الفصل العاشر
«العالم ينهار!» هذا ما صاح به سكرتير الدولة في الفاتيكان عندما وصل الخبرُ إلى رومة في الصباح التالي، وتَغدو بروسية منذ ذلك الحين حليفةَ أمير اللصوص فيكتور إمانويل وتنال معه نصرًا على صاحب الجلالة الرسوليِّ، فيُعَدُّ ذلك إثمًا قاتلًا، وفي يوم المعركة يُنتخب في بروسية مائةٌ وأربعون نائبًا محافظًا قبلَ معرفة خبرها، وفي اليوم التالي يُكلِّم بسمارك وليَّ العهد حول الصلح، وستهدف خُطبة العرش إلى السِّلم، «ومع ذلك سنؤلِّف جامعةً لدول شمال ألمانية؛ لتكون أولَ خُطوة نحو الوحدة الألمانية»، والخطَّة واضحة في ذهنه، ويسنتجد بوليِّ العهد تنفيذًا لها؛ فقد هزَّ ذينك الرجلين ما قامَا به من عمل جليل معًا على الرغم من نفسَيهما، وتُقرِّب معجزةُ الساعة الراهنة بينهما، ويسودُهما ضَرْبٌ من التفاهم الصامت، ويُلبِّي وليُّ العهد دعوةَ بسمارك إلى العشاء للمرة الأولى منذ سنين.
ومن النادر أن يتجلَّى هدوءُ ذكاء بسمارك بأوضحَ من ذلك، وبسمارك وحده قد دعَا إلى تلك الحرب، وبسمارك وحده قد فرضها، ولكن تلك الحربَ ما كادت تُكسَب في معركة واحدة حتى رفض الدوام عليها، حتى وقف حركاتها؛ وذلك لأنه أبصر في الأفق حربًا أخرى، أبصر حربًا يُحمَل عليها طوعًا أو كَرهًا، ويُعمِل ذهنَه بعد المعركة بعشرة أيام فيرى مصالحةَ النمسة بلا غُنمٍ ولا ضمٍّ، والذي يُغري الجنرالاتِ بفِيَنَّة هو نزواتُ أفئدتهم، والذي يحفز بسمارك إلى رأيه ذلك هو كونُه قطبًا سياسيًّا، لا كونُه قائدًا عسكريًّا أبرع من الجنرالات، وبسمارك عليه أن يُنفِّذ خطَّته من غير أن يُكدِّر الملكَ الجنديَّ، وولهلم في الحقيقة لم يرضَ بذلك لقول جنرالاته له إن الميجر بسمارك خوَّارٌ، فهنالك تذرَّع القطب السياسيُّ بسمارك الذي تُرك هو ومصادرُه الخاصة بوسائلَ أخرى فحاول متهكِّمًا أن يقوِّيَ الوضعَ الذي ألمع إليه في المجلس الحربيِّ السابق.
والواقع هو أن العاهل الفرنسيَّ كان يضغطه؛ ففي عشيَّة كُونِيغراتز عرضتْ فِيَنَّة البندقية على الإمبراطور نابليون الثالث إذا ما وقَف الزحف الإيطالي، ويفاوض الإمبراطور منفردًا بدلًا من التدخُّل مع الدول الأخرى، ويَعرِض على المركز البروسيِّ في بوهيمية أن يتوسَّط في سبيل السِّلم، ويتنفس بسمارك الصُّعداء! قبولٌ سريعٌ، وعدمُ طلب شيء من النمسة، وتسويةُ المسألة الألمانية بواسطة غولتز في باريس، ويستعدُّ بسمارك كما يقول: «لحَلْفِ يمينٍ لذلك الغوليِّ على مذهب هنيبال.» ويظهر في الحال بِنيدِيتِّي الذي تُرك يمرُّ من قِبَل حرَسٍ قليلِ الدُّربة، فيقف قريبًا من وِسادة بسمارك كأنه طيفٌ حقيقيٌّ، وهنالك يُبدأ بتبادُل البرقيات مع باريس، وكان يلوح زوال الخطر؛ وذلك لأن بسمارك كان يحاول أن يُحوِّل الدول العظمى، ثم أتت دولةٌ عظيمةٌ لتتدخل على غير انتظار، فظهر ملك بروسية.
حقًّا أن وِلْهِلْم دخل الحرب «لمقاصدَ دفاعية» والآن بعد أن ذاق هذا العاهل المسالم طَعْمَ النصر، وبعد أن حرَّضه جنرالاتُه؛ تحوَّل إلى طامع في التوسُّع، ومع أن الواقع هو أنه لولا قلمُ بسمارك ما استلَّ أحدٌ سيفًا يُصرِّح الملك مُغاضِبًا بأنه لا ينبغي للقلم أن يُبطِل ما ناله السيف، فيطالب بواسطة نابليون الثالث بشِلِيسْوِيغ وهُولْشتَاين وبزعامة بروسية على ألمانية وبغرامة حربية وبتنزُّل جميع أولياء الأمور المخاصمين، ومنهم ملك سكسونية، عن عروشهم وبضمِّ جميع تلك الأقاليم، فهذا هو السهم الذي أطلقه وِلْهِلْم نحو باريس، ولكن بسمارك أطلق سهمًا آخر من كِنانته، فعلى السفير أن يُقدِّم تقريرًا عن أثر تلك المطالب في فونتنبلو، وذلك «لأنني أعتقد أن من الممكن أن نصِلَ إلى اتفاق مع الإمبراطور بتعديل تلك الشروط تعديلًا معقولًا مقبولًا عندنا».
تلك هي أخطرُ ساعاتٍ في حياة بسمارك، وليس مجلسُ الحرب أصعبَ شيء عليه، بل كانت الأيام التي سبقتْه، فكان عليه أن يُكوِّن فيها قرارَه فيشعرَ فيها بالمسئولية التاريخية أشدَّ أوقاته حرجًا، وبسمارك في تلك الأوقات وللمرة الأولى ولهذه المرة وحدها في الحقيقة كان مستقلًّا استقلالًا تامًّا، فلمَّا مضت أربع سنوات أوجب مختلفُ العوامل في فِرساي ضياعَ قدرته على المبادرة والبتِّ وحده، واليوم في المسألة النمسوية تُبصر بسمارك منفردًا، وفيما تراه يقضي نُهُرَه كلَّها في المفاوضات لِما يجب من تمام كلِّ شيء على يده؛ تراه يقضي لياليَه ساهرًا مفكِّرًا في أجمل ما يُعمل، ولو كان بسمارك ممن يُذعنون للملك وللقوَّاد لأمكنه دومًا أن يُقدِّم تقريرًا أو أن يستقيل عند الضرورة فينقذَ سُمْعتَه أمام البلاد والحفدة، ولكن بسمارك إذا ما قَرَّرَ فرض وجهة نظره فاحتمل تبعة ذلك وحده كملك مُطلق عارفًا أن نجاحه هو شفيعه وأن فلاحه سببٌ للصفح عنه.
وكان بسمارك مريضًا في ذلك الحين، وكان لذلك عاجزًا عن إبدائه مظاهرَ مؤثِّرةً ببِزَّته الرسمية الزرقاء وبتقلُّدِه حُسامَه، وكان الألم يُلمُّ ببسمارك فيَلزم غرفته مرتديًا رداءً مدنيًّا ويستقبل في غرفته الملكَ والقواد آتين من نزهة صباحيَّة كانوا يقومون بها في الهواء الطلق راكبين خيلًا، وبسمارك كان من الجُرأة مع ذلك ما يشرح لهم به عِلل قناعته، ويريد العسكريون متابعة الحرب، وينحاز الملك إلى رأيهم، ويظلُّ بسمارك وحيدًا، «ولم تُقاوِم أعصابي تلك العواملَ التي تؤثِّر فيَّ أيَّامًا ولياليَ، فأنهض صامتًا، وأذهب إلى غرفة نومي المجاورة وأبكي بكاءً شديدًا، وأسمع في تلك الأثناء انفضاض مجلس الحرب في الحجرة القريبة».
وحدَث له مثلُ ذلك منذ سبع عشرة سنة حينما كان يتكلم من فوق المنبر، وكانت آخرُ كلمات خاطب بها المجلس في ذلك الوقت هي: «إذا كان الوطنُ الألمانيُّ الموحَّدُ يُبلَغ على ذلك الوجه في الحقيقة، فإنه يأتي زمنٌ أشكُر فيه لمُبدِع نظام الأمور ذلك، ولكن هذا يتعذَّر عليَّ الآن.» وكان النائبُ بسمارك يُغالب هذه المعضِلة منذ سبعَ عشرةَ سنة، فيَنظر إليها عن كثَب تارةً وعن بُعد تارةً أخرى، وبسمارك حلَّ العُقَد، وبسمارك شَدَّها ثانيةً، وبسمارك حلَّها مرةً أخرى، وبسمارك في ذلك كلِّه يتعقَّب فكرة، لا كخياليٍّ ولا كمثاليٍّ، بل كمجاهد يعمل دومًا عملَ المستقتل على إزالة حجَر العثرة؛ أي على تقويض النمسة ذات اللغات السبع، وذلك بالهزوء والتهكُّم والتلقين والمنطق، واليوم يُدَحرج حَجَرَ العثرة وتُفتح الطريق، والكفاية فيما كان من حِقد، والكفاية فيما أُتي من تخريب، والآن وقت البدء بالبناء.
بيد أن الوقت ليس وقتَ عرض للمشاعر، ويرتبك الملك قليلًا وينهض ويَتبعُه قُوَّادُه إلى خارج الغرفة، ويظلُّ بسمارك في حجرة نومه وتَخنُقُه العَبراتُ ويسمع وقْعَ أرجلهم عند رحيلهم، ويعرف بشعوره الدِّبْلُمِيِّ ماذا يعني هذا، ويتمالك ويكتب ويُبيِّن الأسباب التي سيَّرته ويلتمس أن يؤذَن له في الاستقالة إذا لم يُجَب إلى ما أراد، وفي الغد يذهب إلى الملك حاملًا كتابَه بيده فيعلم في بَهْو الاستقبال آخرَ الأخبار عن الهيضة ومدى انتشارها فيُبصِر أنها ستشتدُّ في شهر أغسطس بهنغارية؛ نتيجةً لقلة الماء وكثرة الفاكهة الناضجة، فيجِد في غوائل الصحة العسكرية ما يُقوِّي عوامله السياسية، ويدخل على الملك، ويُبيِّن له أن النمسة إذا ما ضُربت بقسوة لم تلبث أن تحالف فرنسة، وروسية أيضًا، فتنتقم من بروسية، وأن هدْم النمسة يُسفر عن ثغرة تكون بابًا لثورات جديدة، وأن بروسية غنية عن النمسة الألمانية، «فجمْعُ النمسةِ الألمانية مع بروسية ليس عملًا صائبًا، فلا تَصبر فِيَنَّة على سلطان برلين، وعلينا أن نُسرع في تسوية الأمور بسرعة، وذلك قبل أن يكون لدى فرنسة من الوقت ما يُصبح لها من الصلات الوثيقة بالنمسة أكثر مما مضى.»
ويُصرِّح الملك بعدم كفاية هذه العوامل، ويُصِرُّ على تنزُّل النمسة عن سِيلِيزْيَة وأن يُؤخَذ من الدول الألمانية الأخرى قِطَعُ أملاك، ويَرُدُّ الوزيرُ جميعَ هذا، ويُحذِّر وِلْهِلْم من بَتْر شيءٍ من تلك الدول لِما يوجبُه ذلك من انتقام حلفاء لا يُوثق بهم، ولكن الملك ضابطٌ، وليس الملكُ أكثر من هذا، والملك يريد ألا يقف زَحْف الجيش الظافر، والملك لِما لم يجد ما يَدْحض به براهين بسمارك هَزَّ كتفَيه هازئًا وصاح قائلًا: «لا يجوز للجاني ألَّا يُجازَى! ويمكن أولئك الذين أَضلَّهم أن يَنجوا بسهولة!»
غير أن الرجل الذي يواجهه بسمارك قد وُلد في القرن الثامن عشر، غير أن وِلْهِلْم يَقصُر عن إدراك بسمارك، فيقول هذا: «إن من المتعذر أن أستمرَّ على عَرْضي، وأترك الغرفة معتقدًا ردَّ دعواي.» وأول ما يدور في خَلَد بسمارك هو أن يَلحق بفرقته ضابطًا، وأن يداوم على حرب يَعُدُّها حماقةً حاملًا سيفَه، ومُثبِتًا أنه لا يفتقر إلى شجاعة، ويعود إلى غرفته «في حال روحية أسائلُ نفسي فيها طرفة عين، عن أن الأفضل في الارتماء من النافذة الواقعة في الطبقة الرابعة، وما كنتُ لألتفت عندما سمعتُ فتح الباب، وإن خطَر ببالي أن الشخص الداخل هو وليُّ العهد الذي مررتُ أمام غرفته حين عودتي إلى غرفتي، ويضع يده على كتفي ويقول لي: تَعرف أنني كنتُ ضدَّ الحرب، وقد أبصرتَها ضرورية فغدوتَ مسئولًا عنها، فإذا كنتَ تعتقد أن غايتها بُلِغت وأنه لا بدَّ من عَقْد الصلح؛ وجدتَني مستعدًّا لمعاضدتك ولدعْم وجهة نظرك لدى والدي.»
ويمضي نحو نصف ساعة فيرجع وليُّ العهد فردريك إلى بسمارك هادئًا، ويقول له: «وافق أبي على ما ترى بعد جدال طويل.» ويُشرِّف وليَّ العهد تأييدُه لقضية خصمه، ويدلُّ هذا التأييد على مقدار اتِّباع الملك لوزيره، والملك يكتب على هامش مذكِّرة بسمارك مُغاضبًا: «بما أن رئيس وزرائي تركني أمام العدوِّ فلا أَقدِر على استبدال غيره به في هذا الوضع، وبما أن ابني جادلني في الأمر فوجدتُه على رأي رئيس الوزراء؛ فإنني أراني مُضطرًّا — مع الأسف الشديد — إلى قَضْم هذه التفاحة المُزَّة موافقًا على صُلحٍ مُخزٍ بعد ذلك النصر الباهر.»
ويشابه ذلك إحدى الروايات الهزلية حيث تُبصِر سيِّدًا شائبًا يودُّ أن يرقُص فيمنعه طبيبُه من ذلك مهدِّدًا بتركه، ويتعذرُ على ذلك الشيخ أن يستبدل بذلك الطبيب طبيبًا آخر فلم يرَ بُدًّا من قبول نصيحة ابنه، ويومئ إلى الجَوقة وتقف الموسيقى.