الفصل الثالث

وإذا عدَوت أولئك الخصومَ الأمراء بدمهم وجدتَ لبسمارك خصومًا عن عاطفة وعن أسباب ذهنية، ويُصنِّفهم بسمارك بعد زمن إلى صنف أول وثانٍ وثالث.

وإذا عدَوت رون وحدَه لم تجِد بسمارك منسجمًا مع أحد، ولا تُقرِّب ثقة وثيقة بين بسمارك وأيِّ واحد من الوزراء والقواد ورجال البلاط وزعماء الأحزاب، ولا ينتسب بسمارك إلى أيِّ حزب كان في الحقيقة، ويرى بسمارك في جريدة كرُوزْزايْتُنغ ولويس غِرْلاخ تطرُّفًا شديدًا، ويراه شِيب الأحرار متطرِّفًا، وتراه يحارب الشمال جهرًا، وبسمارك لا يُبدي صداقة فحولة لغير الجنديِّ الحَمِس رون، فلا يُكدِّر هذه الصداقة أيُّ اختلاف في الرأي حول الأمور الذهنية، وبسمارك لم يمنح رون إجازة ستة أشهُر سوى مرة واحدة غيرَ مرتاح لها فيقول: «لا غُنيةَ لي عن الاعتماد على درايتكم السياسية؛ وذلك لأنني لا أعلم أحدًا أكل مِلحًا مع المعلم أكثرَ مما أكلتم.»

ويستدعي بسمارك صديقَ حنَّة الموسيقيَّ كودل لِما بينهما من ثقة متبادلة، وتمضي بضعةُ أسابيع فيتصادمَا؛ فقد أوصى كودل بسمارك كتابةً بأن يستند إلى الرأي العام في المسألة الدانيماركية، وقد أخبره بعزمه على الاستقالة والرجوع إلى الموسيقى عن ودٍّ عند عدم موافقته على ذلك، ويستدعيه بسمارك في اليوم التالي، ويقول له «بصوت مكبوت، ولكنه صوت ثائر كما هو ظاهر»: «ما هو السبب في كتابتك هذا الكتاب إليَّ؟ إذا كنتَ تظنُّ أنك تؤثِّر بذلك فيما أقرِّر قلتُ لك إن ذلك لا يناسب سنَّك، أيجوز لك — وأنت الذي عرفني جيدًا ومنذ زمن — أن تذهب إلى أنني أركب هذا المركَب الصعب عن طَيش، وكمرءوس، من غير أن أتزود بالذرائع التي أُسوِّغ بها سلوكي أمام الله؟ إنني لا أصبر على ذلك، ولم يخالط النومُ جفنَيَّ منذ ليلتين، ولا أرى ما يبعث على استقالتك، وإنما أردت أن أدُلَّك على عُمق الجرح في صدري!» ويطلب كودل العفوَ ويستردُّ كتابه، ويقول بسمارك: «والآن سُوِّيَ كلُّ شيء، وإذا حدث أن كان لديك ما تختلف به عني مرة أخرى فلا تكتب إليَّ ذلك، وإنما كلِّمْني في ذلك.»

ذلك هو أمر بسمارك الوحيد، ذلك هو أمر بسمارك تجاه ذلك الذي كان على وِئام معه منذ خمس عشرة سنة، والذي عرَف زوج بسمارك منذ أكثر من هذه المدة، والذي هو تابعٌ لبسمارك في الساعة الحاضرة فيَنصحه بأدبٍ لينسجم مع الصوت العام حول المسألة، فيَسلبه ذلك ما لم تقدرْ شتائمُ الصحافة عليه من الرُّقاد، وأنت يا بروتوس؟ وعلى ما كان من رَتْق ما بينهما من فَتْق لم تعُدْ صِلة أحدهما بالآخر إلى ما كانت عليه، وما كان لكُودل أن ينال من الحُرمة لديه ما ناله شلُوزِر، وما كان كودل غيرَ ظهير موهوب وموسيقيٍّ لَوذَعِي، وما كان كودل عاملًا يعتمد عليه القطبُ السياسيُّ بسمارك.

وتجد وزارةَ الخارجية في مجموعها معارضةً لرئيسها، «ولكن هذا لا يُزعجني» وهو؛ لِما أبصر من سعي سفرائه في الخارج ضدَّه اتخذ خطَّةً دفاعية في ميدان جديد، ويَطمع أوزدوم في فلورنسة وغولتز في باريس أن ينالَا منصبه فيكتبان إلى الملك ضدَّ سياسته رأسًا، بيدَ أن الملك وفيٌّ لوزيره، ولا يودُّ الملك أن يخونَ وزيره على غِرار أخيه فردريك وِلْهلم في حال مماثلة، فهو يُسلِّم إليه تلك الكتب ليُجيبَ عنها، وبسمارك مع ما كان من إرساله منذ ثمانية أعوام رسائلَ خاصةً إلى الملك وإلى غِرْلاخ ضدَّ سياسة رئيسه لا تراه الآن متسامحًا في ذلك بعد أن غَدَا رئيسًا للوزارة، وبسمارك العبقريُّ لِما كان من وقوفه فوق الأخلاق لم يُسلِّم بتماثل الأسلوبين، أسلوبِه وأسلوبِ أوزدوم وغولتز، فحظَر على سفرائه ما أباحه لنفسه أيام كان سفيرًا، ولنا في الوجه الذي حرَّم به بسمارك ذلك في كتاب أرسله إلى غولْتز على الخصوص — وبسمارك هو الذي نصَبه سفيرًا بباريس — مثالٌ ساطع على الطريقة الفريدة التي يَمزج بها بين اللهجة الرسمية واللهجة الودِّيَّة؛ فقد جاء في ذلك الكتاب الذي خَطَّه بيده:

لا أحدَ ينتظر تقاريرَ تنطوي على صدًى لرأي الوزارة فقط، ولكن تقاريركم ليست من النوع المعروف، بل هي من المعروضات الوزارية التي تُشير على الملك بسياسة معاكسة، وتصادمُ أفكارٍ كتلك قد يُسفر عن ضرر لا ضرورة له، وهو لا خير فيه على كلِّ حال؛ وذلك لِما يؤدي إليه من التردُّد وعدم الاستقرار. وعندي أن كلَّ سياسة هي أفضلُ من السياسة المذبذبة، وأقدِّر ما لديكم من بُعد نظر في السياسة، ولا أَعُدُّني غبيًّا في الوقت نفسه، وأراني مستعدًّا لسماع قولكم إن هذا يخادع نفسه، ومن المحتمل أنكم تُقدِّرون لي وطنيتي وقوة عارضتي إذا ما أخبرتكم أنني أعالج منذ أسبوعين ما ورَد في تقريركم من المسائل.

ولكن كيف أُفضي إليكم بمكنون فؤادي وأنتم تُعرِبون بشيء من الصراحة عن عزمكم على مكافحة الوزارة الحاضرة ومناهضة سياستها وإسقاطها، إذا كنتم على ذلك من القادرين؟ ولا مناص لي وزيرًا من أن أُكاشف سفير باريس بكلِّ كلمة من سياستي في جميع صِلاتي به، ما لم توجِب مصالح الدولة عكس ذلك، وما يكون عُرضةً له كلُّ من هو في وضْعي، وذلك في صلاته بالوزراء والمستشارين والبلاط والمؤثِّرات السرِّيَّة والمجالس والصحافة والقصور الأجنبية، من الاحتكاك والدَّعْك فمما لا يجوز زيادتُه بلَغْم النظام في دائرتي بالمنافسة بين الوزراء والسفراء. ومن النادر أن أكتب ليلة عيد الميلاد مطولًا إلى سواكم على حين أرى جميع الموظفين في الإجازة، وأرغب عن كتابة ما يَعدل رُبع هذه الرسالة إلى غيركم، وأصنع ذلك تجاهكم؛ لأنني لا أودُّ أن أُجيبَكم رسميًّا وبطريق المكاتب سائرًا على منوال الأسلوب الذي تشتمل عليه تقاريركم، وإذا كنتم تريدون إسقاط الوزارة فما عليكم إلا أن تفعلوا ذلك هنا في المجلس وفي الصحافة وعلى رأس المعارضة، لا بطريق منصبكم الحاضر. وفي تلك الحال أهتدي بمثَلكم الخاصِّ القائل إن الفصل للوطنية عند الخلاف بين الوطنية والصداقة، وثِقوا بأنَّ وطنيتي بلغتْ من المتانة والنقاوة ما لا تُقاس الصداقةُ بجانبه، مع بقاء هذه الصداقة قلبية.

ومن شأن ذلك الكتاب أن يُفحم المُرسَل إليه، ووجه الاستعلاء فيه هو زيادةُ الغيظ المشروع بمقاديرَ محكمةٍ من الاحترام والتهديد تبلغ درجة صدْم قلب صديق، وعلى ما كان من عدم استعماله عبارة دامعة تراه قد ترك منافسَه غولتز يُبصر ما ينتظره من حياة صعبة إذا ما أراد إسقاطه، وبسمارك لِما يعرف من منزلة غولتز لدى الملك قد ذرَّ السُّكَّر على دواء الرفض فجعل غولتز لا يرى في ذلك الكتاب عن زهوٍ غيرَ ثناء رئيسه عليه وإعجابه به، ولم ننقل غيرَ رُبع ذلك الكتاب الذي هو من الأوابد، وهو على جانب كبيرٍ من الذوق الفنِّي فيجدر إنعام النظر فيه كثيرًا كما يُنظَر إلى تمثال كلاسيٍّ،١ ونرى أن كتابًا كهذا يكفي وحدَه للدلالة على عُلُوِّ كعب كاتبه في الدِّبلُمِيَّة.

ويُحاول آخرون أن يُزعجوا الرئيسَ البصير بالاستقالة، وقد كان محافظ شِليسويغ صاحبًا قديمًا لبسمارك وصديقًا للملك فيلتمس السماح له بالاستقالة لتعَبه من تدخُّل وزارة الخارجية المستمرِّ في المسائل الجزئية، فاسمعْ جواب بسمارك: «إنني مستعدٌّ لأعرض على الملك ما أنتم فيه راغبون، ولكنني أعدكم بتنفيذ سياستكم تنفيذًا وثيقًا وبألَّا أزيد متاعب الوزارة إذا ما عيَّنكم الملك وزيرًا للخارجية وجعلني محافظًا لشليسويغ. وإذا حدث أن أعلنتُ نصَبي في تلك الحال فنِلتُ ما أصبو إليه من الاعتزال أضعتُ راحة الضمير الذي أطمئنُّ به إلى قدرتي على خدمة الملك والوطن؛ فلذا أطلب إليكم من صميم فؤادي أن تقبلوا هذا الكتاب دليلًا على الثقة الأخويَّة التي أحملها لكم على رءوس الأشهاد.»

وهل هذا هو رجل الحديد والدم؟ هذا هو بسمارك الغاوي.

وغيرُ ذلك لهجته تجاه أعدائه الأحرار، فهنا يترجَّح بين الازدراء والسخرية، وشأن بسمارك في ذلك هو كشأن كلِّ طاغية من طُغاة القرن التاسع عشر في إلباس ما يصنع لِباس العدل والقانون، فهو يبدأ «بتفسير» الدستور الذي يودُّ خرقَ حرمته في سبيل الجيش، وفي الدستور يجد من الدقائق ما يهزأُ به في نفسه، وفي الدستور عواملُ ثلاثةٌ غيرُ متطابقة إذا أُريد المخرَج. وبسمارك يتكلم عن حقوق التاج التي لم ينُصَّ عليها الدستور فيُعيد النظام الذي غَضِب حين أبصرَه ينهار في مارس سنة ١٨٤٨، وبسمارك يُصرِّح أمام اللَّنْدتاغ بأن تُحَلَّ المعضلة كما جاء في قوله: «بما أن الجهاز الحكوميَّ لا يُمكن أن يقف فإن المنازعاتِ القانونيةَ تنقلب إلى منازعات قُوَّة، فهنالك يسيرُ صاحب القوة وفقَ أفكاره.»

ولم تلبثْ هذه الكلمةُ أن فسِّرت بكلمة «القوة فوق الحق»، وبسمارك وإن اعتقد هذا في الأوقات الحاسمة لم يكن من الجنون ما ينطق معه بها، وما كان جوابه عن ذلك التفسير إلا قوله: «لم آتِ بأيِّ حلٍّ كان، وإنما أشرت إلى أمر واقع.»

وبوثبة خطِرة كتلك يصل بسمارك وحدَه إلى حافة الهُوَّة التي يودُّ أن يقع الصدام فيها، ثم يحمل مجلسَ الأعيان على إقرار الميزانية كما هي، ويُقرِّر مجلس النواب عدمَ دستورية ذلك القرار، وينهض بسمارك في مكانه ويدعو النوَّاب إلى القصر في الساعة الثالثة، وهنالك يُخبرهم بأن الملك عزم على تنفيذ الإصلاحات، ويفضُّ اللَّنْدتاغ، ويعلو صُراخ جميع صُحف بروسية، ويطالب بعضُها بالقبض على هذا الوزير، ويرى المحافظون أن الخير في عزْله، وقد بقيَ من هؤلاء أحد عشر شخصًا مع ذلك، وكان يمكن حزمهم في عربة نقل كما يقول أهل برلين!

وتُحَلُّ الدورة الآتية بعد ستة أشهر، ويُتخَّذ من التدابير ما هو أقسى من التدابير السابقة، وفي أثناء ذلك يشتدُّ الصدام في الجرائد وفيما يُلقَى من الخُطب، ويصفه لوسيوس من فوق المنبر ﺑ «أنه كان يَلبَس بِزَّة مدنية، وأنه كان ذا شاربَين كثيفَين أشقرَين نُحاسيَّين كما بقيَ من شعره، وأن قَوامه الطويل كان قويًّا مؤثِّرًا على المقعد الوزاري، وأن رصانة وضْعه وما يُبديه من حركات وما ينطق به من كلام أمورٌ تنطوي على التحريض، وأنه كان يضع يده اليمنى في جيب سرواله الزاهي، وأنه كان يُذكِّرني كثيرًا بضجيج الحضور في مباريات التلاميذ.» وما في كلامه من الإثارة فمِثلُ ما في سلوكه، ويتكلم بذلاقةٍ أعظمَ مما في الأسابيع الأولى حين كان مترجِّحًا بين الحكم مع اللَّنْدتاغ أو ضِدِّه، وفي ذلك يقول شلُوزِر: «إنه كان يتلعثم فيُفلت زِمامُ كلِّ كلمة منه حينما كان يحاول أن يركَب حصانَين دفعةً واحدة!»

والآن يتكلم من عَلٍ؛ «فالحكومة ستشهر كلَّ حرب تراها ضرورية، سواءٌ على المجلس أَرضيَ عن ذلك أم لم يرضَ»، ويقول في وقتٍ آخر: «إن مملكة بروسية لم تقُم برسالتها بعدُ مع أنه وُلد منذ أربع سنوات — وفي مثل هذا اليوم — وارثٌ لعرشها، ولم تُعَدَّ هذه المملكة بعدُ لتعمل عن زينة بأسلوبكم الدستوري.» وكان الملك قد رجا منه في الصباح أن يتكلم بذلك المعنى، وكان هذا في اليوم السابع والعشرين من شهر يناير. ووارثُ العرش الذي كان في الرابعة من عمره في ذلك الزمن والذي أشار بسمارك إلى قادم سلطانه هو الذي سيُدعى وِلْهلم الثاني بعد حين.

وبسمارك في السنوات المقبلة يُثبت أنه أعلى من أولئك الذين يكافحونه في تلك القاعة، ومَن يودَّ أن يتبيَّن ذلك بإنصافٍ فليقرأْ تاريخ السنين الخمسين القادمة التي صارت الآن من سنوات الماضي، وما وُفِّقت أوروبة لنَيله حتى ذلك الحين، وما حدث في جميع البلدان قبل الحرب العالمية وبعدها؛ فقد كان منصوصًا عليه في برنامج الحزب البروسيِّ التقدُّميِّ الفتيِّ الذي كان لا يرغب في غير «جمهورية يرأسها مَلِك» على غِرار حكومة الشعب في إنكلترة؛ فرجال هذا الحزب وحلفاؤُهم الديمقراطيُّون الاشتراكيُّون هم الذين كان بسمارك يخشاهم — على الخصوص — في كتابه إلى صديقه موتلي، حيث وصفهم بقلة الخبرة في السياسة الخارجية، وما كان من عدم تدريب الشعب الذي ظلَّ حتى الأمس خاضعًا لملك مطلق والذي سارت الدولةُ والثقافة فيه على طريقَين منفصلَين فأمرٌ بَدَا طبيعيًّا لدى الأحزاب الحُرَّة في أوائل أمرها، وعلى ما كان من إخلاص أعضاء هذه الأحزاب وحسنِ تعليمهم تجدهم غير عمليين عاطلين من الابتداع فكان هؤلاء الخياليُّون يجلسون على تلك المقاعد شاخصةً أبصارُهم إلى المستقبل تجاه ذلك الواقعيِّ الذي يُنعِم النظر في الحاضر بعينه النفَّاذة، فيحاول أن يهيمن عليه بوسائل الماضي.

وكان فِيرشوف أكثرَ التقدميين إمتاعًا، وكان أحدثَ من بسمارك سنًّا ببضع سنين، وكان صغيرَ الجسم دقيق البدن تجاه بسمارك النشيط العملاق، ونشأ فيرشوف في بيئة فقراء الطبقة الوسطى مُحبًّا للتعليم طامحًا في شبابه أكثر من بسمارك مماثلًا له في التحليل، وإذا ما قابلنا بين الكتُب التي دبَّجها يَراعُه في العقد الثالث من عمره والكتب التي كتبها بسمارك في مثل تلك السنِّ حول موضوعات واحدة؛ وجدنا ذلك الطبيب الشابَّ الناهض الباحث خلف هذا الشريف الخليِّ العدميِّ المتواني، فكلُّ شيء في فيرشوف مبهمٌ وهميٌّ طائشٌ، وكل شيء في بسمارك وليد تأمل ورصانة، ويقول فيرشوف لأبيه دومًا إنه ذو مشاعر، ولكنه كاتمٌ لها، فهل كان يحِنُّ إلى المشاعر على هذا الوجه؟ إن في فيرسوف ثقةً قويَّة بنفسه فتَغمُرها أفكارٌ غير عمليةٍ مقتبسةٌ من سواه فتتدحرج تحت الموج، «ولا أستطيع أن أكون غيرَ جمهوريٍّ؛ لأنني عالمٌ طبيعيٌّ، فتحقيقُ الرغائبِ التي توجبُها سُنن الطبيعة والرغائب التي تَنشأُ عن طبيعة الإنسان لا يكون إلا في نظام جمهوريٍّ.» والحقُّ أنَّ تلك السنن الطبيعية تسوقُه إلى النتيجة الفاضحة القائلة: «إنني شرَّحت ألفَ جثة، فلم أجدْ للروح أثرًا فيها.»

وتُبصِر رسائل بسمارك حافلةً بأشخاص وأشياءَ مشاهدةٍ مُغربلةٍ محقَّرة عادةً، مُجرَّبةٍ دومًا، وتُبصر رسائلَ فيرشوف حافلةً بألفاظ باهرة، وما كان من وعدِه بترك الاضطراب السياسيِّ في سبيل منصبه في خدمة الدولة فصوابٌ كتنكُّر بسمارك بحلق ذقنه في أيام مارس سنة ١٨٤٩، وكلا الرجلين يبدو هاويًا للسياسة في الثلاثين من سِنِيه، ولكن بسمارك بينما كان مالكًا من الدرجة الثانية كان فيرشوف حُجَّةً في التشريح المرضيِّ، فضلًا عن أنه كان ناقدًا اجتماعيًّا على مقياس واسع حتى في فتائه، ثم يدرس بسمارك علمَ السياسة درسًا أساسيًّا مدَّة خمس عشرة سنة، على حين يدرُس فيرشوف علم الحياة، فلا عجب إذا ما قُهِر فيرشوف من قِبَل بسمارك المُطَّلع على جميع أمور أوروبة، ولو كان فيرشوف ذا عبقرية سياسية.

وليس في جدالهما باللَّنْدتاغ ما يُشرِّفهما، ومما يوجب حَيرتَنا ما نُبصره من تبديد رجلَين عبقريين مثلهما لوقتهما الخاصِّ ولوقتِ أبناء الوطن حول تلك الحماقات.

بسمارك : ألا يرى العضو المحترم أنه يمكن خطيبًا هاويًا لعلم التشريح أن يدعم بنسبة أهليته، وذلك أمام حضورٍ عاطفين عليه سياسيًّا وشخصيًّا، وذلك مع عدم تعمُّقهم في مثل ما عند العضو المحترم من العلم، وذلك ببلاغة أقلَّ مما أتاه العضو المحترم، رسالةً في علم التشريح يعرف العضو المحترم عدمَ صحتها بصفة كونه خبيرًا في الموضوع، ولكن مع تعذُّر رفضها في غيبة أناس عالمين بدقائق الموضوع مِثله؟
فيرشوف : أودُّ أن يكون لرئيس مجلس الوزراء من الصيت بين الدِّبلُميِّين بأوروبة مثل الذي نِلتُه بين زملائي في دائرة اختصاصي، هو لا يمكن تعريف سياسته، وقد يقال أيضًا إنه لا سياسة له، وإنه لا رأيَ عنده في السياسة القومية، وإنه لا معرفةَ لديه في الشئون الوطنية.
بسمارك : أعترف بأن للعضو المحترم مكانًا عليًّا في دائرة اختصاصه، وأعترف بأنه يفوقُني في هذا المضمار، ولكن العضو المحترم إذا ما ابتعد عن منطقته ودخل منطقتي معتديًا؛ أمكنني أن أقول له: إنني لا أجد غيرَ وزنٍ قليل لرأيه في الأمور السياسية، ولي أن أقول غيرَ مبالغٍ — أيها السادة — إني دَرِبٌ بهذه الأمور أكثرَ منه (قهقهة)، ويتَّهمني العضوُ المحترم بعدم فَهْم السياسة القومية، فأستطيع أن أردَّ التهمة إليه مع حذْف الوصف، فأقول: إن العضو المحترم لا يفقه من السياسة شيئًا.»
ولو اختصم ممثِّلان روائيَّان في المُشلَّح٢ حول خطرهما وحُظوتهما لدى الناس ما كان لهما غيرُ شأن الخطيبَين (فيرشوف وبسمارك) الهزيل في اللَّنْدتاغ البروسي، ويضع فيرشوف في يومٍ آخرَ إخلاصَ رئيس الوزراء موضعَ الشكِّ، فيدعوه بسمارك إلى المبارزة، ويجيب فيرشوف على ذلك بإبهام في بدءِ الأمر، ثم يُصرِّح أحد التقدُّميين بعدم المبارزة فيُرسِل فيرشوف إذ ذاك رفضَه، وكان هذا التحدي آخرَ نزوات الشباب في بسمارك، وكان بسمارك آنئذٍ في الخمسين من سِنِيه.

ويأخذ بسمارك حِذرَه وزيرًا، فيزيد نفوذًا.

سيمسون : تلك السياسة هي قصيدةُ رجل ليس بشاعر، ويمكننا أن نُشبِّه بسمارك بالبهلوان٣ الذي نُعجَب به لأنه لا يسقط عن الحبل أبدًا، وما يناله البهلوان من الإعجاب فمما لا يلائم ذوق جميع الناس مع ذلك.
بسمارك : لا أودُّ أن أُقحم نفسي في جدال حول مسائل اللياقة والذوق السليم.

وهكذا يعامل خصومه جزرًا ومدًّا، ولكن الأمر إذا مسَّ الجهازَ الحكوميَّ لم يستحوذ على بسمارك ذي الحِذق المنوَّع سوى استعمال العنف، وما كان من إمكان ممارسة بسمارك حُكمًا استبداديًّا فقد بدَا له نتيجةً للصدام مرغوبًا فيها، فبسمارك لم يكن ليأمل — في الحقيقة — سوى تمثيله دورَ بيل أو دورَ أوكونيل الذي حلم به منذ خمس عشرة سنة، وما كان من اتصاف بسمارك بالاعتداد بالنفس والطموح إلى السلطان فمن شمائل المستبدِّين؛ ولذا لم يَرتحْ للدستور في السنوات الكثيرة القادمة ارتياحَه له في النضال الذي دام أربع سنين، وبسمارك لا يساورُه همٌّ تجاه حقوق الشعب، وبسمارك لا يشعر بالخطر كما لو كان يصطاد دببةً أو غيرها، وبسمارك يُهنِّئ نفسَه لإمكان وقوع مثل تلك المغامرات «في بلدٍ مملٍّ كبروسية».

والآن يُصبُّ جامُ الانتقام على عدوِّ المستشارين الخصوصيين، والآن يفرغُ بسمارك للسلسلة الكبرى التي تُدير أمور الدولة، فعلى مَن لم يتَّبع تعليماته اتباعًا حرفيًّا أن يستعفيَ، ويبدأ بسمارك فورَ نصْبه بعزله من القضاء والإدارة كلَّ مَن كان — أو يُشتبه أنه كان — من ذوي الأفكار الحرة، فيَرِدُ أكثرُ من ألف موظف هذا المورد في السنوات الأربع الأولى، ويناضل أعضاءُ حزب التقدُّم عن هؤلاء الضحايا فيَغدون عرضةً للاضطهاد مثلهم، ويُحال الضباط الأحرار المحليون إلى التقاعد من قِبَل محاكم الشرف، ويُحال إلى نصف المعاش عُمَد البلد ومستشارو البلديات وجُباة النصيب وموظفو المصرف ومطعِّمو الجدري، ويجازَى موظفو العدل، فيُنقلون وتُخفَض رواتبُهم ويُحرمون رواتبَ تقاعدهم.

ويأتي دورُ الصحافة في نهاية الأمر، فيُسار على الطريقة الروسية فتَصدر مراسيمُ صحافيةٌ أشدُّ من التي وضعها نابليون الثالث، فلا يقف جريدةً لأجل قصير بسبب مقالة تَنشُرها بل يقفها نهائيًّا بسبب مسلكها العام، وذلك كلُّه تحت ستار الأخلاق، وذلك كلُّه استنادًا إلى نصوص من الدستور، «فلا بدَّ للهياج غير الطبيعيِّ الذي ساور النفوسَ في هذه السنوات الأخيرة نتيجةً لهَرْج الأحزاب ومَرْجها من أن يفسح في المجال إلى حال نفسية أكثرَ هدوءًا وإنصافًا»، ويستشهد بسمارك بالله وبالأخلاق ليُقنع الملكَ بما تنطوي عليه تلك التدابير من عدل أساسي، ويرى بسمارك أن يتذرع بمثل هذه العلل لإقناع حنَّة أيضًا؛ وذلك لِما بقيتْ عليه أمُّها من القوى العقلية. وبسمارك لم ينسَ بعدُ ما كانت قد كتبتْه هذه العجوزُ إلى ابنتها عن ثُوَّار المجَر وما كان من جوابه حول هؤلاء، وبسمارك ليس محتاجًا إلى هذه المعاذير ليُسكِّن وجدانه؛ فهو يزدري الجمهور، وما يشعر به من قوة في نفسه فيكفي لقهرِ هذا الجمهور.

وكان حبُّ بسمارك للقوة أكثرَ من حبِّه للحرية، فكان بهذا ألمانيًّا كما كان بغير هذا.

١  Classique.
٢  المشلح: غرفة تُخلع فيها الثياب.
٣  البهلوان: الذي يمشي على الحبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤