الفصل الثامن

بلغ بسمارك منتصفَ العقد السادس من عُمره، فأخذ يصير ألمانيًّا.

ولا أقصد أنه في الوقت الحاضر وفي الماضي أراد أن يضرب النمسة ضمن الجامعة لسببٍ آخرَ سوى الحقد والكرامة، لسببٍ آخر سوى هذين العاملَين اللذَين كانَا لديه أقوى من حُبِّ النظام والرغبة فيه، وقيامُ بروسية مقامَ النمسة ومقاتلةُ هذه الدولة المنافِسة والانتصارُ عليها، لا «الفكرة الألمانية» أمورٌ تَنِمُّ على ما كان يهدف إليه ذو الطبيعة الصئول١ ذلك، والحقُّ بجانب الأحرار الذين يَعُدُّون تلك «الفكرة الألمانية» ديانةً لهم عندما أنكروا في تلك الأيام مقاسمةَ بسمارك لعقيدتهم، وما كان بسمارك في ذلك الحين ليثقَ ببلاد الرَّين وبافارية أكثر من ثقته بفِيَنَّة وسالزبرغ، فلمَ يُزعِج نفسَه بتصنيف الألمان خارج الحدود إذن؟ واليوم كما كان عليه منذ عشر سنين حينما كتب إلى غِرْلَاخ لا يتأخر عن صَرْع أيٍّ من أولئك الناس إذا ما جعلتْ سياستُه العامة مثلَ هذا العملِ أمرًا مرغوبًا فيه؛ ولذا سيرى بعد قليلِ أشهرٍ، باردَ الدم، مصارعَ الألوف من السكسونيين والهسِّيِّين والهانوفريِّين في حربه؛ فالواقعُ هو أن هؤلاء من الأجانب في نظره، وأن بروسية وحدها هي وطنُه، هي بلده.

ومظهرُ حبِّ الوطن — الخاص بالألمان — تبعًا لنشوئهم هو مما يُثير دَهَشَ بسمارك باتساعه أكثرَ مما بضيقِه؛ وذلك لأن الألمانيَّ‎ — كما قال بسمارك في مشيبه — مخلصٌ لآله الذين نبَت بينهم ومحبٌّ، في الغالب، لزاوية من الأرض، وهكذا لا يحبُّ بسمارك سوى بومِيرانْيَة حُبًّا أساسيًّا، وبروسية إذ كانت وليدة فتوح مصادفات وكانت أضيق مما هي عليه؛ عُدَّت من اتساع الكيان ونُبُوِّ البنيان ما لا تُثير معه المشاعرَ الأُسرية، ولم تكن هنالك وحدةُ مشاعرَ بين كولونية وميمل، وبسمارك كان مع ذلك من أولئك القليلين الذين عزموا على حُبِّ بروسية كما هي، كما كُوِّنت دومًا؛ وذلك لأن الفتوحَ الملكية عنده ضربٌ من العقائد، ولأن الأصول قليلةُ الأهمية مهما كانت، وبسمارك إذ كان تابعًا لملك بروسية وفارسًا لبرانْدبُرغ، كان همُّه مصروفًا إلى توسيع بروسية، وكان يُفضِّل أن يغلب أمراء ألمانية وفقَ أساليب سالف القرون، فيزيد رُقعة بروسية، على أن يُكافح في سبيل الجامعة الألمانية، فهو يريد أن يكون الأول، وهو الذي لم يكن بين النظراء إلا قهرًا، وهذا هو منطق دمه!

غير أنَّ ذهنه المضطرب وعلْمَه العميق بالتاريخ وبصرَه الحديد بالحقائق أمورٌ كانت تتغلَّب على رغائبه الطبيعية فيتطلَّع إلى ما يمكن نَيله ويُعرِض عما يُبتغى ويُوطِّن نفسه بعد قهر النمسة على جعل زعامة ألمانية لبروسية. أجلْ، ستُضمُّ بعض الولايات إلى بروسية، غير أن الفتح لم يظلَّ غاية.

ويتنبَّه فيه طموحٌ جديد، ويروي الشاهد الصادق كودل أن بسمارك قال له منذ عشر سنين: «إن تاج بروسية وحده هو الذي أكترث له.» فيقول له الآن: «إن أقصى آمالي هو أن أجعل الألمان أمةً واحدة!» ومنذ عشر سنين يُصبح بسمارك المتحزِّب دِبْلُميًّا، فيتخلى عن بعض مزاعمِه الرجعية، ولا يَشغل نفسَه بسوى المعالي مُعرِضًا عن المبادئ، واليوم يصير بسمارك وزيرًا لبروسية فيتحول إلى قطبٍ سياسيٍّ ألمانيٍّ، ويبدأ بإعمال الرأي في شأن البلاد الألمانية، ومن صفاته الفطرية نظرُه إلى الأمور من خلال السلالة الملكية، لا من حيث الأصول القبليَّة، وما كان بسمارك ليُنقذ نفسه من تلك الفكرة الابتدائية الآن ولا بعد زمن؛ ولذا كان بسمارك أعظمَ قُطبٍ سياسيٍّ في عصره؛ ولذا لم يكن بسمارك نبيًّا.

ومما يَسُرُّ بسمارك الآن عُسرُ الوضع في النمسة، وترى النمسة أن إدارة ولاية هُولْشتَاين من بعيد ينطوي على مصاعبَ كالتي تشتمل عليها إدارةُ المستعمرات، وترغب النمسة في بيع هولشتاين من بروسية وفي بيع البندقية من نابليون بأربعة ملايين ليرة، ولا تجرؤ النمسة على إتيان الأمرين، بل تَدَع دوك أُوغُوسْتِنبرغ يعود إلى سابق فِتَنِه في هولْشتاين ناقضةً بذلك معاهدةَ غاستن التي تمنح بروسية صوتًا في كلتا الدوكيتين، واليوم يستطيع بسمارك أن يُثبت لمليكه وقوعَ اعتداء على حقوق بروسية، واليوم يستطيع بسمارك أن يُحرِّك ساكنَ فردريك وِلْهِلْم، واليومَ يُعرب بسمارك عن مقاصده بصراحة عجيبة فيقول لسفير فرنسة بِنيدِيتِّي: «إذا ما أردتُ حمل الملك على المطالبة بحقٍّ وجب عليَّ أن أُثبت له أن الآخرين يُنازعون فيه، وإذا أقدم إنسان على تحديد سلطانه أمكنت موافقتُه على اتخاذ تدابير فعَّالة.» ويُشتكَى إلى فِيَنَّة، ويُؤخَذ جوابٌ مُحْنِق، ويجتمع المجلس الخاصُّ ببرلين في شهر فبراير سنة ١٨٦٦، ويتكلم الملك بحزم فيقول: «لا نرغب في إثارة حرب، ولكنه لا ينبغي لنا أن نخشى الحرب إذا حُمِلنا عليها.» ويوافق الوزراء وينفرد وليُّ العهد بالمعارضة، ويقول الملك: «إن تملُّك الدوكيتين يستحقُّ مشقةَ حرب، ولنفاوضْ ولننتظرْ، أُريد السِّلم، ولكنني عازم على الحرب إذا قضت الضرورة بذلك، والحرب عندي أمر عادل، والآن أدعو الله أن يهديَني إلى سواء السبيل.» واللهُ منذ عامٍ ونصفِ عامٍ قد ألهمه أن يرى أنه لا حقَّ له في الدوكيتين، والآن يرى الجامعةَ الألمانية والحقوقَ النمسوية دخلت في ذمة الماضي!

ويزيد بسمارك آمالًا، ويجادل وليَّ العهد الذي «صار حِرِّيفًا»٢ ويُملي كتابًا على سكرتيرٍ له في ذلك المساء، ثم يجلس قريبًا من النافذة ويُفضي إلى كودل بما في نفسه قائلًا: «إذا عاد منسدورف إلى السياسة السابقة وجب علينا أن نُلوِّحَ له بالأسود والأحمر والأصفر،٣ وأرى أن كلًّا من مسألة شِلِيسْوِيغ ومسألة ألمانية مرتبطةٌ في الأخرى بما يَحملنا على حلِّهما معًا عند التصدُّع، وتُسفر إقامة برلمانٍ ألمانيٍّ عن ردِّ الدول الصغيرة والدول المتوسطة إلى حدود ملائمة»، ويسكُت بسمارك قليلًا ثم يقول: «وإذا وُجد بينهم إِفْيالْتُ٤ قضَتِ الحركةُ الألمانية عليه وعلى مولاه!» ثم نهض بسمارك بسرعة وغادر الغرفة، وهكذا ينتهي بسمارك إلى حلِّ المعضلات، فهو يفكر فيها ويُقلِّب أمورها مقدارًا فمقدارًا، ثم يبدو له قياسٌ تاريخيٌّ يقابل به الحالَ بالماضي فيُحطِّم به خصومه، ثم يَثِب على رجلَيه ويُفصِح عن الحلِّ المكنون في ذهنه.

وكلما اقتربت الحرب وضَع بسمارك ذلك الحلَّ موضع العمل، وهنالك يشتدُّ حُكمه المطلق، وتؤدِّي حرية النواب في قول ما يحلو لهم إلى عدم استعداد البلاد لقبول عظائم الأمور، وليتعقَّب النائبُ العامُّ الأحرارَ أمام المحاكم بتهمة إساءة حقِّ حرية الكلام إذن، وليُعيَّنْ قاضيان مساعدان لهذا الغرض إذن، ويسود اللَّنْدتاغ هياج، و«يمكنكم أن تُزيِّنوا قضاتَكم بجميع ما في الدولة البروسية من أوسمة؛ فما كانت نجومكم لتُغطِّيَ الجروح التي أصاب به أولئك الناسُ شرفَهم، وما كانت تلك النجوم لتُخفيَهم عن أعيُن المعاصرين والأعقاب! وا أسفاه، إنهم جرحوا شرف وطنهم أيضًا! تؤدي تلك الأساليب إلى التشاؤم الذي فيه خطرٌ على الدولة! حتى إن أُولي الدَّعَة من الناس أخذوا يَرَون المستقبل حافلًا ببذور الانتقام!» وهذا القول هو ما نطق به تويستن من فوق المنبر، وهذا القول هو للنائب تويستن الذي تعقَّبته النيابة العامة مع نواب آخرين، وهذا القول هو لتويستن الذي أشار به إلى الثورة عشيةَ شَهْر الحرب.

ويجيب بسمارك عن ذلك بقوله: «وهكذا نجعل من المجلس محكمةَ استئنافٍ أرفعَ من المحكمة العُليا! وهكذا يجب علينا أن نمنح النواب من الامتيازات ما يجعلهم فوق أبناء الوطن الآخرين، وهكذا نُمتِع النواب بحقوقٍ لا يَحلم بها أشدُّ الأشراف خيالًا! وهكذا تطالبون لأنفسكم بحقِّ كَيل الشتائم وصبِّ أفظع الافتراءات!» ويتعذر حلُّ النزاع، ونزاعٌ مثل ذلك هو الأمرُ الوحيد الذي كان يحفز الملك إلى شدِّ أَزْرِ وزيره المكافح، ويُحَلُّ اللَّنْدتاغ ويَرضى بسمارك بالوضع.

والخطوة التالية هي الاطمئنان إلى فرنسة وإيطالية، ويجب على الملك أن يُرسل كتابًا إلى نابليون الثالث عند تأزُّم الأحوال إجابةً إلى سابق رغبة في نابليون، وسيُبلغ السفير إلى نابليون الثالث كلَّ شيء، ويَحِلُّ الوقت، ويقول غولتز للإمبراطور: «إننا لا نرغب في امتلاك الدوكيتين فقط، بل نرغب أيضًا في اتحاد ألمانية الشمالية بزعامة بروسية.» ويَعِد الإمبراطور بالحياد، والإمبراطور لِما كان يُخامره من شكٍّ في وجود خطط أخرى لدى بروسية يُصرِّح بأنه سيطالب بأملاك على الرَّين عند توسُّع بروسية بأكثر من ذلك، ويقوم بسمارك بالمفاوضات حذِرًا، ويُرسل موضعَ ثقته، بِلِيشْرُودِر إلى باريس، وينقل بِلِيشْرُودِر رغباتِ بسمارك إلى روتشلد لكي يُوصلَها هذا إلى الإمبراطور، ومن ثَم ترى كيف ينتفع بسمارك بصِلاته الخاصة، ومن ثَم ترى كيف ينتفع بسمارك حتى باليهود، ويمضي وقت قصير فيتكلم تِيَار في مجلس النواب بباريس عن قُرب اتحاد دول شمال ألمانية فيقول إِنَّ رُجحانَ فرنسة يتوقف على بقاء ألمانية مجزَّأةً، وتهتزُّ أركان المجلس بالهُتاف لهذا القول، ويرتعب نابليون الثالث، ويبحث من الآن عن تعويض النمسة بسيليزية في مقابل شِلِيسْوِيغ منعًا لزيادة بروسية قوَّةً، وهكذا تنتقل تلك المساومة حول بعض الأقاليم من وزارة إلى وزارة ومن برلمان إلى برلمان، وهكذا تطفح جميع دواوين الشفرة٥ بالمذكِّرات المتبادلة عن الرغائب وعن سلوك الدول العظمى بعد حربٍ يمكن ألَّا تُشهَر.
ويزور برلين في ذلك الحين جنرالٌ إيطاليٌّ، ويرى بسمارك من المصلحة أن تطَّلع فِيَنَّة على المعاهدة السرية بين بروسية وفلورنسة؛ لِما يؤدي إليه ذلك من احتجاج النمسة بشدة ومن غيظ مليكه، ويُطلِع على خططه فَرانجِلَ الشائبَ المشهور بإفشاء كلِّ ما يُسَرُّ إليه من فَوره، ويقول بسمارك للجنرال الإيطالي: «أظنُّ أنني قادرٌ على جَعْلِ الملك يشهر الحرب، ولكنني لا أستطيع وضْع يدي في النار!» وعلى ما كان من تحذير جميع الأجانب ببرلين لذلك الجنرال الإيطاليِّ من مكايدِ بسمارك لم يقعْ أيُّ سوء تفاهمٍ في فلورنسة، ولمَّا تصاعدت الشكاوى من فِيَنَّة عزمت إيطالية على محالفة بروسية، وللطلاينة أن يستولوا على البندقية عند استيلاء البروسيين على بوهيمية، وهذه السُّفتجَةُ٦ واجبة الأداء في ثلاثة أشهر، وما كان ليُزعِجَ ذلك الألمانيَّ الملكيَّ «بسمارك» أن يستعين بالأجنبيِّ ليضرب آلَ هابسبُرْغ الألمان.

ويأبى الملكُ وِلْهِلْم أن يوافق حينما استعدَّ حلفاءُ بسمارك للإمضاء، وتخور أعصابُ بسمارك، ويقول رون: «يشكو صديقُنا من تشنُّج شديد في المعدة منذ يومين بعد أن نهكتْه أعماله الجبَّارة في الليل والنهار، وهو من انحطاط المزاج ومن الهياج والكدر ما صار معه في خطر؛ ولذا أجده يحتاج إلى جمْع قواه الأدبية وإلى الخلاص من كلِّ ألمٍ بدنيٍّ.» وفي ذلك الدور يفكِّر ويفكِّر معه رون في الاستقالة جديًّا، ولكن كلَا الرجلين يتمالك بعد نهارَين، ويكتب بسمارك إلى صديق له قولَه: «تعرف من تجاربك الخاصة ما هي الحياة، وتعرف تكاليفَها وحوادثها وغوائلها، وتعرف قلةَ الوقت ونقصَ القوة، ولا تظنُّ أن القنوط هو الذي يُملي عليَّ ما أقول، فبالحرب أومن وإن كنت لا أدري هل أراها، ولكن الضَّنَى يُهلكني.» ولهجةٌ مثل هذه مما لا يعرفه هذا المكافح، فلسفةٌ فزهدٌ فنَصَبٌ.

ويحيطُ أعداؤُه به إحاطةَ السِّوَار بالمعصم، وتدبُّ القوة فيه، ويَهجرُه أكثر المحافظين في الساعة الراهنة، ويرى المحافظون تعذُّر محاربة آل هابسبرغ الشرعيين، ويبدو لهم أن الذي قاوم رادوويتز منذ ستَ عشرةَ سنة تحوَّل إلى رادوويتز جديد، ويجلس صديقُه وحاميه ذات حين لويس غِرْلَاخ بالقرب من الموقد مساءً فيلومُهُ بين ماءِ الصودا والسيغارات مهدِّدًا إياه بلعنة الله، ويهاجم غِرْلَاخ سياسةَ بسمارك في جريدة «كرُوزْزايْتُنْغ»، فيقول بسمارك لهذا الشيخ البِياتِيِّ مغاضبًا: «لم أبلُغ من الحماقة ما أُورِّط البلاد معه في الحروب! وأَسير وفْقَ وجهة نظري في هذه المسألة من غير أن يكون للآخرين أيُّ أثَر فيَّ، وأدبِّر الأمرَ مستعينًا بالله، لا بعد استشارة أعضاء حزبي.» ويبدو — مع هذا — «فظًّا شاحبًا حادًّا هائجًا بعيدًا من القول اللين» ويُعْرب غِرْلَاخ عن أمله بألا يؤثِّر هذا الخلاف السياسيُّ في صداقتهما فيلزم بسمارك جانب الصمت، والسكوتُ في هذا المعرض رفضٌ، وبسمارك لم يُكلِّم غِرْلَاخ بعد ذلك قط.

ويعمل وليُّ العهد وزوجُه في ذلك الوقت، وتعمل أُوغُوستا أكثر من كلِّ إنسان، ولم يَأْلُ الجميع جُهدًا ضدَّ الحرب، أي ضدَّ بسمارك، ويحصل دوك صديق على رسائلَ سلميَّة من الوزير النمسويِّ ليُوصلَها إلى الملك، وتُقدَّم عرائضُ إلى الملك وِلْهِلْم من أخلَصِ رعاياه إليه ومن الأمير شارل وسنِفت بيلساخ وبُودِيلْشوِينْغ وغِرْلاخ ومن جميع البِياتِيِّين، حتى الاتحاد المقدس يُبعَث من القبر، وتُبصِر غليانًا عامًّا، ويظلُّ رجلٌ واحد هادئًا بين الاضطراب، فلما نُفِخ في صور٧ بسمارك الحربيِّ صرَّح مولْتكه بأن الأنباء عن استعداد النمسة العسكريِّ مبالغٌ فيها، وبسمارك مع ذلك لم يدَّخر وُسعًا في الاستمرار على سياسةٍ حافزة للنمسة إلى مبادرة الهجوم؛ وذلك لِمَا يعلمُه من كون الملك لا يُنزل الضربة الأولى، ولو خوفًا من زوجه، ويَروي بسمارك أن أوغوستا كانت في ذلك الوقت من اللاوطنية ما كانت تقعُ معه «مفاوضاتٌ مريبةٌ في برلين تحت رعاية جلالتها على حين كان القتالُ شديدًا على حدود بوهيمية.»
figure
بسمارك في سنة ١٨٦٨.
وتأتي ولية العهد ما هو أسوأ من ذلك أيضًا؛ فقد كتبت في نهاية شهر مارس إلى والدتها بلندن تقول لها: «والدتي العزيزة، يَروقكِ أن تعرفي أن الرجل الخبيث يتميَّز من الغيظ لرغبة الملك في كتابة فريتز إليكِ، والأمرُ هو أن الخطط تتخالط وتغدو غيرَ مجدية، إلخ … والخلاصة أن الرجل ساخطٌ، وهو لا يألو جهدًا في منْع كلِّ تدخُّل، وأرى أن تعلمي هذا؛ ولذا أكتب إليك مباشرة، وإن كان هذا من قبيل الدسِّ الذي أُبغضه.» وما كان هذا دسيسةً، بل هو خيانةٌ، حتى إن الأميرة فيكتورية، وإن فَتِئتْ تكون إنكليزية، وجَب عليها أن تعرفَ أن من تقاليد وزراء إنكلترة في كلِّ زمنٍ عدمَ السماح للأمراء المُنتزِحين٨ بالتدخُّل في شئونهم.

وتُساورُ بسمارك حُمَّى من الهيجان، ويروي شاهدُ عِيَان أنه كان وهو جالسٌ حول مائدةِ الطعام يضعُ يدَه على جبينه في الحين بعد الحين، فيقول بصوت خافتٍ: «أرانا صائرين إلى الجنون!»

وماذا يصنعُ الأمراء الألمان؟ أَيدَعون بروسية تقودهم؟ يواثبُ بسمارك وحْيُ سعادة في ذلك الحين فيتذرع بأدعى الوسائل إلى الحيرة؛ كسبًا للرأي العام؛ فهو يقترح على الجامعة الألمانية دعوةَ مجلسٍ ألمانيٍّ تمثيليٍّ منتخبٍ بالتصويتِ العام انتخابًا مباشرًا! أجلْ، مات لاسَّال، غير أن إحدى فِكَرِه العظيمة تُبعَث بغتةً على هذا الوجه، وبسمارك يقول في مشيبه: «نظرتُ إلى ضرورة الحال في أثناء مكافحة الخارج فلم أتحرَّجْ في الالتجاء إلى الوسائل الثورية، فأُبشِّر بالتصويت العامِّ الذي هو أقوى سهم لدى الأحرار؛ وذلك للقضاء على كلِّ ميلٍ في الممالك الأجنبية إلى وضْع إصبع في عُجَّتنا٩ القومية، وليس على الإنسان أن يُدقِّق كثيرًا في نوع السلاح الذي يستعمله عند نشوب معركة كتلك يتوقف عليها مَحْياه ومماتُه، والأمر الوحيد الذي يضمن لنا الفوز هو أن نستقلَّ عن الخارج.»

واسمع قول النائب فون بسمارك-شونهاوْزِن ضدَّ التصويت العام منذ ثماني عشرة سنة: «لا يصلح رِطلٌ من اللحم البشريِّ والعظم البشري أن يكون قياسًا.» ويُجيب فينكِه عن ذلك بقوله «أرواح!»

والآن بتلك الخبطة يَشهر بسمارك الحرب على الألمان، والآن يقابل ذلك بالضحك، والآن أَيجرؤُ هذا الذي ساس بلاده سياسةً غير دستورية مدةَ أربع سنوات وبلا ميزانية ومثلَ الطغاة؛ أن يسخرَ بالألمان بعَرْض أمرٍ يُعَدُّ دليلَ خوفه على العموم؟ ولو أُعلنَت كلماتُ وليِّ العهد التي نطَق بها في تلك الايام لَهتف لها جميعُ الناس، وهي: «ويلعب بسمارك بأقدس الأمور لعبًا آثمًا، فلا ينبغي لوزير شديد الخصام مِثله أن يَحُلَّ المُعضلة الألمانية»، ولم يعلمْ وليُّ العهد أن بسمارك في مذكِّرته التي كتبها ببادن سنة ١٨٦٠ أوصى الملك بأن يجمع برلمانًا ألمانيًّا! ويكتب تريتشكه، ويُصفِّق له نصف ألمانية، قولَه: «كلَّا، ثم كلَّا، فلا ينبغي لتلك الفكرة التي يحملُها الألمانُ في صدورهم منذ سنوات كثيرة أن تَبرُز على مسرح السياسة العملية كالروح التي تُدعى وقت الخطر، ولا ينبغي لتلك الفكرة أن تظهر في الميدان قبل أن تُعدَّ إعدادًا ناضجًا في بروسية بنظامٍ وفيٍّ للدستور، ومستندٍ إلى عزْم الأمة الألمانية الثابت، وموجبٍ لابتهاج الرأي العامِّ الألمانيِّ! وما أشدَّ ما اعترى الشعبَ من الحيرة تجاه هذا الانقلاب المفاجئ في الحكومة البروسية!»

وهكذا تُبصر العاطفة الألمانية تطغو على العقل، والعقل يُشير بقبول ما كان يُطالَب به منذ زمن طويل، وفيما كان جميع خياليِّي الألمان يُبكِّتون فيقولون: «كلَّا، لا يجوز أن يُسار على ذلك الأسلوب.» كان بسمارك قاهرًا لنفوره من البرلمانات، سائرًا وراء العقل.

ولكن أُذُنَي ذلك اللَّاشِعْبيِّ لم يؤذهما ذلك بمقدار ما صدَر عن فِيَنَّة من دعوة إلى السِّلم؛ ففي ذلك الحقل أيضًا حدث تحوُّل مفاجئ نحو السِّلم، ومن ذلك الحقل يخرج اقتراحٌ داعٍ إلى نزْع السلاح من قِبَل الفريقين، ويَمرض بسمارك الذي أُصيب بتوتُّر الأعصاب عند سماع ذلك، فلا يستطيع أن يخاطب الملك في ذلك إلا كتابةً، وهنالك يُقرِّر فيكتور إمانويل أن يَبرُز في الميدان تحت رعاية نابليون الثالث، وتُجيب النمسة عن ذلك بإعلان النفير العامِّ وجمْعِ جميعِ جيشها، لا جمْعِ جيشٍ كافٍ لمواجهة إيطالية وحدها؛ وذلك لِما عَلِمَته منذ زمنٍ من وجود معاهدة سرِّيَّة، وتعود إلى بسمارك عافيتُه في الحال، ويُشير بإصبعه — متَّهِمًا — إلى أولئك «المخادعين» في فِيَنَّة، ويبدو الملك في المجلس الخاصِّ حازمًا أكثر مما في كلِّ وقتٍ، ولا يتطلب قفزُه أكثرَ من وَخْزه قليلًا.

ألتمس منكم — يا صاحب الجلالة — أن تتفضلوا فتثقوا بأن مما يخالف مشاعري، وهذا ما أقوله عن إيمان؛ أن أُحاول، مُلِحًّا، أيَّ تأثير في قراراتكم المُكرَّمة المطاعة حول مسائل الحرب والسِّلم، فأكتفي بترك الأمر إلى الله القادر حتى يُلهِم قلبَ جلالتكم إلى ما فيه سعادةُ الوطن، وذلك مع الدعاء لكم أكثرَ من تقديم نصيحة إليكم، وليس لي، مع ذلك، أن أكتم عن جلالتكم اعتقادي بأن خطْبَ الحرب يغدو أشدَّ خطرًا فيما بعد، وفي ثلاثة أشهر على ما يحتمل، وفي أحوال أقلَّ ملاءمة، إذا ما حافظنا على السِّلم في الساعة الراهنة، وما كانت السِّلم لتدوم بغير عَزْم الفريقين عليها، وإن رجلًا — كخادم جلالتكم المخلص — اطَّلع على باطن السياسة النمسوية مدة ستَّ عشرة سنةً لا يَشُكُّ في أنَّ عِداء فِيَنَّة لبروسية صار عاملَها السياسيَّ وحافزَها الرئيس، ولا يَلبث هذا الدافعُ أن يتجلَّى بأشدَّ مما هو عليه الآن عندما تُصبح الأحوالُ أكثرَ ملاءمةً لوزارة فِيَنَّة مما هي عليه الآن، وسيكون أهمُّ عمل تأتيه النمسة هو أن تُصهَر الأحوالُ بإيطالية وفرنسة في قالبٍ أعظمَ مناسبةً.

وهكذا تتوقف تعبئةُ الملك على تعبئة الدعاء والربِّ والإيمان، ويُصيب بسمارك المَحَزَّ، ويُذكِّر الملكَ بأيام أولموتز حين تخاصم هو وإياه منذ ستَّ عشرةَ سنة بسبب أولموتز، وتَرتعش يدُ الملك وِلْهِلْم عندما لاح له إذعانُه للمرة الثانية، ويكتب قولَه: «يمكنك أن تقول لمَانْتُوفِل، إنني أتنزَّلُ عن العرش من فَوري إذا ما هَمَس بروسيٌّ إليَّ بكلمة أُولموتز!»

وبعد لَأْي يأمر الملك بالتعبئة في أول شهر مايو على وجه لا يعني الحرب، وتغادر أُوغُوستا برلينَ محتجَّةً، ويُصرِّح وليُّ العهد، الذي هو ضابط من درجة عالية، بأنه لا مُسوِّغ لحربٍ يَقتل الأخُ فيها أخاه، فيُضحِي عليلًا على ما يحتمل، ويلوحُ إمكانُ ضياعِ سيليزية وولايةِ الرَّين، وتشتاطُ الملكة الأيِّم البافارية الأصل غيظًا، ويعارض الحربَ بعضُ قدماء الضباط الذين حدَّثَهم آباؤُهم عن معركة الأمم، والآن حين اتفق بسمارك والملك على الحرب تُبصرهما واقفَين وحدهما، والآن يقول الملك لقارئه: «أعرف أن جميعهم ضدِّي، ولكنني سأستلُّ سيفي على رأس جيشي مُفضِّلًا الهلاك على خضوع بروسية في هذه المرة!» والآن يقول بسمارك: «أعرف أنني ممقوتٌ على العموم، ولكن الحظَّ متقلبٌ تقلُّبَ رأي الناس، وأُجازف برأسي وألعب لُعبتي وإن أسفرتْ عن سَوقي إلى المشنقة، ولن تبقى بروسية ولا ألمانية كما كانتَا، ولا بدَّ لهما من سلوك تلك السبيل، وصولًا إلى ما يجبُ أن تكونَا عليه، ولا تجد سوى هذه السبيل.»

أجل، إنه يخاطر برأسه، ويترصَّدُه سفَّاحٌ، ويترقب خروجَ هذا الوزير البغيض من بيته حتى يغتالَه، وفي اليوم السابع من مايو يغادر بسمارك منزلَه للمرة الأولى منذ المرض الذي ألمَّ به قاصدًا الملِك، ويرجع إلى داره من زُقاقِ أونتِرْدِن لندن الأوسط (تحت الزَّيزَفون)، ويسمع إطلاقَ بضعة عياراتٍ نارية عليه من مكان غير بعيد، ويلتفت بعنفٍ فيرى شابًّا يكاد يُعيد محاولته وينقَضُّ بسمارك عليه بسرعة البرق ويُمسكه من مِعصمه بيده اليمنى ويُمسكه من رقبته بيده اليُسرى، ولكن الجاني إذ كان مزمعًا على القتل تناول المسدَّس بيده اليسرى من يده اليمنى وأطلق عيارَين ناريَّين آخرَين من كثَب؛ فأما العيار الأول فقد أخطأ هدفَه وأَصْلَى مِعطفه بفضل تجنُّبه المفاجئ، وأما العيارُ الآخر فيُخيَّل إليه أنه بلغ غايته، ويجمع بسمارك قواه بعد ثانيةِ ضعفٍ وهزِّ فِقارٍ فيداوم على إمساك الجاني من عُنُقِه حتى مَرَّ عابرُ سبيل وجنديَّان فقبضوا عليه، ويُبصِر بسمارك مع الحيرة أنه لا يشعُر بغير ألمٍ قليل فيسير ماشيًا إلى بيته حيث تنتظرُه حَنَّة وبعضُ الضيوف لتناول الطعام معًا.

ويدخل بسمارك غرفتَه من غير أن يراه أحد، ويفحص ثيابه قبل كلِّ شيءٍ، ويُرسل إلى الملك تقريرًا مختصرًا، ثم يدخل البهوَ ويُقبِّل جبينَ زوجه ويقول لها: «لا تجزعي، يا عزيزتي؛ فقد أطلق شخصٌ نارًا عليَّ فلم أُصَبْ بأذًى والحمد لله.» وحول المائدة يَقصُّ الخبر كما لو كان حادثَ قنْص، «وإني لِما كان من سابق عهدي بالصيد قلتُ في نفسي: لا بدَّ من أن أكون قد أُصِبتُ بالطلقتين الأخيرتين، وإنني قد هلكتُ بهما، ولكنني استطعتُ أن أسير إلى البيت ماشيًا، وفي البيت فحصتُ الأمرَ فوجدت ثقوبًا في مِعطفي وسُتْرتي وصُدْرتي وقميصي، ووجدت القذيفةَ قد زَلِقَت على ثيابي التحتانية الحريرية من غير أن تخدش الجلد، وشعرت بألم في ضِلعي نتيجةً للإصابة، ولكن هذا لم يلبث أن زال. ومما يقع في أثناء صيد الفرائس الكبرى أن تلتويَ إحدى الأضلاع التواءً ليِّنًا نتيجةً لصدَى صدمة الإصابة، ويُعرَف هذا بزوال الشَّعر من ذلك المكان، وأفترض انحناءَ ضلعي بمثل ذلك الفعل، ومن المحتمل أيضًا ألا يكون للطلقات جميعُ قُوَّتها لِما كان من استناد فوهة المسدَّس على مِعطفي رأسًا.»

يسرُد بسمارك هذه القصةَ بهدوء العالِم الطبيعيِّ، وذلك من غير أن يُفسِّر إنقاذَه لنفسه ببسالته الفائقة وبالوجه الذي هجم به على المعتدي، وبسمارك قد أمسك رقبة المعتدي بما فُطِر عليه من البأس فأمكنه في تلك الساعة أن يرفع قدَح راحِه برصانة، ولم يَلبث الملك أن حضر فعانق وزيره، ثم أظهر الأمراءُ مختلفَ العواطف، ثم تجمَّع جمهورٌ غيرُ قليلٍ أمام البيت، فخرج بسمارك وزوجُه إلى الشرفة، وبسمارك هو الذي كان أبغضَ رجل إلى الناس في جميع بروسية فلم يَهتف له جمهورٌ فيما مضى، وبسمارك لِما كان من إطلاقِ ديمقراطيٍّ النارَ عليه في هذا النهار فلم يُصِبه؛ حيَّاه الديمقراطيون، وبسمارك ينطق بكلمات قليلة ويهتف بحياة الملك، والجاني ينتحر في اليوم التالي بالسجن، والجاني يُسمَّى كوهين بلنْد، وهو يهوديٌّ من طلاب جامعة توبِنجِن، وهو نصف إنكليزي مولدًا فأراد أن يقتُل عدوَّ الشعب فيَحول دون شَهْر الحرب، ولا مِراء في أن بسمارك أسِفَ على أن الانتقام فاته.

ولو كانت بنية هذا الرجل من فولاذ، ولو كانت بنية هذا الرجل غيرَ مرنة كروحه، فخَرَّ صريعًا لأمكن اشتدادُ الكفاح بين بروسية والنمسة لزَمَن ولأمكنَ عدمُ اشتعال الحرب الألمانية؛ وذلك لأن هذه الحرب ليست حربَ شعب، ولا حربَ وزارة أيضًا، بل هي حربُ وزير قطَر الوزارةَ والملكَ والقادةَ وراءه، ولو أقعده المرض عن العمل في تلك الأسابيع «لأسفرَ هذا عن خسران البروسيين لمعركة كولين مرة ثانية»، كما قال رون.

وعند كودل أن بسمارك بعد محاولة قتله «شعَر بأنه وسيلةُ الله المختارةُ وإن لم يُصرِّح بذلك»، وكودِل هذا كان مراقبًا ثاقبًا فيرى الوزيرَ يومًا بعد يوم، فلا نشكُّ في شهادته، وبسمارك قد حاق به خطرٌ قاتل قُبيل حربه ووقتما كان لا يَعرف كيف تنتهي، وبسمارك قد نجَا من هذا الخطر بما يراه مُعجزًا، وتقف واقعيَّة بسمارك ذات حين، ويُخيَّل إليه أن يدَ الله تعمل.

١  الصئول: الذي يضرب الناس ويتطاول عليهم، وتُطلق هذه الكلمة على المؤنث أيضًا.
٢  الحريف: ذو الحرافة: وهي طعم يحرق اللسان والفم.
٣  ألوان جمهورية.
٤  إِفْيالْتُ: خائنٌ يونانيٌّ دلَّ الفُرس على مضيق تسالية المشهور فأدَّى ذلك إلى هلاك الملك ليُونِيداس ورجاله.
٥  Chiffre.
٦  السُّفتجة: هي أن تُعطيَ مالًا لرجل فيعطيك خطًّا يُمَكِّنك من استرداد ذلك المال من عميل في مكان آخر.
٧  الصور: البوق.
٨  انتزح عن دياره: ابتعد عنها.
٩  العُجَّة: طعامٌ يُتَّخذ من البيض والدقيق والسمن أو الزيت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤