرديئة، فهل يجب إصلاحُها؟» ولا بدَّ من جَلْب خمرِه المعتَّقة إلى روسية بطريق البحر البلطيِّ، «ومَن يَدري مَن يشربها في شُونْهاوْزِن؟» ويُباهي باتساع بيته الواقع على شاطئ نهر النِّيفا وبأناقته وبأصابِله٥ الجيدة وبميدانه الخاصِّ للتدريب على ركوب الخيل، ويوصي لاستعماله الشخصيِّ ﺑ «مكتب كبير»، وﺑ «فراجِن٦ أسنانٍ ضخمة قاسية كالحجر».

وبسمارك كلما زاد دَخلُه زاد توفيرُه، وبسمارك يُصرِّح بأن عليه أن يُوفِّر كثيرًا من راتبه البالغ ثلاثين ألف تالير، فعاد لا يُقيم الولائمَ، وهو لا يكاد يستبقي زائريه للغداء إلا إذا كانوا عنده في الوقت المناسب، وهو يَحمل أخاه على إرسال تفاح وبطاطا إليه من بُومِيرانيَة بحرًا، وهو يعهد إلى بِرْنهارد في مراقبة أمور الرِّيِّ وغيره في أملاكه، وهو يُسَرُّ لاقتصاده دخلَه الخاصَّ.

ولا شيءَ يَبْهَره في روسية أكثر من اتساع المساوف،٧ ولا سيَّما عند ذهابه إلى القَنص، ولا بلدَ أنسبُ له — أولَ وَهْلة — من ذلك البلد الذي يُصطاد فيه الدِّببَة، وأكثرُ من صداقة القيصر قدرًا، ومن هزيمة النمسة في سُولْفِرينو قيمةً على ما يحتمل، ذلك الحينُ الذي «يُقبل عليَّ فيه دُبٌّ جريحٌ واقفًا فاغرًا فاه، فأدَعه يدنو قريبًا مني خمسين خُطوة فأُطلق عيارَين ناريَّين على صدره فأُرديه قتيلًا، ولا أشعر بخطرٍ دقيقةً واحدة، فورائي صائدٌ حامل بندقية أخرى ذاتَ طلقتين. ولا أحد يجاوز تلك الغاباتِ الواسعةَ. وهنالك أيضًا توجد جنَّاتٌ حقيقية للصائدين ومما حدَث أن عضَّ إصبعي دُبٌّ صغير أُرَوِّضه لأرسلَه إلى رِينْفِيلْد؛ فلذا أبحث عن رفيقة له لأُبعدَهما إلى بُومِيرانيَة.» ويعود من الصيد فيُحدِّث عنه صديقه كودل ويختِم قوله عن اعتقادٍ ﺑ «أن حياة الصائد هي حياة الإنسان الطبيعية»، وفي أُوَيقات كتلك التي يُغِير الدُّبُّ عليه فلا يشعر بذُعرٍ تُبصِر ظهورَ دمِ الفرسان النهَّابين عليه، وإذا قابلنا هذا الحادث بما يماثله اعترانا الدَّهَش من كونه رجلَ عِشْرة ومن قدرته على تمثيل دَورٍ في البلاط.

ومما يسرُّه إلى الغاية أن يُرسل إلى أخته فخذَ خنزير مقدَّدةً، ويعتذر عن المقدار مازحًا بقوله: إن هذه الفخذ «من دُبٍّ صغيرٍ لم يبلغ من العمر غيرَ سنة، وقد تجدينها مملَّحة قليلًا، ولكننا نأمل أن تكون من الطَّرَاء ما قد يكون عليه الدُّبُّ.» وتزورُه الدوكة الكبرى، ويفكُّ حُزمة السيغارات التي تُهديها إليه فيُقدِّر ثمن السيغار الواحد بخمسةَ عشرَ غُروشنًا، وتمضي ثلاثون سنة، فيكتب مذكِّراتِه، فيذكر فيها أنه عندما يزور القيصرةَ الوالدة «كان يُعَدُّ في المطبخ القيصريِّ ثلاثةُ أعشية لي وعشاءان لسادة السفارة الذين يُدعَون معي. ويُؤتَى إلى منزلي ذاتَ يوم بجميع العَشاء مع توابعه، ثم يُؤخَذ ولا أستطيع أن آكُلَ مع رفقائي على مائدة القيصرة في يوم آخر لاضطراري إلى الطعام قريبًا من سرير القيصرة المريضة بعيدًا من رفقائي.» ولم يُعتِّم أن انتحل لنفسه وضْعَ الأمير الروسيِّ المستبد، فيقول بدمٍ بارد بعد عَرْض أربعين ألف رجل: «تلك عُدَّةٌ جميلة من الرجال والخيل والجِلد.»

وكلُّ شيءٍ هنا على مقياسٍ واسع، حتى «منازعات فرانكفورت تقَع هنا على مدًى أعظم مما هنالك وأَدعَى إلى الالتفات. ويلوح ما يقَع هنالك من الحقد الاتحاديِّ والسُّمِّ الرئيسِ أمرًا صبيانيًّا إذا ما قيس بما يحدث هنا. وعندما نتوجَّه إلى المنزل فيُصرَخ على الدَّرَج بالكلمة: «سفير بروسية!» يُلتَفت إلينا مع ابتسام كريم كما لو شرِب أولئك الناسُ رحيقًا قويًّا.» ومما أثَّر في بسمارك ما رآه في روسية الناعسة من الاتساع والسلطان والسيادة، وتُقوِّي هذه الانطباعاتُ مناحيَه الروسية، وتؤثِّر في سياسته القادمة، ويظلُّ مقيمًا على ميوله إلى روسية في السنين الثلاثين المقبلة مع تقلُّب سياسته العامة بحسب الأحوال، حتى إنه في شَيبتِه يجد في مثل الأقاصيص المذكورة آنفًا دليلًا على «ما يقوم عليه بأسُ الروسيِّ من الثبات والعناد تجاه بقية أوروبة.»

وما كان يُمازِج بسمارك من ركون إلى روسية قلْبًا وقالبًا فلم يُكَدَّر بغير عارضَين لم يُعرَّض لمثلهما سابقًا ولم يَعُد إلى مثلهما لاحقًا. وبيانُ الأمر أن بسمارك حين وصوله إلى سان بطرسبرغ وجَد سكرتيرًا ثانيًا قوَّامًا بشئون السفارة أيام سَلَفه، ويظهر هذا الرجلُ عارفًا بكلِّ شيء مدركًا لكلِّ شيء، ويجلس عدَّةَ أيام متكلمًا عن الأمور مُدخِّنًا مع بسمارك، ويودُّ بسمارك بعدئذٍ أن يُمليَ عليه رسالةً مطوَّلة فيُجيبه عن ذلك بقوله: «إن مما لا أقدر عليه أن أكتب رسالة يُمليها عليَّ سواي.» وما كان كُوردِفون شلُوزِرُ هذا عبقريًّا ولا رجلًا سياسيًّا، ولكنه كان عاليَ الثقافة موظَّفًا فاضلًا ألمعيًّا منتسبًا إلى أسرة محبة للخير، وكان أصغرَ من رئيسه الجديد «بسمارك» بسنتين، وكان يُشاطر بسمارك صفتَين: الشجاعة والعزَّة، وهو قد رفض لهذا السبب ومن فَوره أن يُتَّخذ آلةً، وهو قد وجَّه ذلك الجوابَ إلى متبوعه بسمارك على طريقة بسمارك.

وماذا يَصنع الرئيسُ تجاه ذلك الوضع غيرِ المألوف؟ هو لم يحدُث له مثلُ ذلك فيما مضى، هو يمكنُه في صميم فؤاده أن يحترم شلُوزِر، ولكنه كان من قلة الحِكمة وكثرةِ الاستبداد ما لا يرَى معه بقاءَ الأمر عند ذلك الحدِّ، بسمارك لم يفعل بشلُوزِر شيئًا إذ ذاك، بسمارك يُملي الرسالةَ على ملحق بالسفارة منتحلًا وضْعَ «أحد الباشوات» ذارعًا الغرفةَ ذهابًا وإيابًا. وتمضي بضعةُ أيام فيَستدعي السكرتيرَ لكتابة رسالة بالأرقام في ساعة مقصودة غير معتادة، ويصِل شلُوزِر بعد ساعة من الوقت المُعيَّن، ويجد بسمارك بادئًا بالعمل مع المُلحق، ويستقبله بسمارك مُصعِّرًا٨ خدَّه، ويغدو الأمرُ واضحًا لشلُوزِر، ويُعير شلُوزِر بسمارك «قطعةً من ذهنه» ويقول: «تلك صراحةٌ لم يتعوَّدْها الرئيس.» ويمضي يومان فيُرسَل مرسومٌ من السفارة إلى شلُوزِر ليضعَ توقيعَه عليه، وفيه يقال: «أرجو من فون شلُوزِر أن يأتيَني في الساعة الحادية عشرة من كلِّ يوم للبحث في المسائل الجارية.» ويحضُر شلُوزِر منتصبًا أَنُوفًا ويسأل: «ماذا يُعمل في هذا النهار؟» ويرتبك بسمارك قليلًا ثم يقول: «لا شيء، لم أُرِد السير على هذا المنوال، وإنما أطلب مجيئَك عندما يكون هنالك أمرٌ يُعمَل.»

والآن يَدخل بسمارك دورًا من النضال، والآن يُرى أيُّ الرجلَين أصلَبُ عودًا من الآخر، والآن يُنظَر إلى كلِّ ما يخصُّ المصلحة، «ولكنني لم أُبدِ له وجهًا طليقًا، ولم يحدث أن عمِلتُ مع شخص من ذلك الطِّراز فيما مضى، وليس في الأمر ما يَسرُّ، وأيُّ شيء أدعى إلى النفور من الإذعان؟» وكلَا الرجلين يكتب رسائلَ نارية. ويكتب بسمارك إلى رئيس الوزراء قولَه: «إن فوز شلُوزِر موظف سطحيٌّ، وهو من قلة الأدب ما يدعو إلى الحَيرة.» وتنظر المراكز العُليا ببرلين إلى السكرتير بسموٍّ، وتَعُدُّ السفيرَ رجلًا خطِرًا، فلم تُبدِ حَراكًا، ويُعبِّر شلُوزِر عن مشاعره في رسائلَ ومفكِّرة فيكتب بعد أسبوع: «إن ما يقوم به من الاستبداد المستمرِّ ذلك الرئيسُ الذي لا يَعُدُّ الآخرين إلا من الضعفاء، والذي يُحيط خططه بالغموض فيحاول خَدْع سامعيه، والذي لا يثق بأحد، فمن المناظر المؤذية، وليس لي ما أعمله معه سوى القليل، وعلى الرجل أن يُكشِّر له عن أسنانه وإلا ضاع، وما سياستُه إلا عصرٌ لليمون ورميٌ له بعد ذلك.» ثم يرى حَوْكَ الدسائس حوله، فيقول: «تُبصِر العملاق المقاتل بسمارك في الدهليز. وقد كنت من الصراحة تجاهه ما أخذ يتحدَّاني معه، وهو لم يَبدُ موفَّقًا في السِّلك السياسيِّ حتى الآن.»

وتمضي ثلاثةُ أسابيعَ، فيقول: «كلما دخلتُ مكتب الباشا قلتُ في نفسي: لا تكن ليِّنًا، لا تدعْه يأخذك على حين غفلة! هو يودُّ تمثيلَ مهزأة الصلح ولكنني لا أودُّ ذلك. وإني على ما يساورني من عِرفان بعقله الجبَّار وإني على ما يواثبني من وجوب دعوته بالسيد؛ لا أجِد في نفسي ما يحفز إلى تلبية ذلك النداء، فعليه أن يعترف بجَوره عليَّ.»

ويمضي شهرٌ آخرُ، فيقول: «يُبدي الباشا رفقًا، ويُظهر الباشا وُدًّا، وأظلُّ فاترًا، غير أن الباشا تغيَّر، فيُثني عليَّ في غيابي. هو لا يُصحِّح مسوَّداتي الآن. هو مريضٌ منذ ثمانية أيام، فيجعله هذا أكثرَ دعةً واعتدالًا.» ويلتحق بالسفارة أحدُ الأمراء، كُرْوَا، بطلبٍ من الرئيس، فيبدو هذا الأمير، بسرعةٍ، عاجزًا مضحكًا، ولا شيءَ أدعى إلى سرور بسمارك من أن «يَهزأ بالرجل، ولكنه لم يُوفَّق في ذلك لِما لم أُبدِ له من لطف، حتى إنني رفضتُ دعوتَه إياي إلى الغداء، كما رفضت ما كان يُقدِّمه إليَّ من السيغار غير مرة، والحقُّ أنك إذا عدَوتَني وجدتَ كلَّ واحد يخشاه، وفي هذا سرُّ غضبه عليَّ.»

وتمضي ستةُ أشهر، ويغادر شلُوزِر السفارةَ مع مرَض الرئيس فيكتب إلى كنَّتِه معتذرًا عن عدم إرساله كتابًا إليها بقوله: «سببُ ذلك هو الباشا، فقد بلغتْ روحي من الارتباك به ما لا أريد معه أن تطَّلعي على هذا الارتباك.» وفي شهر فبراير يكتب إليه الرئيس عن الأثاث والخدَم ما دام لا يوجد غيرُه مَن يستطيع معالجةَ ذلك، «وهكذا يعَضُّ الباشا على التفاح المُرِّ فيكتب إليَّ كتابًا خاصًّا، وأرسل إليه جوابًا مناسبًا، وأُرسل إليه بطارخَ مرتين كما طلب»، وفي الوقت نفسه يُرسل بسمارك إلى رئيسه ببرلين كتابًا يقول فيه: «لا يسعُني سوى الثناء على فون شلُوزِر، فأمحو رأيي السيِّئ السابقَ فيه» وكان هذا بعد الاجتماع الأول بسنة واحدة تقريبًا.

وتمضي ستة أشهر فيكتب شلُوزِر في الصيف قولَه: «يسير كلُّ شيء مع بسمارك على أحسن وجه، وفي برلين كان قد قيل لي إنه أثنى عليَّ في وِلْهلمسترَاس، وإنه استردَّ مخلصًا كلَّ ما أبداه في البداءة ضدِّي حينما كان مريضًا منكَّدًا سياسيًّا حانقًا عليَّ بفعل بعض الأشخاص على ما يحتمل. والآن تُطوَى تلك الصفحة، وغيرُ هذا أمرُ السياسة حيث يظهر الرجل جهنميًّا، ولكن إلى أين يَهدِف؟» ثم يقول: «إنه يدعوني إلى العشاء كلَّ يوم فأتناوله معه، وليس لديَّ ما يوجب مخاصمتَه، والسياسةُ قد حلَّت فيه، فهو عنوانُها، وكلُّ شيء يجيش فيه، وكلُّ شيء يحفزه إلى العمل والتكوين، هو يحاول أن يُحِلَّ النظام محلَّ الفوضى في برلين من غير أن يعرف كيف يصل إلى ذلك بعدُ. هو رجلٌ عجيبٌ مملوءٌ بالمتناقضات ظاهرًا.» وتمضي سنتان على وصول بسمارك إلى سان بطرسبرغ فيكتب إلى برلين مطالبًا باسترجاع الأمير كُرْوا وبجعل شلُوزِر السكرتيرَ الأول، ويقرأ هذا الكتاب على الممدوح شلُوزِر قبل إرساله، ويقول فيه: «إن شلُوزِر صعبُ المِراس في صِلاته برؤسائه، وقد قضيتُ معه أوقاتًا سيئةً في بدْء الأمر، بيدَ أن ما بدَا من جدارته وأمانته في الخدمة محَا رأيي الرديء فيه.»

ذلك حادثٌ فريدٌ في حياة بسمارك، ولا يكاد بسمارك يرى في المستقبل مرءوسًا مستقلًّا، ولن يحتمل بسمارك مرةً أخرى وجودَ رجل جموح بجانبه، ومن العجب أن اعترف كلُّ من الخصمَين بقيمة الآخر، فبسمارك قد أقرَّ بإخلاص شلُوزِر، وشلُوزِر قد أقرَّ بعبقرية بسمارك، وتتوتَّر صِلاتهما الرسمية في البداءة، ثم تصبح ميدانًا يتسابق فيه زَهوهما فلم يُرد كلُّ منهما أن يغلبَه الآخر بسنِّه ومقامه، بل عن عبقرية وخُلُق، وهما لاتِّصاف كلٍّ منهما بالعبقرية والخُلق كُتِب لهما الفوزُ في نهاية الأمر ولم يُصَبْ أيُّهما بهزيمة.

١  الخباط: الهستيريا.
٢  الأواصر: جمع الآصرة، وهي ما عطفك على رجل من قرابة أو معروف.
٣  نهر البو: من أنهار إيطالية.
٤  ذفر الشيء: ظهرت رائحتُه الخبيثة.
٥  الأصابل: جمع الإصطبل.
٦  الفراجن: جمع الفرجون، وهو المعروف بالفرشاة.
٧  المساوف: جمع المسافة.
٨  صعَّر خدَّه: أماله عن النظر إلى الناس تهاوُنًا وكِبرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤