الفصل الأول

«وفيما أكتبُ إليك من اللَّنْدتاغ هنا أجدُني مضطرًّا إلى الاستماع للخُطَب الغريبة السخيفة التي يَنطقُ بها أناسٌ من محترفي السياسة الصغار الأحلام المحتدمين، فيكون لي بذلك فراغٌ غيرُ مقصود. ولمَّا كنتُ سفيرًا كان يُساورني شعورٌ بأنني سمَيذعٌ١ وأغدو وزيرًا فأجدني عبدًا خاضعًا، ولا أرى أولئك السادة متفقين على العوامل التي ينضمُّ بها بعضُهم إلى بعض، وهذا هو مدار النزاع، ويتذابحون مع حبٍّ، وهذه هي النتيجة اللازمة للأمور التي هي من ذلك الطراز. ولا يَقدر أولئك الأخطال٢ على حكم بروسية، فيجب عليَّ أن أقاومهم، وأولئك وافرو اللَّغو كثيرو اللهو، وأولئك من الأغبياء والسفهاء. وكلمةُ الأغبياء إذا ما استُعملت هنا بمعناها العاديِّ كانت تعبيرًا غير صحيح، فأولئك الناس يكونون على شيء من النباهة أحيانًا، وأكثرُهم أُوتيَ قليلًا من العلم فيَبدون محاصيلَ للتعليم الجامعي الألماني، ولا يَعْدو مقدارُ ما يعرفون من السياسة حدَّ ما كنَّا نعلمه منها أيام طلبنا، إن لم يكن أقلَّ من هذا، وهم لا يجاوزون مستوى الصبيان فيما لديهم من السياسة الخارجية، وهم في المسائل الأخرى يَظهرون من الأطفال إذا ما انتظموا في جماعة.»

ذلك ما كتبه بسمارك إلى رفيق شبابه مُوتلِي، وذلك هو شعور بسمارك في الأشهُر الأولى من حُكمه؛ فبسمارك كان يزدري أولئك الخياليِّين إذا ما صاروا ضمْنَ زُمرة، فيناهضهم وإن عرَف أن زعماءَهم مثقَّفون، وبسمارك كان يَشعر بأنه يَعلوهم في الشئون الأوروبية عُلوًّا مطلقًا، وبسمارك كان يألَم من مكافحته ما به من عزَّة نفس متناهية كفاحًا مستمرًّا، وبسمارك كان عليه ألا يرُدَّ الضربات كما في الماضي، وبسمارك حتى الآن كان يُمكِنه أن يَطعن خصومَه رأسًا وأن يُعبِّئَ جميعَ قُواه وصولًا إلى غرضه، فإذا كان نائبًا فعل ذلك من فوق المنبر، وإذا كان دِبْلُميًّا فعل ذلك في تقاريره ورسائله، وبسمارك بعد الآن يجب عليه أن يكتم عن نواب الشعب أفكارَه وخططه، وإلا اطَّلعت الشعوبُ على ذلك وغدا وضْعُ خطط جديدة ضربة لازب، فعزلةُ بسمارك بدأت بقبضه على زمام السلطة.

وما كان لبسمارك أن يَحار من قول إحدى الصحف البرلينية عنه ما يأتي: «إنه بدأ مهنته كشريفٍ ريفيٍّ ذي عرفان بسيط بالسياسة، فلم يرتقِ اطِّلاعُه وتحصيلُه إلى ما فوق مستوى المتعلمين العام، ويصل إلى ذروة صيته البرلمانيِّ في السنتين ١٨٤٩ و١٨٥٠، ويُبدي في خُطَبه من العنف وعدم الاكتراث ما يبلغ درجةَ الاستهتار ودرجةَ الغلظة، ولكن متى أبان رأيًا سياسيًّا؟» أجلْ كان يصنع ذلك قليلًا أمام أعين الناس، وقليلون أولئك الذين عرفوا ما فعل في سبيل السلْم في السنوات العشر الأخيرة، وإذا كان بعيدًا من الكهنوتية فيما يصنع كان ذلك مع الخفاء، ومن قول غوستاف فريتاغ في غرينز بوتن: «تُكسَر أمام صلابة المجلس شوكة مَن هو أعظمُ منه، ولتمضِ سنةٌ لنرى أمر فون بسمارك.» ويدوم سلطانُه ثمانيًا وعشرين سنة!

ومَن يراقب عمل بسمارك عن كثَب في ذلك الحين يشكُّ في عقله، ومن ذلك قولُ أحد موظفيه بعد بضعة أسابيع: «إن بسمارك مصابٌ بمرضٍ عصبيٍّ شديد، فيلوح لي أحيانًا أنه غيرُ مسئولٍ تمامًا، فهو إذا ما أصدر نصائح إلى الصحف مثلًا تدفَّقت أفكارُه بسرعة يتعذر تعقُّبُه معها، والرأي العام بين الدِّبْلُمِيِّين ببرلين هو أنه لا يعيش طويلًا لعدم مداراته نفسَه.»

وبسمارك مع ذلك يبدأ بالسير البطيء الوئيد على طريقته العلمية ليتسنَّى له أن يُنجزَ عمله مع الحذَر بعد التحليل الوسيع والتجريب الرحيب، ويكتب إلى رون منذ وقت قليل، فيقول له: إنه إذا ما قبَض على زمام السلطة قال الناس «ذلك شرٌّ منتظر!» ويَعزم على تبديد آمال أعدائه في بداءة حافلة بالعنف والسُّخف، فلم يَنشب بعد قبوله المنصبَ أن استردَّ ميزانية سنة ١٨٦٣ مُهادِنًا المجلس بذلك، مفاوضًا شيوخ الأحرار ليعرض عليهم بعض الوزارات مُحيِّرًا إياهم بأوضاعه أكثرَ مما باقتراحاته، وماذا يقول النائب تويستِن لأصدقائه عن ذلك الرجل الذي كان أقرب إلى احتقاره مما إلى تهيُّبه في بدء الأمر فكلَّمه بإسهاب، ومع إخلاص ونقد، عن الملك الذي كان يُفترَض أنه نصيرُه الطائش؟ وما هو أمر أُوتْكِر الديمقراطيِّ الذي كان ينتظرُ في الزيارة الأولى أن يُبصر شريفًا لئيمًا ووجهَ صيَّادٍ ولاعب، فلم أَلبث أن غيَّرتُ رأيي عندما ظهر لي أنه لا أثرَ لذلك فيه. وإنما وجدتُ رجلًا طويلَ النجاد، شديد الشكيمة، ليِّن العريكة يُقبِل عليَّ حتى الباب ويَمسك يدي ويُقدِّم إليَّ مقعدًا، ويقول لي متبسمًا: «وأنت، أيضًا لا حُظوةَ لك عند الديمقراطيين! ثم يقول لي إن الزمن تغيَّر منذ مقاومته لرجال المتاريس، فقد تعلَّم في فرانكفورت أمورًا كثيرة.» ويحمل على جريدة كروزْزَايتُنغ بعبارات «لم يَخرج من فم الزائر ما يَعدلها أو ما يُكتب مِثلُها.»

وهكذا يُداري خصومه ببراعة بعد توقُّعهم منه غطرسةً وتحفُّظًا، وهكذا يستقبلُهم بأدب جمٍّ وصفاءٍ ظاهر، وما كان أوتكر موظَّفًا صغيرًا أو تاجرًا حقيرًا يشتغل بالسياسة في نادٍ بلديٍّ، بل كان زعيمًا لأحد الأحزاب في هِس، وكان محاميًا كثيرَ الثقافة، ويُلاطَف أوتكر بالطراز الذي استقبله به ذلك الرجل العظيم من الباب وتحيتِه له وتقديمِه مقعدًا إليه مع النظر إلى طبقة ذلك الشريف البروسي لا إلى كونه رئيسًا للوزراء، والزهو كان مظهرًا تقليديًّا للأشراف ببروسية في ذلك الزمن، وبسمارك، مع افتراض تقمُّص تلك المشاعر فيه، أخذ يسلكُ سلوكًا طبيعيًّا وينتقد تطرُّفَ حزبه أمام خصومه، ولا يبدو بسمارك قاسيًا لحَمْله لقبَ «صاحب الفخامة»، ولا متمذهبًا كالشريف، ويُبدي بسمارك نفسَه رجلًا بِدْعًا٣ دنيويًّا محترِمًا للعادات؛ أي غيرَ موظف بروسي.
ولم يبلغ أحدٌ من النظر الثاقب ما يُلاحظ معه تجاريبَ تلك الأيام الأولى في الديوان بلوغَ شُلوزِر الذي كان يدعوه بسمارك في الحين بعد الحين من ذلك الدور إلى تعاطي أقداح الراح معه، قال شُلوزِر: «يُمثِّل بسمارك مهزأتَه كاملةً، محاولًا إلقاء الرعب في الملك وفي جميع الأحزاب. وبسمارك يتسلَّى بخَتْل٤ كلِّ إنسان، وبسمارك يسعى في حمل الملك على الإذعان في أمرٍ مدةَ الخدمة العسكرية، وبسمارك يصف في المجلس الأعلى مشروعَه الخاصَّ الرجعي بألوان تبلغ من القتوم٥ ما يخاف معه أعضاء هذا المجلس. وبسمارك ينتحل الصلابةَ أحيانًا تجاه أعضاء المجلس الأدنى، وبسمارك يتخذ تجاه هؤلاء الأعضاء من الوضع أحيانًا ما يجنحون معه إلى التراضي، وبسمارك يحمل الوزاراتِ الألمانيةَ على الاعتقاد بأن الملك يُلاقي كلَّ شدَّة في صدِّ الوزارة الجديدة عن الكافوريَّة،٦ ومما لا مراء فيه أن صار ذا نفوذ بالغ بألمعيَّته وعبقريته، فهو رجلٌ!»
ويُظهر بسمارك في الوقت الراهن أقصى درجات الكياسة والأدب، حتى في أحرج الأوقات، وما كاد يمضي أسبوع واحد على وزارته حتى جلس في إحدى لجان اللَّنْدتاغ ليأتيَ بشيء من الاعتراف الشخصي، ويفتح علبة سغايره في أثناء المناقشة فيُري خصومَه غُصنًا من الزيتون ويقول: «لقد جئتُ بهذا الغصن من أفِينْيُون٧ منذ زمن قليل لأقدِّمَه إلى حزب الشعب دليلًا على السِّلْم، وأرى مع ذلك أن وقت السِّلْم لم يَحِنْ بعدُ.» ويلوح أنه أتى بهذا الغصن من بلد الزيتون مع زهوٍ ممزوج بالمجاملة، بيدَ أن هذا الموسيقار لم يلبَث أن غيَّر لحنَه فصرَّح بأن الصحافة لا تأتي بغير الافتراء حين تعزو إليه بحملاتها مقاصدَ حربيةً كي يقضيَ على الارتباك الداخلي، ثم يُضيف إلى ذلك قولَه:

ولا ريبَ في أننا لا نكاد نتفلَّت من الارتباك بألمانية وإن كنَّا لا نطلبُه، وما كانت ألمانية لتنظرَ إلى ديمقراطية بروسية، وإنما تنظر إلى قوة بروسية، وعلى ما ترونه من تسامُحٍ في دول ألمانية الجنوبية لا يمكن هذه الدولَ أن تمثِّل دور بروسية! فيجبُ على بروسية أن تجمع قُواها وأن تحتفظ بها إلى الوقت الملائم الذي مرَّ غيرَ مرة فيما مضى على غير جدوى، ولم تُعيَّن حدودنا في معاهدات فِيَنَّة تعيينًا ملائمًا لكيان الدولة السياسي، ولا تُحَلُّ معضلاتُ زماننا الكبرى بالخُطب أو بقراراتِ الأكثرية، بل بالحديد والدم.

وإذا ما سألتَ عن الوجه الذي سقطتْ به تلك الكلمات من بين شفتَيه وجدتَه قد نطَق بها حول مائدةٍ خضراءَ مخاطبًا عشرة نوَّاب أو عشرين نائبًا وقليلًا من وزراء الدولة، وذلك من غير تحريض، فكان ما فاه به ضربًا من المناجاة بلهجة حُبِّيَّة ونوعًا من الارتجال في الظاهر ومن الكلام المعدِّ سابقًا في الحقيقة، ولم يُسجِّل تلك الكلماتِ أيُّ كاتب اختزاليٍّ كان، ولكنها لم تُعتِّم أن دَوَّت في أرجاء ألمانية، وتُمسك الصحافة والشعبُ كلمةَ «الحديد والدم» ويُناديان بالوَيل والثُّبور، ولكن قائلَ تلك الكلمة لم يُكذِّبها.

ويأسَف بسمارك على استعماله تلك الكلمةَ مع ذلك، ويكون صدورها عن بسمارك الوزيرِ ضربةَ سيفٍ في الماء كتلك الكلمة التي صدرت عن بسمارك النائبِ منذ أربع عشرة سنة. وبسمارك في هذه المرة قد أغضب جميعَ العالم من أصدقاء وأعداء، ويقول له رون: «إن جُملًا كتلك هي من الشذوذ الحادِّ المذاق.» ورون هذا هو صديقُه الذي أوصله إلى حيث هو، فلامَه على تلك الكلمة في طريقهما إلى منزلَيهما، ويقول الأحرار: «إن كلَّ شيء هو لعبٌ رياضيٌّ عند هذا الرجل، وليس هذا مما يَنطق به وزير مسئول.» ويُفسِّر بسمارك الأمرَ إلى أحد النواب بقوله: «أردتُ أن أُبيِّن بذلك كونَ الملك محتاجًا إلى جنود فقط، ولم أقصد بتلك الخُطبة تعقيبَ مسألة ألمانية، وإنما أردت تحذير فِيَنَّة وميونيخ. ولا تهدف تلك الخطبة إلى أخْذ دول ألمانية الأخرى بالقوة؛ فالدم معناه الجنود. والآن أرى أنه كان عليَّ أن أختار ألفاظي بحذَر.» وهكذا كانت أشهرُ كلمات بسمارك خطأً في التعبئة.

ويقرأ الملك تلك الكلمةَ مذعورًا، ويكون الملك عُرضةً لنقد الملكة، ويكون الملكُ آنئذٍ بجانب الملكة في بادن، احتفالًا بعيد ميلادها فيُعرَّض لنقد وليِّ العهد ولنقد زوجته الأميرة أيضًا. ومن الطبيعي أن يساور الملكَ كثيرٌ من الخواطر السود حول رئيس وزرائه الجديد الذي حلَف يمين الولاء له منذ أسبوع فقط، والذي وعَد الملكُ زوجتَه بردِّ جِماحه، ويفقد آل الملك رُشدَهم، ويُذكَر ما حدث للويس السادس عشر، ويُذكر مصيرُ سترافورد،٨ ومصير بولينْياك،٩ وهذا كلُّه في عيد ميلاد الملكة، وتزول بهجة هذا العيد، ويُبصر بسمارك في برلين ما يكون لخُطبته تلك من أثَر في بادن، ويَحسب بسمارك ما يواجه الملكَ من المنازعات الداخلية، وإن لم يكتب الملك إليه ويُبرِق، وبسماركُ يتمثَّل عودة وِلْهلم وحده بعد بضعة أيام مملوءَ الأذنين بالإنذار والعتاب، وهنالك يعنُّ لبسمارك أن يذهب إلى مليكه سرًّا من غير أن يُخبرَه أو يخبر مجلس الوزراء بذلك فيَمثُل بين يدَي مليكه ذلك ويؤثِّر فيه قبل أن يصل إلى العاصمة، وهكذا ينطلق بسمارك إلى لقاء وِلْهلم.

وعند كُوَّة التذاكر في المحطة يعرف فون أُونْروه، الذي هو من الأحرار، بسمارك، ويدخل بسمارك في حجيرة ذلك طمعًا في تلقينه آراءَه، ويكلمُه بسمارك عن الوضع مع الحذَر، ويغادر بسمارك القطار في جوتِرْبُرغ قائلًا إنه ذاهب ليزور قريبًا له، ثم يجلس بسمارك في المحطة التي لم يَتمَّ بناؤها، وذلك «في الظلام على عربة يدٍ مقلوبة»، وذلك بين العمال ورقيقي الأحوال، ويسأل الحرَس عن مقطورة الملك فيُعَنَّف، ويكتم اسمَه فلم يُعرَف، ويلوح بذلك أنه لم يطالِب بإجلال مقامه مع أنه ينشُد كلَّ تجلَّةٍ لطبقته، وهكذا ترى رجل الحديد والدم الذي يذكُر العالَمُ اسمَه مع اللعنة للمرة الأولى يتبوَّأُ مقعده في العتَمَة على عجَلة منتظرًا مولاه، وفي ذلك الدور الأسطوري كان ملكُ بروسية في قطار عادي، ويبدو الملك وحده في حجيرة شبه مظلمة، ويُبصره الوزير بسمارك خائرَ النفس، ويستأذنُه بسمارك في إيضاح الوضْع فيقطع عليه الكلام بقوله: «أُبصِر نتيجةَ ذلك جيِّدًا، فسيضربون رقبتك هنالك في أوبِرْنبلاتْز، تحت نوافذي، ثم يقطعون عنقي.»

ويرى بسمارك شبَح الملكة أُوغُوستا خلفَ الملك فيكتفي بالإجابة عن ذلك بقوله: «وبعد ذلك يا مولاي؟»

الملك : أجل، سنموت بعد ذلك.
بسمارك : أجلْ سنموت بعد ذلك، ولا بدَّ من موتنا عاجلًا أو آجلًا، ولكن هل هنالك موتٌ أفضلُ من ذلك، سأموت مدافعًا عن قضية مليكي وسيدي، وعليك يا صاحب الجلالة أن تختم بدمك حقوقَك الملكية التي نِلْتَها بنعمة الله، ولا ينقص شيءٌ من مجْد مجازفتك بالروح والبدن في سبيل الحقوق التي مَنَّ الله بها عليك سواء أَسُفك دمك على النَّطْع١٠ أم في ميدان القتال، ولا ينبغي لك، يا صاحب الجلالة، أن تُفكِّر في لويس السادس عشر، فهذا الملك عاش ضعيفًا ومات نعًّا١١ فلم يكن أمره في التاريخ لامعًا، والأفضل يا صاحب الجلالة أن تَرجعَ البصرَ إلى شارل الأول، أفلا ترونه ممتازًا لِما كان من امتشاقه الحسامَ دفاعًا عن حقوقه وخسرانه المعركةَ ثم استقباله الموتَ ثابتَ الخُطَا جليلَ الطَّلعة؟ ولا معدلَ لجلالتكم عن النضال، ولا يمكنُكم التسليمُ والإذعان، ولا مناصَ لكم من مقاومة العنف ولو أودَى بحياتكم!

«وكلما تكلَّمت بهذه اللهجة اشتدَّ ساعد الملك وشعر بأنه ضابطٌ عُهد إليه في الدفاع عن الملكية والوطن. وإن الضابط البروسيَّ المثاليَّ — أي الرجل الذي يستقبل الموت الواقع بكلمة «كما تأمرون» منكِرًا لنفسه غيرَ خائف — لَيخشَى رأيَ رؤسائه أو رأيَ العالَم أكثرَ من خشيته الموتَ إذا ما اضطُرَّ إلى السير وفقَ اجتهاده الشخصيِّ. وإنه يشعر بإمساكه من نِجاده. وهكذا يُقاد إلى الطريق الملائمة لطراز تفكيره، وتمضي بضعُ دقائقَ فتعودُ إليه طمأنينتُه التي أضاعها في بادن ويرجع إليه حتى سرورُه، وتذهب غمومُه، فيبدو حتى قبل وصوله إلى برلين مَرِحًا سعيدًا مملوءًا نشاطًا، فيكون لذلك بالغُ الأثر في الوزراء والموظفين الذين خَفُّوا إلى استقباله.»

وما تنطوي عليه تلك القصةُ من الطابع التمثيلي فينمُّ على صحتها وإن قيَّدها بسمارك في أوابده بعد ثلاثين سنة، ومِن الأدلة على صدْقها ما نراه من عدم محاولته حملَ خصمٍ على التسليم أو عدمِ تحريضه مولاه على شَهْر حرب، ومن ذكره أنه جعَل الملكَ الساخط يوافق على خُطبة عزاها «بسمارك نفسه» إلى عدم الفِطنة، وبسمارك حين جلوسه على عربة اليد كان مضطربَ الشعور، وبسمارك وإن أقرَّ إلى خصومه بأن كلمته عن الحديد والدم جاوزتْ حدود فِكره؛ لم يرَ الإتيان بمثل هذا الاعتراف إلى مليكه مع أنه لم يمضِ على رئاسته للوزراء أسبوعٌ واحدٌ، وقد اهتبل بسمارك تلك النُّهْزة١٢ فتذرَّع هو والملك بروحٍ من النضال لم يكونَا قد بلغاها عند محادثاتهما الأولى، ويغدو ما أيقظه بسمارك من روح الكفاح في وِلْهلم قوةً احتياطية للفرص الأخرى.

وعلى ما يمكن عزْو ذلك إلى دهاء بسمارك الفطريِّ وحسابِه للأمور؛ نرى ذلك آيةً على مشاعره العميقة أيضًا، وبسمارك منذ أيام مبارزته الأولى في دَور طلبه، ما انفكَّ يظهر مستعدًّا للموت مكافحًا، ولا تجد في حياته ساعةً رَهِبَ فيها الرَّدَى، وما اتصف به هذا الوزير من البأس الذاتيِّ ومن العبقرية التي أثَّرتْ في الملك الجنديِّ فمن أقوى وسائل الإغواء.

فذلك هو الإكسير الذي يُداوي بسمارك به مولاه في ساعات ضَعْفه.

١  السَّمَيذَع: السيد الكريم الماجد.
٢  الأخطال: جمع الخطل، وهو الذي يأتي بكلام كثير فاسد.
٣  البِدْع: المحدَث الجديد.
٤  الخَتْل: الخدع.
٥  قتم قتومًا: ضرب إلى السواد.
٦  الكافوريَّة: نسبة إلى القطب السياسي الإيطالي المشهور الذي أعد الوحدة الإيطالية (١٨١٠–١٨٦١).
٧  أفينيون: مدينة فرنسية.
٨  سترافورد: كان من رجال السياسة بإنكلترة، فأعان الملك شارل الأول على نظامه المطلق فوقع إعدامُه في سنة ١٦٤١.
٩  بولينياك: رئيس للوزارة الفرنسية في أواخر عهد شارل العاشر، وقد جعل هذا الملك يضع من المراسيم ما أدَّى إلى ثورة سنة ١٨٣٠ وسقوط هذا الملك، فحُكم على بولينياك بالسجن المؤبد (١٧٨٠–١٨٤٧).
١٠  النَّطْع: هو بساطٌ من الجلد يُفرش تحت المحكوم عليه بقطع الرأس.
١١  النَّعُّ: الرجل الضعيف.
١٢  النُّهْزة: الفرصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤