الفصل الخامس

ولم يكن لعبقرية بسمارك منافسٌ في ذلك الدور، ولم يكن الملوك والقياصرة ليَقدِروا على التفكير أو السير، فكانت التجربة تعوز فرنسوا جوزيف، وكان نابليون ضنًى،١ وكان إسكندر هزيلًا، وكان كلٌّ من وِلْهلم وفيكتورية وفيكتور إمانويل متوسطَ الحال، فلا يستطيع أن يضطلع بأعباء السياسة معتمدًا على وسائله الخاصة، وكان كلٌّ من غلادِستن وديسرائيلي غيرَ مُدرك لذروة سلطانه، وكان غُورْشَاكوف مغترًّا، وكان كافور ذو القَدر بين أضرابه قد مات حين جاء بسمارك إلى الجبهة، وفي بروسية وحدها كان يوجد عبقريٌّ سياسيٌّ من نوع آخر، وكان اسمُه فرديناند لاسَّال، ولاسَّال مع عدم انتسابه إلى حزب ومع أنه ثوريٌّ ومع عطله من قوةٍ أو مماثلةِ أفكارٍ يُغري بها خصمَه العظيم لم يُعتِّم أن اعترف به هذا الخصمُ، وجاذبيةُ العبقرية وحدها هي التي دانت بين بسمارك ولاسَّال.

كان بسمارك ذا بسطة في الجسم والعقل، وكان ذا رأس على شكل القُبَّة، وكان يتقدَّم إلى الأمام على مهل بعد استهلال طويل، وكان ينظر إلى عدة سنوات مقبلة كأعاظم بُناة الألمان الذين يعملون مدى حياتهم فيما يُسِّروا له، وكان يُخضِع خياله لواقعيته فيزِن كلامه ويُهيِّئ أفعاله، وكان في حسابه يفضِّل عظائمَ الأمور على الصُّوَر، وكان بسمارك — الذي هذا هو أمرُه — في الخمسين من سِنِيه حينما بدأ عملَه العظيم، وكان لاسَّال أهْيَف نحيفًا رعيشًا كحِصان عربيٍّ جامح، وكان ساميًّا مستطيل الرأس ضيَّق الهامة لامعًا، وكان مصوِّرًا قديرًا موهِنًا لغريزته في الوصف الباهر، وكان رجلًا خياليًّا متأمِّلًا، وكان يتملَّص من مدرسة الأفكار إلى عالم الأعمال، وكان يكافح حتى في عالم الأعمال، بفصيح الكلمات أكثر مما بالضربات، وكان ينظر إلى المستقبل على الدوام، وكان لاسَّال الذي هو أمرُه في الأربعين من سِنِيه حينما دنا من نهاية عمله العنيف، وترعرع بسمارك مالكًا فكان فارس طبقته، وقضى بسمارك شبابَ مغامرةٍ، فعاد إلى حياة مقيَّدة وإلى عيش المالكين الذين ظهر منهم، وبدا القطب السياسيُّ بسمارك غيرَ عاطفيٍّ، فكان مستعدًّا للعمل مع أية أُمة وأية دولة إذا ما لاءَم هذا هدفَه، ولاسَّال لِما كان من يهوديته وعطَلِه من وطن، ارتقى بفضل ما بذله من عمل عنيف في فتائه، ولاسَّال حارب طبقته وكافح وِراثتَه، ولاسَّال كان فؤادُه يشتعلُ بسهولة من أجل قضية أمة لا ينتسب إليها عِرقًا، ومن أجل قضية طبقة لا ينتسب إليها مولدًا، ولم يُضحِّ بسمارك بشيء في البداءة، وجازف لاسَّال بكل أمرٍ، ووطَّد بسمارك مقامَه بارتقائه، وخسر لاسَّال في السجن حريته وصحته، وإذا كان بسمارك قد دخل المعترك في الثانية والثلاثين من سِنِيه وَفْقَ أساليب بيئته فإن لاسَّال بدأ يُنكر — في الوقت نفسه، وحينما كان في الثانية والعشرين من سِنِيه — مبادئَ عشيرته.

ومهما يكن الأمرُ فقد كان يحفز كلَّ واحد منهما عواملُ واحدة، أي كان يَحُثُّ اليهوديَّ الاشتراكيَّ والمالكَ البوميرانيَّ زهوٌ وإقدام وحقد، وقد أوجبت هذه العوامل فيهما ميلًا إلى السلطان، وما كان الخوف ليجدَ إليهما سبيلًا، وما كان أيُّهما ليُطيقَ وجودَ مَن هو أعلى منه، وما كان أيُّهما ليُحبَّ حُبًّا حقيقيًّا. وكما أن كُرْه بسمارك للنمسة القوية أشدُّ من حبِّه لبروسية التي هي أقلُّ من النمسة قوةً كان لاسَّال أقلَّ حبًّا للشعب من بُغضه للطبقة الوسطى؛ ولذا لم يَنشُد كلٌّ منهما، ولم يجِد أصدقاءَ له، فلم يكن لبسمارك أصدقاءُ بين الشرفاء، ولم يكن للاسَّال أصدقاءُ بين زعماء الأحزاب، ولم يَعِش بسمارك عيشَ البلاط، ولم يَعِش لاسَّال عيشَ الشعب، وكان كلَا الرجلين يتميَّز من الغيظ لضيق طبقته، وكان كلٌّ من الرجلين يُشابه الآخر تهكُّمًا واستخفافًا.

وبسمارك — لثبات أصله — مضطرٌّ إلى خدمة الملك التي اختارها ما دام حيًّا، ولاسَّال اختار خدمة الجمهور، وكان بسمارك يسكن حِصنًا، ولكن مع سماعه فوق رأسه على الدوام خُطَا رجلٍ يتوقف عليه مصير حياته، وكان لاسَّال لا يسمع إنسانًا فوقه، ولكنه كان ذا حِصن خيالي وكانت ريحُ المستقبل تهزُّ أعصابه بأشد من فَرْك الحقائق التي كانت تهُدُّ أعصاب بسمارك، وكان كلَا الرجلين ذا مزاج فنِّيٍّ فيلعب أسنُّهما لعبةَ الشطرنج ضدَّ الدولة الأخرى ويُمثِّل أحدثهما رواية هزلية، وكان الطموح يَدفع أحدهما وكان الغرور يُحرِّك الآخر على الخصوص، وكان يمكن لاسَّال أن يَثمَل بما يُعلِّل به نفسه من ضروب الفوز والآمال التي يُبصر بها مستقبلًا أبعد مدًى مما يُبصر بسمارك الراغب فيما هو دون ذلك مع الحقائق الملموسة والموطِّن نفسَه على الصبر، وفي هذا سرُّ ما اتفق لبسمارك من العمر ما هو ضِعف عُمر لاسَّال، وفي هذا سِرُّ ما اتفق للاسَّال من أوقات الهناءة ما لم يتفق لبسمارك.

ولم يكد بسمارك ولاسَّال يلتقيان حتى عرَف كلٌّ منهما للآخر قيمتَه قبل أن يعرفها العالم، ولو خرَّ بسمارك صريعًا في سنة ١٨٦٣ في المبارزة التي تحدَّى بها فيرشوف ما زاد صِيته على ما ناله رادووِيتز ولَنسيَه الشعب منذ طويل زمن، وعلى ما كان من نقص سنِّ لاسَّال عن سنِّ بسمارك بعشر سنين في ذلك الحين؛ مات لاسَّال في مبارزة عند بدء عمله الذي كان يحيق به خطر النسيان، واسمُ لاسَّال مع ذلك يترنَّم به ملايين الآدميين من جميع الأمم في أغنية الائتلاف، ولا مِراءَ في أنه سقط، ولكنه صار مشهورًا في العالم؛ لِما كان من رغبته في تحقيق مبادئ يومٍ لم يكن فجرُه قد لاح، وقد بلغ بسمارك غايةَ غده، فيبقى تمثاله قائمًا في بلده ألمانية.

والأمر الذي يُقرِّب بين الرجلين هو الكفاحُ ضدَّ الطبقة الوسطى، وأراد بسمارك السلطانَ ليناهض الدستور، وأراد لاسَّال تعبئة الجماهير، والسلاحُ قبضةُ بسمارك، ويجهِّز بسمارك الرجالَ بالسلاح كَرهًا، والرجال قبضةُ لاسَّال، ويصرخ الرجالُ من أجل السلاح على غير جدوى، ويودُّ كلٌّ من الرجلين الحكمَ المطلق لنفسه، ويزدري كلٌّ من الرجلين حريةَ مبادلة السلع والأفكار، ولا يقلُّ عن ذلك ازدراؤُهما لأبطال حرية المبادلة الأحرار، ويتماثلان حتى في كلماتهما الجامعة؛ فقد قال بسمارك في سبتمبر سنة ١٨٦٢: «يَسهُل على مسائل الحقِّ أن تُصبح مسائل قوة.» وقد قال لاسَّال في أبريل سنة ١٨٦٢: «ليست مسائلُ الدستور مسائلَ حقٍّ في الأساس، بل مسائلُ قوة، وليس للدساتير المكتوبة قيمةٌ ولا ديمومة إلا لأنها عنوان علاقات القوة العتيدة في المجتمع.» وما كان جواب لاسَّال حينما هوجم من أجل تلك الكلمة غيرَ جواب بسمارك، فقد قال إنه لا يضَع القوة فوق الحقِّ، وإنه لا يجعل من هذا مبدأً مسلَّمًا به، وإنما يُسجِّل ظاهرةً تاريخية، وكان لاسَّال كبسمارك من القائلين بسياسة القوة، فجعل سيكِنجن، الذي هو صورةٌ له، يقول في رواية تمثيلية: «بالسيف تُنال عظائمُ الأمور.»

وليس من العجيب إذن أن وافقه كونتات بروسية في مجلس الأعيان، وأن قالت جريدة كروزْزَايْتُنغ: «أولئك رجالٌ حقيقيُّون، مع أن الأحرار ليس لديهم حِرابٌ ولا لكماتٌ ولا فُتونُ العبقرية.» وذلك لأن هدف الرجعيين في هذه الأيام هو استمالة طبقة العمال وفصلُ هذه الطبقة عن التقدُّميِّين، ومن قول المحافظين: «وهل نَحَار من عدم مَيل العمال إلى شدِّ عضُد حكومة لا تعمل من أجلهم شيئًا؟» ولم يُعتِّم بسمارك أن تبنَّى الفكرة فعيَّن لجنة للبحث في إعانة الشِّيب وتحسين حال العمال، وتُوصي هذه اللجنة «بأن يُعرف عزمُ الحكومة على تنظيم حال عمَّالها بصفتها مستصنعةً، فتكون قدوةً لأرباب المصانع الآخرين»، ويتكلم بسمارك حول ضرورة الإنذار لأمد بعيد قبل التسريح، وحول تنظيم الأجور ومقاسمة الأرباح وإسكان العمال والتحكيم عند الخلاف في أمور العمل، وحول جمعيات العمال التعاونية والتسليف وصناديقَ للإعانة عند المرض، وشركاتٍ للتأمين على الحياة، فهذا هو برنامجُه الاجتماعيُّ بعد خمسة أشهُر من نَصْبه رئيسًا للوزارة، ولا تجد لهذا البرنامج مثيلًا في أيِّ مكانٍ آخر بأوروبة سنة ١٨٦٠، وجميعُ هذه التدابير موافقةٌ لمطاليب لاسَّال.

ولم يَصدُر ذلك عن حبِّ بسمارك للشعب، وإنما نشأ عن بُغضٍ للطبقة الوسطى، وبسمارك لِما كان من رفض الشعب سياستَه، يُحاول أن يستميل الشعب إلى وجهة نظره بانتحاله إصلاحاتٍ اجتماعية، وفيما كان الأغنياء في اللَّنْدتاغ يُظهرون الصداقة للشعب كان لاسَّال يَهْزأ بهم في رسائله وخُطبِه لثنائية أخلاقِهم، فلا يَسُرُّ إنسانًا بمقدار ما يَسُرُّ رئيسَ مجلس الوزراء، وكان مؤسسُ اتحاد عمال الألمان العامِّ لاسَّال قد نُعِت بأنه آلة الرجعية، وقد أنذره لوتار بوشر بقوله: «حذارِ! نراك تساعد الحكومة في ذلك المضمار، وستُترَك وشأنك حينًا من الزمن ثم تُبسَط الأيدي إليك!»

ولاسَّال كبسمارك يبلغ أسباب الرجولة في أيام الثورة، وتدَعُ هذه سمةً ثابتة في أخلاقه، ويترفع عن الحذر، فلا ينظر إلى لَون حليفه ويصافح عدوَّ عدوِّه، ولاسَّال يجرؤ على ذلك مع اشتراكيته، فيدنو جهرًا من وزير الخارجية البغيض. ونظرةُ كِلَا الرجلين في السياسة الخارجية واحدةٌ على الدوام، وذلك عدا ما كان من سبقِ لاسَّال لبسمارك في القول بالوحدة الألمانية، ويسخر لاسَّال من لابسي المعاطف الذين سافروا في سنة ١٨٤٩ من فرانكفورت إلى بوتِسْدام ليطالبوا بألمانية لمَلكٍ بدلًا من أن يُقرِّروا وجود ألمانية. ولاسَّال إذ كانت الجماهير لا الأمراء قِبْلتَه، عدَّ الوحدة الألمانية مسألة عِرق لا مسألة بيت مالك، وتجعل السنواتُ العشر التي حلَّت بين سنة ١٨٥٠ وسنة ١٨٦٠ بسمارك برلمانيًّا، وتحفزه برلمانيتُه إلى كتابةِ مذكرته حول إقامة برلمانٍ ألمانيٍّ، ويعترف لاسَّال في ذلك الحين بإمكان تحقيق الوحدة الألمانية مع الأمراء، ويقف بسمارك ولاسَّال ضدَّ النمسة وهنغارية حيث يعارض ستةٌ وعشرون مليونًا من السكان قيامَ الوحدة الألمانية، على أن كلَّ واحد منهما يسلُك سبيلَه الخاصةَ وصولًا إلى غايته، وما كان لاسَّال ليُبصر سياسة بسمارك الخارجية بواسطة سفرائه، وما كان بسمارك محتاجًا إلى قراءة رسائل لاسَّال ليتأثَّر بها في رأيه حول المسألة النمسوية.

وكان وضْع لاسَّال تجاه نابليون الثالث مثلَ وضْع بسمارك، فعلى ما يحمله من مقتٍ لاستبداد نابليون كان يُفضِّل أن يسير بجانبه في الأزمات ضدَّ النمسة على أن يسير بجانب النمسة ضدَّ فرنسة، وما كان يجهر به لاسَّال فذو أثرٍ كالذي يأتيه بسمارك في الخفاء، ومن قول لاسَّال: «إذا كان نابليون يرى تعديل خريطة جنوب أوروبة وفقَ مبدأ القوميات فإننا نرى صنْعَ مثل ذلك في الشمال، وإذا كان نابليون يرى تحرير إيطالية فإننا نرى الاستيلاء على شليسويغ، وهكذا تكون بروسية قد غسلت عارَ أُولموتز. وإذا كانت بروسية تتردد فإن ذلك يدلُّ على عجزها عن القيام بعملٍ قوميٍّ.» والأمرُ الوحيدُ الذي يميزه هنا من بسمارك هو انتحالُه أسلوبَ المحرِّض في الحقل القوميِّ وسلوكُ بسمارك سبيلَ الدِّبْلُمِية، وتلميذُ هيغِل وفيختِه لاسَّال يصوغُ مزاعمه بأسلوب أكثر فلسفةً من أسلوب تلميذ مكيافِلِّي بسمارك، ومن قول لاسَّال: «يتوقف على هذه الأمة الفلسفية النزعة، يتوقف على هذه الأمة الألمانية، وذلك بفضل نشوئها ووفْقَ تاريخها الأدبي والمادي، ذلك المصير الأسمى وذلك الشرفُ الوحيد في التاريخ العامِّ، فيكون لها من الأموال ما يُسفر عنه المبدأ الشعبي البسيط غيرُ المادي ويكون لها من الكيان ما يُسفر عنه الفكر، ويشابه عملٌ كهذا خلْقَ الربِّ للعالم! ولقد غدا هذا دينًا حيًّا في كلِّ قلب ألماني نبيل مُسمًّى باسم الوحدة الألمانية الشعبيِّ الجازم، وفي اليوم الذي تدُقُّ فيه جميعُ النواقيس إيذانًا بولادة الدولة الألمانية نحتفل بعيدِ فيخته الحقيقيِّ؛ أي باقتران روحه بالحقيقة!»

وكان بسمارك يُغضي عن تكلُّف ذلك الأسلوب، وكان يُقلِّب العبارة في ذهنِه ويستخرج منها ما يراه من النتائج، وقد قرأ ما قاله الزعيمُ الجديد لاسَّال عنه في الاجتماعات العامة التي كان يمقتها، «ومما لا جدال فيه أن لدى بسمارك معرفةً صحيحةً بالمسائل الدستورية، فتنسجم وجهات نظره انسجامًا تامًّا مع نظريتي، ويَعلَم بسمارك جيدًا أن الدستور الحقيقيَّ لبلدٍ ليس قُصاصةَ ورق، بل هو وليدُ أحوال واقعية.» ولَسُرعان ما سار خطوة واسعة إلى الأمام فقال في اجتماعات عامة عقدها في بلاد الرين: «إن التقدُّميين يلاطفون الأمراء في فرانكفورت ليُزعجوا بسمارك، ولو كان علينا أن نتبادل نحن وفون بسمارك العياراتِ النارية لَقَضى العدل علينا بأن نعترف — حتى في أثناء ذلك — بأن بسمارك رجلٌ وبأن الآخرين عجائزُ.»

وبسمارك قبل أن يقرأ ذلك الإقرار الحُبِّيَّ، أخذ برقية من سولِنْجن حيث مُنعت اجتماعاتُ لاسَّال، وإليك نصَّها: «حضر العمدة التقدُّميُّ على رأس عشرة من الشرطة مسلَّحين بالبنادق والحِراب فحلُّوا — بغير مسوِّغ شرعي — اجتماعَ عمالٍ دعوتُ إليه، فاحتججتُ على غير جدوى، وليس من غير صعوبةٍ أن حُلْتُ دون التجاء جمهورٍ مؤلف من خمسة آلاف شخص إلى استعمال العنف؛ فالبِدار إلى مُراضاة قانونية حاسمة، لاسَّال.»

جاء ذلك في حينه؛ وذلك لأن بسمارك كان منذ بضعة أيام يقوم بلعبة ضدَّ مؤتمر الأمراء فيطالب بإجراء استفتاء عام متماثل في أمر الجامعة الألمانية، ويدفع بسمارك تلك الشكوى إلى المراجع القانونية، ويزوره لاسَّال «ليُعرِب له عن شكره»، ثم يزور بسمارك في شتاء عام ١٨٦٣-١٨٦٤ ما يزيد على اثنتي عشرة مرةً، ويُطيل الاجتماعَ به في كلِّ مرة، وتمضي عدَّة أعوام فيرى بسمارك من المصلحة أن يقطع تلك الصِّلات السياسة بلاسَّال فيقول في الريشتاغ: «أُبصر في لاسَّال ما يجتذبُني إليه اجتذابًا شخصيًّا عجيبًا؛ فلاسَّال هو من أكثر مَن عاشرتُهم موهبةً وأُنسًا، ولاسَّال طموحٌ إلى أوسع مدًى، وكانت محادثاتُنا تدوم ساعاتٍ كثيرةً فآسَفُ على مرورها، وأظنُّ أن لديه انطباعًا جميلًا بأنني كنت له مُصغيًا مُدركًا حسَنَ الالتفات.»

figure
بسمارك في سنة ١٨٦٦.

وكانت تلك المحادثاتُ بين أقوى ساسة الألمان في ذلك الدور تدور حول المسألة العظيمة القائلة بأن تقوم الوحدة الألمانية على أساس الأُسَر المالكة أو على أساسٍ شعبيٍّ، والآن يرى لاسَّال أنَّ الجمهورية الألمانية غايةٌ لا تُنال، والآن يرى بسمارك تعذُّرَ تحقيقِ حِلْف بين الأمراء، وكلاهما لا يُقدِّر في نفسه هذين الحلَّين المثاليَّين، وإليك لمحةً عن اجتماعاتهما ثبَت أمرها بما رواه لاسَّال، كما يأتي:

بسمارك : ولِمَ لا تُصوِّتون مع المحافظين ما دمتم لا تأملون فوزَ مُرَشَّحِيكم؟ فمصالحُنا تَسير مع مصالحكم، فأنتم تُناضلون سائرين من وجهة نظركم ونحن نناضل سائرين من وجهة نظرنا، وذلك ضدَّ رغبة الطبقة الوسطى في القبض على زمام السلطة.
لاسَّال : يلوح أنَّ تحالُفَ المحافظين وحزبِ العمال أمرٌ ممكن لأجلٍ مُعيَّن يا صاحب الفخامة، ولكننا لا نسير معًا إلا لمسافةٍ قصيرةٍ في الطريق، ثم نصْطَرع بعنف أكثر مما مضى.
بسمارك : وَيْ، أُدرِك ما تَعني، والمسألةُ هي أن يُعرَف أيُّنا يقدر على أكْل الكرز مع الشيطان، وسنرى!

وإذا ما نُظر إلى الأمر من حيث الواقعُ رُدَّ نقاشُهما إلى نقطتين في برنامج لاسَّال ودَّ بسمارك أن يحققهما وفقَ مصالحه، ومن قوله عن التصويت العام: «إن التصويت العامَّ في بلد ذي تقاليدَ ملكية ومشاعرَ صادقةٍ؛ يؤدي إلى إبطال مؤثِّرات الطبقة الوسطى الحُرَّة وإلى انتخاب ممثِّلين ملكيين، فانظر إلى بروسية تجدْ إخلاصَ تسعة أعشار الشعب للملك، وتجدْ أنَّ جهاز الانتخابات المصنوعَ هو الذي يَحول دون إعراب أكثرية الشعب الساحقة عن رأيها الصحيح.» وكان إدخال حقِّ التصويت إلى بروسية يلوح لبسمارك أمرًا مُبْتَسرًا، وإذا كان بسمارك يسير على رِسْلِه فإن لاسَّال يمشي على عجَل، ولاسَّال يحاول إقناعَ بسمارك بانتحال التصويت العام، لا في ألمانية وحدها [في الوقت المناسب، لاعتقاد كلَا الرجلين ضرورةَ نشوب حرب قبل قيام الاتحاد الألماني]، بل في بروسية أيضًا، وفي الحال وفقَ مرسوم، وهكذا تدعو الراديكالية الديمقراطية إلى الانقلاب، ويشكُّ بسمارك في حلول الوقت المناسب.

ويكتب لاسَّال إلى بسمارك قولَه: «ألوم نفسي لِما كان من نسياني بالأمس أن أذكر لكم مرةً أخرى ضرورةَ جَعْل حقِّ الانتخاب شاملًا لجميع الألمان، وليكن هذا أداةَ قوة عظيمة! وليكن هذا فتحًا أدبيًّا لألمانية! وإذا سُئِلتُ عن الجهاز الانتخابي قلتُ إنني قرأت في الليلة الماضية تاريخَ الاشتراع الفرنسيِّ فلم أجد فيه غيرَ فائدة قليلة حول الموضوع، ومهما يكن الأمر فقد قلَّبتُ الأمورَ وصِرتُ في وضْع أستطيع معه أن أُمدَّكم — يا صاحب الفخامة — بما تودُّون، فأرى أن يُصار إلى «الوصفة السحريَّة» المنشودةِ منعًا للامتناع ودرءًا لتبديد الأصوات، ولا أشكُّ في أنَّ الشفاء هو فيما اقترحتُ؛ ولذا أنتظر من فخامتكم تعيينَ وقتٍ للمقابلة ذات مساء، ولي أن أُصرَّ على فخامتكم بتخصيص مساء لا يُقطَع فيه الحديثُ، ولديَّ قولٌ كثيرٌ عن الجهاز الانتخابيِّ وعن شئون أخرى.»

ومَن يَقرأ ذلك الكتاب الصميميَّ يُبصرْ مصدر المبادرة، ويعتقدْ كتابتَه من قِبَل شابٍّ إلى شائب مع أن لاسَّال كان قد جاوز الأربعين من عمره وأن بسمارك كان قد جاوز الخمسين من سِنِيه، ونتمثَّل بسمارك في المساء السابق جالسًا على كرسيِّه مستمعًا من خلال دخان سيغاره لمحاولة ضَيفه النشيط هزَّه بكلمات ﮐ «الوصفة السحرية»، وينشأ عن تلك المبارزة الروحية بعضُ ما يَسُرُّ الرجلين، وتَحُول الحوادثُ دون اختلاطهما؛ فقد بُدئ بغزو دانيماركة بعد تاريخ ذلك الكتاب بخمسة أيام، وقد وجَد لاسَّال ما يحفزه إلى الكتابة ثانيةً:
لا أُلحِفُ،٢ ولكنَّ الحوادث تَحُثُّ، فاعذروني إذا ما بدوتُ مِلحاحًا؛ فقد أرسلت إليكم يوم الأربعاء كتابًا أنبأتُكم فيه بأنني الوصفة السحرية المنشودة الشافية، وأرى أنَّ اجتماعنا القادم سيؤدي إلى نتائجَ حاسمة، وأرى أن يُوصَل إلى هذه النتائج على جناح السرعة؛ ولذا سأجرؤ على زيارتكم في منتصف الساعة التاسعة من صباح الغد.

يا لَه من ناريٍّ! يا لَإغراء الأمر له! يا لَشعوره بدنوِّ تحقيق ما لم يكَدْ يأمله حتى الآن! ولكن بسمارك يبدأ حربَه، ويمكن مبدأ التصويت أن ينتظر!

وتمضي بضعةُ أسابيع، فيُتَّهَم لاسَّال بالخيانة العظمى، فيخاطب المحكمةَ العليا بقوله: «لا أريد قلب الدستور فقط، فمن المحتمل أن أَقْلبه في أقلَّ من عام، ويمكن أن يُلعَب أكبر لَعِب؛ فأوراق اللعب على المائدة! ولذا أُخبركم في هذا المكان الموقَّر أنه قد لا يمضي عامٌ حتى يكون فون بسمارك ممثِّلًا لدور روبرت بيل فيُمنح حقُّ التصويت العام المباشر!» ويرنُّ اسم ذلك القطب السياسيِّ الإنكليزي عاليًا، وإن لم يُدرك أحد في قاعة المحكمة معنى ذلك، ويبلغ صاحب تلك النفس العالية لاسَّال من النفوذ الأساسي في الوزير الحريز بسمارك ما يُلْمِع معه إلى المثال الذي ذكره بسمارك في كتاب كتَبَه أيام كان في السنة الخامسة والعشرين من عمره حيث فَسَّر سبب تركه للإدارة قائلًا إنه لا يُنتظر منه أن يُمثِّلَ دَور بيل في بروسية، ولم يعلم غيرُ قليل من أقرباء بسمارك أمرَ ذلك الكتاب، ومن الممكن أن يكون كاتبُه بسمارك قد نسيه، وهو ما زال يعرف أن بيل وأوكونل وميرابو كانوا يساورون ذهنَه في قديم زمانه، فلمَّا قرأ ما أبداهُ اليهوديُّ الثوريُّ لاسَّال من البسالة في الدفاع عن نفسه ضدَّ الحكومة وما كان من كَشْفه عن السرائر؛ زاد إجلالُه له.

ويَتْبَع بسمارك لاسَّال في الجزء الثاني من برنامجه، فيُغري هذا الاشتراكيُّ ذلك الوزيرَ الرجعيَّ موفَّقًا بتأليف جميعاتٍ للإنتاج وبإقراض العمال مائةَ مليون وبجعل الدولة مستصنِعًا كبيرًا، ويريد لاسَّال إقامةَ دولة اشتراكية وفْقَ مذهب ماركس الجديد، ويريد بسمارك تقويةَ الدولة الملكية بتوسيع سلطاتها، ويريد كلَا الرجلين بلوغَ غايات مختلفة بوسائلَ واحدةٍ كما في مسألة التصويت العام، وتمضي سنوات فيصف بسمارك تلك الأساليبَ ﺑ «الأمور الجدِّيَّة الرزينة»، وبسمارك يكتفي الآن بشُكره للاسَّال إرسالَه إليه كراسةً جامعة لتلك الآراء.

ولاسَّال هو من الزهو ما لا يُطيق معه ذلك، فكان على بسمارك أن يُسلِّم تلك الكُرَّاسة إلى الملك حتى يعلم وِلْهلم «أيَّةَ مملكة تكون في المستقبل»، ويتوجع لاسَّال فيرغب في محادثة الوزير في الأمر، وتُزعِج تلك اللهجة بسمارك، ولا يقطع بسمارك صلتَه بلاسَّال، بل يماطل، وهكذا لا يرى لاسَّال مرة أخرى لِما كان موت لاسَّال في المبارزة بتلك السنة.

ولاسَّال مع ذلك استطاع في الربيع من تلك السنة أن يُمهِّدَ لقبول الملك وفدًا من فقراء الحاكة بسليزية قبولًا حسنًا، وكان هذا حادثًا مهمًّا منقطعَ النظير قبل ذلك الحين في بروسية، ويَخرج أولئك الحوَكةُ الجِياع من حضرة المليك فيجدون بسمارك في غرفة الانتظار، فيسألهم ثم يقول لهم: «أخشى ألا تأكلوا إوَزًّا مشويًّا بسرعة لا تعدو يوم الأحد القادم!» وهنالك يقفُ أولئك الفقراء مرتعشين، وهنالك يقف جمهورٌ من البائسين الخائفين من الكبوِ على الأرض الذهبية المُشمَّعة في القصر الملكي، والآن يُلاقيهم رئيس الوزراء، فيُوسِّع بنكتته الهائلة تلك الهُوَّة التي وجب عليه آنئذٍ أن يهتبل فرصةَ إقامةِ جسر عليها مُترفِّقًا، ويشعر العُمَّال بانقباض صدرٍ حتى بين البُسُط التركية والتماثيل النصفية الرخامية في منزل لاسَّال الأنيق ببِلْفوسْتراس حيث خَفُّوا إلى زيارته، ولم يُسرَّ العمال بمنظر الصُّدَر الرائعة التي تُرى على ذلك الزعيم الشعبيِّ فوق المنابر العامة؛ فالزعيم ليس من أمثالهم.

ويتخذُ بسمارك تدابيرَ فعَّالة لتقييد امتيازات المكاتب الاجتماعية، ويودُّ بسمارك أن يستميلَ حزب العمال الجديد، ويحاول بسمارك أن يجتذبَ أربعةَ كتَّاب اشتراكيين بجانب لاسَّال، فيغدو مقاومُ الضرائب لوتار بوشر مديرًا لجريدة بسمارك — نُورْدوتْشه — بعد سابقِ نفيٍ ولاحقِ عفوٍ، ويغدو معه مديرًا براسُّ الذي كان قد أنشد قائلًا: «ندهُن بالأحمر، نُجيد الدهن، ندهُن بدم الطغاة!» ويتبَع لِيبْكنِخْت براسَّ، ويُوصي بسمارك بوشر بأن يضمَّ كارل ماركس إلى إدارة الجريدة، ويرفض ماركس ذلك، ويتملَّص ليبكنخت لِما أبصره من ارتشاء براسَّ، ويبقى بُوشِر عشرين عامًا، ويُرَى الشريفُ المِسعارُ بسمارك مرةً أخرى من خلال تلك المغامرات في جمْع الجنود من معسكر العدوِّ.

وبسمارك — في الوقت ذاته — اشتراكيٌّ حكوميٌّ، فلما أصغى عمدة إحدى النواحي إلى ما قاله المستصنعون وحدهم حولَ فَقْر حوكة سيليزية مستندين إلى ما ذكره شُرطيٌّ سأل بسمارك غاضبًا عن السبب «في عدم اتخاذه وجهةَ نظر عادلة يمكن أن تُعرف بها تلك المصاعب معرفةً صائبة، وذلك بدلًا من أن يتساوق مع مصالح المستصنعين فقط»، ويريد بسمارك أن يعزلَه لقلة نُضجِه، ويُعيِّن لجنةً لدرس أجور العمال واحتياجاتهم الحيوية ووسائل مساعدتهم، «ولكي يُستمَع للعمال بواسطة أناس راشدين قادرين على الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة ضدَّ المستصنعين»، وفي ذلك الحين يحمل بسمارك الملكَ على دفع سبعة آلاف تالير من ماله لإنشاء جمعية تعاوُن للإنتاج وفقَ خطط لاسَّال، «واختبارًا لما يؤدي إليه تطبيق المبدأ على مقياس واسع من الممكنات والنفقات والنتائج»، ويجب تسجيلُ جمعية التعاون للإنتاج تلك، ويجب أن تكون تلك الجمعية من النشاط والاستقلال «ما يلزَم لبيع السلع وما يُمتِع الحاكةَ بأقصى المنافع الممكنة فضلًا عن أجورهم»؛ وهكذا يُصبح بسماركُ الاشتراكيَّ الحكوميَّ الأول في بروسية عن بُغضٍ للأحرار الأقوياء.

وفي ذلك الصيف يُقتَل لاسَّال بعيارٍ ناريٍّ يُصيبه به مِكسال في مبارزة صادرة عن شعورٍ بالشرفِ زائفٍ، ويظلُّ عمله بلا زعيم في الوقت العتيد، وتمضي سنةٌ فتُعلن وزارة الدولة معارضتَها لكل محاولة اجتماعية، فيُدرِج بسمارك في التقرير قولَه: «يُنقَص إلى أدنى حدٍّ ضروريٍّ للحياة طعامُ الحوَكة المؤلَّف معظمُه من حساء البطاطا، ومن حساء الطحين والملح ومن قليل دُهن ومن قهوة الهِندبا.»

ويقرأ بسمارك في ذلك التقرير قولًا عن تقديم العُمَّال في كلِّ مكان طلباتٍ واحدةً لا يمكن الدولةَ تلبيتُها فيكتب على هامشه بخطِّه الغليظ:

أذلك سببٌ لعدم إعانة الدولة أحدًا؟ تستطيع الدولة أن تصنع ذلك!

فبتلك الكلماتِ الثلاث تَهُزُّ إرادةُ بسمارك المنتجةُ مرةً أخرى قُضبانَ القفص الكبير الذي سُجِن فيه مع أبناء طبقتِه الأشراف، ومع كثيرٍ من الأحرار أيضًا، وتلك الكلمات الثلاث هي صدًى لمحادثات الشتاء الماضي حين حاول صاحبُ النفس النارية المتطلِّعة إلى المستقبل أن يَفتنَه.

١  الضنى: المريض الذي يتمكن منه الضعف والهزال.
٢  ألحفَ: ألحَّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤