الفصل الثاني عشر

في أصيل يوم من شهر سبتمبر سنة ١٨٦٦، وبعد عودة بسمارك إلى بيته في عافية، يُملي على صديق لاسَّال لوتاربوشير، دستورَ ألمانية الجديدَ، وفي الليل يُهذِّب بوشيرُ الأسلوبَ، وفي الغد يُناقَش فيه بمجلس الملك الخاص، وفي اليوم التالي يُعرَض على جميع المفوَّضين، «وتَصِل النسَخُ من المطبعة رطيبةً متتابعة في أثناء الاجتماع»، وهذا الدستور الخاصُّ بجامعة دول ألمانية الشمالية لم يكَد يُعدَّل من قِبَل الرَّيشتاغ الأول وفي سنة ١٩١٨، وهذا الدستور ظلَّ دستورَ الإمبراطورية الألمانية خمسين سنة، أي إلى سنة ١٩١٨، وهذا الدستور أملاه واضعُه في خمس ساعات بعد تأمُّل عشر سنوات فجاء آيةً على تمثُّله لمبدأ الدولة، وإن شئتَ فقُل عنوانًا لروحه، وهذا هو دستور بسمارك، وهذا الدستور لا يعبِّر عن غير شيء في أمر الألمان، وهو أن بسمارك كان ألمانيًّا أيضًا؛ أي فرديًّا.

ولذا أُعِدَّ ذلك الدستور لتقوية النظام الملكي لا الشعب؛ ولذا كان ذلك الدستور نصرًا لثورة أتتْ من عَلٍ، نصرًا لثورة دامت ضدَّ الشعب أربعةَ أعوام، نصرًا لثورة استذلَّت أعداءَها خمسين سنة فيما بعد، ومن الممكن أن كان الشعب الألمانيُّ غيرَ أهلٍ ليَحكم في نفسه بنفسه، ومن الأكيد أن كان ذلك أقلَّ تقريرًا للأمر مما بعد نصف قرن، وإنما الذي لا ريب فيه هو أن هذه القناعةَ لم تُملِلْ على بسمارك قراره، وإنما الذي حفزه إلى ذلك هو ازدراؤُه البالغ للجمهور وزعمائه.

وهذا النفور وذلك الازدراء لم يَصدُرَا عن ولوعه بسلطة الملك أو عن تقديسٍ لها، وهو الذي لا يثق بحكمة الرئيس المتوَّج أكثر من ثقته بالرئيس المنتخب، ولكن عزَّته تجاه الناس وحقدَه على الناس كانَا يدفعانه في جميع أمور الحياة والدولة إلى مقاومة قرارات الجمهور، وبسمارك إذ لم يَسطِع أن يضمَّ إليه أحدًا كان يودُّ دومًا أن يكون مسئولًا وحده، وبسمارك إذ يرى نفسه خيرَ رأس في البلد كان يعتقد علْمَه بالبلد أحسن من أيِّ شخص كان. وبسمارك لهذه المشاعر الأساسية؛ أي الزهو والحقد والشجاعة، كانت تُواثبه رغبة في المسئوليات ونفرةٌ من القرارات التي يشترك في وضْعها الآخرون، وقد أدَّت تلك الدوافعُ في بسمارك إلى رفضِه مبدأ الحكومة البرلمانية؛ أي إلى رفضه طرازَ الحكم الذي كان جميعُ الأحرار ينشدونه للدولة الجديدة، وكلما أبصر الرجلُ المسيطر بسمارك تقمُّصَ سلطات الدولة فيه؛ جمَع في شخصه جميع المسئوليات التي يُفضِّل غيرُه ألا يَحملها كلَّها على عاتقه. ويَضَع هذا المعلم الباني رسْمَ صرحه راغبًا في سُكناه إلى الأبد، ويشابه في ذلك لاسَّال الذي أضرَّ نُظمَه بعواملَ شخصيةٍ مماثلة لتلك.

وتقوم خطةُ بسمارك على تنافُس البُنْدِشْرات والرَّيشتاغ، وفي البُنْدِشْرات «يجب أن تجد سيادةُ الأمراء لها تعبيرًا لا جدال فيه»، وفي البُنْدِشْرات — كما في مجلس الجامعة الألمانية السابق — يجب على السفراء أن يجلسوا برئاسة المستشار الذي لا يُمثِّل سوى «بريد» وزير خارجية بروسية، وبهذا التدبير استطاع بسمارك أن يُوَكِّد للأمراء الذين لم يريدوا الخضوع لإمبراطور فرانكفورت ولا خُسران شأنهم في إمبراطورية فرانكفورت؛ أنهم يغدون أولياءَ الأمر في الإمبراطورية الجديدة، وإن كان هذا لا يؤدي إلى غير سَتْر سلطان بروسية الحقيقي، وسفينةُ الدولة بعد تجهيزها على هذا الوجه، وسفينةُ الدولة بعد أن تُمسَك وتُدرَّع على هذا الوجه، يمكنُها أن تَشُقَّ عُباب المحيطِ البرلمانيِّ ببسالة ومن غير خطر.

وكانت روح الزمن لا تستمرئ ذلك، حتى إن الحزب الجديد المؤلَّف من أولئك الذين انحازوا إلى خصمهم القديم طالبوا باتحاد الشعب والحكومة في الجامعة الجديدة بدلًا من وجود جبهتَين كما في بروسية، وبأن يكون وزراءُ الإمبراطورية مسئولين أمام الرَّيشتاغ، وهذا ما لا يُطيقه بسمارك، «وفي مشروع حكوميٍّ كذلك لا يكون أحدٌ مسئولًا، فإذا ما اقتُرِف خطأٌ لُطِم الفاعلُ من قِبَل قوة خفيَّة، وفي هذه الجماعة الغامضة الأمر تُبصر سلطانًا كالمحكمة السرية التي تهيمن دومًا على رجل».

وهكذا يبدأ بسمارك المكافح الذي كان حُكمه مطلقًا حتى الآن بتجربة النُّظم البرلمانية التي قضت الضرورةُ بها، ولا ريب في أن بسمارك كان عالمًا بما يواجهه من ضروب النضال وإن لم يكد يَلوح له كيف يختم تلك التجربة، وما كان ذلك المنهاج ليمضيَ، وهو لم يمضِ إلا بصعوبة، إلا إذا ترك الملكُ المتوسطُ الذكاء والعارفُ بنفسه وزيرَه القدير يُوجِّهه، وإذا وُجد ملوك ذوو صَلف ومستشارون غيرُ مستقلِّين كان من العبث أن تبحث الأمة الموحَّدة في مثل ذلك الدستور عن حقوق تُقيِّدهم بها. وقد أبصر بسمارك جميع ذلك سلفًا، ولكن كان عليه أن يختار بين ضمان سُلطانه في الوقت الراهن وضمان سُلطان مَن يخلفُه في الغد، وبسمارك لم يسطِع أن يضمن كلَا الأمرين، ولو كان بسمارك يحبُّ الدولة أو العرش حُبَّ رون لاختار عند الخيار١ ما يفعلُه الملك المفكِّر في أمر وارثه الشرعيِّ، بيدَ أن بسمارك إذ كان موظفًا يمكن عزلُه في كل وقت رأى أن يصون سُلطانه الخاصَّ الذي أحسَّ أنه أفضلُ شيءٍ في الدولة تجاه هوَى الأحزاب. وبسمارك لم ينظر إلى غير تذبذب الملك مع ما قد ينطوي عليه هذا التذبذبُ من إزعاج، عادًّا إياه أقلَّ خطرًا من تذبذب الرَّيشتاغ.

حقًّا أن محاولاتٍ وقعتْ لمقاومته، وحقًّا أن النصَّ الآتيَ وُضِع إيهامًا بوجود سلطة عصرية للدولة، وهو: «أن أنظمة رئاسة الجامعة وقراراتِها تَصدُر باسم هذه الجامعة، وأنها لا تُصبح نافذةً إلا بإمضائها من قِبَل مستشار الجامعة الذي يحتمل مسئوليتها»، وتجاه مَن يكون مسئولا؟ أَتِجاه الرَّيشتاغ؟ أم تجاه البُنْدِشْرات؟ أم تجاه الملك؟ أم تجاه المحكمة العليا؟ ويرفض الرَّيشتاغ جميع الاقتراحات التي وُضِعت حول هذه المسألة، ويضحك بسمارك ويودُّ أن يملأ الثغرة التي يمكن أن تُقصيَه عن الجامعة فيُقرِّر تعيين نفسه مستشارًا للجامعة بدلًا من سافينيي الذي لم يَعْدُ أمرُه حدَّ «حامل الرسائل»، وبذلك يجمع بسمارك بين مستشارية الجامعة ورئاسة وزراء بروسية نتيجةً لتحويل انتقادات خصومه إلى فائدته، وبذلك تصير وظائف الجامعة تابعةً لمستشار الجامعة بحكم المنطق، وبذلك يصير موظفو الجامعة موظفين لديه.

ويُصبح بسمارك وحده مسئولًا إذن، ولكن أمام مَن؟ لم يجرؤْ أحدٌ على قول هذا؛ فالذي يظهر هو أنه مسئولٌ أمام الله فقط، والذي يبدو هو أن على بسمارك أن يقف في بؤرة٢ جميع المباريات التي يُوجِّهُها الرَّيشتاغ ضده في السنين الثلاث والعشرين القادمة، وما السبب في قبول هذا المجلس لِما عرضه هذا الوزير عليه إذن؟ كان يمكن المجلس أن يرفض ذلك المشروع لو أراد، وفي ذلك المجلس كان من الأعضاء مَن يَكفون للتصويت لرواتبهم الخاصة، وفي ذلك المجلس لم يُسجِّل سوى ثلاثة وخمسين عضوًا أنفسَهم للمراقبة البرلمانية وصولًا إلى حكومة شعبية! وكان حزب الشعب وحده ويماثل جمعيةَ العمال الألمانية العامة صريحًا في مطالبته ﺑ «الوحدة الألمانية ضِمن دولة ديمقراطية، فلا سلطة مركزية وراثية، ولا ألمانية الصغرى برئاسة بروسية، ولا ألمانية الكبرى برئاسة النمسة».

وذلك الدستور لعدم فَرْضه من عَلٍ كالدستور البروسيِّ، وذلك الدستور للتصويت له من قِبل نواب ينتخبُهم الشعبُ، يكون الشعب به مسئولًا عن نتائجه أمام التاريخ.

وفي الواقع أن الرَّيشتاغ انتُخب وفقَ مبدأ التصويت السرِّيِّ المباشر وإن عارض بسمارك ذلك مُدَّعيًا أن ذلك يُخالف صراحةَ الخُلُق الألمانيِّ وحريته، وكان لاسَّال ميِّتًا، وكان لاسَّال أولَ مَن قال بحقِّ التصويت العام، ولكن لاسَّال خسر الرهان الذي قال به كلاهما قولًا ضمنيًّا؛ وذلك لأن أمانيَّ بسمارك تجمَّعت في بروسية الملكية، وكان الديمقراطيون يُبصرون ما يحدث فلم يرَوا ترْكَ مبدأ التصويت الذي لم ينفكوا يطالبون به منذ زمن طويل؛ لِما في تَرْكه من دواعي السخرية، وقد قال بسمارك «إذا دلَّ التصويتُ العام على عدم صلاحه تخلَّصنا منه.» وبسمارك على الرغم من رغائب الأكثرية لم يكن ليريدَ مجالسَ جامعةٍ لتأييد وضعه تجاه الرَّيشتاغ، وبسمارك كان يرى — مع كبير ازدراء — أن أكثر أعدائه انحازوا إليه؛ لأن جيوش رون ومولتكه حقَّقتْ سياسته، وبسمارك لم يرفض دستورَه سوى تسعة عشر من ذوي النفوس الحرة عادِّين دستورَه هذا «معيبًا مُضيِّقًا مُعرِّضًا حقوقَ الشعب للخطر»، ولم تجد في ذلك المجلس غيرَ اشتراكيٍّ ديمقراطيٍّ واحدٍ عرَض مبادئ لاسَّال، وكان نظام الدولة الدستوريُّ يَذْوي، وكانت حقوق الشعب ترجع القهقرَى عند انتصار الحديد والدم، وأخذ قدماء المحافظين كغِرْلاخ يتأخرون بعد تمام الوحدة الألمانية بغير النمسة.

وكان الحزبُ الوطنيُّ الحرُّ الجديد أقوى الأحزاب، وكان هذا الحزبُ يجمع بين عالمَين كما يدلُّ عليه اسمُه، وكان لاسكر وتويستن وفوركِنبك وأُونْرُوه الأعضاءُ في اللَّنْدتاغ البروسيِّ، وبنِّيغْسِن الهانوفري زعماءَ له، وكان أربابُ الصناعة الثقيلة وأصحاب السفن يُمدُّونه بالمال، وكان الأساتذةُ يُغذُّونه بالقواعد والاصطلاحات، ويَعدُّ بسمارك الأصواتَ ويتساهل في قليل من الأمور الشكلية ويُسرُّ حين يرى روح الإمبراطورية الجديدة شديدة القوة في بُندشراته، وتَجِد لبسمارك في رئاسته لهذا المجلس سلطانًا لم يتفق لآل هابِسْبرغ مثله في ألمانية قط مع أنه لم يكن له فيه سوى سبعة عشر صوتًا من ثلاثة وأربعين صوتًا، ويقول بسمارك في كتاب يُرسله إلى رون: «لم أجدْ في الوجه الذي يسيطر فيه الملك على ألمانية كبيرَ أهمية، ولكنني بذلتُ جميعَ جهودي وجميع ما أعطاني الله من قوة ليمارس سلطانه ذلك.»

ويتألَّفُ من الملك والمستشار والجيش ثالوثٌ كان بسمارك يسعى في رفع شأنه، ويَقع في الرَّيشتاغ الجديد كفاحٌ حول الأمر الذي وُقِف في اللَّنْدتاغ القديم؛ أي حول حقِّ رفض المال في سبيل الجيش، والآن يشتدُّ النزاع في اللَّنْدتاغ أيضًا، «وإذا حدَث أن جاهد رجلٌ خمس سنين جهادًا كبيرًا إنجازًا لِما ترونه الآن بأعينكم، وإذا حدث أن بذل رجلٌ أجملَ أوقات حياته وضحَّى بصحته في سبيل ذلك، ثمَّ إذا ظهر رجال هنا لا يعرِفون غيرَ قليل عن ذلك النضال فيَسلُكون مثل هذه السبل، أوصيتُهم بأن يقرءوا فصلًا من فصول هنري الرابع الأولى، وأن يُقيِّدوا انطباعاتِ هاري بِرْسِي عندما أتاه حاجبٌ فسأله عن بعض الأسرى، وذلك وقتما كان ذلك الحديديُّ المزاج جريحًا تعبًا فأزعجه ذلك بكلام طويل عن الأسلحة النارية والقروح٣ الداخلية»، ويطالَبُ بحق الرَّيشتاغ في تعيين الميزانية؛ أي بحقِّ تقرير مصير الجيش فيَنطق من فوق المنبر بقوله العاصف: «وماذا تقولون للرجل الذي أُقعِد في معركة كُونِيغْراتز الهائلة إذا ما سألكم عن نتيجتها؟ تقولون له: إن ما هو خاصٌّ بالوحدة الألمانية لم يتمَّ في هذه المرة بعدُ، فلا بُدَّ من إنجازه في فرصة أخرى. ومهما يكن الأمر فقد احتفظ مجلس النواب لنفسه بحقِّ تعيين الميزانية؛ أي بما يُلقي كيان الجيش البروسيِّ في الخطر كلَّ سنة. وهذا هو الأمر الذي من أجلِه قاتلنا إمبراطورَ بروسية خارج أسوار برسبرغ!»
ومنذ ستَّ عشرةَ سنة كان النائب فون بسمارك-شُونهاوْزِن قد وقَف فوق ذلك المنبر وقال محتجًّا على محاربة النمسة، حين كان الأحرار يَصرخون مطالبين الوزيرَين، رادووِيتز ومانْتُوفِل، بشهرها ردًّا لإهانة أولموتز: «وهل يكون عندكم بعد ختام الحرب من الشجاعة ما تَدْنون به من الفلَّاح الذي يُنعم النظرَ في حقله المحروق، أو من الرجل ذي العضو المقطوع، أو من الوالد ذي الولد المفقود، فتقولوا له: أجَل، إنك لاقيتَ من الآلام ما لاقيتَ، ولكن كُن قرير العين معنا، فقد أُنقذ دستور الاتحاد؟!» ولا بُدَّ من وجود أعضاء في المجلس العتيد سَمِعوا قول بسمارك في تلك الأيام فيودُّون تذكيره بكلماته المذكورة قائلين له: «إن ما أراده رادووِيتز من إقامة اتحادٍ برئاسة بروسية ومن غير النمسة تمَّ بعد ستَّ عشرة سنة، وإن بسمارك الذي لم يكن آنئذٍ كونتًا ولا موظَّفًا من موظَّفي الدولة سَخِرَ على غير حقٍّ من نَأمَة٤ الخطيب الحُبلَى ﺑ «مَرْحَى»٥ ومن أسلوبه الحافل بالأسرار ومن كلامه المُرصَّع الفخم، وإنه ليس عليه إلا أن يكرر خُطبة رادووِيتز!» فلم يكن للحرب التي حال دونها في الأيام السابقة، ولهذه الحرب التي أدَّى إليها حديثًا، غيرُ غاية واحدة، غيرُ الوصول إلى دستورٍ ألمانيٍّ جديد، وليس للرجال الذين جُرِحوا في معركة كُونِيغْراتز نتيجةً للحرب التي أوجبتها وزارة بسمارك سُلوانٌ أحسن مما يتَّفق لهم نتيجةً لحرب كان يوجبها رادووِيتز.
والحقُّ أن أمر الوحدة الألمانية لم يتمَّ حتى ذلك الحين، والحقُّ أن ديمقراطيِّي جنوب ألمانية يجاهدون في سبيلها، غير أن أمراءَهم كانوا يقاومونها، وأمير بادن وحده — وقد كان صِهرًا للملك وِلْهِلْم — هو الذي كان يُبدي بعضَ الإخلاص، فلما دعا بسمارك دول جنوب ألمانية إلى برلمان اتحادٍ جمركيٍّ احتجَّت كلُّها على ذلك قائلةً: «إن ذلك هو الخطوة الأولى نحو الوحدة الألمانية.» ولما شَرِب سفير بافارية نَخْبَ منافس ملكه البروسيِّ صنع ذلك عاجيًا٦ وجهَه، وكان زعيم بافارية الأمير كلودْوِيغ هُوهِنْلُوهِه وقد ذكر هذه الملاحظة معارضًا لفكرة انتساب بافارية إلى الجامعة، وكان البلاط البافاريُّ والمجتمع البافاري معارضَين لذلك أيضًا، نعم إن بافارية بلد كاثوليكيٌّ، ولكن بروتستانيَّة الشمال لم تكن وحدها سببَ الاعتراض؛ فما كانت بافارية لتطلبَ أكثر من «جامعة لدول ألمانية» وَفقَ ما يقتضيه «وضعُ ِآل فِيتلْسباخ التاريخيِّ» وتُفضِّل بافارية أن ترتبط في النمسة أكثر من ارتباطها في بروسية، ويرى هُوهِنْلُوهه بعد معركة كُونِيغْراتْز احتمالَ وقوعِ حرب بين بروسية وفرنسة، فيقول: «إذا ما حدث ذلك حاربت بافارية والنمسة بجانب فرنسة.» حتى إن الناس في وِرْتِنبُرغ كانوا في أوائل سنة ١٨٧٠ يُفضِّلون «أن يكونوا فرنسيين أكثر من أن يكونوا بروسيين»، وذلك لأسباب أخرى؛ وذلك لأن أهل وِرْتِنبُرغ كانوا يَودُّون أن يكون لهم جيشٌ محليٌّ على طراز الجيشِ السويسريِّ فلا يكون «آلةً لقتل الأمم»، وذلك حين كانت ملكة وِرْتِنبُرغ الروسيةُ الأصل تَحُوك المكايد ضدَّ بروسية، ودوك هِس الأعظمُ هو الذي كان يُقيم أدقَّ دليل على مشاعره الألمانية، فهذا الدوك ويؤيدُه وزيرُه دالفيغ قد أنبأ في خريف سنة ١٨٦٨ محافظَ ستراسبُرغ بأن ذلك هو الزمن الذي يجب على فرنسة أن تُهاجم فيه بروسية، ويُقدِّم هذا الدوك في الوقت نفسه قِسْمَ هِس الواقعَ في غرب الرَّين إذا ما عوَّضه نابليون الثالث من ذلك على حساب دوكيَّة بادن.

وينتظر بسمارك هادئًا، ويَدَع بسمارك للدول والأشخاص من الوقت ما يكفي للتقرُّب، ويقول لوزير وِرْتِنبُرغ في ربيع سنة ١٨٧٠: «لا تؤدي محالفة دول الجنوب إلى تقويتنا عسكريًّا، ولا نحتاج إلى إدماج هذه الدول فينا سياسيًّا، ومن الصعب أن يُعرف أشدُّ الناس عداوة لبروسية: أَمَحلِّيُّوكم أم ديمقراطيُّوكم، ويأتي الضروريُّ قبل الكماليِّ عند السياسيِّ، وإذا ما ألقيتُ شَرَكًا لاصطياد أيِّلٍ لم أُطلِق النار على أول أيِّلٍ يأتي، وإنما أنتظر تجمُّع جميع القطيع.»

١  الخيار: الاسم من الاختيار، يقال «أنت بالخيار»؛ أي اختر ما شئت.
٢  البؤرة: مجتمع النور في العدسة المحرقة.
٣  القروح: جمع القرح، وهو أثرُ السلاح بالبدن.
٤  النأمة: الصوت.
٥  Bravo.
٦  عجَا وجهه: زواه وأماله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤