الفصل الخامس عشر

«أُفطرُ وأقرأُ جريدتي وأطوف في الغابات لابسًا حذاءَ الصيد وأتسلق التلال وأسير في البطائح والأوحال وأتعرف بالأماكن والمغارس، وأعود إلى المنزل ويُشَدُّ السرج على حِصاني وأرجِع إلى ذلك، وهكذا … وهنا العوسَج الكثيف والسُّوق المقطوعة والأرض الواسعة والمنابت والجداول والسباخ١ والخَلَنْج٢ والرَّتم،٣ وهنا الظِّباء والحجلان، وهنا ما لا يُنفَذ من شجر الزَّين٤ والسِّنديان، وهنا غيرُ أمرٍ يُلقي السرور في قلبي كثُلاثِ الحمائم والبَلَشُون٥ والحِدْءان،٦ وهنا شكاوى المزارعين من غارات الخنازير البرية، وهنا ما أصعبَ وصفي لك كل هذا!»

ويكتب بسمارك من فارزين غير البعيدة من رينفيلد، ويشعر بسمارك عندما يطَّوَّف بها في زيارته الأولى بأنَّ الأُمَّة كافأتْه على جهاده وانتصاراته، والأمر الغريب هو قبوله المالَ الذي اشترى به تلك الغابات، وبسمارك يقول بعد بضع سنين: «ما كان ينبغي أن يُعطى ذلك نقدًا، وقد أنِفْتُ من ذلك طويلَ زمنٍ ثم أذعنتُ للإغراء، ومما أمضَّني أن كان ذلك من اللَّنْدتاغ لا من الملك، ومما كنتُ أرغب عنه هو أن أقبل مالًا من أناسٍ كافحتُهم بمرارة في سنين كثيرة.» واقترح الأحرار في ذلك الحين ألا يُعطَى الوزيران، بسمارك ورون، أيَّ مهر قائلين: إنه عُمل لهما ما فيه الكفاية من الإبراء، وما كان من قبول بسمارك ما قُدِّمَ إليه من نقدٍ فيُعَدُّ دليلًا على حُبِّه المتزايد للثراء واقتناء الأملاك الأُسريَّة مع تقدمه في العمر، وإن لم يكن رجلَ عملٍ في شئونه الشخصية، ومهما يكن من أمر فإنه كان من الاحتياج إلى الوقت والهدوء ما لا يُعنَى معه بتوظيف ماله توظيفًا نافعًا.

ورغبةُ بسمارك في المال مما يُصاول كبرياءَه، فلما قرَّر اللَّنْدتاغ في بدء الكفاح إمكان حجز أموال الوزراء ضمانًا لِما يُنفقونه خلافًا للدستور بدا له نقلُ أملاكه إلى أخيه، ولكن «تنزُّلًا كهذا لأخي فِرارًا من المصادرة التي لا يتعذَّر أمرها عند جلوس ملك جديد على العرش مما يوحي إلى النفوس بطمعي في المال خلافًا للواقع، وهذا إلى أن محافظتي على مقعدي في مجلس الأعيان موقوفٌ على امتلاكي كنيبهوف.» وذلك التخلِّي وإن كان غيرَ محبَّب له لم يرَ غير فِعله مع اعتراضه ذلك، ومع أن فَقْده لمقعده في مجلس الأعيان يجعل الأمر عامًّا ويؤدِّي إلى تفسيرٍ حارٍّ. ويعرِض بسمارك مُلكه على أخيه فعلًا، ويستند في ذلك إلى السبب المهمِّ الآتي وهو: «إن مما يشُقُّ عليَّ أن أترك فكرة قضاء أواخر عمري هنالك، غير أنني خُرافيٌّ ولديَّ ما يحفزني إلى البيع، وتجعلني حالي المالية أو حالُ أولادي المالية لا أطلب منك ثمنًا يقلُّ كثيرًا عما أطلبه من الغريب»، فيا لَلُّغْز! والذي لا ريب فيه هو أن البيع لم يقع في ذلك الحين.

والآن بعد أربعة أعوام عندما يكافئُهُ اللَّنْدتاغ على أعمال كان يَعُدُّها مساوئَ يغدو غنيًّا، فيُسرع في التخلُّص من كنيبهوف التي قضى فيها ما بين السنة الثانية والسنة الثامنة والعشرين من عمره! أفلم يحزن حزنًا شديدًا عندما أجَرَ ذلك المُلكَ للمرة الأُولى منذ طويل زمن؟ والآن — أيضًا — عندما يقصِدُه من فارزين «لا يدعونني وحدي أبدًا، ولديَّ ما أقوله للشجر هنالك أكثر ما للبشر مع ذلك»، وتظلُّ تلك الأماكن التي كانت شاهدةً على صِباه جنَّةً عنده في مشيبه، على أنه لم يَنشَبْ أن كتب من فارزين يقول لأخيه إنه يُريد بيعَ كنيبهوف في الحال، «مفضِّلًا بيعَها من فيليب أو منك، ولكن على ألا يكون الثمن دون ما في السوق كثيرًا»، وقد عاد لا يقول شيئًا عن خزعبلاته ولا عن ارتباطه الوثيق في الأرض وفي البيت، كما كان يشعرُ به في أمر شُونْهاوْزِن وكنيبهوف فيما مضى.

أجَلْ، تروقُه غابات فارزين، ولكن من غير أن تنفُذ فؤاده، وما كان منزل فارزين ليُقاس بمنزل شُونْهاوْزِن الكبير، «فلذلك المنزلِ منظرُ المشفى؛ أي له جناحان، وهو منزلٌ عاديٌّ ذو نوافذَ كثيرة، وليس له مظهرُ القصر ولا مظهر المغنى».٧ وهذا هو وصف كِيزِرْلِنْغ له عند إقامته به، وبما أنَّ الغابات لا تأتي بدخلٍ وجب إنشاءُ مناشر٨بخاريةٍ ومعملِ ورق، «فيتطلب هذا مائة ألف تالير، ولكن كل شُوحة٩ تُحَوَّل في يوم واحد إلى ما لا يُحصى من الورق»، ويا لَتَحَوُّل هذا الولوع بالطبيعة إلى رجل عمل! هو اقتصاديٌّ سياسيٌّ! هو ربُّ أُسرة!

وبسمارك، إذ كان لا يَصبرُ على الراحةِ، وكان لا بُدَّ له من الحركة؛ بدأ ينشر الحياةَ في الغابات وفي البيت بفارزين، «فأرْسِلي من شُونْهاوْزِن الأقداحَ الحُمرَ والكراسيَّ المنقوشة وما يمكنُ إقفالُه من مكتبٍ أو مكتبين وما بقيَ من سُرُر، ويمكنُ أن يؤتَى من برلين بموائدَ، ويمكنكِ أن تضعي في غرفة مطالعتي المكتبَ الأمريكيَّ الموجود في غرفة الاستقبال بدلًا من ذلك، ولماذا يجبُ علينا أن نُجهِّز غُرَفَ صاحب الجلالة؟ والآن أذهَب لأرى الغاب والأيِّل وضوء الشمس، ولا أستطيع الكتابة كثيرًا، والحِبرُ لا يُحبُّني، تعالَي مسرعةً إلى هنا، والأولادُ يَتَّبعونكِ وحدهم، ولي أملٌ في أن يكون بِكُوسلينَ أسِرَّةٌ، ولا تأتي بأية خادمة معكِ، خلَا وصيفتك، وقد تكونين في غنًى عن هذه الوصيفة أيضًا؛ وذلك لوجود فتاة غسَّالة عَمِلتْ ثلاث سنين في بلومِنتهال، إذن لا ضرورة لإحضار الطاهي ولا الخادمة ما لم تَوَدِّي غير ذلك، وابعثي بنُسُج كثيفة سُمر خُضرٍ غير لامعةٍ؛ لتكون ستائرَ مزدوجةً تُغطَّى بها الأبواب الزجاجية، فلا يُرى ما وراءها، ولا أظنني ذاهبًا إلى برلين قبل وصولِكِ، وبلِّغي إلى الناس أنني منهوكٌ، ولكن مع تحسُّنٍ، ولكن مع رغبة عن سفرة أخسر فيها ما اكتسبت، تعالَي مسرعةً، المخلِص لك كثيرًا …»

ومن ثَم تَرَى بسمارك مسرورًا؛ فبسمارك قد بَعُد من الخدمة، وصار ينتظرُ زوجَه، وعاد لا يدعو أحدًا ولا يستقبلُ ضيفًا ولا يتلقَّى برقيةً ولا يُرسل رسالة، وصار لا يتطلَّع إلى غير حَرَس الصيد وخُفَراء الغاب وجِيَاد الخيل والحساب المناسب، وفي أحوالٍ كهذه يجد بسمارك الحياةَ أمرًا طيِّبًا لأسبوع واحد، ثم يُساورُه شوقُه إلى الأعمال مرةً أخرى أو يواثبُه ميلُه إلى السير والقيادة مجدَّدًا، وبسمارك حتى في عُزلَتِه الريفية لم يَنْجُ من رغبة في السلطان، ولا تخلو من رمزٍ كلماتُه عن مُلْكٍ جارٍ له، وهي: «يستحوذ عليَّ في كلِّ مساءٍ عطشٌ شديدٌ إلى ضمِّ تلك الأرض إلى أملاكي، ويُمكنني في صباح الغد أن أتأمَّلَها مَليًّا.» فهَوى بسمارك واعتدالُه؛ أي جميعُ هزَجِ سياسته، تجدهما في تلك الجملة.

وهنا — في الريف — تقفُ غباوةُ الضيوف نظرَ بسمارك أكثر مما في كلِّ وقتٍ، أجَلْ، يمكنُ بسمارك أن يدعوَ إذا أراد أرجحَ الناس عقلًا في ألمانية ليُحادثَهم، ولكنك إذا عَدَوت زائريه من وزراء الدولة أو أُمناء السرِّ أو زعماء الأحزاب وجدتَه جالسًا «بين اثني عشر قريبًا يتَّصفُ ثلاثةٌ منهم بالصَّمم ويتَّصفُ معظمُهم بالصَّخَب مع الكلام في وقتٍ واحدٍ، وبسمارك مع ذلك يُبدي كبيرَ أُنسٍ لكلِّ واحدٍ منهم، فيُفتنون بهذا، فلا يعودون إلى منازلهم قبل منتصف الساعة الحادية عشرة»، ومما يَحدث أحيانًا أن يجيءَ كِيزِرْلِنْغ أيضًا، «فنجلس كلُّنا إذ ذاك على سريرٍ سهلِ النقل، ونستمع بين حديث سارٍّ إلى عَزِيف فون كودِل»، ومما يقعُ في الغالب أن يُضنَى فيُسِرُّ إلى كودِل بمقدار تعبِه من رفيقِ صباه كِيزِرْلِنْغ فيُسَرُّ في نفسه من دُنُوِّ الوقت الذي ينصرفُ فيه.

وموتلي هو صديقُ بسمارك المفضَّلُ في كلِّ وقتٍ، وإذا نظرتَ إلى الوجه الذي مال به قلبُ بسمارك إلى هذا الأمريكيِّ الفرِح الصريح، إلى هذا الرجل الأَرِيب العالي الثقافة، أبصرتَ دليلًا على صَبوة١٠ بسمارك إلى تسكين هياجه الطبيعيِّ بتأمُّل ذوي الطبائع المنسجمة، وما كان الملك ولا حَنَّة لِيَقومَا بهذا الدور، وإن كان كلاهما ذا مكان خاصٍّ في نفسه، وإن كان يستثنيهما من ازدرائه لكلِّ إنسانٍ في الدنيا تقريبًا، غير أن كلَّ واحدٍ من الملك وحَنَّة عاطلٌ من العذوبة والإنعاش والمبادرة، وتتصفُ زوجتُه بالحنان وعدم الدربة،١١ ويتصفُ الملكُ بالشَّيبة وشدَّة العناد، وعلى ما يتصفان به من الهدوء لم يكونَا قادرَين على إلقاء السكينة في فؤاده، ومُوتلي هو جوهرُ السلام، ومُوتلي شهمٌ هُمام، ومُوتلي قانعٌ بالعالم، ومُوتلي ساذَجٌ على سجيَّته، ومُوتلي ممتازٌ مخلصٌ لبسمارك غيرُ مطالب إياه بشيء، ومُوتلي هو — قبل كل شيءٍ — أكثرُ استقلالًا من كلِّ إنسان يعرفه بسمارك، ومُوتلي هو الذي يستطيعُ بسمارك أن يركن إليه بين أُناس من ذوي المكر والخُرق، ومُوتلي هو صديق بسمارك. ولم يَحدث أن كتب بسمارك كُتُبًا إلى أحد بخطِّ يده كما كتب إلى مُوتلي، ومع أن بسمارك يدَعُ مئات الناس ومنهم أقرباؤه بلا جواب تجدُه يُبادل مُوتلي بالرسائل باللغة الألمانية عادةً، وباللغة الإنكليزية أحيانًا، كالرسالة الآتية، وهي:

عزيزي جاك، أين أنت يا شاطر؟ وماذا تصنع ما دمتَ لا تكتب إليَّ سطرًا واحدًا؟ تراني عاملًا من الصباح إلى الليل كزِنجيٍّ، وليس لديك ما تعمل، فكان يمكنُك أن تُرسل إليَّ كلمةً بدلًا من أن تتأمل رجلَيك حين استنادهما إلى قُضبان نافذة للربِّ عارفًا بما في اللون من قُتوم، ولا أقدر على الكتابة إليك بانتظام، ومما يحدُث أن تمضيَ خمسةُ أيام من غير أن أجد رُبع ساعة للنزهة، ولكن ما الذي يمنعُك أيها الشيخُ الشابُّ الكسلانُ من التفكير في الكتابة إلى صديقك القديم؟ وإني إذا ذهبتُ إلى السرير نظرت إلى ما لَكَ أو إلى صورتك، وأمسكْت عن المعيد العَذِب ونِمتُ لأذكُرك بأولدلانغ سِينِه، ولِم لا تأتي إلى برلين أبدًا، والأمرُ لا يَعدِل رُبعَ رحلةِ عُطلةِ أمريكيٍّ يقوم بها من فِيَنَّة، ويَسرُّني مع زوجتي أن نراك مرة أخرى في هذه الحياة الكئيبة، ومتى تحضر؟ ومتى تعزِم على ذلك؟ أُقسِم لك بأنني سأجد من الوقت ما أذهب فيه معك إلى جهات لوجير فنشرب زجاجة راحٍ في حانة جِيرُولْت حيث لا يُسمحَ لكَ بأن تَضَع ساقَيك الدقيقتَين على كرسيٍّ، علِّق السياسة وجِئْ، ومما أَعدُك به هو جعْلي العَلَم يخفقُ فوق منزلنا، وسيدور حديثُنا حول صَبِّ اللعنات مع الرحيق على العُصاة، ولا تَنْسَ الأصدقاء القدماء ولا أزواجَ الأصحاب الأوفياء، وتودُّ زوجي أن تراك مثلما أودُّ، وإن لم تفعل ذلك فأسرعْ في إرسال كلمةٍ بخطِّك، كُن لطيفًا، فإما أن تحضر وإما أن تَسْطُر، ودُمْ لصديقك.

بسمارك

وما كان من حذْف كلمة «فون» من توقيعه هنا فلا مثيل له منذ سنة ١٨٤٨.

ويُعيَّن صديقُ بسمارك الأمريكيُّ ذلك سفيرًا للولايات المتحدة بلندن، ويغدو قريبًا من بسمارك بذلك، ومن فارزين يكتب بسمارك إليه قولَه: «تفضَّل فسُرَّنا بإرسال كوخك الأحمر إلى غابات بُومِيرانْية، والأمر أهونُ على سائحٍ مثلِك يجاوز البحر المحيط الآن من هَونه عليه في مجاوزة ما بين برلين وغُوتِنجِن١٢ فيما مضى؛ فما عليك إلا أن تتأبَّط ذِراعَ زوجك وأن تُدخِل نفسك إلى حُجيرة معها، وأن تَصِل إلى المحطة في عشرين دقيقة وأن تبلغ برلين في ثلاثين ساعة، ثم تكون هنا بعد رحلة نصف نهار، وفي ذلك روعةٌ، وسنطير فرحًا أنا وزوجتي وابنتي وأولادي، وسنكون من المسرَّة ما نُعيد به مَرَحَ سالف الأيام، وقد بلغتْ هذه الفكرة من الأخذ بمجامع قلبي ما يمكنُ أن يؤدِّيَ رفضُك معه إلى مرضي فيكون لهذا تأثيرٌ جالبٌ للنوائب في الوضع السياسي، صديقُك المُخلص.»

ولمُوتلي وَهَب بسمارك ما في فؤاده من حبٍّ حقيقيٍّ، ويمازجُ حبَّ بسمارك لزوجه غِبطةُ المالك، ويُحبُّ بسمارك هذا الأمريكيَّ بلا داعٍ ولا غرضٍ، وتَرجِع صداقةُ بسمارك القلبيةُ لهذا الأمريكيِّ إلى أيام بلوغه السابعة عشرة من سِنِيه، ويدوم وَلُوعُ بسمارك بهذا الأمريكيِّ جيلَين دوامًا مطَّردًا، ومن الجليِّ أن يكون مُوتلي قائمًا مقامَ شيء يتوق إليه بسمارك تَوْقَ زيلتِر إلى غُوته، ويلوح مُوتلي لبسمارك بين الرجال كما تَلوح مَلْفِين له بين النساء؛ ذلك الشخصَ الإنسانيَّ المتَّزِن الذكيَّ البهيج المُحنَّك الجدِّيَّ التفكير، وليس من المصادفات أن يكون هذا المثالُ الألمانيُّ قد أُغرِم بهذا الصديق الذي هو من أبناء العالم الجديد.

وتَأْلَم حَنَّة، ويَسلُب كلَّ راحتها خوفُها من محاولة قتلِ زوجها في ذلك الدور من الصدام، ويصِفها في الغالب ﺑ «الأرِقَةِ الخفَّاقةِ القلبِ والخائرةِ النفس»، ويُرسلها وحدها إلى مُدُن المياه المعدنية، ويبدو عصبيَّ المزاج من أجل نفسه ومن أجلها، وتبلغ الأربعين من عُمرها فتضَعُ مع توقيعها كلمةَ «الأمِّ العجوز» إذا كتبت إلى أولادها، ويَكبَر أولادها فلا يَمرَضون إلا قيلًا فتغدو أُمًّا لزوجها تمامًا فترقُبُ صحته وتُسَكِّن رُوعه وتُعنَى به وتَحميه، وتَزهدُ في كلِّ شيءٍ، ولا تبالي برغائبها ولا بأهوائها ولا بآرائها الخاصة، ولا تُقدِم على نصيحته، ولا على إبداء مشاعرها له حتى بعد معركة كُونِيغْرَاتْز، وهي تَعتصمُ بصديقها كودِل لتعرِفَ هل تستطيع أن تذهب حتى فِيَنَّة فتشتركَ في «دخول هذه المدينة رسميًّا»، ولا يرى كودِل من الحِكمة أن يُطلِع الرئيسَ المهيب على ذلك، وهكذا تفنَى حَنَّةُ في حُبِّ زوجها، ومما وقع ذات مرة أن خرج بسمارك وزوجُه وكِيزِرْلِنْغ للنزهة، فسألها بسمارك عن مَيلها إلى الدوام أو العود فأجابتْه بقولها: «اصنع كما يحلو لك، فليس لي غيرُ إرادتك.» ولما انحرف مزاجُه في فارزين ظلَّت «بجانبه ليلَ نهارَ خلا فترات الغداء والعشاء القصيرة، فأبدو هادئةً قارئةً أو عاملةً أو مُعِدَّةً شيئًا له، وتُضنيه كلُّ كلمة يَنطِق بها أو يَسمَعها فأصيرُ نصفَ ميِّتة هَلعًا.»

والأولاد سلبيُّون أيضًا، فلا يجرءون على شيء، وهو لا يطالبهم بشيء، وهو إذا ما وَدَّ أن تكتُبَ ماري إليه أذعنَ عند علمِه أن ذلك يَشقُّ عليها ابنةً في السادسة عشرة من سِنِيها، وما يساوره من ذكرياتِ فتائه المُمِضِّ فيقوده إلى ترفيه أولاده، وما يمازج هذا الذي هو أكثر الناس نجاحًا من حقدٍ على العالم وسوءِ ظنٍّ به فأمرٌ بان عندما قال لكِيزِرْلِنْغ إنه لا يقترح أن يُربَّى أبناؤه لخدمة الدولة؛ «وذلك لأنه يُنظر إليهم نظرَ سُوء في نهاية الأمر، وعليهم أن يحملوا صليبهم في هذا العالم»، وبينما يعلم في نِقُولْسبُرْغ أن ألمانية منتظرةٌ بأسرها يكتب إلى ابنه الأصغر في عيد ميلاده كتابًا يبدؤه فيه بأنباء سياسية، وهو لم يلبث أن أبصر الورطة التي وقع فيها حين أصبح سياسيًّا ومُربِّيًا معًا؛ وذلك لقوله: «إن على المرء في الحقلِ السياسيِّ أن يتخلَّص من أقوى خصومه عند وجودهم، وذلك بما يُنزله من الضربات، وعليه بعد ذلك أن يَسلُخَ جلْدَ أضعفهم، وفي الحياة الخاصة يُعَدُّ هذا سلوكًا مُزريًا بمَن هو فارس.» والصحة والقوة هما ما يتمنَّاه لأولاده، وإذا ما عَنَّ له أن يمدحَهم فلِما يراه من سواعدهم المفتولة، وقد اعترتِ الحَيرة ضيفًا شابًّا «حينما رأى مقدار ما يَلتهمه بسمارك وأولاده، فهم كالأسد وأشباله!»

وتتوقَّف صحتُهُ على أعصابه، وتتوقَّفُ أعصابُه على أشغاله، وأدويتُه عنيفةٌ عُنفَ حياته، وهو إذ كان يرغب عن حمْل مِظلَّة أو لُبس جُرموق،١٣ وهو — إذ كان يَركب عربة مكشوفة — لا يَرجع إلى الأطباء عند مرضه، بل يكون طبيب نفسه، ومن فارزين كتب بِلَانكِنْبُرْغ يقول: «يَغدو مرضُه داءً عُضالًا إذا داوم على حياة غير صحية كما في الماضي، فهو يَنهض متأخِّرًا كثيرًا، وهو يطوف في الغابات كالحارس، وهو يتعشَّى في الساعة الخامسة أو الساعة السادسة أو الساعة السابعة، ثم يلعب لُعبة البلياردو نصف ساعة، ثم يشتغل فيما لا بُدَّ منه حتى الساعة العاشرة أو الساعة الحادية عشرة، وهو يختم يومه بتناول حَسَاء بارد، وهو يَأرَقُ لعُسر الهضم، وهو يُحدِّثني كأنه يبكي من كثرة همومه، وهو يقول: إن الناس هجروه غير تاركٍ لي من الوقت ما أَنطِق فيه بكلمة واحدة، ثم يُصاب بتشنُّج في المعدة؛ نتيجةً لهذا الهياج.»

وهو لم يظفر بغير أكثرية خمسةِ أصواتٍ في أمرٍ خاصٍّ بميزانية هانوفر، «فيَهُزُّه هذا في فؤاده ويُلِمُّ الألمُ برجلَيه ويقيءُ صفراءَ ويُصاب بوجعِ الأعصاب من فوره»، ويُنذرُه رون بقوله غير المُجدي: «أرى أن يكون لديك من ضبْط النفس ما يكفي للتغلُّب على اندفاعك الطبيعيِّ فتفرِضَ على نفسك حياةً جديرةً بأبي الأُسرة الألمانية المجيد! حقًّا يجب أن تَقدِر على ذلك!» وكلمة «يجب» هي ما يستطيع رفيقُ الجهاد رون وحده أن يُخاطبَه به، ولكن بلا طائل.

ويألم بسمارك عن نزقٍ فطريٍّ من جزئيات الخدمة التي تقع في كلِّ يومٍ أكثرَ مما بعظائم الأمور التي تقَع في أوقات نادرة، وإذا نزَل من السماء ماءٌ متواصل بغاستن في يومين أو ثلاثة أيام فإنه يتذمَّر من ظهور جوِّ المكان كجوِّ المَغْسَل، وهو يتجنَّن من الشلال بقرب الفندق، وهو بين الجبال يأسَفُ على الآفاق الواسعة، وهو حينما تَذكرُ له زوجُه سَحْلَ١٤ أسنان الأولاد يقول: «إن هذا يُزعجُني فيجعلني أُحِسُّ ذلك في أعصابي.» ويسألُه رئيس حزبٍ هِسِّيٍّ عن مستقبل بلده، «فيتلبد وجهُه الجليُّ مع عدم جماله بعاصفةٍ من الفكر، ويتبرَّم صامتًا متأمِّلًا، والآن يُمسِك قلمًا رصاصيًّا، والآن يُمسِك مِقَصًّا، وتظهر ابتسامةٌ سارَّة على فمه وقتًا قصيرًا، ثم تزول فتبدو على سَحْنته علائمُ جنون على حين يزوي ما بين عينيه».

وفيما كان يَهرَم جسمًا وروحًا على ذلك الوجه، وفيما كانت قُواه الطبيعية تكافح السنين كنتَ تراه يدنو من إلحاد شبابه فيرجع بخُطًا واسعةٍ إلى ارتياب دوره الأول، فلم يبقَ عنده غيرُ القليل إلى الغاية من أيام جهاده في سبيل الإيمان الدينيِّ، ولمَّا اتَّهمه جارٌ تقيٌّ من بُومِيرانيَة بالاستهتار انتحلَ تجاهه وضعًا نصرانيًّا في كتاب مطوَّل أرسله إليه في عيد الميلاد، فقد جاء فيه: «أعترفُ طائعًا بأنه كان يجب عليَّ أن أُلازم الكنيسة أكثر مما كنت أصنع، ولكنني إذا كنتُ لا أفعل ذلك فليس لعدم الوقت، بل لأمرٍ يتعلَّقُ بصحتي في فصل الشتاء على الخصوص، ومن الظلم أن يدعوَني أيُّ واحدٍ من الناس بالسياسيِّ المستهتر، وليتفضلْ فيحاول أن يُثبِت لي وجودَ ضميرٍ له في مضمار النضال هذا.» وإذا كان العفو والتوبة رُكنَي النصرانية الأساسيَّين لم يَسعْنا سوى التبسُّم عند سماعنا نبأَ سرور بسمارك حينما عَلِم خبرَ إضافة ضابط إلى شعاره رمزًا فِنديًّا قائلًا: «لا تستغفر أبدًا، ولا تصفح أبدًا!» وقد قال بسمارك: «إنني وجدتُ منذ زمن طويل أن هذا المبدأ كثيرُ الفائدة في حياتي العملية!» ويكتب بسمارك العبارة الشيطانية الآتية قبل بدء محاربة النمسة ببضعة أيام: «لقد أُلقِيَ زَهْرُ النرد، فننظر إلى المستقبل مطمئنين، ولكن لا يَغِبْ عن بالنا أن الله القادرَ يفعل كما يهوى!»

والآن كما في الماضي يُنضِّد بسمارك مبادئَه الملكية فوق شعائر نصرانيَّته، شأن الرجل الذي يُعلِّق تُرسَه على شجرةٍ طلبًا لظلِّه، ويبلغ بسمارك من العنجُهيَّة١٥ ما يرى معه أن يأتيَ بثورة أو يَهلِكَ ما لم يُلقِّن نفسَه دومًا بأن السلطة الملكية صادرةٌ عن أصلٍ إلهيٍّ، قال بسمارك حول مائدة عشاء وعلى مسمَع من مدعوِّين كثيرين: «لو لم أكن نصرانيًّا ما خدمتُ الملكَ ساعة واحدة، فلديَّ ما أعيش به وما أمتاز به وما أستغنى عنه به، ولستُ بالذي تَفتنُه الأوسمةُ والألقاب، أُومِنُ بوجود حياة بعد الممات، وهذا هو الذي يجعلُني ملكيًّا، وإلا لاتَّبعتُ مَيلي الطبيعيَّ وصرتُ جمهوريًّا، والحقُّ أنني جمهوريٌّ إلى أبعد حدٍّ! ولم يجعلْني شيءٌ غيرُ ثبات إيماني الدينيِّ رصينًا في السنوات العشر الأخيرة، ولولا ما فيَّ من أساس دينيٍّ عجيب لقلتُ للبلاط منذ وقت كبير: اذهبْ إلى جهنَّم!» ويقول أناس إن كثيرًا من الناس مَن يخدمون الملك عن حِسٍّ حكوميٍّ، فيجيب بسمارك عن ذلك بقوله: «إن إنكار النفس هذا؛ أي إن التضحية بالنفس هذه، في سبيل الدولة والملك هو من بقايا إيمانِ آبائنا وأجدادِنا، هو من إيمانٍ تحوَّل فغدَا غامضًا، ولكن مع تأثير، وعاد غيرَ إيمانٍ فبقيَ إيمانًا مع ذلك، ويا لَشدَّة سروري بعودتي مختارًا! ولي بهجةٌ في الحياة الريفية وفي الغابات وفي الطبيعة، فإذا ما قطعتُم صِلَتي بالله حزمتُ رِزَمي في الغد وانزويت في فارزين وانغمستُ في الملذَّات وقلتُ على الملِك العفاء، ولمَ أخضعُ لآل هوهنزلِّرن لولا أمر الله؟ فآلُ هُوهِنْزُلِّرن من الأرومة السؤابية التي ليست خيرًا من أَرومتي والتي لا أجد ما يحفزني إلى المبالاة بها لهذا السبب، وأكونُ شرًّا من جاكوبي الذي يمكن قبولُه رئيسًا للجمهورية، وهو رجل عاقل من عدَّة وجوه، وهو لا يُكلِّف غاليًا في الحقيقة.»

وأفكارٌ كتلك مما أبداه بسمارك في غير حال، وبسمارك لم يُظهرها بمثل تلك السخافة في أيِّ وقت مع ذلك، وبسمارك إذ يقول إن الشعور الحكوميَّ من بقايا الإيمان الدينيِّ يكون قد أيَّد حسَّ الواجب العامِّ الذي لم يَعترف بوجوده في شخص، وبسمارك كما أبصر صدورَ أتفه أعمال رجال التاريخ وأعمال معاصريه عن عواملَ شخصية طَمِع في المسرح السياسي وانساق إلى خدمة الدولة وارتقى إلى السلطة العليا عن طموح ورغبة في السلطة، وما في جِبِلَّته من قوًى أوليَّة فقد دلَّه على تلك السبل، وهو لم يسلك تلك السبل خوفًا من الله كلُوثِر، ولا حرصًا على مساعدة الملك كرون، ولا شعورًا بالواجب تجاه ألمانية كشتاين.

وبسمارك لاعترافه بأنه جمهوريٌّ نفترض أن مشاعره الثورية تحفزه إلى ابتغاء رئاسة الجمهورية لو وُلد في بلد مُوتْلِي (الولايات المتحدة)، وما كان يُساور بسمارك من شعورٍ بالكرامة فيجعله راغبًا في رؤية أُمَّته وطبقته وأُسرته في موقع الشرف، وهو للوصول إلى هذه الغايات لا بدَّ له من خدمة أُسرة سؤابيَّة كان أجدادُها أبعدَ نفوذًا وأكثر جَدًّا١٦ من آل بسمارك، ولا بدَّ من الخضوع لأُناس يفوقُهم ذكاءً ومِزاجًا وحماسةً، بيدَ أن أمرًا كهذا مما يتعذَّر عليه بغير تلقينٍ دينيٍّ ذاتيٍّ يعتقد به أن تلك الأسرة تملِك بفضل الله.

وكيف نُفسِّر بغير ذلك مشاعرَ ذلك الشريف في فتائه، حينما كان يُصرِّح بأنه من القائلين بوحدة الوجود ساخرًا من النصرانية؟ ولمَ ازدرَى ذلك الأريستوقراطيُّ الملحدُ فريقَ الأحرار الذين كانوا يهدِفون إلى إقامة جمهورية معتدلة؟ فلما غدا وزيرًا معتقدًا صار يودُّ أن يحكُم مستعينًا بهم، وإذا كان عدوًّا لله في ذلك الحين وجب عليه أن يكون خصمًا للملك وفقَ منطقه المصنوع إذن، وإذا كان اليوم عبدًا لله وجب عليه أن يمجِّد النظامَ الملكيَّ إذن، أفيُمجِّده فعلًا؟ لقد سُئل عما يجب أن يتعلَّمَه الأميرُ، فاسمع جوابَه الخفيَّ: «يجب أن يُربَّى الأميرُ على الطريقة الفارسية في الحقيقة؛ أي أن يتعلَّمَ ركوب الخيل والقتال، وهو إذا ما أراد أن يعرف مهنته الخاصة — فضلًا عن ذلك — وجب عليه أن يتعلَّم الوقوفَ طويل ساعات، وأن يتعلَّم كيف يخاطب كلَّ أجنبيٍّ بكلامٍ ليِّن وأن يتعلم الكذب، وليس عليه أن ينطق بالحقائق المُرَّة، فليَدَعْ أمرها إلى وزرائه، ولا يعرف ملكُنا كيف يكذب، وهذا ما يبدو عليه عند محاولته ذلك.»

واسمع الآن كيف يتكلم عن الأُسرة المالكة: «إذا ما ذهبتُ إلى الصيد مع الملك في لِيتزلِينجن كان ذلك في غابة خاصة بأُسرتنا في غابر الأزمان، فقد اغتصب آل هُوهِنْزُلِّرن بورغاستال منَّا منذ ثلاثمائة سنة لصلاحها للصيد ولاشتمالها على ضِعْفَي ما تحتويه من الغاب في الوقت الحاضر، وإذا عدوتَ ما فيها من صَيد وجدتَها ذات قيمة كبيرة أيضًا، وهي تساوي ملايين من الدراهم في هذه الأيام، والحقُّ أن آل هُوهِنْزُلِّرن انتزعوها منَّا بما اتخذوه من ضروب القهر وأعمال العنف وانتهاك الحقِّ ومن زجٍّ للمالك في السجن المُظلم وتغذيته بطعام كثير الملح مع عدم تقديم شيء ليَشربه، وذلك عند رفضه التنزُّل عن أرضه، وما كان يُعطَى من تعويض فأقلُّ من ربع قيمتها.» ومن ثَم نرى طبيعة اعتقاد بسمارك بنعمة الله الذي جعَل آل هُوهِنْزُلِّرن فوقه.

ونحن إذا ما أبصرْنا حاقدًا عرفناه جيدًا، وهو وَلوعٌ بذكر مِيفِيسْتُوفِل كما يجب، وهو يحفظ فصولًا طِوالًا من الجزء الأول من رواية فاوست فيَتلوها عن ظهر القلب بما يُثير العجب، وبسمارك هو الذي نطق بهذا الرأيِ الأدبيِّ الرائع، «وإذا سألتَ عما كتَب غوتة أعطيتُكَ ثلاثة أرباعه، وأما الباقي — وهو سبعة مجلَّدات أو ثمانية مجلَّدات من أربعين مجلَّدًا — فأودُّ أن أقضيَ به وقتًا في جزيرة قَفْر.» ثم يَصِف غوتة بأنه عامل مُياوم١٧ عند خيَّاط فيقول: «طُوبَى لذلك الذي يخلو من الضغينة فيعتزل العالم! طوبَى لذلك الذي له صديقٌ حميمٌ فيتمتع بالحياة! طوبَى لذلك العامل المُياوم عند خيَّاط فيُبدع تلك الأشعار! فكِّروا فيه بلا حقدٍ إذن! واجعلوه في قلوبكم إذن!» وتتكلم ابنةُ كِيزِرْلِنْغ بحماسة — وفي مناسبة أخرى — عن المأساة حيث يضع الإنسان نفسَه في مكان البطل طائعًا، فيقول لها بغلظة: «أَتُريدين أن تُقتَلي كما قتَل نشَّالٌ فالِنْشتاين في حانة حقيرة؟» ويتكلم كُودِل عن الخوف والرأفة فيُجيب بسمارك عن ذلك بعنف قائلًا: «أجل، إنني أبلغ من شدة الخوف والرأفة ما أستعدُّ معه في دار التمثيل إلى الأخذِ بخِناق النذل.» ويتمسَّك كودل الإنسانيُّ ﺑ «الفكرة الظافرة» في الرواية، فيتكلم بسمارك عن الإوَزِّ المشويِّ ويسأل: «أيأكل الناس في الولايات البلطية الإوَزَّ مع البطاطا أم مع التفَّاح؟ إني أُفضِّل أكْلَه مع البطاطا.»

والآن لا يستمع إلى الموسيقى إلا عند مطالعته أو عند عملِه، فلمَّا غدا مستشارًا للإمبراطورية عاد لا يُصغي إليها أبدًا؛ لأنها تَحُول دون نومه جيدًا.

وإذا ما تكلَّمنا عنه بوجه عام وجدْنا تحوُّل حاله الروحية إلى حال «التائه»، ويزيد اضطرابُه الباطنيُّ مع زيادة نُجحِه وبلوغه من السلطان ما لم يكَدْ يحلُم به، والأمرُ كما لو كان ينتظرُ تحقيقَ رغائبه في التحرُّر من تلك الأحاسيس الفاوستيَّة فأبصَر تَبدُّد أحلامه أكثر مما في البداءة، «ويشكو فاوست من وجود روحَين في صدره، ويتنازع في صدري عدَّةُ أرواح، وتسير كما لو كانت في جمهورية، وأُبلِّغكم معظم ما تقول، ولكن هنالك من المناطق ما لا أُبيح لأحد أن يَلمحَها.» وينطق بهذه الكلمات عندما كان راكبًا عربةً مع اثنين من مساعدَيه اللذَين لا يميل أحدُهما إليه.

وتُعَبِّر هذه الكلمات عن تبرُّم أكثرَ مما عن عزلة، وإلا لكان قد كتَم أمرَها، ويكتب إلى أقرب الناس إليه وأعزِّهم عليه في أيام عيدٍ قائلًا بصراحة: «إن قَلَق الحياة أمرٌ لا يُطاق، وليست هذه حياةً جديرة بشريفٍ ريفيٍّ، أَحِنُّ إلى أيام الهدوء في الوطن حيث كنتُ سيِّدَ وقتي وحيث كنتُ — كما يُخيَّل إليَّ الآن — أكثرَ هناءةً، وإن كنت أذكُر تمامًا أنَّ كلمة: «يُلِمُّ الغمُّ به ويَعْدو معه» أمرٌ صحيحٌ عندما كنتُ أركب كالبَ القديم»، وتتردد النغمة، نغمة الاستياء الواهن التي تُعبِّر عن سجيَّته، بأوضحَ من ذلك، في كتاب يُرسِله إلى أخته بسبب عيدها الفضيِّ، فقد جاء فيه:
يَسُرُّني أن أبادلَكِ، مرةً أخرى، بتأملات حول بُطْلِ الحياة، وسيمضي كبيرُ وقتٍ قبل زوال الوهم في أن الحياة تبدأُ مرةً ثانية من فَورِها، وأننا صائرون إلى ذلك البدء، ونحتاج إلى مثل تلك الصُّوَى،١٨ كهذا العيد الفضِّيِّ، لنرجعَ البصرَ إلى الوراء ونُبصِر طول ما قطعنا من طُرُق ومقدار ما جاوزْنا من مَحَاطَّ حسنةٍ وسيئة، وهل يُعَدُّ دليلًا على نقصنا، أو على خطأٍ خاصٍّ بي شعوري، دومًا، بكون المحطة العتيدة أَصلَح من جميعِ ما تَقدَّمها وأنه لا ينبغي لي أن أكفَّ عن الكفاح بلا انقطاع سائرًا إلى الأمام؛ أملًا في الوصول إلى ما هو أحسنُ منها؟ أرجو من صميم فؤادي أن تحتفلي بعيدك راضيةً مسرورة فتنادي حُوذيَّ١٩ الزمن بقولك: «سُق برفقٍ يا صاحِ!»٢٠ وأجِدُني جاحدًا — بفضل الله — لِما أراني غيرَ راضٍ على ما لديَّ من عوامل الرضا عندما أفكِّر في زوجي وأولادي وفي أختي قبل الجميع وفي أمور أخرى مشتهاة في الدولة وفي حياتي الخاصة فلم تُقدَّر بعد ظَفَري بها.
فيا لَدقَّة حَوكِ هذا التحليل القاسي من كَمَد!٢١ ويا لَلُطف مَسِّه تلك السخريات! ويا لَعصر عملِ حياته في مقطع واحدٍ مع كبيرِ تحفُّظٍ! ويا لَبَضْع نفسِه بقلمه منفعلًا عارضًا لشخصه التائه! وما كانت جميعُ انتصاراته وكفاحاته وما انتهى إليه من نتائجَ عظيمةٍ في عشرين سنة قُضِيَت في جهاد متصل سوى محطَّات سيئة، فلا بدَّ له من السير إلى الأمام طلبًا لِما هو أطيبُ منها!
١  السباخ: جمع السبخة، وهي أرض ذات نزٍّ وملحٍ.
٢  الخَلَنْج: شجر كالطرفاء، وزهره أحمر وأصفر وأبيض كالخردل، وخشبه تُصنع منه القصاع.
٣  الرتم: نوع من الشجر، بذرُهُ كالعدس.
٤  الزين: شجرٌ كانوا يعملون منه الرماح.
٥  البلشون: طائر يُعرف بمالك الحزين.
٦  الحدءان: جمع الحدأة، وهي طائر من الجوارح.
٧  Villa.
٨  من نشر الخشب.
٩  الشوحة: شجرةٌ تكونُ أغصانُها على هيئة مخروطة، وهي واحدة الشوح.
١٠  الصبوة: الحنين.
١١  الدربة: الحَذق.
١٢  غُوتِنْجِن: مدينة في ألمانية.
١٣  الجرموق: ما يُلبس فوق الخفِّ الصغير ليقيَه من الطين.
١٤  سحله: نحته.
١٥  العنجهية: الكبر والعظمة.
١٦  الجد: الحظ.
١٧  ياومه مياومة: عامله بالأيام.
١٨  الصُّوَى: جمع الصوة، وهي حجرٌ يكونُ دليلًا في الطريق.
١٩  الحوذيُّ: المستحِثُّ الخيل أو الدواب على السير، ويستعملونها الآن لسائق المركبة.
٢٠  يا صاح: يا صاحب، حُذف آخرُه للترخيم، وإنما رُخِّم مع أنه غير علَم؛ لأنه لمَّا كثر دعاءُ الناس بعضهم بعضًا به أشبه العلَم فهانَ ترخيمُه.
٢١  الكمد: الحزن والغم الشديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤