الفصل العاشر

كان قصر فِرِدْرِيكْسرُوه فندقًا قديمًا، وكان أصحابُ الثراء من أهل همبرغ الذاهبين يوم الأحد إلى ساشِنْفالد يأكلون وينامون في ذلك المكان الذي قضى بسمارك فيه كثيرًا من أيام مستشاريته ومعظمَ السنوات العشر الأخيرة من عمره، وبسمارك إذ ينتقل من شُونْهَاوْزِن إلى فارزين ومن فارزين إلى فرِدْرِيكْسرُوه، تغدو محالُّ إقامته غيرَ شبيهةٍ بقصر أو برج وإن تدرَّج مرتبةً من شريف إلى بارون فإلى أمير، ولِمَ لم يُرد أن يُقيم لنفسه منزلًا فخمًا في غابته الجديدة؟ ولِمَ لم يُصلح الفندق القديم الذي ظلَّ عدد غرفه أكثر من عدد أبوابه، ولِمَ لم يَمِلْ إلى إنفاق نقودٍ وبذل مجهودٍ في تجميل منزل آله وهو الفخور بآبائه؟ أجلْ، قد بِيعت كنيبهوف التي ما فتئَ يذكرها والتي ما انفكت تكون المكان الوحيد الذي أحبَّه، غير أنه يستطيع أن يطلبها إلى آله، ولم يزَلْ مالكًا لمسقط رأسه شُونْهاوزِن، ولم يكن ليعرفَ همبرغ عندما جاء ليستقرَّ بجوارها، وكانت فارزين قفرًا روائيَّةً مثل فِرِدْرِيكْسرُوه، وكان المسكنُ هنالك داكنًا من غير أن يكون سيِّئًا، وبين هذين المُلْكين كان يُوزِّع أضيافَه.

وكان بسمارك يَقصر حُبَّه الوطنيَّ على بُوميرانيَة، وقد امتدَّ شعورُه بالطبيعة إلى ما بعد هذه الولاية الشمالية، والغابةُ أينما كانت هي وطنه، والغابة عزيزةٌ عليه سواء أكانت في هنغارية أم في روسية أم في دانيماركة، ولم يُعَتِّم بسمارك أن صار وَلُوعًا بساشِنْفَالْد ولَعَه بالغابة المعروفة المحيطة بفارزين، وفي الغابة وحدها كان بسمارك يتحرَّر من سلطان غايات حياته، وبسمارك في شَيبته كما في شبابه كان يجد في الغابة ما يُرضي خيالَه ومناحيه الشعرية.

ومن قول بسمارك: «أحبُّ الأشجار؛ فالأشجار أجداد، ولولا حبِّي الجمُّ للأشجار ما عرفتُ كيف أَعيش، وما بهجةُ الطبيعة إلا هبةٌ من الآلهة لا يمكن المرء أن يظفر بها ما لم يُدركها، وأميل إلى عدم الثقة بمن لم يحبَّ الطبيعة، وإذَا ما هُيِّئَ لي أن أنام جيدًا حَلَمت بشجر الشُّوح١ المغروس حديثًا والذي يبدو في الربيع أخضر غضًّا مبلَّلًا بالندى، ثمَّ أُفيق منتعشًا نشيطًا، ويمكن الإنسان هنا في الغابة أن يطوف عدة ساعات راكبًا عربة وأن ينتقل بين مقعد ومقعد وأن يُسرِّح طرفه في النباتات الوارفة٢ بلا غمٍّ ولا سأمٍ.» وهذا لا يمنع من إعمال الفكر هنالك مع ذلك، فقد قال في وقت آخر: «إنني أتخذُ أهمَّ قراراتي حينما أكون في الغابة وحدي.»

وفي الغابات وحدها لا تجِد اللاإنسانية إلى نفس بسمارك سبيلًا، وفي الغابات قد يحتدم بسمارك عندما يرى اقتلاعَ شجرةٍ أو عندما يُبصِر في حدِّ غابةٍ حرَّاثًا يَلعن حُصُنَه ويضربهم غيرَ راحم، فهنالك يترجَّل ويجلده بسوطه، وهو يناقش حارس الغابة الأول سائلًا إياه عن كلِّ شجرة بمثل قوله: «ماذا تقول؟ ألا ترى رأس هذه الشجرة يابسًا؟ وأنا أيضًا لي جمجمةٌ يابسة!» وهو حينئذٍ يُريه صَلَع رأسه، ومن المحتمل أن كان أروعَ مناظر حياته أن يُرى مع أولاده في غابة فردْرِيكْسرُوه يُسقِط رءوس الشجر اليابسة بضربات البنادق تضليلًا للحارس، وهكذا تراه بهذه الوسيلة الملتوية يحمي أشجاره المفضلة من خدمه مع أن الجميع يرتعش تجاه أوامره، وبسمارك يُجيب عن سؤال ضيف جالسٍ حول مائدته بأنه لا يأكل من لحم طرائده وإن كان يسمح لضيوفه بالصيد في غابِه.

وبذلك لا تكاد تُبصِر روائيَّةً في مظهره، والتأمل في الجزئيات هو تأملٌ محبَّب لا غُبار عليه، وهو يقول إنه يضع نظَّارات في فردرِيكْسرُوه لوَقْفِ كلِّ شيء نظَرَه، مع أنه لا يجد في برلين أمرًا جالبًا لبصره، وفي الحقيقة أن النظَّاراتِ هنالك أقلُّ قوَّة وأن النفسَ هنالك أكثرُ تساهلًا، ويبلغ بسمارك السبعين من سِنِيه فيكتب إلى زوجه القطعة الرعائية الواقعية الآتية:
هنا جمال الحال، وإن كان نموُّ اللَّيْلَك هنا يتأخر ثلاثةَ أيام عما في برلين، وإن كان نموُّ البلُّوط هنا يتأخر ستة أيام عما في برلين، وهنا الزُّعرور ينمو نموَّ ما في برلين، ولا تُرى هنا عنادل،٣ وإنما يُرى ما لا يُحصيه عدٌّ من الصِّيقان٤ والزَّرازير وما إليها من العصافير، ويُسمع هنا ما لا نسمعه في برلين من الوَقْوَق، وقد سألتُ: إلى متى؟ فأرادوا مجاملتي فنطقوا بكلمة: اثني عشر يومًا، ولكن الغناء في اليومين الأخيرَين كان ضعيفًا! ومجرى الرَّحى منتظمُ الانحدار رائعُ المنظر، ويُفاد من الغدير الطبيعي، أي من مزيج الطين والماء، فيُدحَر بشيء من التكلفة فيكون هنا ماءٌ صافٍ كثيرٌ، والطاحون يسير، والمطر غزير، والجاوْدار في سِيلْك نحيفٌ، والشعيرُ فيها يحتاج إلى ماء من السماء أكثر مما نزل، والزارع يتذمَّر، وأحواضُ السمك الجديدة جيدةٌ، ولا يزال الغرسُ الحديث عميقًا كما في الماضي! وليمُنَّ الله عليكِ بالشفاء السريع!

والحقُّ أن بسمارك يغدو في الغاب عادلًا، ويُروَى في فارزين وجودُ صيادين فيما ليس لهم من أراضٍ فيُهرَع إلى هنالك هو وضيوفُه عن شبهة ليُرَى المشتبه فيه، ويلعن الطحان بغلظة، ويعودُ إلى المنزل فيستدعي رئيس حارسي الغاب، فيقول له رئيس الحراس هذا إنه ليس عند ذلك الطحَّان الشائب بندقيةٌ وإن ابنَه قُتل في الحرب، ويَهزُّ ذلك بسمارك ويصمت بسمارك هنيهة، ثمَّ يقول: «يمكن الغداء أن ينتظر، وتفضلوا بمرافقتي أيها السادة.» ويَصِل بسمارك إلى الرَّحى فلا يخرج الطحَّان الشائب لاستقباله، ويَنزل بسمارك من العربة ويدخل عليه هو وضيوفُه ويطلب منه أن يغفر له ما كان من اتهامه، أجل، إن بسمارك يجور على مرءوسيه في أثناء الخدمة، ولكن ذلك الحادث فريدٌ في بابه.

وبسمارك بدا ذا شعور رقيق تجاه شرف ذلك الشخص المسكين العاجز عن الدفاع عن نفسه، وما طلبه بسمارك هنالك من العفو فقد أثَّر في أولئك الشهود تأثيرًا عميقًا، وقد أراح ضميره في مثل تلك الحال، ولا ريب في أن بسمارك يَميلُ بعد اندفاعاته إلى تقليب الأمور مع تأنيبِ الضمير كبروتستاني، ومن الراجح أن كان بسمارك في لياليه يفكِّر فيما اجترحه من جَور تجاه وزراء الدولة وخَدَم المستشارية وحارسي الغاب والأمراء بأكثرَ مما يعتقده أيُّ واحد من ضحاياه هؤلاء وبأكثرَ مما يعترف به.

وهنالك عادةٌ حافظ عليها في مشيبه بفرِدْرِيكْسرُوه؛ وهي استقباله ضيوفَه استقبالًا رسميًّا لائقًا، ويَصِف وزراء الدولة وأشراف الناحية وزوج القسيس وأميرة فيمار استقبالَه لهم عند باب المنزل بأنه ممتاز نبيل، وبسمارك إذا ما صافح أحدًا خلَع قفَّازه، والضيوف إذا ما صاروا في غُرَف المنزل ذاتِ السقوف العالية والنوافذ العريضة المنخفضة قاسموا الأُسرة حياتها البعيدة من الكلفة، وهنالك — بين القِعاب٥ الغريبة الشكل ومنافض السغاير والنقوش البارزة والموائد القريب بعضها من بعض والمغطَّاة بالسُّمُط٦ ذواتِ المربَّعات — يمكنك أن ترتشف ما يطيب لك من ضروب المشروب، وإذا كان كلُّ شيء في البيت هادئًا كتب بسمارك إلى زوجه مثلَ قوله: «تقرأُ أَدِيلائيد ما تيسَّر من الإيطالية، ويكتب هربرت بجانبها، وتَقضَم تيراسُ عظمةً عظيمة ويَئزُّ إبريق الشاي.» ويعمل تيدمان أسابيعَ بأجمعها عند الأمير بسمارك هنالك، فلا يجدُ عند نزوله وقت الظهر على العموم غيرَ الأميرة التي «تنهض في تلك الساعة قريبًا»، ويظهر بسمارك حوالي الساعة الواحدة ويستمع إلى تقرير تيدمان في أثناء غدائه، وبعد الغداء عادةً يغادر بسمارك المنزل هو وابنُه أو ابنتُه راكبًا لساعتين أو ثلاث ساعات سائرًا بخَطْو أو عَدْو، ويكون تيدمان حاملًا مفكرةً مستعدًّا، وهكذا يتمُّ أهمُّ الأمور في أثناء تلك النُّزَه ولا سيَّما في نصف الساعة الأخيرة منها، وتُبَثُّ العيون في الجوار منذ محاولة قتل المستشار بسمارك الأخيرة، ولا ينقطع هؤلاء من تتبُّع خُطاه، ويضطرُّ بسمارك إلى احتمال ذلك مؤديًا بذلك إتاوةَ السلطة حتى في العزلة، ويكون العشاء في الساعة السادسة، «وتُقدَّم أربعة أطباق مع راح الشنبانية والخمر العادية ورحيق بورتو، ومما يَسرُّ بسمارك أن يُرى أمام طبق من قلوب الإوَزِّ وقوانصه وأكباده، ومن قول بسمارك ذات يوم إن من خصائص السَّراطين٧ الغريبة أن تبدوَ صغيرة كلما أُدير الطبق.» وإذا تمَّ تناوُل العشاء ذهب الجميعُ إلى رَدْهة الاستقبال الكبرى وتجمَّعوا حول الموقد حيث يُدير بسمارك النار بنفسه، «وهنالك يُقضَى أمتعُ ساعات اليوم، وهنالك يُفضي بأفكاره السريَّة، وهنالك يتكلم عن ماضيه بلا انقطاع، ويذهب إلى غرفةِ عمله في الساعة التاسعة، وفي هذا الحين يبدأ عملي اليوميُّ، ويجبُ انتهاءُ كلِّ شيء قبل منتصف الليل، وتُقدِّم الأميرة شايًا في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الثلاثين، ويجلس مع الأميرة ساعة واحدة بعد ذلك.»
وليس حديثُه عن مقتضيات المنصب وحده هو الذي يُكدِّر صفْوَ حياته في الغاب، بل يكدَّر ذلك الصفو بما هو واقع من زيادة نفقاته ونقْص دَخْله، ويتناول ببرلين ثمانية عشر ألف تالير راتبًا، ويقول إنه يحتاج في برلين إلى نفقة خمسين ألف تالير، ويألَم من زيادة النفقات التي اقتضتْها ألقابُه ومهوره، «وكان وضْعي حسنًا قبل أول مهر أخذتُه، ثمَّ التهمتْ فارزين كلَّ شيء، وإذا عدوْتَ راتبي ودَخْلي من شُونْهاوْزِن لم تجدْ لي مورد رزق، ويبقى كلُّ إيجارٍ هنا من غير أن يكفيَ، وسيُسوِّي المستقبل جميعَ ذلك لا ريب، ولا أدري أَيكونُ الدخل جميلًا، نعم إن المهر الجديد (فردرِيكْسرُوه) ذو قيمة كبيرة، ولكن مجموع ما دخل عليَّ منه حتى الآن هو خمسةٌ وثمانون ألف تالير، وقد اشتريتُ بهذا المبلغ أرضًا واقعةً ضمن تلك الأرض حيث يستطيعُ الإنسان أن يستقرَّ ما لم يُرِد العيش في خُصِّ٨ صيدٍ بوسط الغاب».

ويتذمر بسمارك لأخيه غير مرة من تَفَه الحصاد في فارزين تقريبًا، ومن أن الخشب في ساشِنْفالد لا يأتي بشيء ومن وجوب سفره الآن في ردهة مقطورة ومما عليه أن يُنفقه في رحلته هذه من مال يزيد على ما ينفقه في أية سياحة مضت، «وعليَّ أن أؤديَ بدل كلِّ شيء، وأن أعيِّن لهذا الغرض شخصًا أُنفق عليه عن سعة ما دمتُ قد شَقيت بكوني أميرًا، وكان يَسرُّني أن أفكِّر في صَير أولادي من أشراف الريف الموسرين، ولكنني لا أُحِبُّ أن أُبصرهم من الأمراء المعوِزين.»

ويُؤجر مصنع الورق في فارزين من مستصنع بثمانين ألف تالير مُسانهةً، ويؤجر مصنع بارود على ضفاف نهر الإلْبة باثني عشر ألف تاليرٍ مسانهةً، ويدخل عليه من فِرِدْريكسروه أربعة وثلاثون ألف تاليرٍ سنويًّا، ويقول: «ذلك دخلٌ جميل لو لم أكن أميرًا، ولن أتعود هذه الدعابة.» وتدخل حَنَّة وتشكو إلى زوجها المتبسِّم — وبحضرة زائر — بحْثَها منذ ساعة عن خطأ أحد عشر ماركًا وخمسين فِنِّيغًا٩ في دفتر حساب المنزل!
ويبلغ بسمارك السبعين من عمره، وتُجمَع نقود في أنحاء ألمانية لتكون هدية شكر له باطنًا، و«ليُنفقها في الشئون الوطنية» ظاهرًا، ويَدفع مئاتُ المئاتِ من أبناء المدن قروشَهم، ويدفع أُلوف الألوف من العمال فِنَّيغاتهم بتحريض وُهَنائهم١٠ فيصل المجموع إلى ٢٥٠٠٠٠٠ مارك، ويُبلَّغ إلى بسمارك قرارٌ رسميٌّ حثَّ بسماركُ على اتخاذه وقال الملك فيه: «إنه وُضِع من اليوم مبلغ ١٢٠٠٠٠٠ مارك تحت تصرُّفكم ليُنفَق في الشئون العامة، ويَسرُّني أن أفوِّض إليكم أن تتسلموا ذلك المبلغ مع ما يُجمَع من المبالغ بعد الآن، تاركًا لكم أمرَ إنبائي في الوقت المناسب عن نيَّاتكم في استعمال هذه الهبات: وِلْهِلْم.»

ويقع حديث بين اللجنة والمستحقِّ «بسمارك» فتشتري اللجنة بعض أملاك حول مركز شُونْهاوْزِن، ويُسلِّم الدوك راتيبور إليه في عيد ميلاده صَكَّ تملُّك تلك الأملاك «التي كانت خاصة بآل بسمارك فأضاعوها في غضون القرون».

ويُثير ذلك دهَشًا عامًّا، وإن كان بسمارك قد أنشأَ في شُونْهاوْزِن وقفًا على طلبة الوظائف العالية الجامعيين بمبلغ اﻟ ١٢٠٠٠٠٠ مارك الذي فُوِّض إليه تسلُّمُه كما هو مذكور آنفًا، ويُزعَم أن الأمة تُعيد إلى رئيسها مُلكَ أجداده، غيرَ أنَّ النظر إلى الأمر على هذا الوجه لا يُلاقي سوى أنصار قليلين؛ فالمركز موجودٌ هنالك دومًا، وإذا كان أجدادُه قد باعوا بعض الأراضي منذ زمن طويل فإنه يمكن الأميرَ بسمارك أن يبتاعها لو أراد ما دام قد قبَض مهرَين.

قال لوسيوس: «لم يَرتَح الجمهور لذلك التفسير؛ فهنالك أناسٌ كثيرون يَرَون أنه كان عليه أن يُنشئ وقْفًا خيريًّا.» بيدَ أن بسمارك يجد ما يسوِّغ به وضْعَه بمثال الإنكليز الذين يكافئون أبطالَهم القوميِّين بسخاء، وبسمارك ينسى أو لا يدري ما يُساور الجمهور الفقير من قنوط، والجمهور قد أسهمَ في جَمْع هديَّة الشكر تلك معتقدًا أنها تُخصَّص للقيام بعمل صالح يستطيع صُنْعه. أجل إن ما وجَّهه «أبناء العمِّ» من لَوم إليه بعد سنة ١٨٧٠ لم يَعْدُ حدَّ الافتراء، غيرَ أنَّ سَيره في الحال الأخيرة أساء إلى سمعته لا ريب.

الا إن تلك الساعةَ هي ساعة ضعْف في حياة بسمارك.

وبسمارك في عزلته الريفية يحاول دومًا أن يُهدِّئ أعصابه، ولكنه لا يوفَّق لهذا، ولكنَّ حالتَه تتفاقم لإفراطه في الأكل والشرب، ومما حدَث أن أوصاه طبيبُه بالحِمية، فروى لوسيوس أنه اكتفى بعد تناوُل الحساء بأكل سمكة نهرية مكتنزة وشَرْحة من عجل حنيذٍ١١ وثلاثٍ من بيض زُمَّجِ١٢ الماء مع شرب مقدار كبير من أنواع الخمر البورغوني، ويزعم بسمارك أنه لا يستطيع النوم إلا بعد أن يشرب كثيرًا من الجعة، ويأكل بسمارك ما يمكنه من الخِبْيَاري١٣ وما إليه من الأطعمة المعلَّلة بالتوابل جلبًا للظمأ، وقد اشتكى بسمارك ذات مرَّة من عُسْرِ هضمه وفُقدان شهوة طعامه وألَمِ أعصابه فذكر هُوهِنْلُوهِه الذي كان ضيفًا عنده أنه اشترك في الأكل كثير من الأطباق الآتية بالتعاقب، وهي الحساء والجِرِّي١٤ واللحم البارد والجمبري١٥ والسرطان البحريُّ واللحم المدخَّن وفخذ الخنزير المقدَّدة واللحم المشويُّ والمخلَّلات، وإذا ما قيل له إن هيئته تدلُّ على حُسن صحَّته أجاب عن هذا بقوله: «أودُّ أن أكون سيِّئ المنظر مع العافية، ومن سوء حظِّي ألَّا يعطف أحدٌ عليَّ! ويبلغ هذا من ضَغْط دماغي ما يُخيَّل إليَّ معه أنه مجموعة هُلام١٦ … والدم سائلٌ عجيبٌ، وأعجبُ منه أعصابُنا التي هي خيوط حيويَّة تلبِط المخلوقاتُ المسكينة عند طرفها.»
واستبدادُه أساسُ اضطرابه، واسمع قوله: «لقد حاولت تسيير أطبائي حتى الآن، وأخيرًا وجدت واحدًا منهم يُسيِّرني.» ويغدو في ذلك الحين؛ أي عند بلوغه الثامنة والستين من عمره، حادَّ الطبع محرِّكًا للعواطف، فقد صار يشكو من الصداع والشَّقيقة١٧ والأرَق والمغص وورم الساق وتمدُّد الأوردة، ويبلغ وزنُه ٢٤٧ رطلًا، ويذهب أطباؤُه إلى أنه مصابٌ بسرطانٍ في المعدة والكبد لا يُرجى له شفاء، ويفحصه في فارزين صديقُ بيل وطبيبُه إرنست شوينِنْجر فيسألُه أفرادُ الأُسرة عن رأيه فيقول: «إذا لم يُدارِ الأمير نفسَه هلك قبل ستة أشهر.» ويستفسر المريضُ منه بنفسه فيجيبُه قائلًا: «لا أستطيع النطق بالألفاظ الطنَّانة، ولا أستطيع معالجة مثل هذه الأمراض المزعومة.» ويؤثِّر هذا في بسمارك، ولم يكلمْه أحدٌ بمثل ذلك قبل الآن، فهذا هو الإنسان!
ثمَّ يبدو الطبيب في برلين قويًّا فيحمل المريض على اتباع نظامٍ خاصٍّ، وهو يجعل المستشار في الساعة الثامنة من كلِّ صباحٍ ينهضُ للتمرين الرياضيِّ بمقابضَ من حديد، وهو لا يدعُه يأكلُ في كلِّ يوم من غير الرنكة،١٨ ولمَّا صاح بسمارك قائلًا: «يظهر أنك مجنونٌ!» أجابه شوِينِنْجِر بقوله: «حسنًا يا صاحب السموِّ، والأحسن أن تَستدعيَ بَيطارًا!» وهنالك ينصرف شوِينِنْجِر، ويقصُّ شوِينِنْجِر هذه البداءة في الغالب، ويُضحي ذلك الرجل القويُّ قبضتَه بعد اليوم، ويُذعن بسمارك، ولا يغادر ذلك الطبيبُ منزلَ بسمارك مدةَ خمسة عشر يومًا، ويُعنَى ببسمارك ويرقُب أكلَه وشربَه ورُقاده ونهوضه وعمله ونومه، وتتحسن صحةُ المريض بعد أسبوعين تحسُّنًا ملحوظًا، ويترك شوِينِنْجِر المنزل للمرة الأولى، ولم يتمالك المريض أن أمر بإحضار «ثلاث قِطَع من القِشدة»١٩ فشعر بمغصٍ شديدٍ ثمَّ باليَرَقان،٢٠ ويذهب إلى فرِدْرِيكْسروه وهنالك يرقبه الطبيب رقابة وثيقة، حتى إنه لم يَكِلْه في كيسينْغِن ولا في غاستن إلى نفسه يومًا واحدًا، ويَنْقَه المريض بعد بضعة أشهر، ويرى أنه يعود إلى صباه إذا عاد إلى عمله العاديِّ.

ويُنقذ شوِينِنْجِر حياة بسمارك بهيمنته عليه لا بتركه يُهيمن عليه، ولو سار الألمان الآخرون في الحقول الأخرى على ذلك الدَّرب ما وجدوا قِيادَ المستشار أمرًا مستحيلًا على الدوام.

١  الشوحة: واحدة الشوح، وهي شجرةٌ تكونُ أغصانُها على هيئة مخروطة.
٢  ورف النبات: نضر واهتز واشتدت خضرته، فهو وارف.
٣  العنادل: جمع العندليب، وهو طائر صغير الجثة جميل الصوت.
٤  الصيقان: جميع الصيق، وهو العصفور.
٥  القعاب: جمع القِعب، وهو القدح الضخم الغليظ.
٦  السمط: جمع السماط، وهو ما يُبسط ليوضع عليه الطعام.
٧  السراطين: جمع السرطان، وهو حيوان يعيش في الماء ذو فكَّين يمشي على جنب واحد، والعامة تسميه السلطعون.
٨  الخص: البيت من قصب أو شجر.
٩  الفنيغ: أصغر نقد ألماني، وهو يقابل واحدًا من مائة من أجزاء المارك.
١٠  الوهين بلغة أهل مصر: رجل يكون مع الأجير في العمل يحثُّه عليه (التهذيب).
١١  الحنيذ: المشوي.
١٢  زمج الماء: طائرٌ يُسمى في مصر بالنورس، وهو أبيضُ يعلو في الجو ثمَّ يزج نفسه في الماء ويختلس السمك، ولا يقع على الجيف ولا يأكل غير السمك.
١٣  Caviar.
١٤  نوعٌ من السمك النهري الطويل المعروف بالحنكليس، ويدعونه في مصر ثعبان الماء، وليس له عَظْمٌ إلا عظم الرأس.
١٥  Prawns، ويسمى في سورية بالقريدس.
١٦  الهلام: مادة غروية.
١٧  الشقيقة: وجع يأخذ في نصف الرأس والوجه.
١٨  Hareng.
١٩  القشدة: الزبدة الرقيقة.
٢٠  اليَرَقان: مرضٌ معروفٌ يسبِّب اصفرار الجلد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤