الفصل الثامن عشر

يسير بسمارك قُدُمًا نحو إمبراطوريته هادئًا هدوءَ المعلِّم، ولمَّا قُتل البروسيون بجانب البافاريين في المعركة الأولى أخذ الناسُ يقولون في صُحُف برلين بضرورة المناداة بوِلْهِلْم إمبراطورًا، وقد أعرب بسمارك لسفير بافارية عن امتعاضه من هذه التفوُّهات، كما صرَّح له بأنه لم يَدُرْ في خَلَد أحد أن يَحُطَّ شيئًا من استقلال بافارية، «وترانا — بالعكس — شاكرين إلى الأبد لحليفتنا المجيدة، ولا ضرورةَ إلى نِشدان الوحدة الألمانية ولا إلى صُنْعها؛ فهي قائمةٌ فعلًا»، وستكون السياسة التي يتَّبعُها بسمارك في الأشهُر الثلاثة القادمة مثلَ سياسة شركة مُثْرية تُبيح للشركات الدنيا أن تطلب الاندماجَ فيها، فلما أرسل بسمارك دِلْبروك إلى دِرِسْدن لم يَقصد بذلك سوى تقبُّل اقتراحاتٍ من تلك الناحية، ويقول بسمارك لأهل وِرْتِنبُرغ: «ننتظر طلباتِكم.» ويبدو بسمارك عازمًا على سماع جميع الأصوات ثم يصنع ما يراه صوابًا.

والحقُّ أنَّ شعبَنا المؤلَّف من فرديين عندما حاول أن يتَّحدَ، عَرَض كلُّ واحد من رجاله خطَّة مخالفة لخطط الآخرين، فكانت جميع الفصائل والطبقات والجمعيات و«الفلسفات» تتصادم، وكانت كلُّ واحدةٍ منها تنوي عدمَ بناء ألمانية إذا كان هذا البناء وفقَ وصفة الأخرى، وكان القوميون ببروسية يريدون اتحاد إمارات ألمانية بزعامة آل هُوهِنْزُلِّرن، وكان الأحرارُ يودُّون أن تكون ألمانية واحدةً فيكونَ الحُكم فيها للشعب، وكان الملكُ راغبًا عن سماع شيء يقال له إمبراطورٌ وإمبراطوريةٌ، قاصدًا وضْعَ معاهدات تنصُّ على وجود جيش مشترك فقط، وكان وليُّ العهد يهدف إلى الإمبراطورية وإلى خضوع أبناء عمِّه الملوك للتاج الإمبراطوريِّ، وكانت بادِنُ وحدَها — شعبًا وأميرًا — تُحبُّ بناء الرَّيخ برئاسة بروسية، وكانت حكومةُ بافارية ترى إنشاءَ جامعة لدول جنوب ألمانية مع النمسة على حين كانت مُدُنها الكبرى ترى الانتسابَ إلى جامعة شمال ألمانية، وعلى حين كان ملكها يُفضِّل عدمَ قيام أيةِ جامعة، وكانت ملكة وُرْتِنبرغ تَحُوك الدسائس ضدَّ بروسية على حين يسعى أحرار وُرْتِنبرغ في الانضمام إلى دولة ألمانية في الشمال الديمقراطيِّ، وكان الوزير القدير في هِسَّ يقترح سنَّ دستور للإمبراطورية الألمانية مخالفٍ لما يبتغي عارفًا أن المستشار «بسمارك» لا يَوَدُّه مثيرًا بذلك ارتباكًا عامًّا.

وغايةُ القول أن الجميع يتوجهون إلى فِرساي حيث يجلس بسمارك أمام فُرنه مُعدًّا هومنكولوس١ في قارورته.
وكان وليُّ عهد بروسية يَظهر أنه رجل المستقبل، وأنه أهمُّ شخصٍ ما دام الإمبراطور الأول في الرابعة والسبعين من عمره، وكان بين فردريك وبسمارك اختلافاتٌ خطيرة من أول الحرب، ولوليِّ العهد حُلْمٌ روائيٌّ أُسريٌّ ديمقراطيٌّ في أمر الرَّيخ؛ فهو يريد أن تَبرُز بروسية في ألمانية، وألَّا يُترك شيءٌ لأمراء ألمانية الآخرين خلا الألقاب وحقوق الشرف وبعض المقاعد في المجلس الأعلى، وأن يكون التاجُ الإمبراطوريُّ والسلطةُ الحقيقيةُ لآل هُوهِنْزُلِّرن، وأن يقوم بأمر الحكومة وزارةٌ إمبراطورية مسئولة أمام الرَّيشتاغ، ويُطلِع وليُّ العهد أمينَ سرِّه غوستاف فريتاغ على خطَّته تلك في منتصف شهر أغسطس وفي أثناء تقدُّم الألمان، ويبدو وليُّ العهد «هائجًا لامعَ العينين فيقول: يجب أن أكون إمبراطورًا»، ومما قاله فريتاغ أيضًا: «إنني نظرتُ إلى الأمير دَهِشًا، فقد وجدتُه مُزَّمِّلًا٢ بمِعطف جنرال مشتمل على قوامه الطويل كما لو كان هذا المعطف عباءةً ملكية، ووجدتُ حول عنقه سلسلةَ آل هُوهِنْزُلِّرن الذهبية التي ليس من عادته أن يحملها في المعسكر، ووجدتُه يجوب القرية صعودًا وهبوطًا رافعَ الرأس ناضرًا، ومن الواضح أن كان ذهنه مملوءًا بحسِّه ما للمبدأ الإمبراطوريِّ من شأنٍ فيأخذ من المظهر الخارجيِّ ما يُناسب موضوع حديثه.»

وكان صديقه ذلك أديبًا، وكان من العبث تحذيرُه لوليِّ العهد من مخاطر ذلك ومن إنبائه «أن بِزَّة آل هُوهِنْزُلِّرن الزرقاء البسيطة لن تكون أكثرَ من ذكرى قديمة في نهاية الأمر … وكلما زاد الرخاء وعمَّ صَعُبَت المحافظة على النظام القديم والبساطة القديمة بين الضبَّاط، ولن يمكن ذلك إلا إذا جعل أمراؤُنا من أنفسهم المثَل في هذه البساطة على الدوام، والأمرُ كما حدَث حتى الآن يبدو في انتشار رغبة حقيرة بين الناس؛ أي في انتشار رُوحِ مَلَقٍ بين الشعب غيرِ ملائمةٍ للإخلاص البروسيِّ القديم، وكلُّ وجهةِ نظرٍ تستدعي ما يخالفها، ويُرى سيلٌ ديمقراطيٌّ جارفٌ يخترق عصرَنا، وإذا ما وقعتْ مصائبُ ومساوئُ وسَرَى الاستياءُ في الشعب ذاتَ يومٍ وقَع في الخطر أكرمُ الأُسَر المالكة، وما مثَلُ أمرائنا إلا كمثَل ممثلي المسرح الذين يؤثِّرون في الحُضَّار بين الهُتاف وطاقات الأزهار على حين ينتظر العفاريت تحت الباب الأفُقيِّ ليَقضوا على جميع مظاهر ذلك البَهاء!»

ترك وليُّ العهد فريتاغ يتكلم، فَلَمَّا أتمَّ فريتاغُ نبوءته العجيبةَ قال وليُّ العهد محتدًّا: «والآن أنت تسمع لي!» وماذا كان جوابُه عن مِثل ذلك الإنذار المهمِّ؟ لا شيءَ أكثر من أن الملك وِلْهِلْم لَمَّا سأله نابليون عن أيِّ العاهلين تكون له الصدارة في معرض باريس العام: أقيصر روسية أم ملك بروسية، أجاب عن ذلك بقوله يجب أن يكون المكان الأول للقيصر، «فهذا هو الذي لا ينبغي لأحدٍ من آل هُوهِنْزُلِّرن أن يقوله بعد الآن! وهذا هو الذي لا ينبغي لأحدٍ من آل هُوهِنْزُلِّرن أن يرضاه بعد الآن!» وهذا هو الذي تمخَّضَ عنه وليُّ العهد، ويقول فريتاغ: «استطعتُ بهذه الكلمات أن أسبُرَ غَوْر فكره، فوجدتُه مُشبَعًا من عُجبٍ أميريٍّ، وشَعَرت بأن من غير المفيد أن أنطقَ بكلمةٍ أخرى صَرْفًا له عما يساوره.» ولدينا نحو اثنَي عشرَ فصلًا غيرَ ذلك مُقنِعًا لذلك الأديب بأن لمثل تلك المشاعر سلطانًا مطلقًا على عقل الأمير.

وبعد معركة سيدان يكلِّم وليُّ العهد بسمارك في أمر الإمبراطورية، فيجتنب بسمارك الخوضَ فيه، ولمَّا وصَل الجميعُ إلى فِرساي أثار منظرُ رِدَاهِ الملكِ الشمسِ في ابن أخي فردريك وِلْهِلْم الرابع٣ فكرةً قائلة: «إن هذا هو أصلحُ مكانٍ للاحتفال بإعادة بناء الرَّيخ ونَصْب الإمبراطور»، وهو لم يَلبثْ أن أضاف إلى ذلك قولَه: «كنتُ قبل هذا مُضطرًّا إلى الاعتراف بأن (قطبَنا السياسيَّ العظيمَ) الكونت بسمارك غيرُ ذي حماسة خالصة للمسألة الألمانية، وإذا لم تُثِرِ الانتصاراتُ الباهرة التي كُتِبت لنا نارًا مقدَّسة فيه لم يَبقَ لنا سوى الإذعان لِما لا بدَّ منه، ولا يستطيع موظَّفو المملكة البروسية أن يجاوزوا أُفُقَ برلين الضيِّق، وويلٌ للذين لا يعرفون الحقيقة حتى من خلال وقتٍ عصيب كوقتنا، وويلٌ للذين لا يُعلِّمهم شيءٌ ولا يريدون أن يتعلَّموا الحكمة!»

ذلك هو الرأيُ الذي سجَّله وليُّ عهد بروسية في يوميَّته عن رئيس وزراء بروسية حين دُنوِّ إقامة الإمبراطورية الألمانية، وما السياسيُّ العظيم الذي سُخِر من عظمته بوضعها بين هلالَين إلا «موظَّفٌ في خدمة ملك بروسية»؛ فالويل له؛ لأنه لم يتعلَّم شيئًا من الحرب الألمانية! ويدلُّ رأيُ فردريك الذي أبداه في شهر أكتوبر سنة ١٨٧٠، ويدلُّ طيشُه الذي أبداه في شهر أغسطس سنة ١٨٧١ على تدَرُّج آل هُوهِنْزُلِّرن إلى الانحطاط، ويظهر الملكُ الشائب بطلًا بجانب ابنه.

ولم يُعَتِّم وليُّ العهدِ والقطبُ السياسيُّ أن اصطدمَا، فقد طلب وليُّ العهد أن يدعوَ بسمارك دولَ جنوب ألمانية إلى إعمال العقل وأن يُهدِّدَها وأن يحملَها على الاتحاد، «ولا خطرَ في إطْلاعنا هذه الدولَ على ما نحن عازمون عليه، فإذا ما أخذناهم بالحزم وبما يقتضيه من روح أبصرتم أنكم لم تعملوا ما في وُسعكم بعدُ!»

بسمارك : نحارب بجانب حلفائنا، ولا نستطيع أن نهدِّدَهم لهذا السبب، ولا يؤدي تهديدُهم إلى غير إلقاء أنفسهم بين ذراعَي النمسة.
وليُّ العهد : وما هي أهمية ذلك؟ لا شيءَ أبسط من إعلان الإمبراطورية بأكثرية الأمراء الحاضرين، ومن إعلان دستور! وسيرى الملوكُ أنهم مضطرُّون إلى قبول الأمر الواقع.
بسمارك : هذه سبيلٌ لا يستطيع الملك وِلْهِلْم نفسُه أن يسلُكَها.
وليُّ العهد : إذا كنتَ يا صاحب الفخامة لا تَوَدُّ ذلك كفى هذا لمنع الملك من التقدم خطوة.
بسمارك : الرأيُ أن نترك تطوُّر المسألة الألمانية للزمن.
وليُّ العهد : بما أنني أمثِّل المستقبل لا أُطيقُ الوقوفَ غيرَ مبالٍ تجاه هذا البطء.
بسمارك : لا يجوز لوليِّ العهد أن يُبديَ مثل هذه الآراء.
وليُّ العهد : أحتجُّ بكلِّ قوتي على كمِّ فمي على هذا الوجه، وصاحبُ الجلالة وحده هو الذي يستطيع أن يأمرني بما يمكن أن أقولَ وبما لا يمكن أن أقول.
بسمارك : إذا كان وليُّ العهد يأمرني سِرْتُ كما يُوجِّهُني إليه.
وليُّ العهد : ليس لديَّ ما آمُرُ به الكونت بسمارك، وأحتجُّ على هذا الكلام أيضًا.
بسمارك : إنني مستعدٌّ لأنْ أُفسح في المجال لأيِّ شخصٍ ترونه قادرًا على حَمْلِ أعباء الأمور بما هو أحسنُ مني.
ولوليِّ العهد أن ينتقدَ، وليس عليه أن يميل إلى ما يُريد بسمارك، وقد سلَّم أبوه مقاليدَ الأمور إلى هذا الرجل الذي لا تروقه آراؤُه في الدولة، وإذا كان بعضُ أبناء الطبقة الوسطى يهدِفون إلى زيادة استقلال ألمانية فلا يكون هنالك سببٌ يَحُول دون طلبِ وليِّ العهد مثلَ ذلك، والأمر هو أن أفكاره حول شئون الدولة يجبُ أن تصدُرَ عن اختبارٍ شخصيٍّ، وأن يُشعَر بها شعورًا خالصًا، وأن تكون ديانةً خاصة به. والواقع هو أن شخصًا أذكى منه هو الذي لقَّنه تلك الأفكار، والواقعُ هو أنه لم يصوِّر النسيج، والواقع هو أنه نسيجٌ إنكليزيٌّ أزرقُ من تصوير زوجه التي يُعجَب بها أيَّما إعجاب والتي يؤثِّر وطنها فيه بحكم الطبيعة، وما السَّدَى٤ البروسيُّ الأرجوانيُّ الذي هو خيوطٌ إمبراطوريةٌ غير دليل على اللُّحمة٥ الإنكليزية، ويَودُّ هذا الهُوهِنْزُلِّرنيُّ دعوةَ قومه إلى الحكم معه على الطريقة الإنكليزية، وتراهُ مع ذلك يُريد أن يضَع عن الإمبراطورية نُظراءَه من الأُمراء وأن يحصر سُلطاتِهم في الألقاب والأشعرة!
ويريد فردريك وِلْهِلْم الحكمَ ولُبْسَ الثوبِ الأُرجوانيِّ الإمبراطوريِّ ووضْعَ التاج الإمبراطوريِّ على رأسه، ويريد فردريك وِلْهِلْم أن تُشاطرَه زوجُه هذا الشرفَ، ولكنه لا يريد أن يكون الأولَ بين نُظَرائه، ولكنه يريد أن يكون شعارُه التهديدَ وحطَّ ملوك ألمانية الآخرين إلى مستوى العُصاة وتأديبَهم، وهو يُصرِّح لبسمارك بأنه لم يكن لديه شعورٌ كافٍ بسلطانه، فكانت هذه هي المرة الأولى التي يُوجَّه فيها مثلُ هذا التعزير إلى هذا الموظَّف على ما يحتمل، فلا يَسَعُنا سوى التبسُّم إزاء هذا، وهو يودُّ خيانة رفقائه في السلاح وأن يُصوِّب إليهم السلطانَ الذي لم يَنلْه إلا بفضل معونتهم، فلا يؤذيه ذلك، فيختلف بذلك عن أبيه اختلافًا تامًّا، وما أشدَّ صراحة الشريف بسمارك بجانب ذلك الديمقراطيِّ المتلبِّس، وذلك حينما سخِر من «خُنزُوانيَّة٦ أمراء الألمان الملحدة العاتية»، فكان يَودُّ لو يستطيع خَلْعَ جميعهم كأمراء هانوفر وناسُّو، لا من أجلِ أشعرةٍ، بل من أجل السلطة العتيدة التي لا يأذن لأيِّ ريشتاغٍ في التطاوُل عليها، وتبدو الأوقات «عصيبةً» في تلك الساعات التي تنكشفُ فيها الأخلاقُ من غير أن يُلجأَ فيها إلى إطلاق المدافع وإلى الهجوم ما دمنا لا نتكلم عن عُنف الجيوش الذي لا يُقاس بتدابيرِ ذي ذكاءٍ قديرٍ.
وترى الرجلَ العبقريَّ القويَّ يَشقُّ عُباب البحر على الرغم من ريح الوقت على حين ينقاد وليُّ العهد النَّعُّ٧ مع ذلك، ووليُّ العهد هذا يُسجِّل في يوميَّته عشيَّةَ رأس السنة قوله: «يبدو أننا في ذلك الدور لم نُحَبَّ ولم نُحترَم، بل كنَّا مرهوبين، وكنا نُعدُّ قادرين على كلِّ جُرمٍ ولؤم، فتزيد عدمُ الثقة بنا، وليس ذلك نتيجةَ هذه الحرب، وإلى ذلك جرَّتْنا نظريةُ الحديد والنار التي ابتكرها بسمارك فسار عليها عدَّة أعوام! وما هي فائدة كلِّ قوة وكلِّ مجدٍ وكلِّ رفعةٍ في الحروب إذا ما وجدْنا الحقدَ والارتياب أمامنا في كلِّ مكان؟ أجلْ، إن بسمارك جعلنا عظماءَ وأقوياء، ولكنه أفقدَنا أصدقاءَنا وعطْفَ العالم علينا وراحةَ البال فينا. ولا أزال أعتقد أن ألمانية كانت تستطيع بغير الدَّم والحديد أن تأتيَ بفتوحٍ أدبية وأن تُصبحَ موحَّدةً حُرَّة قوية بحقِّها الخاصِّ الصالح، وكان للشريف المِقدام — وهو رجلُ عنفٍ — وِجهاتُ نظر أخرى، وقد أسفرت حِيَلُه ومكايده في سنة ١٨٦٤ عن الإضرار بانتصار قضيةٍ صالحة، وقد هزَم النمسة في سنة ١٨٦٦ من غير أن يُحقِّق الوحدةَ الألمانية، فما أصعبَ مقاومةَ عبادة القوة الجافية والفوز الخارجيِّ! وما أصعبَ تنويرَ البصائر! وما أصعبَ توجيهَ الطموح والغَيرة إلى غاياتٍ جميلةٍ ومقاصدَ سليمةٍ!»

تلك الكلمات جديرةٌ بأريستيد العادل وأبراهام لنكولن، وهي من الكلمات التي استطاع فريتاغ وليبكنخت أن يَنطقَا بها هنا وفي الوقت الحاضر، ولكنها مما لا ينبغي أن تصدُر عن قائدٍ عامٍّ جعل راياتِ الماريشال بلومنتال المنصورة تَخفِقُ تحت اسمه وأراد أن يُكرِه أبناء عمِّه الحلفاءَ من الأمراء على الخضوع ورغِبَ عن استفتاء الشعب واقترحَ الاكتفاء بإعلان الدستور وأن يَلبَس فروَ السَّمُّور الأبيض وَقورًا ساحرًا وَفْقَ الوضع الذي انتحله في تلك القرية المورِقة، وهو لم يَفقَه تاريخَ السنوات العشر الأخيرة، وإلا فبأيِّ شيءٍ تكون الحرب الدانيماركية «قضيةً صالحة» إذا لم تَعُد الدُّوكيَّات إلى بروسية؟ ولِم هُزمت النمسة وهو الذي أيَّد طلباتِ بسمارك في نِقُولْسبُرْغ حِفظًا لها؟ ولمَ أجَّل مستشارُ جامعة دول الشمال الألمانية «بسمارك» اندماجَ الجنوب في هذه الجامعة إن لم يكن قد رأى هذا الاندماجَ لا يتمُّ بسوى الحديد والدم؟ ولا جرمَ أنه كان من الممكن إتمامُ الوحدة الألمانية بغير استعمال السلاح، غير أنَّ هذا يعني فُقدانَ الأُسَر المالكة العتيدة لسلطانها، ويعني عدمَ تركِ شيءٍ لذلك الناقد في عشيَّة رأس السنة سوى فَرْو السَّمُّور الأبيض الذي يَلبَسه اثنان وعشرون من أبناء عمِّه الأمراء بجانبه، ويا لَحُسن حظِّ هذا الأميرِ الذي أنقذه عُمرُ والده الطويلُ من الامتحان العمليِّ فمكَّنَه بذلك من دخول حظيرة التاريخ مُتوَّجًا بهالة الرجل المثاليِّ الذي لم يُجرِّب نظرياتِه!

وبجانب هذا اللامكيافيلِّيِّ يَسير ذلك الواقعيُّ العظيمُ قُدُمًا نحو هدفه، ويُريد وليُّ العهد الديمقراطيُّ «إعلانَ» الدستور في المُعسكر، ويُفكِّر الوزير الرجعيُّ في دعوةِ جميع الرَّيشتاغ الألمانيِّ إلى فِرساي، ومع أنَّ هذا التدبيرَ الرئيسَ لا ينطوي في الظاهر على غير تهديدِ الأمراء المترددين يُحوِّل بسمارك هذا تهديدَه إلى غيرةٍ وَجِدٍّ، وكان بسماركُ قد أحصَى المنازلَ في القصر، وكان وزراءُ دول الجنوب الأربع يذهبون ويجيئون، وتعترض بافارية على اثنتين وعشرين مسألةً في المشروع ويتشدد بسمارك، ويرجع الوزراء إلى ميونيخ، ويظلُّ كلُّ شيءٍ ساكنًا كما في الماضي.

والآن يتظاهر بسماركُ بأنه يرى التفاهُم مع بادِن ووُرْتِنبرغ وحدهما، والآن تبدو بادنُ مستعدَّةً لعمل هذا ما أَبصرتْ بافارية تطلُب التوسعَ على حساب بالاتينة البادنيَّة، وترفَعُ دوائر البريد والخطوط الحديدية ومصالح البرق أصواتها، وتطالب جيوشُ مختلف البلدان الألمانية ببِزَّات مُميزة، وتكاد الوحدة الألمانية تُصاب بالخيبة من أجل لَون الطَّوق، ويقول أحدُ وزراء بادِن عن بسمارك مادحًا: «إنه أبدى أطيبَ العواطف نحو مصالح الدول، وإنه لم يُصِب هذه المصالحَ بشيءٍ من غير سبب مقبول، وإنه لم يمسَّ مصالحَ بافارية إلا بالمقدار الذي تتطلبه مصالح الرَّيخ.» وبسمارك إذ كان راغبًا في إيجاد الرَّيخ تساهلَ في جزئيات البِزَّات وما إليها من التُّرَّهات، وتُبلَغ الوحدة، وإذا عَدوْتَ بافارية بدا لك كلُّ شيءٍ جاهزًا ووجدتَ الفُرقاء الذين اشتركوا في المفاوضة راغبين في الإمضاء، وهنالك تتدخل ملكة وُرْتِنبرغ التي هي من أصلٍ روسيٍّ، وهنالك تتأثَّرُ بدسِّ أحد البارونات فتحمل زوجَها الضعيفَ الإرادةِ على الإبراق قائلًا إن من الرأي أن يُنتظر أمرُ بافارية، وهنالك يُبدي بسمارك غضبَه لخُلصائه مع هدوئه الظاهر فيَمرَض ويُفكر في تعبئة جماهير جنوب ألمانية ضدَّ حكوماتها.

والآن يَنتصب عُرْف٨ البافاريين مرةً أخرى، والآن عند عودتهم يُعطَون الشيءَ الكثير، والآن يُدخَل إلى الدستور نَصٌّ قائلٌ بتأليف لجنة دِبلُميَّة ترأسُها بافارية، وستتمتع بافارية باستقلالها في دوائرِ بريدها وخطوطها الحديدية ومصالح بَرْقها، وفي جيشها أيام السِّلم، وتنالُ بافارية ضرائبَ الجِعَة والمسكرات، ويَضمن بسمارك لها كلَّ ما تريد، «وتُمضي بافارية العقدَ».

وفي ذلك المساء من شهر نوفمبر وبعد المفاوضة؛ يدخل بسمارك القاعةَ حاملًا قَدَحًا ويجلس بين زملائه، «وتُهَيَّأُ معاهدة بافارية وتُوقَّع، وتصير الوحدة الألمانية أمرًا واقعًا، ويغدو الحكمُ قبضةَ الإمبراطور، وهذا حادثٌ، ولا ترضى الصحف بهذا، ومَن يكتبْ تاريخًا وفق الوجه المألوف يستطعْ أن يقول: كان يمكن الأغبياء أن يطالبوا بما هو أكثر من ذلك، وكان يجب عليهم أن يصنعوا ذلك، وقد يكون للمؤرخ حقٌّ في استعمال كلمة «يجب» هذه، ولكن ما هي فائدة المعاهدات إذا قامت على كلمة «يجب»؟ أراهم قد انصرفوا راضين، وللمعاهدة نقائصُها، ولكن ليس في الإمكان أبدعُ مما كان، ويمكن في المستقبل تلافي ما فات، وأَعُدُّ المعاهدةَ من أهمِّ ما أنجزناه في السنوات الأخيرة».

ثمَّ يتكلَّم بارتياب عن ملك بافارية، ويقول أبِيكِنُ الدائمُ الولاء: «ولكنه رجلٌ كثيرُ الظَّرْف مع ذلك».

وينظر بسمارك إليه دَهِشًا فيقول: «كلُّنا ذلك الرجل هنا».

وبمِثلِ تلك البساطة يؤدِّي حسابَه عشيَّةَ إتمام عمله، ويُطيل تعاطي رحيق الشنبانية قاعدًا مفكِّرًا غيرَ مبالٍ بالحضور، وإنه لكذلك إذ يقول من غير انتقال: «سأموتُ في الحادية والسبعين من عمري.» وهو يستخرج هذا من حساباتٍ لا يُدركُها الحاضرون.

– «لا ينبغي لك أن تموت بهذه السرعة! فعلينا أن نَطرُدَ ملك الموت!»

بسمارك هادئًا: «كلَّا — في سنة ١٨٨٦ — لا يزال لديَّ ستَّ عشرةَ سنة، وهذا رقمٌ مقدَّر.»

١  هومنكولوس: قزم أوجده فاوست بأعمال كيماوية كما جاء في رواية فاوست لغوتة.
٢  المزمل: المتلفِّف.
٣  هو ملك بروسية الذي مات مجنونًا، وابن أخيه هو وليُّ العهد.
٤  السَّدَى: من النسيج ما مُدَّ من خيوطه طولًا.
٥  اللُّحْمَة: ما نُسِجَ عرضًا، وهو خلاف سداه.
٦  الخُنزُوانيَّة: الكبر.
٧  النَّعُّ: الرجل الضعيف.
٨  العُرف: لحمة مستطيلةٌ في أعلى رأس الديك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤