الفصل الثاني

«لا أُلائم الملكَ لِما يطلب من مداراته بلُطف كبير!» فبهذه الكلمة التي قالها بسمارك قبل تعيينه بأربع سنوات، وحين صار وِلْهلم وصيًّا على العرش يذكر بسمارك لغِرْلاخ ما يُعِدُّه تبديل أولياء الأمر له من المصاعب، وهل يناسب بسمارك بروسية؟ هذا هو السؤال العظيم الذي لم يجرؤْ شلُوزِر مع حبِّه الممزوج بالحقد أن يؤكِّده بالإيجاب، ولكن الملك وحده هو الذي يستطيع أن يُسلِّم إليه بروسيةَ ليسوس أمورها، وعلى بسمارك أن يُمسك وِلْهلم في بدء الأمر، ثم أن يحفظَه بعد ذلك، وبسمارك يُمسكه كالعاشق الحاذق الذي يُداري الخليلةَ التي لا يطمئنُّ إلى حُبِّها له، أو كالمخترع الذي يُداري الثَّريَّ طمعًا في إمداد اختراعه بالمال، ولا غُنية لأحد الرجلين عن الآخر في اصطراعهما، ولكلٍّ من ذَينك المتقاتلَين المختلفَين خُلُقًا، نصفُ فضلٍ ونصفُ عبءٍ في كفاحهما الصامت حول التسليم، لا حول السلطة، ولا يمكن تعيينُ أيهما أصلبُ من الآخر، آلملك الشائب الموهوب قليلًا، والذي يحتمل، وهو سليل الملوك، وزيرًا أصغر منه سنًّا ولا يعدو أمره حدَّ الشريف أم ذلك القطب السياسيُّ المقدام الذي يجب عليه أن يكابد تردُّد الملك. وإنما الذي يبدو هو أن الفارس الشيخ يَحذَر حصانه الرشيقَ وأن الحصان يجنح إلى الجُمُوح، فيسيران في نهاية الأمر.

ويتناقش الملك ووزيرُه غيرَ مرة فيتمسك كلُّ واحدٍ منهما بوجهة نظره التي تُخالف وجهةَ نظر الآخر، ويفترقان متحاقدَين، ولا يودُّ كلٌّ منهما سوى التخلص من صاحبه، ولكن المرءوس إذا ما قدَّم استقالته إلى رئيسه خشيَ الرئيسُ مغبَّةَ الأمر وأذعن من فَوره، وقد كان بين ذَينك الرجلَين ساعاتُ حُمقٍ وحنَقٍ، ولا تجد لهذه الساعات سوى صدًى ضئيل في مذكِّرات بسمارك.

وكان بسمارك يَعلم ذلك مُقدَّمًا، وذلك قبل أن ينال السلطة كلٌّ منهما، وبسمارك حتى حين وجوده سفيرًا، كان يحسب ذلك فيما يُعِدُّه للمستقبل من الخطط، والآن في كلِّ يوم يتصل بسمارك بالملك من أجل العمل، فيُمثِّل دَورَه، وبسمارك ذو علمٍ عظيم بالرجال على العموم، وبسمارك جليسٌ للملك على الخصوص، وبسمارك جنديٌّ بين وقتٍ ووقت، فعليه أن يَظهرَ متديِّنًا؛ منعًا لذعْر الملك البالغ من العمر سبعين عامًا، والملك — حتى في تلك السنِّ — يُبدي من الغضب في بعض الأحيان ما يَدْعَك معه أوراق الدولة التي يُنعم بسمارك، بعد الأزمة، نظرَه فيها مُتبسِّمًا مقدِّرًا إمتاعَها بجِعادها،١ شأنُ المصوِّر الذي يرى متعةَ الوجه الذي يصوِّره في تكرُّشه، والاعتدالُ هو الذي تُداوَى به تلك النزوات، وهذا هو الذي أدركه بسمارك حديثًا، ويحتمل بسمارك مليكَه لِما يَعلمه من استقامته، ويصبر بسمارك على مليكه لِما يجده من عدم مداجاته كفردريك وِلْهلم الذي كان يُخادع وزراءَه ويُحرِّض بعضَهم على بعض، وقد وثِق وِلْهلم الأول ثقةً مطلقة بذلك الذي احتمل أعظم مسئولية.

وكان بسمارك يعرف الملكَ حين قَبْضِه على زمام الأمور، فلا يجد منه ما يُفاجئه إذن، غير أن الملك لم يألَف بسمارك إلا ببطوء، والملك لم تزُل مخاوفُه من وزيره ذلك إلا بعد سنين، إلا بعد أن رأى من نجاح وزيره ذلك ما رأى، وما كان الملك ليرضى ببسمارك في بدء الأمر إلا كارهًا، وما كان أقرباء الملك وأصدقاؤه ليصنعوا في السنوات الأولى سوى العمل على تخليصه منه بسرعة، وأول ما حدث هو إرسال شيوخ الأحرار إلى الملك رُسُلًا ثقاتٍ ليَعزِل وزيرَه الجديد. ومن المؤسف أن أبصر الملكُ الشيخُ تحَوُّلَ عواطف رعاياه عنه، والملكُ في الأيام الأولى كان مكروهًا لوصفه ﺑ «الأمير الرامي الرصاص»، فكان يَنفِر من تلك العواطف، ثم أخذ الملك ينال تلك العواطفَ في العصر المدعوِّ بالحُرِّ، فلما مرَّ على نَصْب بسمارك أربعةُ أشهر أخذ الملك كتابًا من صديق قديم له جاء فيه: «إن الشعب مخلصٌ لجلالتكم، ولكنه متمسِّك بحقوقه، فأدعو الله أن يُبعد برحمته ما يَنجُم عن سوء التفاهم الهائل من النتائج السيئة.»

ويُلهِبُه مثلُ تلك الكلمات، ويجعله التناقضُ أشدَّ عنادًا، ويضع خطَّين أو ثلاثةَ خطوط تحت العبارات المهمة، ويُجيب بحماسة الشباب: «ما فتئتُ أُكرِّر أن ثقتي بشعبي لا تتزعزع؛ وذلك لِما أعرفه من ثقة هذا الشعب بي، ولكنني ألعن أولئك الذين يَوَدُّون نزْعَ حُبِّ شعبي لي واعتماده عليَّ. وكلٌّ يعلم أن أولئك الذين يريدون فعل ذلك لا يتركون وسيلةً لبلوغ ذلك. ألم أتنزَّل عن أربعة ملايين مع الأسف؟ ألم أتنزَّل عن أمور أخرى مع الأسف؟ يجب على مَن يتصرَّف في حقوقه على ذلك الوجه، أي مَن يخفض الميزانية بما تقف به أعمالُ الدولة، أن يُقيم بمشفَى المجانين، وأين النصُّ في الدستور على أن الحكومة — لا النواب — هي التي تُلزَم بضروب التنزل؟» والملك لكي يكتب إلى أحد رعاياه غير الرسميين بمثل تلك الحُمَيَّا، لا بدَّ من أن يكون قد بلغ من عذاب الضمير ما يُقِضُّ مضاجعَه، والملك لا بدَّ من أن يكون مغالِبًا للربِّ من أجل وزيره.

وفي أوقات الأزماتِ لا يدَع بسمارك كتابًا يُقدَّم إلى الملك من غير أن يبتهل إلى الله، ويحلُّ عيد الميلاد فيُهدي الملك إلى بسمارك عصًا فيشبِّهها بعصا هارون وإن لم توجد نسبة بين العصوَين، ويرقُب بسمارك قلبَ الملك دومًا حين اتخاذ القرارات الكبرى، وذلك بعد أن يُلقِّنَه إياها مقدارًا فمقدارًا، فيُضطرُّ إلى اقتطاعها منه مع ذلك، ويكتب بسمارك إلى صديقه رون قولَه: «إن فؤاد الملك في معسكرٍ آخرَ، وأرى مشاعر الملك ضدِّي.» ويكتب بسمارك إلى رون قبل أمره بالتعبئة قولَه: «إن من المأمول أن يُصدر الملك أمره النهائيَّ غدًا؛ وذلك لأن الملك في خميس العهد لا يكون مستعدًّا لمثل ذلك العمل.» ويمضي بضع سنين فيقول بسمارك: «لقد أعيتني الحِيَل مرةً أخرى، فعاد فؤادي لا يحتمل دوامَ مناضلة الملك.»

وما كان بسمارك في البداءة ليبادل وِلْهلم كُرهًا بكره، وكان بسمارك يشعر بتفوُّقه فيكتفي بذلك على العموم، وكان هذا منهاجَ بسمارك، وبسماركُ في شبابه قد تعوَّد فحْص بِنية كلِّ مَن يلاقيه، وبسمارك في شَيبته يدرس صفاتِ الناس النفسيةَ ليتبيَّن أنه أعلى منهم في جميع الأحوال والوجوه، ولم يُلاقِ بسمارك عسرًا في إقناع نفسه بأنه يسمو على وِلْهلم أميرًا وملكًا، بيدَ أنهما عندما أخذَا يتقابلان ملِكًا ووزيرًا لم يرَ بسمارك غير مداراة شعورَين لا يمكنه أن يحتمل منصبه بدونهما، وهما: أن يرى في وِلْهلم ملكًا وأن يُبصر فيه أبًا، ويكتب بسمارك إلى زوجه في الأيام الأولى من زواجه: «إننا حلفنا يمين الولاء لدمه.» ويصير بسمارك وزيرًا فيجتمع بوِلْهلم كلَّ يوم، ويصبح مكلَّفًا بحمايته وبظهوره تُرسًا لوقايته، وتشتدُّ هذه المشاعرُ الرمزية بمنظر ذلك الشيخ ذي اللحية البيضاء، ويتكلم أُوتوفون بسمارك بعد سنين كثيرة عن صلته بالملك الذي يثور في الغالب فيُشبِّهها بعلاقة الابن بأبيه الذي لا معدِل له عن معاناة مِزاجِه ونزواته، غافلًا عن أنه في شبابه لم يجدْ في نفسه ما يدعوه إلى الإذعان لأبيه مع حُبِّه له.

figure
بسمارك في سنة ١٨٦٥.

ويَخضع بسمارك لمليكه رويدًا رويدًا إذن، وتنمو في بسمارك بالتدريج عاطفةٌ نحو هذا الرجل الذي سلَّم إليه مقاليدَ الأمور، وتزيد هذه العاطفةُ بعد موت الملك فتتحوَّل إلى حُبٍّ تجدُ ردَّ فعلٍ له في حقده على وِلْهلم الثاني وبقية ورثته، ويشعر بسمارك في جميع أزمات السنوات العشر الأولى بثبات ارتباطه في مولاه مبصرًا ما يُبديه من الشجاعة في ميدان القتال ثم فيما يُوجَّه إلى حياته من الاعتداءات.

وما كان الملك وِلْهلم لِيَخشى غيرَ «حيَل زوجه وانتقادها»، وما كان لأمر أن يُخفِّف حقدَ بسمارك على النساء، ولا سيما أُوغُوستا، لمحاولتهن تمثيل دور في ميدان السياسة، ويرجع نفوره من الملكة إلى تلك المحادثة التي وقعت بينهما أيام مارس في غرفة الخدم بقصر بوتِسْدام، ولم يُلطِّف أيُّ شعور ملكيٍّ هذه الكراهية، ولم يُعدِّل هذا النفورَ ما صدر عن بسمارك من تسامح تجاه النساء حين تكلَّم عن «حقوق السيدات».

ويحدِّث بسمارك عن اصطدامه هو وأُوغُوستا فيقول «إنه أعنف اصطراع وقَع في حياته.» وكانت أُوغُوستا تؤثِّر في زوجها بدروس تُلقيها عليه في مخدعها؛ فما يكون لهذه الدروس من النفوذ البالغ في الملك فموضوعُ ألمٍ لبسمارك يكاشف به زوجه، ولم تكن أُوغُوستا التي «أبصرت عينَي غوتة» على غير جدوى لتُطيق نظر بسمارك في غير حِمَى مقامها الخاص، ولو كان لدى أُوغُوستا أيُّ رأيٍ سياسيٍّ أو خيال تُقيمه حيالَ ما لديه لأمكن الإعجاب بها حتى في هزيمتها، ولكن لم يكن عندها سوى جُمَل إنسانية مبهمة يستتر وراءها خوفُها من عودة مثل عام ١٨٤٨. وهي حينما قابلت لدى خُلصائها بين الملك وِلْهلم ووزرائه من ناحية ولويس السادس عشر وسترافورد وبولينياك من ناحية أخرى؛ بدَا لها أن بسمارك رأسُ المؤثرات المهلكة في زوجها، وقد نسيت أنه — لا هي — هو الذي كان على صواب في أيام مارس، وأنه حفظ لها التاج برفضه الموافقةَ على خططها، وأنها كانت مستعدةً لعزو أفظع المثالب إليه بدلًا من أن تعترف بأنه المدافع عن حقوق الملك فتمجِّده.

وما كان عند بسمارك من سوء ظنٍّ وبُغض للناس فيقودُه في الغالب إلى اعتقاده الخاطئ بأنه مضطهَد، ولكن ما كان من صبره في ست وعشرين سنة على «تدخُّل أُوغُوستا ومعارضتها في شئون الحكومة» بما لا يُطاق فيحفزنا إلى الرثاء له في الحقيقة، ولا غروَ، فهذا البطل العاطل من السلاح كان يحتمل ضرباتِ الملكة صامتًا، وإذا وقَع مولاه تحت نفوذ الملكة أُوغُوستا، وهذا يحدث وقت الإفطار في الغالب برسائل كُتبت لهذا الغرض؛ عرَف مصدر ذلك في الحال، وإذا حدَث في السنوات الأولى أن ألمع إلى ذلك كانت النتيجة «إنكارَ ذلك بشدة، فالملك كان يحاول أن يحول دون اعتقادي تلك الأمورَ ولو كانت صحيحة».

وكان بسمارك لا يُحوِّل الملك عن زوجته ليصلَ إلى غايته إلا بوسائلَ غريبةٍ ومداورات لطيفة. وفي سنة ١٨٦٥ يُناقش في غاستِن٢ حول محالفة النمسة، ويبدو كلُّ شيءٍ ضدَّ سياسة بسمارك مرة أخرى، ويُبدي الملك له أنه اتصل بالملكة اتصالًا سريًّا، ويذهب بسمارك إلى منزله قانطًا لتلك الثرثرة البيتية التي أبصرَها، والتي قد تُفسد خططه، ويجلس ويكتُب عريضة مطوَّلة بخطِّه لعدم ثقته بغير نفسه في أمور دقيقة كهذه. وفي تلك الوثيقة يقول بسمارك:

أطمَع في عفو جلالتكم الممزوج بحسن العاطفة إذا ما جعلني حرصي على خدمتكم العالية أعود إلى ما تفضَّلتم عليَّ به من الاتصالات، وأشاطر رأيَ جلالتكم في أن جلالة الملكة تَحفظ سرَّ اتصالكم بها، ولكن إذا حدث في كوبلنز أن لُمِّح إلى الأمر أمام الملكة فيكتورية ووليِّ العهد وقرينته نتيجةً لصلات القرابة، أو لُوِّح به في فَيمار أو في بادِن؛ كان ذلك دليلًا كافيًا على أن السرَّ الموعود لم يُحفظ، فينجم عن ذلك إثارةُ حذر الإمبراطور فرنسوا جوزيف وحبوط المفاوضات، ويؤدِّي هذا الحبوط إلى محاربة النمسة لا محالة.

ولكم — يا صاحب الجلالة — ألَّا تَنظروا إلى الأمر من حيث اكتراثي لخدمتكم العالية فقط، بل من حيث إخلاصي لشخصكم السامي أيضًا، وذلك عند عدم منْع نفسي من التفكير في أنكم ذاهبون إلى محاربة النمسة بمشاعرَ وشجاعةٍ من طراز غير ما تقضي به الضرورةُ الصادرة عن طبيعة الأمور وعن واجبات الملك أكثر من صدورها عن رأي مُبيَّت يحمل الإمبراطور، بما كان من إفشاء سرٍّ، على إعراضه عن أقصى ما ترضون به من الوسائل، وقد يكون تحسُّبي مخالفًا للصواب، وتحسُّبي هذا إذا كان في محلِّه، وكنتم — يا صاحب الجلالة — راغبين عنه اعتقدتُ معه أن الله هو الذي يوجِّه فؤادكم فأقوم بأمور الخدمة مسرورًا، ولكنني أرى إراحةَ ضميري فأجرؤ على السؤال مع الإجلال عن أمركم إياي — يا صاحب الجلالة — بأن أستدعيَ الرسول من سالِزْبرغ برقيًّا، وقد تصلُح الأعمال الوزارية المستعجلة ذريعةً لهذا الاستدعاء، ويمكن إرسالُ رسول غيره أو إعادته في اليوم التالي مع ذلك. وأثق بكرمكم — يا صاحب الجلالة — ثقةَ احترام فأُحسُّ معها أنكم حتى عند عدم موافقتكم على اقتراحي، تغفرون لي ذلك فتعزونه إلى حرصي الخالص على خدمة جلالتكم، لا عن واجبٍ فقط، بل عن غيرة لنَيل رضاكم أيضًا.

أَحقًّا أنَّ نصفَ قرن مرَّ على قطب سياسي كذلك رأى من الضروري أن يكتب مثل تلك الرسالة إلى ملك لولا ذلك القطب ما كان لاسمه في التاريخ غيرُ رقم؟ ألا نظنُّ عند قراءة تلك الرسائل أننا تجاه مستعطف يلتمسُ وسامًا أو يطلُب عفوًا؟ إِنَّ ما يجري هنا في غاسْتِن هو من الأمور التي أنعمَ كاتبُ تلك الرسائل نظرَه فيها طويلًا راجيًا أن يُنقذ مولاه من الموافقة على الصراع الطويل، وما كان للربِّ ولا للضمير ولا للواجب ولا للخدمة فعلٌ في ذلك الرأي، وإنما وُجد هنالك لاعبُ شطرنج ماهرٌ يَدحَر خَصمه بحِيَل بعيدة الغور إلى زاوية فيغلبه في نهاية الأمر، والآن في أثناء أعقَد المفاوضات يُبصر بسمارك الذي تعب من مكافحته مولاه أنَّ الخطر يحيق بعمله لما قد يُفشي من سرِّ خططه بثرثرة البلاط، ويُفكِّر بسمارك في الطرق التي يمكن أن يُباح بها سرُّ خطَّة فيُنقَل من بلاد إلى أخرى، وذلك بأن تُطلِع أُوغُوستا الأميرة فيكتورية عليه فيمكن فيكتورية هذه أن تُنبئَ أمَّها الإنكليزية به، فتُخبر ملكةُ إنكلترة فِينَّة أودِرِسْدِن بذلك عن ولعٍ أو عن حقد، فيُسفر ذلك عن إبطال كلِّ شيء بسرعة. وهل من الغريب إذن أن يزيد ازدراء بسمارك لذوي التيجان يومًا بعد يومٍ وسنةً بعد سنةٍ؟ والذي يُثير دهشنا هو أن يظلَّ ملَكيًّا!

ولا تجد بين آل هوهِنزُلِّرُن مَن يؤيِّده، ويبدو فردريك خصمًا معاكسًا لحذر الملك، وتؤثِّر في فردريك هذا زوجُه الأرقى منه ثقافةً، ويُدخل فردريك مبادئَ الإنكليز العادلة من غير أن يكون لديه من القوة والبسالة ما يحمل على انتحالها في وطنه، ويجرؤ فردريك على المغامرة مرة واحدة، ويشتدُّ الصدام، فلما أصدر بسمارك مراسيمَ ضدَّ الصحافة واستُقبل وليُّ العهد وزوجه في دانزيغ تشجَّع وصرَّح في دائرة البلدية بقوله: «يؤسفني أن يكون حضوري هنا في وقت يوجد فيه خلافٌ بين الحكومة والشعب فيُدهشني خبرُه، ولا أعرف شيئًا عن المراسيم التي أوجبت ذلك، فقد كنت غائبًا، ولم أشترك في تلك التدابير.»

وتُنشَر تلك الخطبة في جميع صحف بروسية ويقرؤها الملك، فيشُقُّ ذلك عليه، لا لِما تؤدي إليه من نَيل ابنه حُظوةً لدى الشعب؛ بل لِما أبصره من خطرٍ يُصاب به مبدأ الطاعة الذي هو قِوام جيشه، وهو الذي تعوَّد الجندية وغَدَا مؤمنًا بالنظام، أجلْ كان وِلْهلم في وضْع مماثل منذ عشر سنين، غير أنه لم يدَعْ غضبه على فردريك وِلْهلم يعدو جُدُر غرفته، غير أنه لم يَنبِسْ بكلمة في إبَّان حرب القرم. وولهلم اليوم يسخط على فردريك لجهره بالاحتجاج على ذلك الوجه، وماذا يصنع بسمارك؟ كان يمكن بسمارك أن يحمل الملك في تلك الحال على إهانة ولده، كان يمكنُه أن يحفزَه إلى استدعائه أو وقفه أو اعتقاله، وهذا ما فكَّر فيه الملك فعلًا، ولكن بسمارك نصحَه بالصفح عنه، وهل قصَد بسمارك بذلك أن يستميل وليَّ العهد؟ كلَّا! وإنما أراد أن يحرمَه ما قد تُسفِر عنه مجازاتُه من تزيينه بإكليل مجد، ويقول بسمارك للملك الشديد الولوع بالتوراة: «عامل الابنَ أبشالوم برفق، وإياك والعملَ عن غضب، وسِرْ مع ما تقتضيه مصالح الدولة، وإذا ما كان هنالك خصام بين فريتز الشابِّ وأبيه كان عطف الشعب كلُّه إلى الابن.» فبمِثل هذه الكلمات المختارة بعناية يُسوِّي بسمارك الأمر.

بيدَ أن وليَّ العهد حرٌّ في قول ما يودُّ خِفيةً، وكما أن وليَّ العهد يمقت بسمارك في الوقت الحاضر أكثرَ مما في الماضي تراه يَلعن سياسة بسمارك اللاشعبية، ويرفض وليُّ العهد الاستمرارَ على الاشتراك في مجلس الوزراء، «لأنني خصمُ بسمارك الجازم»، ويمضي بعض الحين فيلتقي الرجلان فيسأل بسمارك فردريك عن سبب ابتعادِه عن حكومةٍ ستكون قبضتَه بعد سنواتٍ قليلة، والأصلحُ أن يُبديَ وليُّ العهد من خلافاته ما يسهُل معه الانتقالُ.

آلانتقال؟ تُكهرب هذه الكلمةُ وليَّ العهد، «ويرفضها بشدة معتقدًا، كما لاح لي، أنني راغبٌ في تمهيد السبيل لانتقالي إلى خدمته، وتمضي سنواتٌ فلا أستطيع أن أنسى ما كان من تصعير خدِّه عند مخاطبته، ولا أزال أتمثَّل، بعد ثلاثين سنة، شموخَ أنفه واحمرارَ وجهه وشفونَه٣ إليَّ من فوق كتفِه اليُسرى، وأكظِم غيظي، وأفكِّر في كارلوص وألْبا، وأُجيب عن ذلك بأنني حينما نطقتُ بكلمة الانتقال قصدت مسألة البيت المالك، راجيًا أن يعتقد أنني لا أحاول نَصْبي وزيرًا له ذات يوم، ولن أكون ذلك، وقد سكن عنه الغضبُ بسرعة كما بدأ، فخُتِم الحديث بمودَّة.»
ونتمثَّل الرجلَين في قاعة فخمة بين بابين، ونُبصرهما واقفَين لابسَين بِزَّتَين رسميتَين ومتقلدَين سيفَين، ويا لَهول الساعة! ويا لَهول ما أُهين به زَهوُه! ولم يَحدُث قبل ذلك أن نظَر إليه رجل بمؤخَّر عينه ومن فوق كتفه تكبُّرًا، ولم يقَع مع ذلك سوى احتماله تلك النظرةَ البغيضة بدلًا من امتشاق٤ حُسامه غسلًا لذلك العار، ولكنه كان يعرف فكرَ خصمه، فينطق بصوت خافت قولَه: «لن أكون ذلك!»
١  الجِعاد: جمع الجعد، وهو خلاف المسترسل.
٢  غاستن: مدينة صغيرة في النمسة.
٣  شفنه وشفن إليه شفونًا: نظر إليه بمؤخر عينه كارهًا.
٤  امتشق الحسام: استلَّ السيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤