الفصل التاسع عشر
ويُتوِّجُ حياتَه عدمُ صحةٍ بقلة ركوبه خيلًا، وتُصبح رياضتُه الوحيدة أن يمشيَ في الحديقة المُحاطة بأسوارٍ عالية عند عدم وجَع رجلَيه، ويجد نفسَه ذات مرة تجاه مِرقاة مستندة إلى الحائط، «وتساورُني من فَوري رغبةٌ كبيرة في الصعود فوق الحائط، وإذا وُجِد هنالك حارسٌ؟ وأُكلِّم الخفيرَ في نهاية الأمر ويُهِمُّه أن يعرف عزمَنا على دخول باريس»، وهو لم يكن مُتقلِّدًا سيفًا عند خروجه، «ولكنني كنتُ حاملًا مُسدَّسي؛ وذلك لأنني وإن كنتُ لا أُبالي بالقتل عند الضرورة لا أودُّ أن أَهلِك من غير انتقام لنفسي!» ويكرهه الناس في فرنسة بالحقيقة، فنُظِّمت مؤامرةٌ لاغتياله في أثناء تقدُّم الجيش، ولِزوجه يقول في كتاب يُرسله إليها: «يلوح لي أن القوم يَعدُّونني هنا كالكلب الضَّاري المتعطش إلى الدم، فإذا ما طرَق اسمي آذانَ العجائز ركعْنَ طلبًا للعافية، وما أَتِّيلَا إلا حَمَلٌ بجانبي!»
ويَندُر أن يَسبَح بسمارك في الخيال كما في الماضي، ولا نرى غير بيان واحد لهذه الحال؛ فقد كتب يقول: «اليوم هربتُ من همِّي لأتمتَّعَ بهواء الخريف الرَّخوِ على الطُّرق المستقيمة في حديقة لويس الرابع عشر، وبين حفيف أوراقِ الشجر ومقصوصِ الدَّغَل والحِياض الهادئة والآلهة المصنوعة من المرمر، وما كنتُ أريد أن أسمعَ غيرَ صليل سيفِ يوسفَ الراكضِ ورائي، وأَسير مع حنيني إلى الوطن، ويُثير هذا الحنين فيَّ ما يقَع في هذا الفصل من سقوط الورق وما أجدُني فيه من العزلة في بلاد الغربة، وتعود إليَّ ذكرياتُ الصِّبا وذكريات ما غدا مفقودًا من العوسَج المقصوص.» وعاد راغبًا عن مثل هذا الخيال مرة أخرى وإن أصبح يقضي في فِرساي حياةً أهدأَ مما في برلين.
وأمَرَ بسمارك بَنِيه في بدءِ الغزو بقوله: «أبرِقوا إليَّ بمقرِّ الملك العامِّ، وإياكم والإبراقَ إلى والدتكم في أول الأمر!» وفي مساء من أُمسية شهر أغسطس يكون بسمارك مع الملك بعد المعركة التي وقعتْ بالقرب من مارْس لاتُور فيدخل ضابطٌ ويُبلِّغ إلى مولتكه — الذي كان هنالك أيضًا — شيئًا فيُذعَر هذا، فيسأل بسمارك بغتةً: «أيتعلَّق الأمر بي؟»
إذن، كان بسمارك في الحرب يفكِّر في أولاده أكثرَ مما في الأيام العادية، ومن فرساي كان بسمارك يُدير مُلْكه في فارزين مع إدارته لمملكة بروسية، ويُرسل بسمارك كتابًا إلى زوجه، ويُبرِق بعد ذلك ليُسلَّمَ الكتابُ المتأخرُ إليها؛ وذلك لِمَا عَلِمه من مغادرتها رينفيلد ولإمكان فَتْحِه من قِبَل حَمِيه البالغ من العمر ثمانين سنة وإطلاعِه القسِّيسَ عليه وانتهاء أمره إلى الصحافة، وفي ذلك الكتاب يُبدي بسمارك قلقًا حول صحة بيل، وفي ذلك الكتاب يسأل زوجَه عن وجود ثيابٍ تحتانية من صوف لها وللأولاد، وفي ذلك الكتاب يُبدي استياءَه لعدم نَيل ولدَيه وسام الصليب الحديديِّ مع استحقاقهما له ومع اجتنابه قولَ كلمةٍ للملك في ذلك، ويكون ابنُه هربرت ناقهًا في عيد الميلاد فيُهدي إليه سيفًا جميلًا، ويمتنع عن البحث له عن عمل في الجبهة مرةً أخرى مُتَّبِعًا نصيحةَ رون الذي قُتل ولدٌ له في الحرب.
ونحن حين نسمع أن بسمارك وهو مع الملك بغرَافِيلُوت في أثناء المعركة فقَدَ رباطةَ جأشه لأنه عَلِم أن ولدَيه بين الغوغاء حيث اختلط الحابل بالنابل، «فمال إلى الأمام باديَ الهيجان»، نعتقدُ زيادةَ رغبته في تعجيل عقد الصلح تبعًا لعواطفه الأبوية.
وعن هذا يُجيب كورفين مسرورًا: «يُمكنُني أن أَدُلَّك على وسيلة جيدة تُحافظ بها على فتائك، وهي أن تَقضيَ حُكمَ ستِّ سنواتٍ سجينًا في حُجيرة!»
نشأ كلٌّ منَّا في أحوال واحدة تقريبًا، وكنتُ مثلَك حينما أثرْتُ ذعرًا في أُسرتي بأفكاري الحرة، وكنتُ مثلكَ حينما أُشبِعْت في شبابي من مبدأ الوحدة الألمانية، ولكنني نَفَرْتُ من عجزِ كثيرٍ من زعماء سنة ١٨٤٨، أجلْ، يكون الإنسان أكثرَ حماسةً في فتائه، ثم تَمَّحِي أشعرةُ الأحزاب من عَلٍ، ثم إن تراث الشريف لا يزول تمامًا كما ترى … وترى كيف يُسيِّر القَدَرُ الأمورَ؛ فالمشاعرُ الواحدة جعلتْكَ في السجن وجعلتْني في منصبي الحاضر.
ويُصغي الصِّحافيُّ إليه حائرًا، فيا لَبراعته البالغة في تضليل خَصْمٍ سياسيٍّ بمقايساتٍ فاسدة واستنباطاتٍ باطلة! ويا لَمهارته في الترحيب بكورفين كشريفٍ وفي تملُّقه هذا الصحافيَّ بإشارته إلى تماثلهما في الشباب وإلى مذهبه الحُرِّ الباكر! ويبلُغ بسمارك في ذلك غايتَه؛ فقد حدَّثنا كورفين عما لَقِيَه من وِداد المستشار بسمارك وعطفِه وتقديره!
ويمكنُ تقسيمُ أعداء بسمارك في فِرساي إلى مدنيين وعسكريين، وإلى أمراءَ ورجالِ دواوين، والفرنسيُّون وحدَهم هُم الذين كان معهم على وِئام، ومن المقرِّ العامِّ يكتب ستوش قائلًا: «لم أَرَ في الماضي مرارةً أُبديَت لإنسان كما يُبدَى لبسمارك الذي لا يألو جُهْدًا في فرْض أفكاره.» وهو ذو صلاتٍ سيئة مع أركان الحرب على الخصوص، وهو يُصرِّح ﺑ «أنَّ جحودَ هؤلاء العسكريين أمرٌ كريهٌ تِجاهي، مع أنَّني لم أدَّخرْ وُسعًا في عمل كلِّ ما يطيب لهم أمام الرَّيشتاغ! وسيَرون ما جعلوه فيَّ من تبديل، فسأعود إلى البلاد برلمانيًّا بعد أن ذهبتُ إلى الحرب رائدًا، وسيَرَون الميزانية الآتية عاطلةً من الحديد!» ويَذكر بسمارك بعد سنين ما كان من «المقاطعة العسكرية» ضدَّه، ويدلُّ الواقعُ على أن رجال الجيش كانوا يَبذلون ما يستطيعون ليُقصوه عن مذاكراتهم وليبحثوا في المسائل عندما يكون نائمًا، «وكان مراسل جريدة التيمس رسِّل أحسنَ وقوفًا مني على ما يُزمَع عملُه وعلى ما تمَّ فعلُه فيكون لي مصدرًا نافعًا للأنباء»، ويُراقَب خُلصاء مستشار الجامعة بسماركُ من قِبَل أركان الحرب وتُفتَح العيون حول كلِّ مَن يأتيه بالأخبار، ويَرصُد القوَّاد بسماركَ كما لو كان محايدًا لا يُركَن إليه، وهنالك سببان كانَا يَحفِزان رجالَ الحرب إلى اتِّباع سياسةٍ حمقاء مؤدية إلى كتْم سَير الأعمال العسكرية عن ذلك القطب الذي كان قابضًا على زمام الأمور فيستند في قسمٍ من حساباته إلى تلك الأعمال، فأمَّا السببُ الأول فلا يَعدو حدَّ حسدهم له على قوَّتِه، وأمَّا السبب الثاني فهو الاستياء الناشئ عن أسلوبه الاستبداديِّ في توجيه كلِّ شيءٍ. قال مانتوفِل: «كان يُرى من العار أن يكون لرجلٍ سياسيٍّ من النفوذ ما ليس لقوَّاد الجيش!»
وبسمارك من ناحيته يَدَعُ منذ عشر سنوات — وللمرة الأولى — وقوعَ أمور كثيرة على غير ما يرضى وخلافًا لِما يودُّ، وبسمارك يُكرَه على التغافُل عن الملك وِلْهِلْم الذي لم يَغفُل بسمارك عنه طرفةَ عين حتى الآن، فيخالط الملكُ القُوَّادَ فيؤثِّرون فيه سياسيًّا وعسكريًّا، وما عليه بسمارك من عزَّةٍ واستبداد وعادة في تقرير جميع المسائل — بما عُرِف عنه من عناد — فيدفعُه إلى الثورة على عُزلته التي ما فتئَ القوَّادُ يُوطِّدونها، وبينما كان رجالُ الجيش ينتقدون سياستَه حول السِّلم والإمبراطورية كان يُري الجيشَ أنه يجب عليهم أن يعرفوا جهرَه بلومهم على خططهم في الغزو، «فخططُ القيادة العُليا الحربية هي خططُ غُرفة، والجنديُّ العاديُّ هو صاحب جميع الانتصارات، ونحن مدينون بما تمَّ لنا من نصرٍ لسواعدِ جنودِنا الذين هم أقوى من جنود فرنسة بدنيًّا، فهم خيرٌ من هؤلاء سيرًا وصبرًا وشعورًا بالواجب وصَولةً في الهجوم، ولو كان مَكْماهون قائدًا لجنودٍ من البروسيين وكان ألفِنْسليبن قائدًا لجنود من الفرنسيين لقُهِر هذا الأخير»، ويؤنِّب ستينمِيتز أَلْفِنسليبن حول المائدة ويدعو الوزيرَ أُولِنْبُرْغ إلى المعسكر «ليُرى رجلٌ خفيف الظلِّ بين هؤلاء اللابسي البِزَّات العسكرية»، ويَشعُر بانحراف مزاجه ويكون في غُرفة بالغة الحرارة فيُبدي ألمَه لفالدِرسي بقوله: «يُخفَى عني أهمُّ الحركات، ولا أطَّلع إلا مصادفةً على خبر أعظم الحوادث عندي.» وقد رُويَ لنا أنه حين قوله ذلك «كانت عيناهُ تتَّسعُ وكان العرَقُ يتحدَّرُ على وجهه وكان يُدخِّن سيغارًا كبيرًا، وكان يشرب خمرًا صِرفًا كما بدا لي من القِنِّينة.»
ويُصرِّح بسمارك للأمير هُوهِنْلُوهِه بأن الجيش لم يأتِ بغير الغباوة بعد معركة سيدان، «ومما لا ريب فيه هو أنني لستُ صاحبَ ذكاءٍ كبيرٍ ولا صاحبَ استعدادٍ كثيرٍ، ولكن هنالك أمرًا أُحسن إدراكَه في الحقيقة، وهو فنُّ الحرب، فنحن بدلًا من أن نجمع جميعَ قُوانا في غابة أرغون فننتظر هجوم العدوِّ علينا، تَقدَّمْنا إلى باريس رأسًا من غير أن نعرف السبب، وقد احتججتُ فلم يُرِد مولتكه أن يسمع شيئًا»، ومولتكه هو أشدُّ الناس خصومةً لبسمارك في أثناء حصار باريس، وليس هذا سوى نُفورٍ تراكمَ في زمن طويل، ثم ظهر في نهاية الأمر.
وارجعِ البصرَ إلى وصفهما في فتائهما، في سنٍّ يمكن الإنسان أن يختار فيها ماذا يصير، تجدْ بينهما اختلافًا بَيِّنًا، فترى بسمارك كلَّه من عَضَل وجوهر وإرادة، وترى مولتكه كلَّه من عَظْم ورسم وفِكْر، وفيما كان بسمارك يكتب، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، رسائلَ هُزُوء بالنفس مع زَهْو؛ كان مولتكه يُترجم نفسَه بقوله: «يُحيط بوجه شاحب جليٍّ خُصَلٌ شُقْرٌ، وعلى ما لا يَزعم هذا الوجهُ من حُسنِ منظر فيه تجدُ عليه سمةَ الجدِّ والنُّبل، وله هيئةٌ ذاتُ ظَرْف، وله ملامحُ لا تهتزُّ بغير دافعٍ باطنيٍّ، وهو كالنهر العميقِ الذي يتدفَّق إلى الأمام بلا انقطاع تحت سطحٍ هادئٍ، وهو لا يَضطرب مُزبِدًا إلا إذا اعترضتْ صخورٌ لمجراه.» وروحُ بسمارك الدائمةُ الحركةِ منذ شبابه كانت تُشابه البحر الهائج.
وكان مولتكه لطيفًا رءوفًا نحو كلِّ واحدٍ وكان إيجابيًّا كرون مع فتورٍ أشدَّ مما عند هذا، وكان معتدلًا في كلِّ شيءٍ، وكان بلا بدنٍ تقريبًا، وكان غيرَ محتاج إلى العمل تسكينًا لاضطرابٍ نفسيٍّ فيه، وكان رصينًا في الشغل والراحة، وكان قليلَ الكلام لا عن غموضِ أمرٍ ولا عن حقدٍ على الناس، بل لعدم اضطراره إلى التذمُّر، ولا إلى البيان عن أثرة، ولا إلى كَتْم شيء وراء ألفاظٍ عن مهارة، وكان لا يلتزم جانبَ الصمت عن كبرياء ولا عن سوداء، بل عن ميل إلى مشاهدة الممثِّل وعن كُره لمشاهدته إذا ما مثَّل.
وكان ذا مزاجٍ معتدل وذا طبعٍ صباحيٍّ حتى في نُزَهِه، حتى في نومه وشُربه وقراءته، وكان يُفضِّل حديقتَه على الغاب، وكان يُنجز عملَه بيده سواءٌ أكتبَ تقاريرَ إلى الملك أم نشَر شجرًا أم طعَّم نباتًا، وكان بلا ولد، وكان يفكِّر في الآخرين على الدوام، وكان غيرَ ذي خدَم، وكان كاتبًا روائيًّا ومُغرمًا بمُوزَار ومترجمًا لقصائدَ أجنبية، فإذا ما حوَّلْنا كلَّ واحدةٍ من صفاته هذه إلى ضدِّها وجدْنا صورةَ بسمارك.
وتناسقٌ في الخصائص والسلوك كذلك، واعتدالٌ مع صُمُوت كذلك، مما يجعل مولتكه غيرَ محبَّب إلى بسمارك كما يجعل بسمارك غيرَ محبَّب إلى مولتكه، ويقوم وصفُهما المشترك على شكِّ كلٍّ منهما في الآخر شكًّا عميقًا، وما كان مولتكه ليُدرِكَ أنَّ رجلًا يعيش هائجًا بذلك المقدار، وما كان بسمارك ليُدرك أن رجلًا يعيش هادئًا بذلك المقدار، ولم يتبادل الرجلان كلمة وِداد مع أن رون كان ودودًا لكليهما، واليوم حين وجب عليهما أن يعملَا معًا كَثُرت عوامل تصاكِّهما. وفي المساء بعد معركة سيدان يدعو مولتكه بسمارك التَّعِب المنهوك إلى الترجُّل والركوب معه في عربته، فلما كانَا سائرَين فيها هتف الجنود لقائدهم مولتكه هُتافًا حارًّا، فقال بسمارك: «من الغريب أن يعرفني جميعُهُم بهذه السرعة!» ويصمت مولتكه آنئذٍ، ثمَّ يروي القصة بعد بضعة أيام مبتسمًا.
وقد استفزَّت بسمارك هذه النظريةُ التي نبذها أساتيذُ فنِّ الحرب فيما بعد، وقد أبدى لبلومنتال بعنفٍ ألَمه من الملك ومن مولتكه قائلًا حَنِقًا: «إنهما لم يُخبراني بشيءٍ، إنهما عَامَلَاني بغلظة … فمتى انتهت الحرب اعتزلت من فوري، لا أُطيق هذا الازدراءَ زمنًا طويلًا، هو قد جعلني مريضًا، هو سيقتلُني ما لم أضعْ حدًّا له، ما فَتِئْت أُعارض من البداءة حِصارَ باريس الذي أَعُدُّه خِطْأً كبيرًا، والأفضل أن يُعاد نابليون مع كتائبه التي لا تزال مخلصةً له، فهذا الرجلُ المريض ليس خَطِرًا، ولا يريد الملك أن يعرف شيئًا، لقد كنتُ ملكيًّا حينما ذهبتُ إلى الحرب، فلن أكون كذلك بعد العود.» وقال لبِنِّيغْسِن: «لن يطول انتظاري، فإذا دام وَقْفُ الحركات هذه انطلقتُ على حِصاني إلى الحدود الألمانية مع خادمي!» وفي ذلك الحين يتظلم مولتكه إلى وليِّ العهد من بسمارك بقوله: «يريد بسمارك أن يُقرِّر الأمور الحربية كما يُقرِّر الأمورَ المدنية غيرَ مستمعٍ إلى ما يقولُهُ الخبراء المسئولون، ويُوجِّه الكونت بسمارك — فضلًا عن ذلك — أسئلةً إلى أركان الحرب عن أُمُور عسكرية سريَّة فلا أُجيب عنها في مرَّات كثيرة، وأجدُني مستشارًا حربيًّا للملك، ولا أجدُني مُلزَمًا بالانحراف عن مقاصدي عملًا بآراء الكونت بسمارك.»
ويلجأُ بسمارك في منتصف شهر ديسمبر إلى أُسلوبه المفضَّل، فيُضرِب ويظلُّ غائبًا عن الأنظار أُسبوعًا كاملًا، ويُطلِع صِحَافيًّا على الخِصام الواقع فيأذن له في إنباء أمريكة بذلك، وبسمارك لم يظهر إلا بعد تقرير الضرب بالمدافع، ووليُّ العهد يدعوه مع مولتكه إلى الغداء إذ ذاك حتى يوفِّق بينهما، ويتدخل فردريك مرارًا مسيِّرًا للحديث بهدوء؛ وذلك لمَا يُبديه بسمارك من انتقادٍ لاتجاه الحرب منذ معركة سيدان على مَسْمعٍ من مولتكه.
وفي المقرِّ العامِّ يَجِيءُ أمراء الألمان بعد القوَّاد في إغضاب بسمارك، فقد كتب بسمارك بعد نُشُوب الحرب بثمانيةِ أيام يقول لزوجه متذمِّرًا: «إن من الفظاعة بمكانٍ تلك الطريقة التي يَشغل بها هؤلاء الأمراءُ النظَّارُ أحسنَ الأماكن، فيُعرقلون عملي وعملَ رون فيحملوننا على صَرْفِ موظفينا تمكينًا لأصحاب السموِّ الملكيِّ من إسكان خَدَمِهم وحُصُنهم وحُجَّابهم على الرحب والسعة.»
وكان بسمارك في أثناء تقدُّم الجيش يجتنبُهم جُهدَ الاستطاعة، فإذا ما صادفهم في أثناء زيارته للملك مضطرًّا وَصَف لزملائه ما أبصر من مهزأة بقوله: «يَضُمُّ الاجتماع من الأمراء الكثيرين ما لا يكون معه مكانٌ لجلوس الناس … ويُرى هنالك ذلك الأحمقُ الصاحب لرأس فارغ مع كلام لا معنًى له … والمعتزُّ بنفسه لأنه أميرٌ على حين تُبصرني مستشارًا في الجامعة له! ومصدرُ هذا ما يتلقَّونه من تربية تهدف إلى إتقانهم صَوْغَ الجُمَل فقط، والكرسيُّ هنالك في القصر، ويأتي عميد البلد فون (س) ليُقدِّم واجبَ الإجلال، فيُقال له: سُررتُ برؤيتك أيها السيد العميد! وماذا تصنعُ هذه المدينةُ؟ أَتُنتجُ تَبْغًا وجواربَ قصيرة؟ وأُوضَع حول مائدة الملك بين أمير بافارية ودوك فيمار الأكبر، ويخلو الحديث من روعة.»
وذلك الدوك الأكبر مِن أشدِّ بلايا بسمارك، فقد قال ذلك الدوك لبسمارك: «بما أن المفاوضات تتقدم الآن آمُلُ منك يا مستشاري في الجامعة أن تُزوِّدني من الأنباء ما أتقدَّم معه بما يَسُرُّ روسية.» وهذا الذي يريد بسمارك أن يجتنبه، وينحني بسمارك ويقول ساخرًا سَخَرًا مُضمَرًا: «لن أترك أمرًا يُرضي دوكي الأكبر.» ولما أرسل الدوك الأكبر وزيرًا إلى بسمارك بعد ذلك قال هذا الأخيرُ إن مما يُذهله أن يأتيَ الدوك الكريم بما يؤثِّر في وقته وصحته من الادِّعاء، ويُرسِل أمير كُوبُرغ إليه كتابًا مؤلَّفًا من اثنتي عشرة صفحةً عن السياسة الألمانية، فيُخبره بأنه وَجَد واحدًا من جميع الاقتراحات يكاد العمل به يكون ممكنًا، وبأن هذا الاقتراح لا يستحقُّ أن يناقَش فيه بالحقيقة.
ويُبرِق دوك فيمار الأكبرُ إلى زوجته بأسلوب الملك وِلْهِلْم فيقول لها: «إن جيشي قاتل ببسالة.» وتَمرُّ البرقية من يد بسمارك فيأتي بأمين سرِّه في منتصف الليل ليُطلعه عليها وليذيع أمرها المضحك بين الناس، ويُفرِط دوك سَكْس مِينِنْجِن في شَغْل دائرة البرق المرهَقة بأموره الخاصة، فيُرسِل إلى هذا الأمير الصغير مَن يُخبره بأنه لا يُسمَح باستعماله بَرْقَ الميدان في شئونه الشخصية؛ أي في موضوع مغارسه ومغانيه ومرابطه، ويُفرِطُ أمير كُوبُرْغ في الأمر أكثرَ من ذلك، وكتب أمير هِس في شهر نوفمبر، وهو وطنيٌّ ألمانيٌّ آخرُ أراد في شهر يوليو أن يحفظ لنفسه حريةَ القرار مستقلًّا، يقول له إنه سيأتي إلى فِرساي إذا ما ضُمن له ألَّا يكونَ راكبًا حصانًا لدى دخول الغُزاة باريس ظافرين!
وبعد مثل تلك المهازئ، وبعد إبداء ذلك «الملكيِّ» ازدراءَه للأمراء، يُسمِع ذلك الطاغيةُ المحكوم عليه بالخدمة تحسُّرًا مؤثِّرًا، ويدخل البَهْو متأخِّرًا ذات مساءٍ من شهر نوفمبر بعد مباحثات طويلة مع وزراء دول جنوب ألمانية، ويطلب جِعةً، ويتأوَّه، ويقول: «آه! كنتُ أُفكِّر مرةً أُخرى في أمرٍ سَبَق أن فكَّرتُ فيه مراتٍ كثيرةً، ويا لَجَلال ما يكون لو قُيِّضَ لي أن أقول في خمسِ دقائق: سيكون هذا، ولن يكون غير هذا! ويا ليتني أَجِدُ مالًا أُزعج به نفسي بكلمة «وبما أن» وكلمة «وعليه» مساوِمًا مُبرهِنًا على أتفه الأمور! ويكون قليلُ تبديدٍ للوقت مع أناس كفردريك كانوا جنودًا عارفين بعض الشيء من سَير الأمور عاملين كوزراءِ دولتهم، وكان نابليون كفردريك في هذا الشأن، ولكن يجب على المرء هنا أن يتكلم دومًا ويرجو دومًا!» ويقول بعد هنيهة: «ذلك كابوس على صدري! ذلك يمنعني من التنفس! ليت الإنسانَ أميرٌ ألمانيٌّ! كان يمكنني أن أكون شديدًا، ولكنني لست أميرًا ألمانيًّا!»
ويُلخَّص لُغزُ وَضْعه ومأساةُ حياته بتلك الكلمات القليلة الحاقدة التي دَمدَم بها حسيرًا ذات مساء وقتما كان يشرب جِعةً، فهو قد وُلِدَ ليَسود، وهو قد اختِير ليخدم، والعالم لا يروقه، وما يُحبُّ أن يفعل، وما عليه أن يصنع، فيَلوح أنه قبضته، بيدَ أنه إذا ما بسط يده أرخى أميرٌ سِتارًا زجاجيًّا من عَلٍ مُقصيًا القطبَ السياسيَّ مُلزِمًا إيَّاه بالانتظار خارجًا، أجل ليت الإنسانَ أميرٌ ألمانيٌّ!