الفصل الثامن

يقف وِلْهلم الأول أمام الهيكل فيلتقط التاجَ من المائدة المقدسة ويضعُه على رأسه بيدَيه؛ علامةً على أنه ناله من الله لا من الناس، ثم كان عرْضٌ كبير للكتائب، وكان يبدو بين الحاشية الزاهية عِلجٌ١ لابسٌ بِزَّةً زرقاء، فيَلوح لمَن يتردَّدون إلى البلاط أنه بسمارك لو لم تُزيِّن جبينه خُصَلٌ كثيرة، ويقترب منه فيظهر أنه بسمارك في الحقيقة فيقول ضاحكًا: «أراني حكيمًا في ساحة القصر إذ أُجهِّز نفسي بشَعر مستعار، يُلقي بِرنار٢ في الظلِّ، فضلًا عن بِزَّتي العسكرية، ولولا هذا لأسفر قضائي ساعتين حاسرَ الرأس في الهواء الطَّلق عن انحراف في صحتي.» وهكذا يحضر بسمارك متنكِّرًا حفلةَ تتويج الملك، ثم يُتمُّ بسمارك تتويج الملك إمبراطورًا بعد عشر سنين، ويُعرِض الملك عن تابعه ذلك في حفلة التتويج الأولى تلك كما يفعل ذلك بعد عشر سنين. والسببُ في هذه المرة هو أن وِلْهلم يودُّ ألا يظهرَ بمظهر الرجعيِّ، وتعمل الملكة على ارتباك زوجها وارتباك بسمارك، فهل تَقْبل عدوَّها هذا بلطف لم تَقْبله بمثله منذ سنين، وهي تقف بجانبه في المهرجان، وهي تُكلِّمه في السياسة الألمانية، «فيحاول الملك الذي يقودها مُمسكًا يدَها أن يقطع حديثها على غير جدوى».

بيدَ أن نَيل التاج من الله لم يُلقِ سكينةً في قلب الملك؛ فقد اضطربت شئونُ مملكته بأشدَّ مما كانت عليه في عهد غيره، ويفوز حزب التقدُّم الجديد في الانتخابات التي وقعت بعد عام، ويَضِنُّ البرلمانُ على الملك بالجنود انتقامًا، وتُجازَى وزارةُ الأحرار بالعَزل في فصل الربيع، ولم يَضُمَّ رون إليه غيرَ محافظين، ويَحُلُّ النَّبيه النشيط الكونت برِنْستورْف محلَّ شلِينِتْز مع عجزٍ فيه عن سلوك سبيل جديدة، ويداوم شلِينِتْز على الحكم من الدِّهليز، ويُستدعى بسمارك من سان بطرسبرغ نهائيًّا، ويلاحظ بسمارك أنه سيكون للخارجية ثلاثةُ وزراء، ويُسفر جنون أمير هِس الناخب الذي امتنع رعاياه عن دفْع الضرائب عن إرسال جنود يَكسرون خزائنهم، وتَسنح فرصةُ التدخُّل، فيقول بسمارك لبرِنْستورْف: «إذا كنتم تودُّون محاربة هِس فاجعلوني سكرتيرًا ثانيًا لكم، فسوف ترَون هنالك اشتعالَ حربٍ أهلية طاحنة في أربعةِ أسابيع.» وبسمارك في هذا الدور «يُعارَض معارضةً شديدة بكلمة محاربة الأخ لأخيه».

ويبلغ شوقُ بسمارك إلى العمل في ربيع سنة ١٨٦٢ ما يرضَى معه أن يصيرَ وزيرًا بلا وزارة على الأقلِّ، ويتلقَّى بسمارك من الملك، في هذه المرة أيضًا، قرارًا مُزريًا به قائلًا إنه يمكنه أن ينال أيَّ منصب كان خلا وزارة الخارجية مع عَدِّ بسمارك أمرَ القيام بهذه الوزارة من اختصاصه، وما كان بسمارك ليُطيقَ الانتظار كما صنع منذ عامين؛ فقد هدَّد رئيسه بالاعتزال أو رفعِه إلى منصب، ويُعيَّن سفيرًا بباريس في ثلاث ساعات، وهذه هي الحلقة الأولى من سلسلة تهديدات بسمارك بالاستقالة حملًا للملك على النزول إلى ما يريد، وكان منصبُ السفير بباريس شاغرًا، وكان منصب السفير بلندن شاغرًا أيضًا، فأبدى برِنْستورْف مَيلًا إلى ملئه له، ولكن رجل الدولة (بسمارك) كان غير مُحبَّب، فبلغت الملكة من كُرهها له، وبلغ الملك من عدم الاكتراث له، ما عرَّض بإنذاره ذلك نفسَه لخطر الاستغناء عنه في ساعة ملال، وما كان من إشارة برِنْستورْف بعكس هذه المجافة ففضلٌ منه، والرجل الوحيد الذي كان بسمارك يعتمد على عونه الشخصي هو رون، ورون هذا كان لا غُنية للملك عنه.

وفي سان بطرسبرغ كان بسمارك يشعر دومًا بأن إقامته مؤقتةٌ بها، فلم يقضِ فيها سوى نصف السنوات الثلاث من سفارته بها، وإلى باريس يذهب بسمارك كما لو كان ذاهبًا لزيارة، فمن الممكن أن تشتدَّ الأزمةُ في كلِّ وقتٍ فلا يوجد لها حلٌّ، فيستدعيه رون وفقَ ما اتفق عليه هذان الصديقان فيما بينهما، وبسمارك على ما كان من سابق حُبِّه لباريس لم ترُقْه باريس في الوقت الحاضر؛ فهو يجد السفارةَ فيها عفنةً، وهو يجد الفرنسيين بلديِّين مُتصنِّعين متحفِّظين، وهذا إلى ما كان من تَوَقانه إلى السلطان منذ عامين على الأقل، فصار كلُّ شيء يُكدِّر صفوَه، وأصبح غائصًا في روح من السلبية ما يَذكر معه ساعاتِ فتائه القاتمة.

ويُرسل إلى أخته كتابًا عند نقله من سان بطرسبرغ يقول فيه: «غدوتُ متهدِّمًا نفسيًّا منذ مرضي، فصرتُ راغبًا عن معالجة الأحوال المضطربة، وكان يمكنني أن أكون وزيرًا نافعًا للدولة قبل ثلاث سنين، والآن لا أبدو لنفسي سوى فارس عليل في الميدان، فسأذهبُ إلى باريس أو لندن غيرَ راضٍ أو غاضب، أو أبقَى هنا كما يرى الربُّ وصاحب الجلالة، فجميعُ هذه الأمور سواسية لديَّ، وهي لا تُغيِّر شيئًا من حياتنا السياسية. أرتعش من المنصب الوزاري كما لو كنتُ أمام مُغتسَل بارد، وأودُّ شغلَ أيِّ منصبٍ خالٍ كان، أو العود إلى فرانكفورت، وأريد حتى الذهاب إلى بِرن لِما أجده من الراحة فيها. والآن أقرأ مذكِّرات فارنهاجِن٣ فأجدُها لاغيةً خبيثة، ولكن مَن ذا الذي يظهر بغير هذا؟ تتوقفُ الفروقُ بين الناس على الطراز الذي تنشأُ به حياةُ كلِّ واحدٍ منهم، شأنَ الثمرة التي تُسَوس بالحشرات أو تَنضُر تحت شعاع الشمس، أو تُعرَّض للرطوبة فتصير مُرَّة أو حُلوة أو فاسدة.»
وما كان بسمارك متألِّمًا مع ذلك، أجلْ إن المرض يُلمُّ دومًا بزوجه وولده وبجميع أفراد منزله، فتُبصر رِقَّةً زائدةً فيما يكتب إلى مَن في بومِيرانْيَة، ولا سيَّما أختَه، بيدَ أنه إذا مرِض في الحقيقة اعترف بنسبية مشاعره السياسية، فيسير على غِرار هَمْلِت٤ في كتاب يُرسله إلى زوجه فيقول لها فيه: «لا أرى في هذا العالم سوى المصانَعة والاحتيال، ولا يُهمُّ في نهاية الأمر أن تُمزِّق الحمَّى أو البُندقة٥ نِقاب اللحم ما دام وقوع هذا أمرًا لا بدَّ منه عاجلًا أو آجلًا، وهذا إذا ما حدَث كان بين البروسيِّ والنمسويِّ من الشَّبه ما يصعب معه تمييزُ أحدهما من الآخر لتماثُلهما حجمًا كتماثُل شِرك ورِشبِرك، وهما إذا ما جمُلَا، فلم يُنظر إلى غير الهيكل في العاقل والمجنون منهما، وجِدَا متقاربَين؛ فالوطنيةُ الخاصةُ تتوارى عند النظر إليها من هذه الجهة.»

وبسمارك — فيما بعد — يتغافل شيطانًا عن بعض ما عليه، فيُحلِّل حتى تجاه زوجه أحيانًا ما به من بقايا تديُّن ذات تأثير غريب فيه، وبسمارك يُقلِّل من كتبه إلى زوجه، وهو إذا ما كتب إليها كان ذلك باختصار، وهو إذا ما كتب إليها أبدى لُطفًا لها كما في الماضي، ولا يُسهب بسمارك ولا يتعمَّق في غير وصفِه لأمور الطبيعة، فهنالك يكون شاعرًا.

وبسمارك يفكِّر في العناية الإلهية بعد أن يضربَه القدَر، وبسمارك يكتب إلى أخته التي قُتل ابنُها في الصيد حديثًا قولَه: «إذا ما انقضت عشرون سنة أو ثلاثون سنة — على الأكثر — خلَع كلٌّ منَّا عبءَ هذه الحياة، فيُصبح أولادنا حيث نحن الآن، فيُدهشون لما يرون إذ ذاك من انحدار حياتهم إلى الزوال، ولا يستحقُّ لُبْس الثياب وخلْعها عناءً ما دام هذا هو المصير. ينقص عددُ مَن نحبُّ باستمرار، وهو لا يزيد إلا بعد أن نغدوَ ذوي حفَدة، ومَن كان في عمرنا لا يؤسِّس من الصِّلات ما يقوم مقامَ التي كانت لنا بمَن ماتوا.» وحِسُّ الأسرة لدى بسمارك يدحَر الحسَّ الدينيَّ في هذا الموقف أيضًا.

والحقيقة هي التي يصف بسمارك في أحوال الحياة العادية؛ أي عند عدم المرض والضعف. قال بسمارك بعد حضوره مأتمَ أمير: «جلستُ في الكنيسة المفروشة بالسواد مع غُورشاكُوف قريبًا من التابوت المغطَّى بمُخمَلٍ جنازيٍّ فتكلمنا في أمور السياسة. ويقتبس أُسقُف الكنيسة وعْظَه من المزمار الثالث بعد المائة «حول الكلأ والريح والغبار»، على حين نرسم الخطط ونضع المكايد كما لو كنَّا من الخالدين.» فهذه التأملات هي من الأمور الدارجة لدى هذا الرجل الذي يُحلِّل نفسَه دومًا، وهي أكثر في سنوات نصرانيَّته العشر مما في شبابه، وهي تزيد الآن؛ لما تنطوي عليه من إنذار بالحقيقة أمام المِرآة.

figure
بسمارك في سنة ١٨٥٩.

ويساورُه مثل تلك الحال النفسية، فيجوب شوارعَ باريس عاطلًا من منزل منظَّم، عاطلًا من زوجه التي لم تكن معه، بعيدًا من المجالس الراقية التي يغادر أهلوها باريس في منتصف الصيف، ويزيد اضطرابُه لعدم بلوغه هدفَه فيبلغ درجةً يزدري معها هذا الهدف، ويجيء في كتاب يُرسله إلى رون: «إن لديَّ نَوبات نشاط، وإن لديَّ من روح الإقدام ما لدى هذا الحيوان الذي يودُّ الرقصَ على الثلج في إبَّان سعادته.» ثمَّ يعُدُّ العِلل المنزلية التي يمكن أن تحفز برِنْستورْف إلى تأجيل سفره، فإلى تأخير الأزمة حتى أوائل السنة، ثمَّ يختم بسمارك قولَه بالكلمة: «من المحتمل أننا نقوم بأمر الحساب من غير مُضيِّفنا، ومن المحتمل أن صاحب الجلالة لا يُقرِّر تعييني أبدًا، والآن لا أرى سببًا لتعيينه إيَّاي ما امتنع عن ذلك في الأسابيع الستة الأخيرة.» ويحلُّ شهر أغسطس فيُلحف على رون ليُتحفَه بحوادثَ قاطعةٍ؛ وذلك لأنه يودُّ أن يعرف أين يكون مكتبه في فصل الشتاء القادم، أفيكون في لندن أم في باريس أم في برلين، فيجيء في جواب رون: «إن الملك سيعرف هذه العوامل، فيكون لها ما ليس للعوامل السياسية من التأثير.»

وما لديه من حنين متصل إلى الوطن ومن شَوقٍ إلى إقامةٍ ثابتة فيجعله عصبيَّ المزاج، فيعكس هذا على أصدقائه ببرلين، «فلا تزال أشيائي ببطرسبرغ حيث تكاد تَجمُد. وتُبصر أفراسي في ضواحي برلين، وتُبصر أسرتي في بُومِيرانيَة، وتُبصرني على الطريق، ولا ترى ما هو أطيبُ عندي من البقاء بباريس، ولكنني أريد الاطمئنان إلى أنني لا أُنقَل بعد بضعة أسابيعَ أو أشهرٍ فأُزعَج بجلْب متاعي الكثير»، ويداوم على كلامه فيقول: «إنني مستعدٌّ للخدمة بلا وزارة، ولكنني لا أرى ما يجعلني آمُل ذلك.» ويعود إلى عادته فيدَع خطًّا لرجوعه فيكتب إلى أخيه أنه إذا ما نال منصبًا وزاريًّا، فليس ذلك لطويل زمن، فهو يرغب في الذهاب إلى الريف لكي يغرسَ أشجارًا، «ومن رأيي الثابت أن يكون عندي شجرُ بلُّوط في الأراضي الرملية لصُنع المراكب؛ فالهولندي حتى في أسوأ تربة ينال ما بين عشرين فلورينًا وثلاثين فلورينًا»، وفي حين آخرَ يكتب إلى أخيه كما لو كان ملازمًا بعد مأدبة «أن ابتعادي عن زوجي وأولادي وما كان من بَشَمي بالمشمش قبل يوم؛ فمما يجعلني أكتئب، فأطمع أن يكون لي من المنصب الثابت ما أختم به بقيةَ أيامي مطمئنًّا.»

وأجملُ شيء وجدَه في ذينِك الشهرين بباريس هو ما اتَّفق له من حديث في فونتِنبلو؛ فقد حاول الإمبراطور أن يُغويَ بسمارك كما حدَث منذ خمس سنين وإن كان على وجه مُلِحٍّ أكثر من قبل، فكأن نابليون شعَر بأن من المحتمل أن يقبض بسمارك على زمام السلطة قريبًا فيسعى في خرابه، فيرجو أن يَحول دون وقوع الكارثة مقدَّمًا، وفيما كانَا يتنزَّهان قال الإمبراطور لبسمارك على غير انتظار: «أترى الملكَ مستعدًّا لمحالفتي؟»

بسمارك : لا شيءَ يَعدِل ما يُكنُّه الملك من الصداقة لشخصكم يا صاحب الجلالة، وما كان من تحامُل الرأي العامِّ على فرنسة فقد ذهَب أدراج الرياح، غير أنَّ المحالفات في الوقت الحاضر لا تكون مُجديةً إلا إذا كانت مفيدة ضرورية؛ فالحلفُ لا بدَّ له من بواعث ولا بدَّ من وجود هدف له.
الإمبراطور : ليس هذا صوابًا في كلِّ حين، فترى الدول على شيء من الصداقة، ولا مناصَ من تبادُل الثقة تجاه مستقبل مجهول، ولا أتكلم عن الحلف مغامرًا، بل أجد بين بروسية وفرنسة من المصالح المشتركة ما يشتمل على بذور حِلف صميميٍّ دائم ما لم تَحُل الأوهام دون ذلك، ومن الخطأ البيِّن أن يُرادَ خَلْقُ الأحوال؛ فالأحوال تأتي بنفسها من غير أن نقدر على تقدير قوَّتها ووِجهتها؛ ولذا يجب علينا أن نكون مطمئنين إلى الوسائل التي نواجه بها الأحوالَ فننتفع بها.

ويُسهِب الإمبراطور الكلام في «الحِلف الدِّبْلُمِيِّ» ولكنه يقف في الحديقة بغتةً ويقول: «إن ما عرضَته النمسة عليَّ من اقتراحاتٍ عجيبة في هذه الأيام مما لا تُصدِّقونه. والذُّعر هو الذي يلوح في فِيَنَّة، وقد حدَّثني مِترنيخ عن السلطات الشاملة، وهو لم يكَدْ يجرؤ على ذكْر مداها، وهو قد قال لي إنه مُفوَّض بأن يفاوضني في كلِّ المسائل غيرَ مُقيَّد، وإن لديه من السلطات ما لم يمنحْه وليُّ أمر لرسول، ويربكني هذا التصريح فلم أعرف كيف أُجيب عنه، فهو يريد تسوية الأمور معي تسوية مطلقة بأيِّ ثمن كان، ولكنني من غير قولٍ عما بين البلدَين من اختلاف في وِجهات النظر؛ أشعرُ بوجَلٍ يكاد يكون خرافيًّا من ارتباطي في مصاير النمسة.»

والأمر الأول الذي يُثير دهَشنا في هذه المحادثة هو عدم تكلُّف الإمبراطور خلافًا لعادته، وما كان من إفشائه لذلك القطب السياسيِّ بما يدور في خلَده مع اشتهار ذلك القطب بالمصانعة في ذلك الحين، وقد يَردُ الخاطر كون نابليون الثالث نطَق بما نطَق عن رعونةٍ وهوًى، ولكنَّ ما عُرِف من أخلاق الرجل وتاريخه يَدحَض هذا الافتراض، ولكنَّ ما عُلم من عادته في المحادثات الدِّبْلُمِيَّة يَحول دون اختراعه ما عرَض مِترنيخ، وهذا إلى أن طِراز إدراكه لطبيعة الحِلف أكثر صوابًا وأشدُّ ملاءمةً للعصر، ولم يضرب بسمارك عن قَوس فكرِه الحقيقيِّ فيما قاله، ولم يَعْدُ ما قاله حدَّ الادِّعاء. ولا نرى ما هو أدعى إلى الذِّكر من رفضه الطاهر، وقد شبَّهه في تقريره برفْض يوسف لِما راودَتْه به امرأةُ العزيز (فوطيفار) عن نفسها، «فهو يَعرِض عليَّ أفسقَ ما عُرِف من حِلف، ولو سايرتُه أكثرَ مما فعلتُ لكان ما صرَّح به أوضحَ مما صنع.»

وهل كان يمكن بسمارك أن ينال من الإمبراطور تصريحًا أعظمَ مما وقع؟ لم تكن المبادئ لتعوقَه ما دام من غير القائلين بشرعية العروش، ولو أتى باقتراح إيجابي من فرنسة القوية لناقش الملك فيما يشتمل عليه من الأمور، ونعرف فضلًا عن ذلك أن بسمارك أوضحَ في كتابه إلى برِنْستورْف كونَ الإمبراطور «نصيرًا قويًّا لمبدأ الوحدة الألمانية الصغرى؛ أي لمبدأ الوحدة الألمانية بغير النمسة، ومما حدَث منذ خمس سنين أن صرَّح لي في اجتماعي الأول به أنه يودُّ أن تكون بروسية دولةً بحرية — من الدرجة الثانية على الأقل — وأن يكون لديها من المرافئ ما يفي بهذا الغرض. وعنده أن من العبث إغلاقَ خليج جاد في هانوفِر-أُولْدَنْبرغ»، ولكن بسمارك لم يقُل لرئيسه شيئًا عن جوابه إلى الإمبراطور في أمر اقتراحات النمسة؛ فقد اكتفى بما انتهى إليه من النتيجة العامة القائلة: إن من غير الملائم أن تُحالَف فرنسة في مسائلَ معينة، وإن من غير الملائم أيضًا أن تُعاهَد النمسة ضدَّ فرنسة؛ وذلك لأن النمسة «لن توافق — مختارة — على كلِّ تحسين لوضْعنا في ألمانية ولو أدَّى هذا إلى تضحيتها بالبندقية وضفَّة الرَّين اليُسرى»، ويتكلم بسمارك عن الأمر بوجهٍ عامٍّ، فيقول: «إن النمسة تريد الدخول في كلِّ عملٍ يؤدي إلى تفوُّقها على بروسية في ألمانية.»

وما كان من سكوت بسمارك تجاه رئيسه فذو مغزًى؛ فبسمارك كان من سرعة الخاطر ما أدرك معه أولَ وهلةٍ مقدارَ العمق في تلك المحادثة بحديقة فونتِنبلو الإمبراطورية، ومن الواضح أن كان بسمارك صريحًا تجاه الإمبراطور أكثر من صراحته تجاه الوزير برِنْستورْف الذي كان بسمارك يطمع أن يحُلَّ محلَّه بين حين وآخر، والذي سيصبح سفيرًا في لندن فيَغدو بسمارك في مكانه بوِلْهلمستَراس آمرًا له بعد أن كان مرءوسَه، ولمَ يَبوح بسمارك لبرِنْستورْف بجميع ما اشتملت عليه تلك المحادثة المنقطعة النظير من الحقائق إذن؟ ومن المحتمل أن يكون بسمارك قد كتَم حتى عن الملك فحوى ذلك الحديث، وبسمارك وإن لم يَذكُر للإمبراطور نابليون الثالث غيرَ العموميات؛ استطاع أن يقتطع من اعترافات هذا الإمبراطور ما هو أبعدُ من ذلك، وتمضي أربعةُ أعوام، وتقع الحرب البروسية النمسوية فيُذكِّر بسمارك نابليونَ الثالث بتلك المسائل على ما يحتمل.

وبسمارك حين وجوده بباريس يتصل بزعيم المعارضة تِيار، ويسافر بسمارك إلى لندن أيضًا، فيزور الزعماء فيها، ويتناول العَشاء في السفارة الروسية، فيَبهَر ديسرائيلي وفريقًا من الزعماء الآخرين بصراحته، وإن عُدَّ الطراز الذي كَتَب به تقريرَه حول ما حدَث موضعَ شكٍّ لا ريب، ويُسأل عما يفعل إذا ما قبض على زِمام السلطة، فاسمعْ قوله: «إِنَّ أول شيء أصنعه هو إعادة تنظيم الجيش بسرعة. فإذا ما أصبح قويًّا اغتنمتُ أولَ فرصة لتصفية الحساب مع النمسة فأحُلُّ الجامعة الألمانية، وأُقيم دولة ألمانية موحَّدة بزعامة بروسية.» وبسمارك — وهو الذي ألِفَ الخداع — كان يرى أن الناس يُصدِّقونه دومًا إذا ما كذَب مع انتحال الجِدِّ، وأنهم لا يُصدِّقونه إذا قال الحقَّ مع ظاهر خداع، ولكن بسمارك يُخطئُ في هذه المرة؛ وذلك لأن الذي يُنصت له الآن هو ديسرائيلي الذي لا يقلُّ عنه ذكاءً، ويُكرِّر ديسرائيلي كلماتِ بسمارك فيُضيف إليها قولَه البالغ: «انتبهوا إلى هذا الرجل، فهو يَعني ما يقول!»

والحقُّ أن المسألة الألمانية كانت تتوقف على الجيش البروسي، وأن كلَّ حزب كان يودُّ أن يكون الجيش البروسيُّ بجانبه، وكان هنالك ثلاثةُ أحزاب؛ فأما الأحرار فكانوا يرَون الوحدة الألمانية بزعامة بروسية، وأما المحافظون الألمان فكانوا لا يريدون رؤية البروسيِّين فوقهم، وأما المحافظون البروسيُّون فكانوا لا يريدون أن يُحَوَّلوا إلى ألمان. ويبدو الخلاف في الشعب والمجتمع الراقي والبلاط والموظفين والأسرة المالكة، وتتموَّج المشاعر كما في الثورة.

والملك وحده هو الذي كان يسمع صوتَين في فؤاده، والملك ما انفكَّ منذ ثلاثين سنة يقول بإعادة تنظيم الجيش، فهنالك فائدتُه الوحيدة، وذلك كلُّ ما يَعرف، ويظلُّ جهاز الجيش على ما كان عليه منذ حرب الإنقاذ، ولا تنال يدُ التعديل عُمُرَ مَن يُدعَون إلى الجندية وإن تضاعف عددُ السكان في البلاد، والآن تُصبح السلطةُ قبضةَ وِلْهلم بعد زوال عهد أخيه المتردد، فيريد سَنَّ قانونٍ قائل بتجنيد أقصى ما يمكن من الرجال على أن تكون مدة الخدمة العسكرية ثلاثَ سنين، وعلى أن يُنقَص عددُ مَن يُجمَع من الرُّدَفاء المتزوجين. وهكذا يُجدَّد الجيش ويزيد عدد مَن يَحملون السلاح من ٤٠٠٠٠٠ إلى ٧٠٠٠٠٠ جنديٍّ أكثرَ شبابًا، ولمداراة المسنِّين في التجنيد معنًى اجتماعيٌّ إلى الغاية، ومن المحتمل أن يكون الملك قد أراد هذا في بدء الأمر.

ولم يَلبَث غرَض وِلْهلم أن فُسِّر تفسيرًا سياسيًّا، فهُوجم من الجهتَين، ومن الحق أن كان الرُّدفاء لدى الأحرار حِصنَ الشعب الأخيرَ الذي ما فَتِئوا يشغلونه منذ سنة ١٨١٣، فآباؤهم؛ أي الشعب بالمعنى الحرفيِّ، هم الذين كسَبوا حربَ الإنقاذ، لا الأشراف الذين كان وضْعهم مذبذبًا، ولا الملك الذي كان عدوًّا للأمة، والآن يلوح أنَّ جيش الشعب، الذي أوجده شارنْهورست في تلك الأيام، انحطَّ من شرفه إلى جيش للملك، وهذا إلى أنَّ الأحرار يريدون تقويةَ الجيش كوِلْهلم، ويُريدون الوحدةَ الألمانية، ويريدون الخدمةَ لمدة سنتين وصولًا إلى تلك الغاية؛ فالذي يكرهونه هو زيادة نفوذ الأشراف في الجيش، فتراهم يناهضون ما يُراد توسيعُ نطاقه من جماعة الضباط والكليات الحربية وما يُراد صنْعُه من تحويل ضباط الطبقة الوسطى إلى رُدَفاء، واليوم تُبصر رجوعَ كلِّ شيء إلى حظيرة الأشراف، واليوم تُبصر الدِّبْلُمِيِّين والرؤساء والمالكين من الشرفاء، فإذا ما أُمسِك الجيشُ على أنه جيشٌ شعبيٌّ نمَّ ذلك على بقاء شيءٍ من روح سنة ١٨٤٨ التي أخذَت تميل إلى الأُفول.

ورُون هو الذي أوصَل الصدام إلى أقصى حدٍّ، ورُون هذا كان ملكيًّا أكثرَ من الملك فصرَّح في المجلس بأنه لا ينبغي للتاج في الأوقات العصيبة أن يكون تابعًا للأكثريات المتقلبة ولا لِخُطب الأحزاب، وهكذا يعارض الدستور ويَجرُّ أحزابَ الشمال إلى المعركة التي يودُّها، والملك قبل إعلان الدستور كان قد أمر بزيادة عدد الجنود، والآن أَتكون بروسيةُ دولةً دستورية أم دولةً عسكرية، كما في الماضي؟ ولا جنودَ بلا مال! وليُرفَض فرضُ المال من أجل خدمة السنوات الثلاث! يغدو حلُّ المجلس ضربةَ لازب إذا فعلتم ذلك، فهذا هو الوجهُ الذي صار إليه الصدام.

وفي أسابيع الأزمة ببرلين تلك يَسبح بسمارك كلَّ صباح وبعد كلِّ ظُهر في مياه المحيط الأطلنطي، حيث تَلطم الأمواج شواطئ فرنسة بشدَّة، ويكون بسمارك في بِياريتْز قريبًا من الحدود الإسبانية بعيدًا من الخطوط الحديدية ومن الأعمال والصحف الألمانية، ويغتسل بسمارك مرتين في كلِّ نهار، ويَقضي بسمارك هنالك أسابيعَ بدلًا من الأيام الثلاثة التي كان يقصد التمتُّع بها هنالك، ويستلقي بسمارك على الكُثبان «مُدخِّنًا ناظرًا إلى البحر متمرِّنًا على إصابة الأهداف، فنسيتُ السياسة وصرتُ لا أقرأُ الجرائد»، وتلحق رسائلُ برِنْستورْف ورون المهمةُ به في سفوح جبال البِيرَنِه (البرانس)، وينبطح بسمارك على الرمل ويصرخ قائلًا: «عليَّ ألا أُدعى إلى برلين رأسًا، فلستُ سوى ملحِ بحرٍ وشعاعِ شمسٍ. لقد مكثتُ أكثرَ من نصف ساعة بالماء، وأشعر بأنني عاطلٌ من جناحَين أطير بهما، ونتعشَّى ونتنزَّه على الخيل، والقمرُ يسطَع نورًا والبحرُ يرجع جَزرًا، ثم أعود وحيدًا وأشعر بأنني عُدتُ نشيطًا.»

ولم يتفق لبسمارك من الهناءة منذ عشر سنين — أو يزيد — مثلما اتَّفق له في تلك الأسابيع القليلة، ويبدو عاشقًا كما يبدو مسرورًا، ولكن مع شرف ووفْقَ مبادئَ وثيقةٍ، ولكن مع ذكاء رجلٍ عارفٍ بالنساء، ويُبدي بسمارك فيما يكتبه كلَّ يوم إلى زوجه من الرسائل وجْدًا تجاه امرأةٍ أخرى يُشبِّهُها بقريبة ميِّتة فيُلقي نورًا على غرامه في شبابه. قال بسمارك: «أرى ما لم يرَه أحد في العالم، أرى البحرَ الأخضر الأبيض بفعل الزَّبَد وشعاع الشمس وراء صخرتَين مستورتَين بشجر الخَلَنْج٦ الزاهر، وأُبصر بجانبي أكثرَ النساء فتنةً، أُبصر مَن تُحبِّينها كثيرًا إذا ما عرفْتِها، هي تُذكِّرني بماري تادِن. هي نسيجُ وحدِها، هي مرحة، هي ذكية، هي أنيسة، هي صبيَّة، هي جميلة.» هي الأميرة أُورْلُوف، بنت تروبِتْزكوَا، التي اجتمع بسمارك بها وبزوجها على ذلك الشاطئ فكان له عندهما زُلفى فصار مع السنين يضعُهما أمام الغابات البريَّة والصخور الوعريَّة، «وأجدُني جيِّد الصحة بما يُثيرُ الضحك، وأجدُني فرحًا ما دمتُ بعيدًا منك.» ويذهب إلى الفراش باكرًا، ويُفيق باكرًا نشيطًا، وتَعزف السيدة الروسيةُ الفاتنة له على البِيان ليلًا، ويكون إذ ذاك قريبًا من النافذة ناظرًا إلى البحر، وهي تُلحِّن له قِطعًا مفضَّلة من بِتْهوفِن وشُوبِن وشُوبِر، «وهي امرأة ستكونين شديدةَ الحبِّ لها إذا ما عرفْتِها.» ويزورون منارةً ويجدون زوجَ الحارس حاملًا، ويستحوذ خيالٌ روائيٌّ على العاشقين، ويُعربون عن حبِّهم للطفل الذي لم يولد بعدُ ويقترحون أن يكونوا عرَّابيه،٧ والواقعُ أنَّ الولد عند وضْعه يُسمَّى أُوتون لافْلور جمعًا لاسمَيهما، والواقعُ أنَّ بسمارك ينسَى عيدَ زواجه، فقد استهوت الروسية هذا العارفَ بالنساء المفتونَ بالأجنبيات على الدوام، وكانت هذه آخرَ مغامراته.

والآن يتعقَّب غادةً حسناءَ أخرى، والآن يسافر إلى ما يأخذ بمجامع قلبه، والآن يولِّي وجهَه شطر السلطان.

وتأتيه إشارة برقية بأفِينْيُون بعد صدٍّ وردٍّ في البريد، وتصل هذه الإشارة من باريس إليه بعد أن أرسلها رون إليه في كتاب منذ أسبوعين، ويقرأ بسمارك كلمة «أسْرِع!» وينتهي إليه ذلك في ١٨ سبتمبر سنة ١٨٦٢، والبرقية مؤرَّخةٌ في ١٧ من ذلك الشهر، وفي ١٩ من ذلك الشهر يتوجَّه بالقطار صباحًا إلى برلين حاملًا حالًا نفسية كما كان عليه منذ خمس عشرة سنة حين أُهرِع فلَّاحوه إلى باب شُونْهاوْزِن بعد طويل انتظارٍ، راكبين صائحين قائلين: «أخَذ الجليدُ يتكسَّر، فاحضُرْ سريعًا أيها السيد!»

ويُجمِع حزب التقدم في المجلس الأدنى على رفض مشروع الجيش ما لم تُجعَل مدة الخدمة العسكرية سنتين، ورون يضغطُه رفقاؤُه الضعفاء فيُجيب بأنه سيفكِّر في الأمر مع استعداده للتخلِّي عن أمور كثيرة، ويُعلن برِنْستورْف اعتزالَه للخدمة إذا ما رُئيَ عدمُ احترام البرلمان فلم تُجعَل مدة الخدمة العسكرية سنتين، غير أن الملك يظلُّ ثابتًا لا يتزحزح مستندًا إلى مولْتكه، وفيما كان كلُّ شيء في خطر إذ يستدعي رون ذلك القطبَ السياسيَّ الذي سوف يُجهِّز القادةَ الثلاثة بالفيالق؛ كان الملك في نُوبابِلْسبرْغ مضطربًا اضطرابًا شديدًا حين كان بسمارك يسمع صوت النفير بباريس، والملكُ يجد نفسَه للمرة الثانية بين القانون والعقيدة، والملكُ إذ كان نبيلًا، لا رجلًا سياسيًّا، رأى أن يتنزَّل عن العرش، ويتمثَّل الأحوالَ الهائلة التي لقِيَها في حياته، فيذكُر فِراره إلى مِيمِل في صباه، ويذكُر هربه، بعد أن صار رجلًا، إلى جزيرة الأطواس فإلى لندن، ثم إلى أُولْموتْز، ويذكُر ما كان قُبَيل حرب القِرم، ويغدو جميعُ ذلك أمرًا باطلًا إذن.

وفي ١٨ من سبتمبر يستدعي الملكُ ولدَه فردريك ويُطلعه على وثيقة التنزُّل عن العرش قبل أن يُذيِّلَها بإمضائه، ووليُّ العهد هذا لِما كان عليه من ضعْف شديد ومن قلة استعداد للقيام بأعباء المُلك؛ يمتنع حتى عن قراءة صكِّ التنزُّل مصرِّحًا بأنه لا يَقدر على الحُكم بعد الارتداد أمام المجلس، وبأن التنزُّل عن العرش لا يؤدي إلا إلى زيادة الاصطدام، وبأن ساسةَ اليمين سيُمثِّلون دَور الأب ضدَّ الابن الديمقراطي، ويُذكَر اسم بسمارك.

الابن : هو مُوالٍ لفرنسة.
وِلْهلم : ولمَ لا أُعيِّنه وزيرًا؟

ويحضُّ رُون على تعيين بسمارك، ويؤيِّد برِنْستورْف هذا القائدَ في ذلك، ويَلزم الشيخ وِلْهلم أسفلَ الجدار ويصرخ قائلًا: «هو لا يقبل الآن ما يُعرَض عليه! هو ليس هنا! نحن لا نقدر على مناقشته!» ذلك هو آخرُ جُهدٍ بذلَه الملكُ ليَحول دون وقوع ما لا بدَّ من حدوثه، ويصِلُ بسمارك في صباح اليوم العشرين من ذلك الشهر، ويصفه صديقٌ له بأنه كان «نحيفًا جيِّدَ الصحة مسمرَّ الوجه كأنه جاب الصحراء على ظهْر جمل»، ويجد بسمارك كلَّ شيء مرتبكًا، ولكلِّ واحدٍ ما يقوله له، وكلُّ واحد يُبدي له رأيًا، ولا يزال الوزراء يعتقدون قُربَ تنزُّل الملك عن العرش فيرَون صَرْفه عن ذلك، ويحاول وليُّ العهد أن ينجوَ من الورطة فيسافر إلى ينبوع ماء معدنيٍّ غيرِ بعيد، ويستدعي وليُّ العهد بسمارك في ٢١ من ذلك الشهر فيجده متحفظًا لِما كان من عدم محادثته الملك بعدُ، ويُخبَر الملك بزيارة بسمارك لوليِّ العهد فردريك، فيُؤذيه ذلك، فيقول لرون الذي جاء ليُنبئَه بوصول بسمارك: «لا شيءَ يُعمَل مع بسمارك، فقد كان عند ولدي!» هذا ما رواه بسمارك نفسُه، ومنها يُطَّلع على أمر الملك وِلْهلم الذي كان جنديًّا يُفضِّل التنزُّلَ عن العرش على الإذعان للمجلس، وللملك سُلوان في معارضة ولده لِتنزُّله. ومن الطبيعي أن يودَّ الملكُ بقاءَه جالسًا على عرشٍ انتظر وصوله إليه ثلاثين عامًا، والملك إذا ما أبصرَ ذلك الذي دعاه إليه بالأمس يُغازل ولدَه كما يلوح ارتاب منه ولو كان بسمارك، ولا بدَّ من وجود مؤامرة، ورون هو الذي استدعى بسمارك، ولرون ضِلعٌ فيها إذن! ومن المؤسفِ أن كان بسمارك هنا، ومن المؤسف أن كان بسمارك في عُطلة، ولا يمكن الملك أن يأبى الاجتماع بسفيره هذا، ولا يمكن الملك أن يمتنع عن الاستماع لسفيره هذا، ولا داعيَ اليوم لذلك، واليأس قد دبَّ في نفوس الآخرين مع ذلك، ولا يعرف أحدٌ منهم ماذا يُشير، ولا يُريد وِلْهلم أكثرَ من جيش جديد.

وليأتِ إذن، وليُختبَر إذن، وليُحذَر إذن!

دخل بسمارك في اليوم الثاني والعشرين من سبتمبر مكتبَ الملك ببابِلْسبرغ صباحًا، وكان الملك أقلَّ استعدادًا للتنزُّل عن العرش مما كان عليه منذ ثلاثة أيام، ويُنبئُ بسمارك بعزمه على التنزُّل عن العرش مع ذلك، ويُرِي هذا الرجلَ الخَطِر وثيقةَ التنزل المعدَّة كما كان قد أرَى رون وفردريك إياها. والملك على ما كان من وثوقه بأنه ملكٌ بفضل الله ومن اعتقاده قدسيَّةَ كلِّ تاجٍ يؤخذ من هيكل الربِّ، يُدرِك شأنَه جنديًّا، فيقول غير مرة: «ولذا سأتنزَّل عن العرش». «لن أَظَلَّ وليًّا للأمر ما لم أملِكْ كما يحبُّ الله ويرتاح إليه ضميري ويرغَب فيه رعاياي. ولا أجدُ من الوزراء مَن يستعدُّ لإدارة حكومتي، فتراني عازمًا على ترْك العرش.»

كان بسمارك ينتظر هذا التصريح، والملكُ كان يعرف أنه ينتظره؛ وذلك لأن جميع الوزراء كانوا عالمين بمقصده، ويُجيب السفير بسمارك عن ذلك بقوله: «أنا للأمر، وتعرفون يا صاحب الجلالة، أنني مستعدٌّ للقيام به منذ شهر مايو.» وطفِق بسمارك يُلقي المسئوليةَ على عاتق الآخر وفقَ سابق أساليبه؛ وذلك لِما كان مِن عدم دعوته قبل ذلك، ثم يُضيف إلى ذلك قولَه بضرورة الاحتفاظ برُون وتغيير الآخرين.

الملك : وهل أنت مستعدٌّ لإعادة تنظيم الجيش على الرغم من الأكثرية؟
بسمارك : أجل.
الملك : إذن، يقضي عليَّ الواجب بأن أداوم على الكفاح مستعينًا بك، فلا أتنزَّلُ عن العرش.

وتدُلُّنا تلك المحادثةُ على أنَّ الملك كان قد قرَّر قبل أن يُفتَح الباب أن يُداوم على الحكم بمعونة هذا القطب السياسيِّ المقدام فيحفظ مقامَه بشرف، وتوحي أسئلتُه إلى السفير بسمارك بما يَنتظرُ من جواب، وهو يضع هذه الأسئلةَ مخاطبًا الوِجدان مع ذلك، والملك كان من البساطة ما همَّ به أن يُمزِّق وثيقة التنزُّل على العرش بحركة روائية، وأن يُصافح يدَ وزيره الجديد وأن يفتح عهدًا جديدًا، والملك هو كبسمارك الذي اتخذ قرارًا كبيرًا بكلمة واحدة للمرة الثانية، ويدعوه الملك إلى التنزُّه معه في الحديقة، ويُكثر من سؤاله، ويُطلعه على مذكِّرة مؤلفة من سبع صفحات مكتوبة بخطِّ يده ومشتملة على جميع المسائل الراهنة المعلَّقة بين ما ناله الأحرارُ من الامتيازات وما كان من الإصلاح الإداري، وهكذا كان الملك متسلِّحًا قبل اجتماعه بخادمه المخيف، وللملكِ بتلك المذكرة ضمانٌ له تجاه حماقات ذلك الرجل المغامر، ويتصفَّحُ بسمارك تلك المذكرةَ فيعزوها في نفسه إلى الملكة.

والآنَ يُغيِّر لهجتَه؛ فما كان من شعوره بمصدر معاداته الخفيِّ، وبما له من ضمان بتعيينه غيرِ الرسمي فيُعيد إليه سابقَ اعتداده فيُعيِّن من الكلمة الأولى، وفي ذلك الائتلاف الخطِر حقوقه وسياسته الخاصة، فيأبى النقاش حول ذلك البرنامج.

«والمسألةُ الآن تحت النظر، والمسألةُ لا تدورُ الآن بين المحافظين والأحرار، وإنما تدورُ لمعرفة أيِّ النظامَين يكون الراجحَ في بروسية: آلنظامُ الملكيُّ أم النظام البرلمانيُّ؟ فالنظامُ البرلمانيُّ يُحدَّد عند الضرورة بحكم مطلق مؤقت، وما كان للبرنامج غيرُ ربْط أيدينا، وفي وضْعٍ كذلك أُعرب عن رأيي لكم بصراحة عند أمركم إياي، يا صاحب الجلالة، بأن أصنع أمورًا لا أعدُّها صوابًا، فإذا أصررتُم على رأيكم، يا صاحب الجلالة، فضَّلتُ الهلاك مع الملك على التخلِّي عنه في مكافحة البرلمان.»

تلك هي لهجةٌ جديدة، وبسمارك قد اختارها بعد إنعام نظر؛ وذلك كسبًا لثقة الملك، وبسمارك قد حلَف في ذلك الوقت يمينَ الطاعة للملك مع ذلك، وذلك شعورًا بقدرته على النشوز والاستبداد بالسلطة، ولنا أن نطمئنَّ إلى أن بسمارك يُفكِّر على غرار مِيفيسْتوفِل فيقول: «سأنتشلُه من ورطة الحياة إلى حيث أُريد!»

هو قد لبَّى الدعوة كتابع وضابط، وكدِبْلميٍّ أيضًا، وتنقضي دقيقةٌ فيُبدي بصرَه بالعواقب حين يُريد الملك أن يقذف في الخندق ذلك البرنامجَ الذي لا قيمة له، ويصدُّ الملكَ صاحبُه مُظهرًا له ما لتلك الحركة من نتائجَ خطرة، وكانت هذه أولَ نصيحة يُبديها الوزير بسمارك للملك، وبسمارك في الغالب سيُحذِّر وِلْهلم على حافة الخنادق الجافة.

وبسمارك يجتمع بشلُوزِر في طريقه عائدًا من بابِلْسبُرغ، وبسمارك يقول «بلهجة غريبة» لهذا الذي نال ثقته بطرُق عجيبة كما ذكَر شلُوزِر: «أظنُّ أنهم كانوا أقوى مني فقُبِض عليَّ.»

١  العلج: الرجلُ القوي الضخمُ من كفار العجم.
٢  برنار (ساره): ممثلة فرنسية مشهورة (١٨٤٤–١٩٢٣).
٣  فارنهاجن: أديب وسياسي ألماني (١٧٨٥–١٨٥٨).
٤  هملت: بطل رواية لشكسبير عُرفت بهذا الاسم.
٥  البندقة: واحدة البندق، وهو كلُّ ما يُرمى به من رصاص كروي وسواه، ومنه البندقية أي البارودة.
٦  الخَلَنْج: شجر كالطرفاء وزهرُه أحمر وأصفر وأبيض، وحبُّه كالخردل، وخشبُه تُصنع منه القصاع، فارسي معرب.
٧  العرَّاب: عند النصارى كفيل المعتمد، والكلمة من الدخيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤