الفصل الأول

«يكون الكونت بسمارك-شُونْهاوزِن شاكرًا للنائب، إذا ما تفضَّل فأتى لزيارته في الساعة التاسعة مساءً من كلِّ سبت بعد اليوم الرابع والعشرين من شهر أبريل وفي جميع دورة الريشتاغ.»

أُلقيتْ هذه الدعوةُ للمرة الأولى بعد افتتاح رَيْشتاغ شمال ألمانية، فأثارتْ بلبلةً بين ممثلي الشعب، ومِن هؤلاء مَن فرح بهذه البدعة، ومنهم مَن عارضها بشدة، ويقول سِيمْسون: «ومما لا ريب فيه أن علينا أن نَلبَس ثياب السهرة وأن نحافظ على مقتضى المقام.» ولم يُرِدْ بسمارك ثيابَ سهرةٍ ولا مقامًا بحكم الطبع، وكان بسمارك يهدف إلى إقامة ندوةٍ سياسيةٍ أسبوعيةٍ حيث «يُسوَّى في عشر دقائق، وفي زاوية من الردهة، ما يقتضي استيضاحًا في الريشتاغ.»

وبسمارك من ناحيته قد انقطع عن قبول الدعوات منذ زمن، وبسمارك من ناحيته صار لا يذهب إلى البلاط إلا نادرًا مفضِّلًا لُبْسَ سترة طويلة فلا تبدو ربطة قَبَّته١ تقريبًا، أو لُبسَ بِزَّةٍ مختلطة القِطَع موجبة لتبسُّم مولتكه، وهكذا ترى في نَرْوَزة٢ هذا الرجل المدلَّل المتهارِم وعُتُوِّ هذا الرجل المطلق ورغبته في أن يكون داعيًا لا مدعوًّا وفي ألا يَشكر لإنسان حوافزَ إلى استقبال أعدائه عن حسابٍ ودهاءٍ تحت سقفه في كلِّ أسبوع.

وفي أعوام الحروب عَدَّ بسمارك فيرشُوفَ ودُنكِرَ أشدَّ عداوةً له من نابليون الثالث وفرنسوا جوزيف، والآن حينما أخذ بسمارك يدخُلُ في العقد الثاني من سلطانه وهو عقدُ السِّلم؛ أبصر الريشتاغ يُؤلِّف جبهةً واحدة ضدَّهُ، وما كان من وقوف بسمارك وحدَه أمام المئات من الأعداء فقد قوَّى تحرُّقَه إلى الكفاح، وما كان بسمارك لِيَرضى بإغلاق دار أعدائه ووَضْعِ المفتاح في جيبه.

وقد أراد بسمارك معارضةً علنيَّةً، ولم يكن بالُ بسمارك ليهدأَ إلا إذا وجَد شيئًا يتذمَّر منه، ولو كان بسمارك عاهلًا مطلقًا لَبحثَ عن أسباب للاحتكاك، وسنرى بسمارك في السنين العشرين القادمة متضجِّرًا دومًا متذمِّرًا دومًا، وسنعرف أن حِسَّ الاحتكاك في بسمارك ينطوي على سرِّ الدوام في قُوَى هذا المناضل الحيوية، ومن شأن المنازعات الداخلية التي كانت تتجدَّد بلا انقطاع أن تُجدِّد عزْمَه على الخصام في الخارج.

وفي عدم مَلَال بسمارك من الكفاح أعمقُ تفسير لزلَّاته، وبسمارك لنموِّ كرهِه الناسَ مع السنين، وبسمارك لأنه لم يَسطعْ أن يتنزل عن شيء لبقاء خصمٍ أو ألمعيَّة عدوٍّ، وبسمارك لأنه رَغِب عن المفاوَضة بالتدريج، وبسمارك لأنه تدرَّجَ إلى الأمر والنهي، غابَ عن عينَيه ما طرَأ على روح العصر من تحوُّلٍ، فكان غافلًا عن أفكار الآخرين ورغائبهم وعن أفكار الطبقات الأخرى ورغائبها.

وفي الصِّلاتِ الخارجيةِ لم يُقدِّر بسمارك الخصمَ بأقلَّ مما هو عليه، فكان لا يَزُجُّ إلا بقوًى أعظمَ من قُوَى العدوِّ وبمدافعَ أثقلَ من مدافعه وبمحالفاتٍ أقوى من محالفاته، وفي الداخل يبدأُ بسمارك بمغامراتٍ خَطِرة في الوقت العتيد، وقد تمَّ الفوز لنظام بسمارك اللادستوريِّ فزاد بسمارك ازدراءً لقدماء خُصُومه وجُدُدِهم غيرَ عالمٍ أن هؤلاء الخصوم سيقهرونه في نهاية الأمر، وما كان من مدافع رون وبنادق مولتكه ونظام البروسيين المُطيعين فحمَل أوروبة على التجاوُز عن وضْع بسمارك القوة فوق الحقِّ، ثمَّ ينتقم منه قومُهُ لوضع القوة فوق الروح.

ويقذف بسمارك أخلاقَه في بلده، ويُوفَّق بسمارك لجَعْل الرَّيْشتاغ عدوًّا له بدلًا من أن يكون آلةً في يده، وينجحُ بسمارك في جَعْل الأحزاب تَنفِر منه بالتناوُب، حتى رسمه مصوِّرٌ معاصرٌ هزليٌّ مفترسًا أولادَه مثل كرونوس،٣وفي الشئون الوطنية يَعقد بسمارك — بواقعيته القاسية — محالفاتٍ ويَنقُض أخرى كما كان يراه ضروريًّا في الحين بعد الحين في الأمور الخارجية، وكلما مرَّ الزمن جعل بسمارك جميع طبقات المجتمع في شكٍّ منه ما انحرف في كلِّ خمس سنين، وعند كلِّ انتخاب، ضدَّ طبقة من طبقات الأمة.

وعلى ما كان من إثارة عبقرية بسمارك لإعجاب جميع أوروبة ومن تحوُّل هذا الإعجاب إلى إجلال؛ كانت سياستُهُ الاستبداديةُ في البلاد تَغيظُ الشعب فيَعجز هذا الشعب عن إدراك براعته في الأمور الخارجية، وبسمارك في الأمور الخارجية كان قادرًا على الجلوس وحده ليُلاعب الدول العظمى صامتًا غيرَ مسئول تجاه أحدٍ غيرِ الملك الشائب الذي كان يَقطره بسمارك وراءه، وبسمارك كان يرفض بعضَ ما يطلب الرَّيْشتاغ عن ضَغَن على هذا الزعيم أو ذلك الزعيم، كما كان الرَّيْشتاغ يأبى الخضوعَ أمام إرادته عن حقدٍ عليه، والرجلُ يمكنُه أن يكون طاغيةً أو برلمانيًّا، والرجل لا يمكنه أن يكون طاغيةً وبرلمانيًّا معًا.

وفي مساءِ كلِّ سبت تزدحم بممثلي الأمة رِداهُ منزل المستشار بسمارك ذات الرياش البعيد من حُسْن الذوق، وإلى هنالك يأتي بعضُ أعضاء المعارضة بفعل مَغْنَطَة خصمهم العظيم، وبانجذابهم إلى مائدته الفاخرة التي يُجهِّزها بأطيب طعام وشراب، وهو يُرحِّب بضيوفه بأدبٍ جمٍّ وتبجيلٍ مقصودٍ، وهو يَعرف زائريه شخصيًّا وإن لم يَذكُر أسماءهم دومًا، فيحفزه هذا إلى أن يقول إن عينَيه تعملان بضبط كبندقية عصرية وإنَّ ذاكرته هي من البُطء وعدم الدقة ما تشابه به بندقية زندية،٤ وإذا عَدَوتَ حسن السلام عند الوصول وجدتَ ارتفاع الكُلفة، ولا يُقدَّم أحدٌ إلى آخر هنالك، ويذهب مَن يريد إلى دنِّ٥ جِعَة ميونيخية فيفصِد فَوْدَه٦ فيأخذُ ما يَوَدُّ، ويَندرُ أن تأتيَ سيداتٌ فيُقيِّدْن حرية السَّهرة، فإذا ما حان منتصف الليل تكلَّم ربُّ البيت أمام عدد كبير من الناس عن أمور مضت ووضع خِططًا للمستقبل منتحلًا وضْعَ الراصد بين رفقاء راغبين في الارتفاع إلى مستواه.
وهنالك تراه جالسًا مُتكئًا على كرسيٍّ طويل ممسكًا غليونًا٧ ألمانيًّا طويلًا بيده اليمنى مُحاطًا بجبلٍ من الجرائد لا ينفصل عنه أبدًا، ويتفرَّس في بضع عشراتٍ من ضيوفه منتبهًا إلى خصومه منهم على الخصوص، وهو لا يحملُ سلاحًا ولو كان لابسًا بِزَّة عسكريَّة معتمدًا على وجود حرس صادق قريب منه، وترى بجانبه كلبَين دانيماركيَّين كبيرَين رقيبَين مستعدَّين للصراع شاعرَين بأنهما في الخدمة في تلك السهرات البرلمانية تجاه تلك الوجوه المائة، أو الأكثر من المائة، التي لا تنمُّ على حُسن العاطفة، ويكتب صديقٌ للأُسرة قائلًا: «إنه يأكل ويشرب كثيرًا في تلك الأحوال، فإذا ما أَحضر غليونه اتَّخذ وضْعَ شيخ جليل بين تلاميذه.»

ولأولئك الذين هم مجتمعون حوله رءوسٌ مختلفة ناشئة عن مصايرَ مختلفة، وهنالك رجلٌ أهيفُ نحيفٌ نشيط أحمرُ الوجه أسمرُ اللحية عالي الجبهة أصلع الجبين لامع العينين، ينمُّ ما في ملامحه من ودٍّ وما في مظهره من جدٍّ على إنسانيته، وينمُّ بعض أوضاعه وما في وجهه من ندبة كبيرة على أنه ضابطٌ شريفٌ، والواقع أنه جامعٌ لهذه الأمور الثلاثة، واسمُ هذا الشخص هو رودولف فون بِنِّيغْسِن، وهو من أحسن رجال دوره وأقدر رءوس عصره.

ورودولف هذا متحفظٌ شهمٌ نبيلٌ مخلص كرون، ورودولف هذا فطريٌّ متواضع وإن لم يَبخس مقدرته الخاصة، ورودولف هذا قد بُرئَ ليقود بلدًا بأسْره، وهو لِتردُّدِه في دخول الوزارة في الأوقات الحاسمة تراه يُخصِّص حياته لزعامة حزبٍ يُمثِّل فيه دور الوسيط المطبوع مُروِّجًا لهذا الحزب بما يُلقيه من خُطَبٍ نادرة جزيلة وبمواظبته على اللجان وبصِلاته الدائمة بزملائه الذين يُوفِّق بينهم في كلِّ وقت. والحزب نفسه هو حزب وسط، هو حزبُ الأحرار الوطنيُّ، وردولف يَشغل في هذا الحزب مكانًا بين أقصى طرفَيه.

وبسمارك يجد رودولف ليِّنًا إلى الغاية، وبسمارك يَنفر من قوة عاطفة رودولف وقلة حماسته، وبسمارك على حقٍّ في عدِّه رودولف ألمانيًّا خياليًّا أقدر على التفكير مما على العمل، ولا غروَ، فقد عزم رودولف على الجلوس بين الطلاب في غوتنجن للتعلُّم ابنًا للسبعين من عمره.

ورودولف هو ابن جنرال من سكسونية الدنيا، ورودولف هو ابن أسرة قديمة كآل بسمارك، والمستشار بسمارك يحمل له احترامًا لهذا السبب، ورودولف قد غادر وطنه هانوفر من أجل ألمانية ومن غير أن يُحبَّ بروسية، وبسمارك الذي ضمَّ هانوفر إلى بروسية يمكنُه أن يُدرك هذا، وبسمارك يدعو رودولف في الحين بعد الحين ﺑ «الصديق المكرَّم»، ويقود رودولف أُناسًا لا يُناضلونه بلا قيد عندما يرغبون عن اتِّباعه، ولا يَفقَهُ بسمارك أمرًا كهذا وينعت بسمارك بِنِّيغْسِن بالرجل الغبيِّ عند حدوث ذلك.

وترى بجانب بسمارك رجلًا أوعرَ من ذلك وأفتر، ويدل قَوامُه الطويل على ثبات عزمه، ويكون له بشَعْره الرماديِّ الأشعث طابعٌ معيَّن، وهذا الرجل العَبوس الأَنوف الصَّوَّال — كبسمارك — هو وِلْهِلْم فون كاردوف، وهو أصغرُ سنًّا من المستشار بسمارك، وهو إذا لم يَلبس نظَّارته بَدتْ عيناه العسليَّتان حادتَين ثاقبتَين كعينَي بسمارك. ونحن إذا ما نظرنا إلى ملامحه البرونزية أبصرنا لون أنفه الأبيض الضارب إلى زُرقة، فعلمنا أنه مصنوع؛ وذلك لفَقْده أنفَه الأصلي في مبارزة قام بها أيام كان طالبًا.

وقد وقَف نظرَ بسمارك مزاجُه واستعداده، وما فُطِرَ عليه من تصميم على أن يكون مستقلًّا فقد أنقذه من براثن بسمارك، وهو ببقائه مستقلًّا يمكنُه أن يظلَّ موائمًا لبسمارك مخلصًا لآل صديقه حينما يُوَلِّي الأشرافُ الآخرون وجوهَهم شطرَ الشمس الجديدة، وكان فكر كاردوف أكثر تنقُّلًا من أبناء طبقته فأخذ مكانه بين أحزاب اليمين، ويرغب كاردوف — غالبًا — في النزهة في الجوِّ الحرِّ مغامرًا، ويتعلق كاردوف بالمبادئ الاقتصادية السائدة لشرق الإلبة، فيبدو ذا تأثير في انتحال بسمارك لسياسة الحماية الجمركية.

وتُبصر يهوديًّا بين هؤلاء الألمان الأريستوقراطيين، فهذا اليهوديُّ نحيفٌ أسمرُ اللون مع قسَمات مستدقَّة، واسمُ هذا اليهوديِّ هو إدوارد لاسكِر، وهو لِدَةُ بِنِّيغْسِن، وهو كهذا الأخير قد تعلَّم الركوب والمسايفة حينما كان يعيش في مُلك الأسرة، ولما كان لاسكر صبيًّا درس التلمود في مدينة صغيرة ببوزن، ونقَل إلى العبرية نظْمًا كتاب «تقسيم الأرض» لشيلِّر، ولذا لا عجب إذا ما غدا من فوره منافسًا لبِنِّيغْسِن كمحامٍ بارعٍ ورجل حصيف وزعيم للحزب الجذريِّ،٨ وهو أفضل من بِنِّيغْسِن ناقدًا ومجادلًا وخطيبًا، وكان قيام دولةٍ دستورية مثَلَه الأعلى على حين كان بِنِّيغْسِن يميل بمثَلِه الأعلى إلى قيام دولةٍ وطنية، وكانت له ميولٌ اشتراكيةٌ، ولكنه لم يكن دون بِنِّيغْسِن وطنيةً، وكان إيجابيًّا في أهدافه، وكان رجلًا ذا مطالبَ قليلةٍ، وكان ذا مزاج استبداديٍّ، وكان مضادًّا لبسمارك لهذا السبب، وبسمارك هو الذي كان يُفضِّل أن يرى حوله أُناسًا سِمانًا ليِّنين على أن يرى حوله رجالًا نحافًا غيورين.

ورجلٌ من عِرْق لاسكِر وحزبه يستمع إليه مرتابًا مصفرًّا، وهذا الرجل هو لودفيغ بَانْبِرْجِر، وهو شيخٌ ضيق الصدر مدوَّر الكتف، ومَن ينظر إليه في هذه الأيام حين صار نحيفًا منهوكًا لا يُصدِّق أنه كان نشيطًا في سنة ١٨٤٨، أو أنه كان ذا قوًى بدنية، أو أنه استطاع أن يُمثِّل دورًا في الحياة العملية ولو كان صغيرًا، ولا بُدَّ من أن يكون قد أبدَى غيرتَه في حقل البيان وحده.

ولكن لودفيغ بانْبِرْجِر وإن كان مسلولًا دخَل صفوف الجذريِّين بحماسة، وهو لِما قام به من أفعال فيما مضى فَرَّ من بروسية مفكِّرًا في الذهاب إلى أمريكة، ثمَّ بقيَ بلندن في نهاية الأمر عائشًا عند أقرباء أغنياء، ويُعيَّن موظفًا ثانويًّا في مصرف لهؤلاء حينما كان في السادسة والعشرين من سِنِيه، ويغدو غنيًّا وينتقل إلى باريس وتُلقِي روحُهُ الجوَّالةُ مرساها في مدينة النور هذه حيث يفتنه الذكاءُ الفرنسيُّ والأسلوب الفرنسيُّ والتهكُّمُ الفرنسيُّ وحسان فرنسة، وفي باريس تُفتح له جميعُ الأبواب نصيرًا للفنون.

وهذا الرجل لِما كان من تمثيله دورًا فعَّالًا في الحياة؛ صار يعُدُّ الحياة مسرحًا لا يَظهرُ فيه إلا عندما يكون طيِّب المزاج، وهو إذ كان امرأً لا وطن له، وهو إذ كان ضيفًا مقبولًا لَدَى كلِّ حضارة؛ صار عارفًا باللغة الفرنسية تكلُّمًا وكتابةً كما يَعرف لغته الأصلية، ووجد لمواهبه المرنة في الملاحظة والاشتراك مجالًا ملائمًا في باريس. ويعود إلى ألمانية بعد الهدنة ويصبح من الأحرار الوطنيين، ويقف موقف الحياد تقريبًا ما دامت الحرب قائمة، ويكتب إلى مراسل صديق قولَه: «في باريس تتفتَّح زهرة الروائية الكاثوليكية، وفي فِرساي حيث المقرُّ الألمانيُّ العامُّ تتغلب جذريةُ طريفٍ، وتبدو باريسُ حِصْنَ الباستيل الذي فُتح عَنْوة، ويمثِّل فافِر وغنبتَّا مبدأ الشرعية، ويمثِّل وِلْهِلْم وبسمارك مبدأَ الثورة.»

ويُدعى إلى المقرِّ العامِّ مع كلِّ ما تقدم؛ وذلك لميل بسمارك إلى الإفادة من معرفته الكبيرة في أمر البنوك، ويخلو بانْبِرْجِر من الغرض فيصف بسمارك بقوله: «إنه مزيجٌ من الفارس ستيوارت والملازم البروسيِّ والشريف الألماني ودون كيشوت الإسباني.» والآن — كما في المستقبل — يَعترف بانْبِرْجِر بعظمة المستشار بسمارك وإن لم يسطعْ بسمارك أن يُطيقه.

وهنالك رجلٌ يَكرهه المستشار بسمارك أكثر من كُرهه لبَانْبِرْجِر، وهو رجلٌ شابٌّ ملتحٍ، وهو لا يزوره إلا نادرًا. ولنا أن نعتقد أن بسمارك لا ينام في هذه الليلة لأن الرجل أُوجِن ريشتِر واقفٌ خلف الآخرين قليلًا، ولأن بسمارك يحدِّق إليه من خلال نظارته اللامعة متقصِّيًا ناقدًا، وريشتر يتصف بالصحة والفَتاء وحُبِّ النضال فيَقِف نظرَ بسمارك الشائب ويُثير غيرته.

ولريشتر وقوفٌ صادقٌ بالأمور، وريشتر نزيهٌ، وريشتر يلزم مبادئه بلا هوادة، وريشتر هو ضحيةُ بسمارك في سنواتِ الصدام. وريشتر يُعْزَل من منصب عميدِ الناحية ويُمنَع من الوظيفة ومن راتب شيخ البلد؛ لأنه كتب ينتقد تصرُّف الشرطة الاستبداديَّ، ويصير ريشتر صحافيًّا ويعارض لاسَّال لمفاوضة لاسَّال لبسمارك رأسًا، ويميل ريشتر إلى الشيوعية، ولا يريد ريشتر لنفسه شيئًا ولا يطالب بسلطان، بل يبغي تقدُّمَ القضية، ويرقب ريشتر بسمارك بعد سابق رقابته لاسَّال، ولا يَحُطُّ ريشتر من قدْرِ الشرفاء أكثر مما يَحُطُّ به قدْرَ صاحب المقام العظيم الشريف بسمارك؛ ولذا يغادر بسمارك البهوَ عندما يبدأُ ريشتر بالكلام.

ويقرأ بسمارك نقْدَ ريشتر في الصباح عند تناوُله طعام الإفطار، ويوجَّه هذا النقد مثلًا إلى أمرٍ خاصٍّ بالجيش معزَّز بالأرقام كاشفٍ لبعض الأمور، ويُهرَع بسمارك إلى الرَّيشتاغ ليرُدَّ الضربات فيقول: «إن من دواعي الأسف أن يعيش الهر ريشتر في البيوت وبين الجرائد فلا يَعرف عن الحياة العامة إلا قليلًا، ولا يعرف هذا الأوتوقراطيُّ من الحزب الديمقراطيِّ غيرَ المبالغات وبثِّ الأراجيف.» وهنالك يتَّخذ ريشتر وضْعَ المهاجم الهادئ فيقول: «وهل السيد مستشار الرَّيخ يَعرف؟»

ومن المحتمل أن كان المستشار الإمبراطوريُّ بسمارك يُبصر وراء ذلك الضيف ظِلَّيْ رجلَين آخرَين كطيفَين، كشبح بانكو٩ حول المائدة، ويُفضِّل ذانك الرجلان عدم المجيء إلى هنالك أبدًا؛ وذلك لأنه وإن لم يقَعْ معهما نقاشٌ يُشعَر بحقدٍ عميقٍ بين عالَمَين لا يُوَفَّق بينهما: «أنا» أو «أنت»، وأمَّا «نحن» فأمرٌ متعذرٌ، ويمكن أحدَ الخياليين وِلْهِلْم ليبكنخت أن يَعُدَّ من الأجداد ما يعدُّ بسمارك، وإذا ما صنَع هذا أوصَل سلسلة نسبه إلى رجلٍ أشبهَ ببسمارك مما بأجداد بسمارك الفرسان النهَّابين، إلى لوثر، كما يستطيع أن يُوصل نسَبَه إلى كثيرٍ من علماء ألمانية الذين وَرث عنهم أفكارًا وحُبًّا للبحث، وقضَى أُورفاند شبابًا شديدًا، وكان يمكن هذا الطَّموح أن يكون سَهْلَ العمل في وقت مبكر لو اقتفى آثار الآخرين من أبناء طبقته ووقف عند تقاليدهم! ولكن عَمْرَته١٠ تنطوي على نَحْلة فيريد الخير لجميع البشر لا لطبقته فقط؛ ولذا نُفِيَ في العشرين من عمره كشيوعي، وإليك زوريخ، وإليك باريس، وإليك سنة ١٨٤٨، وإليك فتنة بادِن، ويَرفع راية الجمهورية ابنًا للثانية والعشرين، وهو لم يَنْجُ من الموت رميًا بالرصاص مع شركائه في المؤامرة إلا مصادفةً، وقد حدث بعد سبعين سنةً أن قُتِلَ ابنُهُ؛ لأنه اشترك في تأسيس الجمهورية.

وأيُّ حياة يقضيها مثل هؤلاء الرجال! هم يرون أنفسهم أمام قُضاة معادين دومًا، هم يحيط بهم سجَّانون عاطلون من العاطفة، هم يُحشرون في حُجيرات ضيقة، هم لا يَعرفون الحريةَ في غير الخارج، هم يؤدُّون رسالتهم في وطنهم الذي يحبُّونه محبَّة الشرعيين له مع ذلك. ولا ريبَ في أن على أعصاب بسمارك أن تُعانيَ كثيرًا من الهموم في أربعين عام خصامٍ، وقد سمعنا الشيء الكثير عن حسرات هذا المهيمن الذي خُلِقَ ليسود.

وهو يغدو مع ذلك ذا رخاء في أحوال حياته المادية يومًا بعد يومٍ وعامًا بعد عامٍ، وهو يُصبح مع ذلك مالكًا لقصورٍ وغابات، وهو يستطيعُ مع ذلك أن يقيم مآدبَ فاخرةً مشتملة على ما يلائم شهوة طعامه، وترى الملك والشعب يُمْطِرانه بضروبِ الهدايا والإكرام، واسمع الآن ماذا قال ليبكنخت لقضاته بأَنَفة: «أراني فخورًا إذا ما بقيتُ حتى الآن فقيرًا بعد نجاحٍ لا مثيل له.» والحقُّ أن ليبكنخت عاد إلى ألمانية مُعسِرًا بعد نفي اثنتي عشرة سنةً، والحقُّ أن حياة ليبكنخت لم تُنَرْ بغير الروح، فلا مال عنده ولا سلطان، ولا يملك سوى الإيمان.

ولو حدث أن التقى الرجلان، بسمارك وليبكنخت، على طريق غابة بعيدة من غير أن يكونَا متعارفَين سابقًا لساد الاتفاقُ بينهما؛ فكلاهما محبُّ للشجر وكلاهما عالمٌ بالطير، وكلاهما مولعٌ بوطنه ألمانية، ولكن المثاليَّ لم يُعَتِّم أن وُصِم بأنه شغوبٌ،١١ ولكن الساخر لم يُعَتِّم أن عرَف المؤمن، ولكن الحاسب لم يُعَتِّم أن أبصر الحالم، وإذا كانت الطريقُ ضيقةً لم يَدَعْ أحدُهما الآخر يمرُّ، ولا أحد منهما يودُّ الرجوع إلى الوراء، ولا مناص من تضارُبِهما، فكلُّ واحد منهما مستبدٌّ.

وأوغوست بيبل أقلُّ من مستبدٍّ، ولا تجد في شجرة نسبه ثوريًّا ولا خيريًّا، وإذا نظرتَ إلى تُراثه أبصرْته طَيِّعًا، فهو قد وُلِدَ في حصن، وهو ابنٌ لملازمٍ ثانٍ، والنظامُ هو ما يجبُ أن يكون فارسًا له، ولا شيءَ غير التعطش إلى المعرفة يقود تلميذ الخرَّاط إلى جمعية تعليم العمال، وهو إذا ما صار هنالك ذات مرَّةٍ تمكَّن بذكائه النيِّر من إدراك السبب في سُوء وضْعه هو ومَن على شاكلته، والسخط يحلُّ عقدة لسانه، ويحرِّض الرفقاء ويصل إلى الرَّيشتاغ ويحاول متابعةَ أعماله، وبسمارك هو الذي يُعِدُّ له فرصة توسيع دراساته، فلما حُكِمَ عليه بالسجن في قلعة، وقد وُلِدَ في قلعة فلم يُرهبه ذلك، اجتمع بسجين آخر، اجتمع بليبكنخت الذي هو أكبر منه سنًّا، ومن هذا الرفيق تعَلَّمَ الأُسس النظرية للقضية التي جاهد في سبيلها بعاطفته فخَسِرَ حريته من أجلها، ويُقضَى على ليبكنخت وبيبل بالسجن سنتين، ويرى بيبل في هذه المدة ما يكفي لوقوفه على تعاليمِ كارل ماركس الذي تخرَّجَ عليه ليبكنخت في لندن.

ويظلُّ ابن الشعب عمليًّا جبلِّيًّا أكثر من سليل العلماء، ويكون ذكاؤه أعظمَ وأوضح، وتكون قُوَى النقد فيه أبسطَ وأقبل عند الشعب مما لدى صديقه الجديد الذي ظلَّ شديد الارتباط فيه على الدوام، وكلا الرجلين أخٌ في الإيمان، وكلا الرجلين أخٌ في التضحية، وكلا الرجلين أخٌ في مُجازفته بِحُريته وصحته، وفي الحين بعد الحين يألم بيبل الذي قضى أكثر من خمس سنوات في السجن من الأرَق نتيجةً لارتجاج أعصابه، ويقول بيبل: «إذا وقع ذلك فكَّرتُ في بسمارك الذي أَلِمَ أيضًا من الأرق ومن الأوجاع العصبية.»

والأشباح تزول، ويستأذن الضيوف ويصافحون صاحب المنزل وينصرفون، وينهض من كرسيٍّ ذي ذراعين رجلٌ قصيرُ القامة بعد أن لَبَد به في جميع السهرة، ويسير بخُطًا صغيرةٍ نحو المضيِّف، فيبدو قَزَمًا بجانب عملاق، ويمكن يَدَي العملاق أن تَرُضَّا يَدَي القَزَم، ويمكن يَدَي القَزَم أن تتغلَّبَا على يَدَي العملاق بقوًى سحرية، ويُحيِّي كلٌّ من الرجلين صاحبَه بوِداد بدلًا من ذلك، ولكن العملاق يتكلم وقت الفراق ليظفرَ بنبوءةٍ من القَزَم، واسمُ القزم هو فِينْدهُورْست، ويعلو جسمَه المثير للرحمة رأسٌ كبير، ويتَّصف بفمٍ عريضٍ لا يفتحه إلا نادرًا، ويرمق الخواء١٢ بعينَيه الشهباوَين١٣ الغائرتين ومن خلال نظَّارته الثخينة، وينظر بسمارك خافضًا ناظرَيه إلى هذا القَزَم المُدخِل يده اليمنى إلى صدْر معطفه الأسود، ويُبصر بسمارك نورَ الذكاء على ملامحه، فلما تكلم القزم مجيبًا كان ذلك بصوت ثابت غليظ إذا ما قيس بصوت بسمارك العالي الرقيق.

والقزمُ، لضعف بصره كان يُرهِف أذنَيه وذاكرتَه مضاعفًا، وفي الرَّيشتاغ يمكن القزم أن يعرف صوت كلِّ من يتكلم من فوق المنبر وأن يُضمِّنه ملاحظةً، والقزم إذا تكلم كان ذلك من رأسه وبلا مفكِّرة، فيُوفَّق لجعل الخصم محلَّ سُخرية في آخر الأمر لا ريب، وللقزم كلُّ الفائدة من كونه سليلَ سلسلةٍ طويلة من الفقهاء، وما كان من صِغَر جسمه وضَعْف باصرته الموروث فقد حفزه إلى تدريب ذهنه ليقوم مقام النقص في بدنه.

وهكذا، درَس الشابُّ فِينْدهُورْست مثابرًا في غُوتِنْجِن حيث كان يُنفق بضعة قروش ثمنًا لغدائه، وحيث كان معتدلًا إلى الغاية، وذلك حين كان الشابُّ بسمارك معتمدًا في ذلك المكان على قواه البدنية وعلى شجاعته مبذِّرًا مال أبيه المُعسِر، وقد نَشَأَ عن ذلك أن صار فِينْدهُورْست قاضيًا في محكمة الاستئناف العُليا في الثلاثين من عمره، وذلك حين كان بسمارك يحاول أن يؤثِّر في كونتسات بُومِيرانْيَة بلهوه ورُكُوبه الخيلَ، وما إلى ذلك من الأمور المؤدية إلى الكوارث.

ويروي أصدقاءُ فِينْدهُورْست أنه كان متديِّنًا مع تسامح، وأنه كان من المجون المقبول ما لا يُمثِّل معه دور رسول، وما كان لينقطع تنكيتُه الذي لا يَلبث في أثناء الجدال أن يشتدَّ فيتحول إلى هزوء حتى بما هو خاصٌّ به، وما كان يكفُّ عن السخرية من «جسمه الصغير» و«دمامته» ضاحكًا من هذين العيبَين.

وكان كَلِفًا بالموسيقى الخفيفة، وكان يُناكِدُ النساء منتحلًا مثل مزاح القِبَاح من مضحكي قديم الأيام، ولكن مع عطلٍ من مثل خُبْثهم التقليديِّ، ومظهرًا لضعفِ أمثاله إظهارًا صحيحًا مع عدم ازدراء لهم كما يصنع بسمارك، ومن المحتمل أن كان ذا كرامة كالمستشار، وكان يُعَدُّ مستبدًّا في الحزب السياسيِّ الذي يرأسه، وكان يميل إلى عدِّ نفسه رجلَ دولة، وكان مع ذلك رجلَ دولة أقلَّ منه برلمانيًّا ومحاميًا كما قال صديق له.

وكان ضِمْن هذه الحدود دربًا لا مثيل له، وكان يبدو لا بدنَ له تقريبًا، فلم يحتجْ لحماية بدنه إلى إقامة الدليل على شجاعته كبسمارك، فكان يلوح أنه ممثلٌ للسلطان الروحي، وكان يبالغ في الحذر فلم يكد يكتب رسائل، أو كان يَضرع إلى المرسَل إليه أن يمزِّقها حالًا، وهو لعدم لُبْسه مِسْحًا١٤ كان له الخلاص بتواضعه.

وكان يمكنُهُ أن يكون مكافحًا من غير احتياجٍ إلى حرارة رسول، وكان عليه في دورة اجتماع الرَّيشتاغ أن يقضيَ أيام الأحد في برلين، فيذهب في صباح كلِّ أحد إلى كنيسة القديس هدفيغ ثمَّ يزور بِلِيشْرُودِر، وإذا نظرتَ إلى الطريقة التي يقضي بها فارسُ الإيمان الدنيويِّ هذا يوم الراحة وجدتَها من طراز خاص، ولكن من غير محاولته اقتناصَ شيءٍ لنفسه.

وفِينْدهُورْست وحدَه هو الذي كان ذا أثر شخصي في بسمارك؛ ولذا لم يُشفَ هذا البطلُ المقهور من غلَبِه، قال بسمارك: «ليس الحقد أقلَّ دفعًا من الحبِّ في الحياة، فكلٌّ من الشخصين — زوجي وفِينْدهُورْست — ضروريٌّ لي.»

١  Collar.
٢  Nervosité.
٣  كرونوس: من آلهة قدماء اليونان.
٤  الزندي: نسبة إلى الزند، وهو العود الأعلى الذي يقتدح به النار.
٥  الدن: الراقود العظيم.
٦  الفود: جانبُ الرأس مما يلي الأذنين إلى الأمام.
٧  Pipe.
٨  Radical.
٩  بانكو: حاكم في عهد ملك اسكتلندة دنكن في القرن الحادي عشر، وقد ظلَّ مشاهدًا صامتًا لقتل مولاه من قبل مكبث … وقد جعل شكسبير من ذلك موضوعًا لرواية مكبث المشهورة.
١٠  العَمْرَة: كل شيء يُجعل على الرأس من تاجٍ وعمامةٍ وغيرهما.
١١  الشغوب: الذي يهيج بالشر.
١٢  الخواء: الفضاء بين شيئين.
١٣  الشهباء: مؤنث الأشهب، وهو ما فيه شهبة؛ أي بياضٌ يتخللُهُ سوادٌ.
١٤  المسح: ما يُلبس من نسيج الشعر على البدن تقشُّفًا وقهرًا للجسد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤