الفصل السابع

في ذات يومٍ من يوليو وبعد شهرين من وصول السفير الجديد بسمارك إلى سان بطرسبرغ، يَجول هذا السفير راكبًا في ميدان للترويض حارٍّ، ثم يرجع إلى منزله غيرَ لابسٍ معطفًا، فيشعر بألمٍ في ساقَيه، ويستدعي طبيبًا ألمانيًّا فيضع هذا الطبيب لزقةً على ساقه اليسرى، ويشتدُّ وجعُه في الليل فيخلعُ هذه اللزقة، وفي الغد يُبصر أحدَ عروقه في حالٍ يُرثَى لها، فيزيد غضبًا لعجزه عن تعيين أيِّ الرجلَين هو «السامُّ»: آلطبيب أم الصيدلي؟ ويرى جراحيٌّ روسيٌّ مشهور أن الضرورة تقضي ببتر الساق، ويسأل المريض: «أيكون البتر فوق الركبة أم تحتها؟» ويُشير الطبيب إلى فوقها ويرفض بسمارك ذلك، ويُبحر إلى ألمانية مع مرضه.

وبذلك يُضحي منصبُه وعملُ حياتِه في كفِّ عفريت، أجلْ إنَّ بسمارك لا يخسر ذكاءه بساقٍ واحدة، ولكنه لا يصيب بذلك نجاحًا مثل الذي كان يتمُّ لذكائه بفضل هيئته وحضوره وجُرأته، وفي برلين تُنقذه طبيعتُه الجبَّارة، وفيما هو يعود إلى سان بطرسبرغ نصفَ متعافٍ؛ إذ يستريح مع أُسرته في مُلكٍ لصديقٍ له قليلَ وقت، فيشعر باضطرار إلى التزام السرير مرة أخرى؛ فقد ظهرت في العِرق المُعطَّل دَمَةٌ،١ ويُصاب بالسِّداد في الرئة، ويَقنَط من حياته بضعةَ أيام ويكتب وصيتَه، ويقول في شَيبته: «إنني كنت أتقبَّلُ الموتَ مسرورًا؛ لِما بدا به الألمُ أمرًا لا يُطاق.» وهو لم يذكر الدين بكلمة في ذلك، وهو يَصُبُّ غضبَه على الدواوين، وذلك كما يبدو من حظرِه على الحكومة — وهو من أكابرِ موظفيها — أن تتدخل في الوصاية على أولاده.
وفي برلين يظلُّ ناقهًا ستة أشهر، وفي برلين يُعنَى بالساسة أكثر مما بالأطباء، ويُمسكه الوصيُّ على العرش هنالك، وإن كان لديه ما يطلب به عودتَه إلى منصبه لو كان من القادرين على ذلك؛ فالوصيُّ كان يَخشى ما يُمكن بسمارك أن يجرَّه إليه من النزاع، والوصيُّ — مع عدم احتماله بسمارك — لم يَرَ أن يتخلَّى عن هذا الرجل في مكافحته القادمة للأحرار، وما كان بسمارك لينفرَ من ذلك الوضع المذبذَب، وبسمارك حينما يكون في مركز الأمور، يستطيع أن يدفع فريقًا من الأصدقاء إلى العمل على تعيينه وزيرًا للخارجية أكثر مما يستطيعه عندما يكون في منفاه على ضِفاف النِّيفا،٢ ولكبريائه العذرُ فيما يقول به الطبيب من الانتظار الطويل، فاسمعْ ما يقوله لزوجه مبتهجًا: «أراني جالسًا فوق شرفتي هنا كجلوس لُورلِيه٣ على صخرته فأُبصر ملَّاحي سِبْرِيه٤ يعبرون الترعة، ولكنني لا أُغنِّي ولا أُزعج نفسي كثيرًا بمَشط شَعري، ويُخيَّل إليَّ في الفندق هنا أنني أغدو شيخًا كبيرًا فتمرُّ عليَّ الفصولُ وتسير أمامي أجيالُ السيَّاح والخدَم، على حين أمكث في الغرفة الخضراء الصغيرة فأُلقي الحَبَّ إلى العصافير الدوريَّة وأخسر شَعري.»

وينتظر الوصيُّ على العرش موتَ أخيه، ويساير في دَور الانتظار شلِينِتْز كرئيس للوزارة، ويتكلم بسمارك عن شلِينِتْز كنديم متوكل على أُوغُوستا، ويُتمُّ وِلْهلم المهزأة بدعوة شلِينِتْز وبسمارك إلى مؤتمر كأنه يودُّ إدارة سباقٍ بين الفريقين، ويُطلَب من بسمارك شرْحُ برنامجه فيُصرُّ على رأيه أيام حربِ القِرم في أن النمسة ضعيفةٌ وأن بروسية قويةٌ وأن روسية صديقةٌ وأن بروسية هي كالدجاجة التي لا تَجرؤ على مجاوزة الخط الطباشيري السحري المرسوم على الأرض.

ثم يأمر الوصيُّ على العرش شلِينِتْز بالكلام فيذكِّره شلِينِتْز بوصية أبيه التي هي «حبل لا يَفتأ يهزُّ فؤادَه» والتي وُضِعت ضدَّ باريس ولمصلحة آل هابِسْبُرغ، ويختم شلِينِتْز كلامَه فينطق وِلْهلم من فَوره بخطبته المعدَّة مقدَّمًا — كما هو واضحٌ — والقائلة إنه ينحاز إلى هذه التقاليد القديمة، ثمَّ يفضُّ الجلسة، وأُوغُوستا هي التي رسمتْ تلك الرواية، وذلك لإِطْلاعها الرجعيِّين على خطَر المناوبات، ويرى بسمارك أن أُوغُوستا لم تكن آنئذٍ متأثرةً كثيرًا بالمقاصد الإيجابية تأثُّرَها بنفورها من روسية، ومن نابليون الثالث، «وبنفورها مني؛ لاستقلالي في الرأي ولرفضي — في غير مرة — أن أقدِّم أفكار هذه الأميرة إلى زوجها على أنها خاصة بي».

وليست أُوغُوستا وحدَها هي التي أقصَتْه عن السلطة في سنة ١٨٦٠، بل نشأ هذا عن برنامجه الألماني قبلَ كلِّ شيء. ومما أسفرت عنه الحرب في السنة الماضية أن ثارت المشاعر القومية بين الأحرار كما ثارت بين أبطال مبدأ سنة ١٨٤٨، فتُبصر عدَّة خُطَب ومهرجانات وإخاءات كما في تلك السنة الثورية، ويريد المتقدِّمون من رجال الدولة أن يُعقَد حِلف مع النمسة في مقابل السيادة على ألمانية؛ أي ما يؤدي إلى بقاء الجامعة الألمانية، ويريد بسمارك أن يَنسف هذه الجامعة لعَدِّهِ إيَّاها «عاهةً لا تُشفَى بغير الحديد والنار، عاجلًا كان ذلك أو آجلًا، فلنتَّخِذ العلاج الشافي في الوقت المناسب.» وهكذا يكتب السفير إلى رئيس الوزراء، بالأبيض والأسود «مع الحديد والنار»، وهكذا لا يرى السفير إمكانَ بناء ألمانية الموحَّدة بغير هذه الوسيلة، ويُضيف السفير إلى ذلك قولَه: «لا أودُّ أن أُشاهِد كلمة ألمانية مكتوبةً على علَمِنا بدلًا من كلمة بروسية ما لم يَغدُ اتحادنا مع بقية البلد أوثقَ وأفيدَ، ويُضيع ذلك فتونَه إذا ما انتحلناه قبل الأوان.»

وما كان من انفصال بسمارك التامِّ عن أنصار العروش الشرعية فقد أوجب فصْلَه عن الوصيِّ على العرش، وفي ذلك الحين يُرسِل سرًّا كتابَ وداعٍ إلى غِرْلاخَ الفاقدِ لسلطانه فيُعرِب فيه عن الحقيقة كما يراها بقوله: «إن فرنسةَ هي فرنسةُ سواءً أكان على رأسها نابليون الثالث أم سان لويس. والخلافُ إذا ما نُظِر إليه من حيثُ السياسةُ وُجد عظيمَ القيمة، والأمرُ إذا ما نُظر إليه من حيثُ الحقُّ لم يكن له أدنى معنًى. ولا أشعُر بتبعةٍ تجاه الأوضاع الأجنبية، ولكنك إذا ما فرَّقتَ بين الحقِّ والثورة، وبين النصرانية والزندقة، وبين الربِّ والشيطان لم أسطِعْ مناقشةَ الأمر معك، ولا أصنع سوى قولي: لا أُشاطرك رأيك؛ فأنت تحكم في أمرٍ موجود فيَّ، وفي أمرٍ ليس لك أن تقضيَ فيه. أريدُ ضرب فرنسة حتى تَلَغَ٥ الكلابُ في الدم، ولا أفعل ذلك بشعورٍ من العِداءِ الشخصيِّ أكثر مما أفعل لو غزوتُ الكروات والبوهيميين واليسوعيين المبشِّرين والبَنبِرغيين الفلاحين.»
وما كان بسمارك ليتخذَ هذه اللهجة عندما كان غِرْلاخ صديقًا للملك، والآن حين أهمل الوصيُّ على العرش غِرْلاخ، وحين زادت واقعيةُ بسمارك الدولية؛ تُبصر بسمارك يُفصح عما في ذهنه بحريَّة إلى ذلك الرجل السياسيِّ الذي ذهب سلطانه، وبسمارك ينسى غِرْلاخ على عجَلٍ باحثًا عن سواه مع ذلك، وتشتدُّ الأزمات وتقع تِباعًا ويرجع بسمارك إلى سان بطرسبرغ، ويرقب الحوادث عن بُعد قانطًا مرة أخرى، هائجًا محمومًا، مازحًا محلِّلًا مركِّبًا، وإليك كيف يصفُه رفيقُه اليومي شلُوزِر في خريف تلك السنة:
ترى آمري الباشا في دَور من الهيجان رهيبٍ؛ فما كان من إقامته ببرلين وما أُصيبت به برلين من ارتباك واضطراب؛ فقد جعل دمه يفورُ مرةً أخرى، ويظهر أنه يشعر بأن دَوره دنَا، ويوشك شلِينِتْز أن يعتزل منصبه، ويأمل الباشا أن يتقدم، والمسألة هي: هل يلائم بروسية؟ وهل تلائمه بروسية؟ فيَا لانْسِياب تلك الروح البركانية في مثل تلك الأحوال الضيقة المحدودة! هم لا يحبُّونه، وهم يسيرون كأنه غير موجود؛ ولذا تُبصره يُمثِّل دَوره السياسيَّ الخاصَّ، هو لا يقوم هنا بما يُسمَّى تدبيرَ الدار، هو يألم من ارتفاع الأثمان على الدوام، هو يقابل قليلًا من الناس، هو لا ينهض قبل الساعة الحادية عشرة أو قبل الظُّهر، هو يظلُّ في المنزل لابسًا بِذلتَه الخضراء، هو لا يمارس الرياضة البدنية، هو يُكثر من معاقرة٦ الخمر، هو يلعن النمسة. هو يقصُّ عليَّ أمورًا كثيرة، فيبدو صريحًا ممتعًا مندفعًا ثوريًّا مزدريًا لكل نظرية، تمثله في وِلْهلمستراس! تصوَّر ألف رعدٍ! ويقول حديثًا: ليُصبح شلِينِتْز مديرًا لأملاك البلاط، ولْيَخترْني الملك، أو ليَخترْ بِرنستورْف أو بورتاليس وزيرًا للخارجية. هذا ما قاله الباشا حرفيًّا، والباشا يحلم بتلك الوزارة ليلَ نهار!

ويظهر كالنمر المتأهِّب للوثوب فلا يمنعه من فريسته سوى القضبان، ويغدو غيرَ مكترث لأُلهيَّاته الماضية، ولا يرى أحدًا، ولا يخرج للصيد، ولا يحصر ذهنَه في غير السؤال الكبير: «متى أقبض على زمام السلطة؟» ذلك هو بسمارك الحقيقي، ذلك هو بسمارك الخالص أكثر من بسمارك في كتبه إلى زوجه حيث يمثِّل دورَ النصرانيِّ المعذَّب.

ثم يموت الملك المجنون فردريك وِلْهلم في أوائل سنة ١٨٦١، ويُنادَى بالأمير وِلْهلم ملكًا، ووِلْهلم هذا قد انتظر أكثر من ثلاثين عامًا، والآن يصل إلى الثالثة والستين من سِنِيه، فيبدو كلُّ شيء مرتبكًا له، وهو يبلغ من إزعاج الأحرار له بحملتهم على خططه الجديدة حول الجيش ومن إعيائه بجدال زوجه وابنه؛ ما يُفكِّر معه أن يتنزل عن العرش لابنه فردريك الذي كان في الثلاثين من عمره، ويرتجف جميع المحافظين — أي جميع رجال البلاط — لما يَرونه من إسراع فردريك عند وقوع ذلك إلى معاهدة الأحرار بتأثير زوجته الإنكليزية، وكان ألْبرخت فون رون ظهيرَ الملك الأول وقتئذٍ، وكان هذا العضُد المعِين جنديًّا صادقًا فيسمو على جميع الحاشية بعلوِّ شرفِه، وكان شهمًا هُمامًا رزينًا متواضعًا تقيًّا أنوفًا من المظاهر والهتافات مبرَّأً من الغيرة ممتازًا عائشًا وفقَ شعاره: «اصنَعْ ما يجب واحتمل ما يقتضي»، وهذا هو الرجل الذي يَصهر سلاحَ بروسية، وهذا الرجل، مع شديد مَقْته للحرب، شبَّ مع من ينظرون إلى الأمور بعين الجُندية، فيفكِّر بها، وكان الملك الجديدُ عسكريًّا أيضًا، ويدعو هذا الملك حين كان وصيًّا على العرش رون ليُعيدَ تنظيم الجيش، ويُذكِّر رون وِلْهلم بأجداده، وينصح رون وِلْهلم عند التتويج بأن يسير على غِرار أجداده المطلَقين فيطالب رعاياه بيمين الولاء، ويقاوم الوزراء الآخرون الحائرون ذلك، ويعرف رون رجلًا واحدًا حازمًا يصلح لمنصب شلِينِتْز، يعرف رون رجلًا يمكنه أن يُصِرَّ بحزم على يمين الولاء تلك مع القدرة على إصلاح الجيش حتى في دولة دستورية حين الاعتراك، يَعرف رون بسمارك.

ويجتنب الملك ذلك، ويُبدي الملك أنَّ أقصى ما يوافق عليه في أمر بسمارك هو تعيينُه وزيرًا للداخلية؛ لاتصافه بحبِّ النضال والجبروت، لا وزير خارجية لنزعته «البونابارتية» ويحتجُّ بسمارك على هذه التهمة في كتابٍ خاصٍّ يقول فيه: «إذا ما بِعتُ روحي من الشيطان بِعتُها من شيطان توتوني، لا من شيطان غوليٍّ!» وبهذا يعترف بسمارك بأنه ألمانيٌّ لأول مرة مجتنبًا استعمالَ كلمة «بروسي»، وبسمارك حينما يصنع هذا ينتحل تلك الكلمةَ الكلاسيَّة٧ التي كان يسخر منها في شبابه، ويُعلِّق رون كبيرَ أهميةٍ على يمين الولاء إذن، ويدعو بسمارك إلى برلين ويطلب منه أن يُبرق بقراره إذن؛ وذلك «لأن الملك يتوجَّع إلى الغاية، ولأن أقربَ أفراد آله يَبدون ضدَّه ويقولون بسِلْم فاضحة»، والآن بعد ستة أشهر يَظهر بسمارك الذي كان في الشتاء شديدَ الشوق إلى وزارة الخارجية قانطًا من ذلك الاقتراح الذي يُقصيه عن أعزِّ أمانيه، فلا يُبرق وإنما يُجيب عن ذلك بكتابٍ مع الحذر، قال بسمارك:
«يَرنُّ أمركم «إلى الحصان» بقسوة حين تتجه مشاعري إلى الدجاج البرِّيِّ من ناحية وإلى رؤية الزوجة والأولاد من ناحية أخرى، وأجدُني هامدًا كاسدًا خائرَ العزم منذ فقدتُ صحتي الجيدة»، وتلوح يمينُ الولاء له غيرَ ذاتِ خطر، ويُعرِض عن وزارة الداخلية؛ لأن النظام البروسيَّ ديمقراطيٌّ في الداخل شديدُ المحافظة في الخارج، مع أن العكس هو الذي يجب أن يكون. وهو إذ يحمل هذه الأفكار يُدبِّج يَراعُه أعمقَ ما قيل عن الألمان حول ذلك: «فلنا ما للفرنسيين من غرور، فإذا ما قنعنا بوجود نفوذ لنا في الخارج احتملنا أمورًا كثيرة في الداخل» وإلى هذا يُضيف بسمارك قوله: «أُخلص لمليكي كما في فَنْدِه،٨ ولكنني لا أشعر بميلٍ إلى رفْع خِنصري في سبيل الآخرين، فهذا هو طراز تفكيري، وإني لأخشى بهذا التفكير أن أكون بعيدًا من تفكير مولانا المعظَّم فلا يجدُني أهلًا لمقعد في مجلس التاج»، ثم يختم كلامه بغتةً بقوله: «وإذا انحرف المليك قليلًا إلى وِجهة نظري قمتُ بالعبء مسرورًا.»

ويُفسَّر هذا الرفض الناقصُ وهذا الأسلوبُ الضارع بالعناد أكثر مما بالمرض؛ فهو من حسن الصحة ما يُفيق معه من نومه في منتصف الليل ليذهب إلى صَيد الدجاج البري؛ ولذا نجد صحته من الأسلحة التي يتذرَّع بها في النضال السياسي، والحقُّ أن بسمارك يُبصر من خلال التباس تلك الدعوة غير الرسمية أن ذلك يجعلُه في وضْع غير مناسب، ويجيء إلى برلين في نهاية الأمر، ويرى أن عدوَّته القديمة أُوغُوستا كسبت الشوط، فقد أذعَن الملك راضيًا بتتويجٍ بسيطٍ «كان قد أمر بإعداد حُلَلِه في شهر فبراير، فصار الملك — كما روَى رون — خاضعًا للملكة وتوابعها أكثر مما في أيِّ وقتٍ كان، فإذا لم يشتدَّ الملك نشاطًا ضاع كلُّ شيء وغدَونا تحت نير البرلمانية والجمهورية.»

وبسمارك — مع ذلك — يذهب إلى بادن بغتةً ليواجه الملك وِلْهلم «ويحار الملك كارهًا؛ لاعتقاده أنني لم أحضُر إلا بسبب الأزمة الوزارية» ولا يعود إلى الملك لطفُه إلا بعد اطمئنانه إلى مؤامرات مِيفِيسْتوفِل،٩ ويحاول تلميذٌ ألمانيٌّ أن يقتل الملك في تلك الأثناء؛ لِما كان من عدم جهاد الملك في سبيل الوحدة الألمانية، ويقاسم بسمارك وجهة نظر الجاني وإن قام اصطيادُه للملك على الأفكار، ويرى بسمارك الإفادةَ بسرعة من تلك الفرصة، فقد أثَّر في الملك ما كان من نجاته ومن اعتراف الجاني بالسبب، ويشرح بسمارك أفكاره الخاصة للملك وِلْهلم الذي كان للمؤامرة أبعدُ الأثر في نفسه، ثم يُدوِّن أفكاره هذه في مذكِّرة يكتبها في عطلة الصيف برينفيلد فتنسخها حنَّة، وفي هذه المذكِّرة يُقيِّد بسمارك تغييرًا قاطعًا ثمينًا في أفكاره، وهو يُعنَى فيها بتفصيل رأيه الأساسيِّ حول الإمبراطورية الألمانية، قال بسمارك:

«لا يمكن بروسية أن ترضى بأن تكون تحت الوصاية في ألمانية، وللحكومة الاتحادية من السلطان البالغ ما ليس للحكومات التي تتألف منها؛ لِما لها من النفوذ العظيم في الأمور المشتركة بينها. ويُبلَغ هذا الهدفُ على ما يحتمل بتمثيل الألمان القوميِّ لدى الدول التي تتألف منها الجامعة، فتكون بذلك موازنةٌ لميول الأُسَر المالكة التي تقوم سياستُها على الانفصال، والشعب إذا مُثِّل في جميع الدول الألمانية تعذَّر عَدُّ مثل هذا النظام أمرًا ثوريًّا. وقد يُضمن الانسجام والبقاء لمثل هذا النظام التمثيلي عند انتخاب أعضائه من مجالس اللَّنْدتاغ، لا من الشعب رأسًا. وتُفسِّح الخصوماتُ الثانوية في مجالس الدولة مجالًا لعمل رجالِ الدولة الأكثر اكتراثًا لمصالح الألمان العامة.» ولكلِّ دولة أن تحافظ على سلطانها الخاصِّ في داخلها، ولا أملَ في الوصول إلى ذلك النظام بالبندِشْتاغ الراهن ما دامت النمسةُ معارضةً له، «وقد يكون عمليًّا أكثرَ من سواه أن يُصارَ، كما وقع في أمر الاتحاد الجمركي، إلى إقامة نُظُم قومية من طراز آخر»، ولا بدَّ من إعلان هذه الخطط؛ «ليكونَ لها ما يجب من الأثر المضاعف، فيهدأَ — من جهةٍ — بالُ أمراء الألمان حول دائرة خططنا ويعرفوا أننا لا نهدف إلى الضمِّ، وإنما نريد موافقةَ الجميع، ويُزال من جهةٍ أخرى قلقُ الشعب بأن يُحمَل على الاعتقاد بأن بروسية تسعى إلى ارتقاء ألمانية الذي لا يُنتهَى إليه بالبنْدِشْتاغ العتيد».

وإذا أُنعم النظر في هذه الآراء حول البرلمان الجمركيِّ المؤدي إلى الرَّيْشتاغ ذات يوم، ثم رُجع البصر إلى ما ألقاه بسمارك من الخُطَب وكتَبَه من الرسائل سنة ١٨٤٨ أُدرك أمرُ تحوُّلِه من رجل حزب إلى رجل دولة، وبسمارك هو الذي يريد اليوم تحقيقَ مبدأ الثورة؛ أي تحقيق الوحدة الألمانية التي كان يُقاومها فيما مضى؛ لما تنطوي عليه من أصل ثوري، «وكلُّ واحد منَّا يودُّ الوحدة الألمانية، ولكنني لا أُريدها بهذا الدستور» هذا ما صرَّح به بسمارك، وبسمارك وإن كان راغبًا عن هذا الدستور اليوم، يقول به كعامل أساسي، وبسمارك يرى الزمان قد مرَّ على أصله فصار من الشرعية «ما لا يُعدُّ معه ثوريًّا» أجلْ، إنه يُصرِّح معترفًا بضرورة اشتراك الألمان في حكومة ألمانية، ولكن ذلك هو لموازنة منافسة الأمراء!

وتُكتب الوثيقة المذكورة آنفًا بأسلوب قضائي، وتجد مثلَ هذا التحول بأقوى مما تقدم، وبأدلَّ على طريقة بسمارك من ذلك في الكتاب الذي أرسله بسمارك إلى صديقٍ له في ذلك الوقت ضدَّ برنامج المحافظين؛ فقد جاء فيه: «بلغْنا المرحلة التي تُصبح فيها سيادةُ أُمراء الألمان الطاغية وغير الشرعية وغير التاريخية؛ معشوقةَ حزب المحافظين، مع أن أولئك الأمراء يتخذون وضْعنا الاتحاديَّ قاعدةً يتلهَّون فوقها كذوي السلطان في أوروبة. ولا أدري لمَ نتقهقر فزَعًا وهلَعًا من مبدأ التمثيل الشعبي في مجلس الجامعة أو مجلس الاتحاد الجمركي. فمن الممكن إيجاد مجلس قومي محافظ مع نَيل شُكر الأحرار.»

وتمضي عشر سنين على ذلك القول فيفتتح بسمارك الرَّيْشتاغ الألماني الأول.

١  الدمة: القطعةُ من الدم.
٢  النيفا: نهر يمر من بطرسبرغ.
٣  لورليه: اسمٌ يُطلق على جنيٍّ أسطوري، يسكن ضفافَ نهر الرين، فيجلس على صخرة فوق الضفة اليُمنى ويجتذب الملَّاحين إلى المهالك.
٤  سبريه: نهرٌ يمر من برلين.
٥  ولغ الكلب الإناء، وفي الإناء: شرب ما فيه بأطراف لسانه أو أدخل فيه لسانه وحرَّكه.
٦  عاقر الخمر: أدمن شربها.
٧  Classique.
٨  فَنْده: ولاية فرنسية اشتهر سكانها بتعصبهم للنظام الملكي القديم.
٩  مِيفِيسْتوفِل: اسم للشيطان، جعله غوتة مألوفًا في رواية فاوست.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤