الفصل الثالث عشر

أملَى بسمارك على ابنه الأسطر الآتية في أثناء استشفائه بكِيسِّنْغِن في خريف سنة ١٨٧٧، وهي: «قالتْ إحدى الصحف الفرنسية حديثًا إنني كنت كابوسَ المحالفات، وهنالك من الأسباب الوجيهة ما يجعل وزراءَ الدولة الألمانية يُعانون أمرَ هذا الكابوس لطويل زمنٍ وإلى الأبد على ما يحتمل، ويسهل على الدول الغربية أن تُؤلِّف محالفاتٍ ضدَّنا بتدخُّل النمسة، وأخطر من هذا أن تقع محالفةٌ بين روسية والنمسة وفرنسة، ومِن شأن كلِّ صداقة وثيقة بين اثنتين من هذه الدول الثلاث أن تُجهَز الدولة الثالثة منها بما تضغطنا به ضغطًا محسوسًا على الدوام.» ويَحفِز بسماركَ خوفُه من هذه الممكنات إلى التفكير في وضعٍ سياسيٍّ عامٍّ، «تحتاج به إلينا جميعُ الدول ما عدا فرنسة، ولا يساورُها به أيُّ مَيل إلى التحالف ضدَّنا نتيجةً لصِلاتها المتقابلة».

ذلك هو مبدؤه السياسيُّ الأساسيُّ مستشارًا للإمبراطورية الألمانية، وذلك المبدأ هو نتيجةٌ للعوامل الثلاثية الآتية وهي: وضعُ ألمانية وحسدُ أوروبة وتصادمُ مصالح الدولة، وهنا يَبرز لاعبُ الشطرنج الواقعيُّ الأكبر بسمارك، ويعرف بسمارك أن يَمِيز الضروريَّ من المشتهى، ولا يريد بسمارك أن يضمَّ قريةً واحدة عن كرامة، ولا يرى بسمارك أن يُعرِّض سلامةَ وطنه للخطر رغبةً في السيادة العالمية، ولا ينفكُّ بسمارك يفكر في إمكان تألُّب الدول العظمى على ألمانية، فلا يألو جُهدًا في منعِ ائتلافِ الرُّوسِ وإنكلترة الطَّمُوح، وفي منْع ائتلاف فلَّاحي النمسة وفرنسة الطَّمُوح.

ولا يثقُ به أحدٌ في العالم الخارجي، وتجد إجماعًا في رسائل ملكة إنكلترة وتقارير سياسيِّي روسية وخُطَب زعماء فرنسة على الحذَر من رغبة بسمارك في السِّلم، وقد تجمَّعَتْ تعابيرُ الخوف والحقد ضدَّ «الفاتح» والعالم ينظر إليه بهذه العين، أفلم يكن ذلك الرجلَ الذي قضى على السِّلم الأوروبيِّ ثلاثَ مراتٍ في سبع سنين بحروبه التي انتهت بالضمِّ؟ أفلم يُقِم تمثالًا عظيمًا في قلب أوروبة حيث كان تصدُّعُ الألمان في ثلاثة قرون يُزوِّد جميع الجيران بفُرَصِ ممارسة مِهَن الفساد؟ لقد تمَّ النصر له في الداخل ثمَّ في الخارج بالدم والحديد، فكيف يمكنُه أن يحفظ سلامةَ ذلك الكيان الذي أوجده بقوة السلاح على طريقة نابليون إذا لم يَقُم بفتوح جديدة؟ ويدعوه قومُه بالمستشار الحديدي!

وإدراكُ شعبه لطبيعته قليلٌ جدًّا، وقد أدَّى هذا إلى ذلك الخطأ الذي صار مُؤذِيًا لاسم ألمانية مع الزمن، فارجعِ البصر إلى خُلُقه وأحواله النفسية المعقَّدة تجدْ ما يكفي لإظهار ذلك الإجحاف، ومَن يبحثْ في برقياته ورسائله وأحاديثه يَكُنْ لديه من الأدلة ما يؤدِّي إلى حكم صحيح، ومن يُلْقِ نظرةً عامة على عهد مستشاريته الذي دام عشرين سنةً يُبصِرْ صِدْقَ هذا الرأي، ويكتب في مشيبه مذكِّراتِه فيسأل عن إمكان قيام الوحدة الألمانية بغير تلك الحروب الثلاث، فلما دوَّن فيها حوادثَ سنة ١٨٤٩ لم يجادلْ في ذلك الإمكان، والذي لا مراءَ فيه هو أنه لم يَقُم بتلك الحروب وصولًا إلى فتوح، وأن هذه الفتوحَ لم تكن غيرَ نتائج لِما تمَّ فيها من انتصارات، وما أشبهه بالذي دَلَّلهُ الحظُّ فوجَد في طريق طموحه نساءً فضمَّهُنَّ إليه لملاءمتهنَّ ذَوْقَه!

ولم يَقُم بسمارك بحرب فتحٍ قط، وبسمارك لم يذهب إلى الحرب للمرة الأولى ضمًّا لشِلِيسْوِيغ، بل ذهب إليها تحويلًا للريح القومية إلى بروسية، وبسمارك لم يذهب إلى الحرب في المرة الثانية ضمًّا لهانوفِر وهِس، بل ذهب إليها إخراجًا للنمسة منهما، وبسمارك لم يذهب إلى الحرب للمرة الثالثة ضمًّا للألزاس، بل درءًا لإنذار فرنسة، ولكن بسمارك بعد ثلاثة انتصاراتٍ جاوزتْ حدودَ آماله سرعةً واتِّساعًا وقَف أمام الخريطة وأخذ ما عرضه الطالع عليه.

وكان بسمارك معلِّمًا عظيمًا، فلا يرى أن يشُدَّ الوتَرَ كثيرًا، نعم إنه لا يرمي بالسهم إلى مسافة قصيرة جدًّا، ولكنه لا يرمي به إلى مسافة طويلة جدًّا، فلم يُخطئْ بسمارك في المسافة حول الأمور الخارجية قط، وقد حاولنا أن نُوضِحَ سبب عطله من حُسْن تقدير المسافة في الأمور الداخلية، وهذا ما فكَّر فيه، فقد قال في سنة ١٨٦٦: «أرى المسائل الخارجية غايةً بنفسها، وهي لهذا السبب أهمُّ من كلِّ شيء في العالم.» ومن حُسن حظِّ بسمارك أن كان يَجِد الحروبَ حاضرةً عند احتياجه إليها، غير أنه لم يُسئ استعمال تفوُّقِه في أية مرةٍ بلوغًا لفتوح، وبسمارك قد صان السِّلم في أوروبة مدة عشرين سنة، وإذا ما وجَد الأعقابُ انتقاصَ بعض مزاياه لم يَسعْهم سوى الإقرار بأنه حفظ السِّلم في أوروبة مدة عشرين سنة.

وإذا كان بسمارك قد حَفِظ السِّلم في أوروبة مدة عشرين سنةً فإنه لم يفعلْ هذا لأسبابٍ إنسانية، أو لأنه خاف أن يخسر سُمْعتَه، وإنما صنع هذا معتقدًا أن أوروبة عادتْ لا تَقنع بتمثيلها دورَ المُحايد المشاهد، متوقِّعًا قيامَ محالفات ضدَّ ألمانية، مُبصِرًا وقوعَ محالفات دَفَعه خطرُها إلى رغبته في العدول نظريًّا عن ضمِّ الألزاس سنة ١٨٦٩، وما كان من الطريق التي سلكها بسمارك، توًّا أو التواءً، تجاه فرنسة بعد سنة ١٨٧١ فيدفع إلى التفكير في وضْعِه السياسيِّ بنِقُولْسبُرْغ بعد ما كان من غموضه بفِرساي، قال بسمارك: «إننا نحتاج إلى ترك فرنسة إيانا هادئين، فإذا لم تودَّ فرنسة مسالَمةً لنا وجَب علينا أن نَحُول دون وجود حلفاءَ لها، ولا تكون فرنسة خطرةً علينا ما خلَتْ من حلفاءَ، ولا خطر على ممالك أوروبة العظمى من بلدٍ جمهوريٍّ عند تضافرها، ومن الصعب على كلِّ جمهورية فرنسية أن تجد لها حلفاء ملكيين ضدَّنا.»

وهنا يُحدِّثنا بسمارك عن السبب في وجوب مَنْعِه قيامَ محالفاتٍ ضدَّ ألمانية، وعن السبب في وجوب سَعْيه إلى قيام محالفات تكون ألمانية عضوًا فيها، وبسمارك أراد فيما بين سنة ١٨٥٠ وسنة ١٨٧٠ أن تظلَّ بروسية على حِدَتها، وبسمارك أراد ذلك حتى يُشترَى عَونُها بثمنٍ عالٍ في الأزمات الكبيرة، وبسمارك يَنشُد الآن عقدَ محالفاتٍ لألمانية القوية، وبسمارك كان ضعيفًا في الماضي فَودَّ البقاء منفردًا، واليوم غدَا بسمارك قويًّا فصار يبحث عن أصدقاء، وتبقى فكرتُه الأساسية هذه صحيحة حتى بعد انقضاء عهده.

قال بسمارك: «إن من مصلحتنا حفْظَ السِّلم، مع أن لجيراننا في القارة من الرغائب الخفية أو الرسمية ما لا يَقدرون على تحقيقه إلا حربًا، وقد أثار تحوُّلنا إلى دولة عظيمة من المخاوف ما يجب علينا أن نُبدِّده بما نُبديه من نفوذٍ سلميٍّ شريفٍ، ومن السهل على الإمبراطورية الألمانية أن تحترم حقوقَ الدول الأخرى؛ وذلك لما فُطر عليه الخُلق الألمانيُّ من واقعيةٍ من ناحية، ولما لا نحتاج إليه من توسيع رقعة البلاد، ولما نراه من عدم استطاعتنا الوصولَ إلى مثل هذا التوسيع بغير تقوية عناصر بلادنا المنحرفة عن المركز، من ناحية أخرى.

وقد قام مثَلِي الأعلى في كلِّ حين على ضرورة اكتساب ثقة الدول العظمى بعد أن تمَّت الوحدة ضمن الحدود التي بلغناها، وعلى وجوب جَعْل السياسة الألمانية سلميَّةً عادلة بعد إزالة جَورِ الزمن ورأْبِ صَدْع أمتنا، وإني حين أُنعِم النظر في المنازعات الدولية التي لا تُسوَّى بغير الحرب لا أَعُدُّ هذه المنازعاتِ مسائلَ شرَف كالمبارزات التي تقع بين الطلَّاب.»

ويروي تيدمان أن بسمارك بعد سنة ١٨٧٠ صرَّح غير مرةٍ بأنه أوروبيٌّ قبل كلِّ شيءٍ، ومَن ينظرْ إلى الخطوط العريضة في سياسته الخارجية يُبصِرْ أنه أوروبيٌّ فعلًا؛ فهو لم يَبرُز قوميًّا قط، وهو لم يعتقد قط، وهو لم يزعم قط أنَّ شعبه هو الشعب المختار، وهو «كان مجردًا من الوطنية المبتذلة العاميَّة»، وهو قال لأحد الوفود: «لقد عددتُ أهل الألزاس دومًا خيارَ الأمة الفرنسية؛ فهم أصلحُ الجنود، وهم جامعون لمزايا كلتا الأُمَّتين، ولو كنتُ قادرًا على تزويج الفرنسيات بأحسن الألمان لأخرجتُ عِرقًا رائعًا من الآدميين.»

ووَدَّ بسمارك أن يُبديَ لتِيَار أطيبَ تمنياته في عيد ميلاده، فسأل هذا القطبَ الفرنسيَّ بواسطة السفير قبل فِعل ذلك عن إمكان تقليل حُظوته الشعبية بسبب رسالةٍ كتلك يُرسلها إليه بسمارك، ويموت تيار فيطلب بسمارك من أصدقائه أن يشربوا نَخْبَ ذكراه، وكان يمكن بسمارك أن يضرب فرنسة مرةً أخرى في سنة ١٨٧٥؛ وذلك لِما كان من استعداد فرنسة الحربيِّ في ذلك الحين ولِما كان من الهتاف لحرب الانتقام عبرَ الحدود.

ولكن بسمارك داسَ الشَّرر الذي يُنذِر بنار الحرب قائلًا: «إن من المكروه أن تُهاجَم فرنسة منعًا لها من أن تتنفس مرةً أخرى، وهجومٌ كهذا يكون ذريعةً صالحة تتمسك بها إنكلترة لرفْع عقيرتها انتصارًا للإنسانية، وهجومٌ كهذا يؤدي إلى انتقال روسية من سياسة صداقة بين العاهلَين إلى سياسة مصالح الدولة، ودليلُ ذلك هو ما أُبديَ من رِيَب على ضِفاف نهر النيفا في تَرْك الأمور تسير إلى أبعدَ مما وقع بلا تدخُّل».

وفي ربيع سنة ١٨٧٥ كان يلوح حِصار ألمانية بحِلْف كالذي حدث سنة ١٩١٥ أمرًا منتظرًا، وكانت الذريعةُ في مكافحة الكنيسة، وقد تبنَّى فرنسوا جوزيف وفيكتور إمانويل وليو بولد الثاني قضيةَ الكاثوليك الرُّومان، ومدَّ غُورشاكُوف عينَيه إلى البلقان فمالَ إلى التفاهُم مع فرنسة، حتى إن إنكلترة استعدَّت لمصادقة روسية عن سوءِ مزاجٍ تجاه ألمانية، وهكذا كان الخطرُ يَحُفُّ بنظام بسمارك، وهكذا يواجه بسمارك هزيمةً دِبْلُمِيَّة للمرة الأولى، وماذا يصنع؟ إن أولَ عمل أتاه هو جعلُه جميعَ المطاحن تدور بمقالة عنوانها: «هل الحرب قريبةُ الوقوع؟»

ويتوجَّه الدِّبْلُمِيُّون في رومة ولندن وفي كلِّ مكان إلى مستشار روسية غورشاكوف عن حقدٍ على بسمارك، ويتخلَّى هذا المستشارُ لإنكلترة عن بُقعة صغيرة في البلقان، ويذهب هذا المستشار مع القيصر إلى برلين حلًّا للأزمة أو تعقيدًا لها، ويستقبل بسمارك غُورشاكُوف استقبالًا سلميًّا ويُطلعه على آخر استقالة قدَّمها لمَرَضه، ولأنه أصبح غيرَ ضروريٍّ ما دام كلُّ أمرٍ هادئًا، ويتخذ بسمارك هذا الأسلوب تجاه القيصر فيُبدِي له أنه سعيدٌ لعدم الضرورة إلى امتشاق الحُسام.

وهكذا يَخدع المستشارَ الروسيَّ المغرورَ المكَّار الشائب تلميذُه بسمارك، وهكذا يتبخَّر آخرُ حظٍّ للمستشار الروسيِّ في عالَم الشهرة، وقد أراد المستشار الروسيُّ أن يُنقِذ ما بَقيَ له من السمعة فأرسل إلى ممثِّلِيه في جميع العواصم برقيةً غير رقميَّة قال فيها: «والآن أُنقذت السَّلْم» وقد صيغتْ هذه البرقيةُ على هذا الوجه لإعلان فوز غُورشاكُوف على بسمارك وأن روسية الأمَّ تغلبتْ على الجنون التوتونيِّ،١ ولحَمْلِ أوروبة على الاعتقاد بأن روسية وغُورشاكُوف أنقذَا مُحِبَّة السَّلم فرنسة من جشَع بسمارك الذي هو آفةُ أوروبة!

ويروي بسمارك مغاضبًا أنه ذكَر لذلك الروسيِّ بعضَ الحقائق الهائلة الخاصة بالوطن، ومن كتُب بسمارك إليه: «لا ينبغي لكم أن تَثِبوا على كَتفَي صديق من الخلف ولا أن تُراهنوا على حسابه بتذكرة سباق! وإذا أردتم اكتساب صيتٍ في باريس فلا يجوز لكم أن تنتهوا إلى ذلك بتعكير صَفْو علاقاتنا بروسية! وإذا أردتم صنعتُ قِطَعَ خمسةِ فرنكاتٍ مشتملةً على شِعار «غُورشَاكُوف يحمي فرنسة!» وإذا أردتم أقمنا في السفارة الألمانية بباريس دارَ تمثيل تُعْرَضون فيها على الجمهور الفرنسيِّ بذلك الشعار مع إظهاركم على شكل ملَك مُجنَّح حارس لابس ثيابًا بيضًا بادٍ بنورِ الأسهم النارية!» ولنا أن نُبصرَ عدمَ أخذ غُورشاكُوف بمثل ذلك التهكُّم، وإنما الذي لا ريب فيه هو أن هذا اللِّحاء تركَ أعمقَ أثرٍ في ذهن بسمارك فلم يُعَتِّم أن صار له من النتائج ما هو مهمٌّ في تاريخ العالم.

ولم يتمالك القيصرُ أن ذهب إلى زيارة بسمارك على غير ميعاد في الحقيقة، فبدأ الكلام بقوله: «دَعُوني أبدأْ قولي بأن أؤكِّد لكم أنه لم يساورْني اعتقادٌ بأن ألمانية تميلُ إلى إيقاد نار الحرب!» ويروي بسمارك أن القيصر قال له عن مستشار في حال أخرى: «دعوه يتمتَّع بُعجب المشيب!» وفي الظاهر يبدو بسمارك مغلوبًا دِبْلُمِيًّا على يد غُورشاكُوف، وترى بسمارك مع ذلك في وضعٍ استثنائيٍّ يظهر فيه ذا شعورٍ سياسيٍّ نقيٍّ، وما كان بسمارك لِيَنْسى تلك الساعة، والآن يمتنعُ بسمارك عن تكذيب خصمه الذي يُعلن في كلِّ مكان أنه محلٌّ لاستحسان القيصر، ولكن بسمارك يدخرُ الأمر في ذاكرته، فبسمارك الذي لم يَسطِع السكوتَ في مشيبه عن «جَور لم يُكفَّر» منذ خمسين سنة لا بدَّ من أن يرى الانتقامَ من أجل إهانةٍ وُجِّهتْ إليه في أَوْجِ سلطانه.

ولم تكد سنةٌ واحدة تمرُّ حتى طلب منه الروس أن يختار بين روسية أو النمسة؛ ففي صيف سنة ١٨٧٥، وبعد انقضاء الأزمة الأخيرة بوقت قصير جدًّا أسفرت الثورات الجديدة التي قام بها سكانُ البلقان ضدَّ الترك عن زيادة تحاسُد تَينك الإمبراطوريَّتَين، وغدا كلُّ ما يُعَدُّ منوطًا بالقرار الذي يتخذه بسمارك، وبسمارك بعد السَّلْم لم يلبثْ أن حاول عرقلةَ المتنافسين في البلقان بتأليف حلف الأباطرة الثلاثة، وبسمارك يقول لخُلَصائه: «لا أقصد التدخُّل لِما ينشأ عن ذلك من حرب أوروبية، وإذا ما أيَّدْت أحد الفريقين لم تنشَب فرنسة أن تنحاز إلى الفريق الآخر، وتَرَونني ممسكًا بالحيوانيْن القويَّيْن من طَوقَيهما فاصلًا بينهما لسببين: لكيلا يمزِّق كلٌّ منهما الآخر، ولكيلا يتَّحِدا على حسابنا.» وفي الرَّيشتاغ يجعل بسمارك ذلك الرأي الرائع مقبولًا بالكلمات الآتية: «أُعارض كلَّ تدخلٍ فعليٍّ من قِبل ألمانية في تلك المسائل ما دمتُ لا أرى وجهًا يجعلُني أفترض مَسَّها للمصالح الألمانية، وما دمتُ لا أرى مسَّ المصالح الألمانية بما يَعدِل المجازفة بما في الجنديِّ البوميرانيِّ الواحد من عِظام سليمة مع الرجاء بالصفح عن غِلظة التعبير.»

ولا أحدَ كبسمارك يعرف ما في تحالُف الأباطرة الثلاثة من عدم ثبات، وبسمارك كثيرُ الشكِّ في قدرته على المَسْك بطوقَي الحيوانَين فصلًا لأحدهما عن الآخر إلى الأبد، وكلُّ ما في ذلك التحالُف من وزنٍ أدبيٍّ هو تعاهد الأباطرة الثلاثة ضدَّ الجمهوريات والديمقراطيات وتفضيلُهم اصطبار بعضهم على بعض على أن يقهرهم من يكرهونه.

وفي هذا سرُّ ما كان من تأييد بسمارك في سنة ١٨٧٠ لفكرة الاتحاد الثلاثيِّ الشرقيِّ الذي سبق أن قُضيَ عليه في سنة ١٨٥٠، وتجد ما في قيصر روسية وإمبراطور النمسة من الأماني الأسريَّة حفظًا لسلامتهما أقوى من تنافُسهما وصولًا إلى الفتح، ولكنك لا تُبصر في تلك الأيام من طيفٍ لعدوٍّ مخيف يوجبُ تحويل تحالُفِهما إلى اتحاد مقدَّس كالذي قام في عهد آبائهما.

وفي ذلك التزاوج الثلاثيِّ تبدو ألمانية أحدثَ الأزواج الثلاثة فتتجاذبُه زوجتان أكبر منه سنًّا، وكلَا الزوجتين محرابٌ، فيصعبُ على الزوج أن يتصرف منصفًا تجاههما، ويقول بسمارك لهُوهِنْلُوهِه في ذلك الحين: «إذا ما بقينا محايدين في حرب تقع بين روسية والنمسة؛ لم يَعْفُ المغلوب منهما عنَّا قط، وإذا ما أُصيبت النمسة بهزيمة تامة لم يكن لنا من ذلك مغنمٌ، نعم نستطيعُ إذا ذاك أن نضمَّ النمسة لألمانية، ولكن ماذا نصنع بالصقالبة والمجر، ولا يسمحُ الرأي العامُّ لنا بمحاربة النمسة، وتكون روسية شديدةَ الخطر علينا إذا زالتْ النمسة، ولا نقدر على إحباط عمل روسية إلا بمساعدة النمسة.» وبسمارك وجد نفسه أمام تجربة خطرة بعد هذا التصريح بقليلِ زمنٍ.

أنبأ سفيرُ بسمارك في ربيع سنة ١٨٧٦ غُورشاكُوف بأن ضربته الرِّوائية ببرلين في السنة الماضية أسفرت عن «حَذَر وحَيَر» في ألمانية تجاه روسية، وأجاب غُورشاكُوف عن هذا بحماسة قائلًا إنَّ عدَّ بسمارك تلميذًا له كعدِّ رفائيل تلميذًا لبيروجينو، وفيما هو ينطق بمعسول الكلام على هذا الوجه تُبصره مستمرًّا على حَوْك الدسائس في ميدان السياسة ضدَّ بسمارك.

وهو إذ كان عارفًا بورطة خصْمِه لم يلبث أن نصَب له شَرَكًا؛ ففي خريف سنة ١٨٧٦ أرسل من ليفادية إلى برلين السؤالَ الآتي بواسطة الملحق العسكريِّ الألماني، وهو: هل تظلُّ ألمانية محايدةً عند وقوع حرب بين روسية والنمسة؟ وكان غُورشاكوف من الحِذْق السياسيِّ ما لا يَضَع معه مثلَ هذا السؤال القاسي من غير أن يكون قد حَسَب نتائجه الممكنة، ويأخذ بسمارك هذه البرقيةَ حينما كان في فارزين، ويسير في المرحلة الأولى عن مبادرة منه، فيأمر ديوانَ الخارجية مؤكِّدًا على خلاف عادته ﺑ «عدم الجواب عن مسألة سريَّة قائلًا إننا لا نعرف مقاصدَ غُورشاكوف بوضْع هذا السؤال ولا وجهَ فائدته منه، والسؤال وقحٌ، والسؤال في غير وقته، والسؤال دسيسةٌ حِيكت بخيوط بيض.» ثمَّ يقول غاضبًا: «إن الأمر يدور حول توقيعنا سُفتجةً على بياض لتملأها روسية وتقبضَ بدلها ولتستعمل ما تقبض ضدَّ النمسة وإنكلترة.»

وهنالك أيضًا يُدقِّق بسمارك في حساباته وفقَ جدول الأنساب العددية، وهو يعرف جيدًا غَرَض غورشاكوف من السؤال، وهو يعرف أن غورشاكوف يريد أن يعلَم: هل تُقسَّم النمسة؟ فإذا قال: «كلَّا» كان ذلك لِما يُبصره من تدَفُّق سلافيٍّ يَغمُر شرق أوروبة فيجعل ألمانية في وضْع التابع فما بعد، ويرى بسمارك أن الخيرَ كلَّ الخير في دعوة القيصر إلى الانتباه ما دامت سياسةُ بسمارك قائمةً منذ زمن طويل على جعْل كلٍّ من الدول الثلاث المتنافسة، روسية والنمسة وإنكلترة، في حالِ توتُّرٍ وفي طورٍ يُنشَد معه التأييد من ألمانية، والآن يريد منْعَ نشوب حربٍ عالمية بأن يوجِّه جيش الروس المستعدَّ للقتال إلى البلقان.

ويُضغَط بسمارك مرةً أخرى؛ حملًا له على الجواب القاطع، فيقول إنه، وإن كان لا يميز أحدَ الفريقين الصديقَين المتقاتلَين من الآخر يأسف كثيرًا إذا بلغ جَرْح أحدهما من الخطر ما يغدو به دولةً غير عظيمة.

والآن يستطيع غُورشاكوف أن يُقيمَ لمولاه دليلًا قاطعًا على أن بسمارك هو العقبة الكأداء دون تحقيق الروس لآمالهم في نَصْب الصليب فوق قُبَّة أياصوفية، ويقنعُ القيصر بذلك فيُقلِع عن فكرة مهاجمة فرنسوا جوزيف، وهو بدلًا من هذه المهاجمة يجتمع بأخيه الإمبراطور في رايشتاد، ويصل معه إلى اتفاق مؤقت حول البلقان فيَعِدُه بإعطائه البوسنة إذا ظلَّ محايدًا، وهكذا تتوجَّه الزوبعة المتوعِّدة إلى الجنوب الشرقي، فيزحف الروسُ إلى الآستانة؛ ليواجهوا الأسطولَ البريطانيَّ في الدردَنيل في ربيع سنة ١٨٧٧ وليُلاقوا مصاعب إضافية، وهنالك يشعرُ الروس بأن الدول لا تَدَعهم يَصِلون إلى القرن الذهبيِّ، فيكتفون بمعاهدة أياسْتفانوس موجبين «اختلالَ التوازن الدولي».

وقال غورشاكوف في جوابه إلى بسمارك: «ليست المسألة التي يُرى حلُّها ألمانيَّة ولا روسيَّة وإنما هي أوروبية.» ويكتب بسمارك على الهامش: «مَن يَقُلْ أوروبة يُخطئْ؛ فما هي أوروبة؟» ومنذ عشرِ سنواتٍ مضتْ، وحين بدَا سفيرُ إنكلترة متوعِّدًا، كان بسمارك قد استعمل تلك الكلماتِ الثلاثَ موَكِّدًا مع مَزْح، وبسمارك يقول: «يَلُوك رجال السياسة كلمة أوروبة عندما يطلبون من الدول شيئًا لا يجرءون على سؤاله باسمهم الخاص.» وبهذه الكلمة الصائبة في تلك الأيام يُجيب بسمارك عن عبارة غورشاكوف.

وفي سان بُطرسبرغ كان يوجد رجلٌ ذو آراء أوروبية وصاحبُ قلب يُلبِّي ما لا يعرفه الشيخ غُورشاكوف من مشاعر الإنسانية، وذلك أيام عقْدِ معاهدة أياسْتفانوس التي تقضي بطرد الترك من أوروبة وبتوسيع رقعة دولة بلغارية التابعة، وأيامَ شعور النمسة بأن روسية تُحيط بها إحاطة جزئية، وأيام تُظهر إنكلترة قلقَها، وأيام كان شبحُ حربٍ طاحنة أشدَّ من الأولى يلوح في الأفق، والرجل هو الكونت بطرس شُوالُوف، ويُهرَع شُوالُوف هذا إلى صديقه بسمارك ويرجو منه أن يتوسَّط، وكان بسمارك في فرِدْرِيكْسرُوه وكان مصابًا بالهَرَص٢ ووجعِ الأعصاب وشقيقة الوجه فلا يستطيع حتى حلْقَ ذقنه، ويقابل بسمارك شُوالُوف مع ذلك، ولكنه يرُدُّ طلبه.

وفي هذه المرة — كما هو الأمر قبل ضمِّ الألزاس واللورين — لم تَضِلَّ غريزة بسمارك السياسية، وبسمارك منذ بضعة أشهُر حينما عُرضت عليه اقتراحاتٌ شبهُ رسمية وصولًا إلى توسُّط ألمانية؛ رفض ذلك رفضًا باتًّا قائلًا: «لا نكادُ نعتقد أنَّ التوسُّط لدى دولة أخرى يتمُّ بغير ضَغْط روسية، ولكن ضغطًا كهذا لا يؤدِّي إلى إذعان روسية إلا بصعوبة عظيمة، ونحن لِما نُبصِر من اتساع الحدود بيننا وبين روسية؛ نرى صلاتِنا بهذه الإمبراطورية أهمَّ من جميع تركية بمراحل؛ ولذا لا نرى من الرأي إحداثَ كدَرٍ غيرِ مُجدٍ بقبول ذلك التوسُّط.» وليس عندنا دليلٌ مؤيِّدٌ للزعم القائل إن بسمارك في مشيبه وجَد هذا التدخُّل أعظمَ خطأٍ وقَع في غضون منصبه، وليس هذا الزعم صحيحًا — كما يظهر — وإنما الذي لا مراء فيه هو أن بسمارك رفض التدخُّل في بدءِ الأمر.

وما كان شُوالُوف ليَنثنيَ؛ ففي اليوم التالي أتتْ برقيةٌ من القيصر — كما طلب شُوالُوف لا ريب — التمس فيها القيصرُ إسكندر من بسمارك أن يتوسط قائلًا فيها إنه يَعُدُّ ذلك آيةً على إخلاصه، وماذا على بسمارك أن يصنع؟ وبسمارك منذ زمن قليلٍ كان قد كتب إلى سفيره ببطرسبرغ يقول له: «إن عاهلًا قريبًا منَّا كالقيصر إسكندر يجب أن يُعَدَّ من قِبَلكم ومن قِبَلي صاحب حقٍّ على الدوام، وذلك كما يُعترف لإحدى السيدات.»

وقد جعلتْ محاولة قتل الإمبراطور وِلْهِلْم أمرَ القانون اللاشتراكي ممكنًا، ويشعر بسمارك بأن وضْعَه الداخليَّ اشتدَّ، ومن المحتمل أن يكون قد أثَّر في بسمارك حِقدُه على غُورشاكوف فأبصر وجوبَ جلوسه تحت رئاسته إذا ما عُقِد مؤتمر، وبسمارك كما في فِرساي قال «نعم» حيث كان قد قال «لا» مخالفًا بذلك إحدى صفاته البارزة، ويُعمِل بسمارك ذهْنَه، فيُملي على ابنه في خمس وعشرين دقيقة برنامجَ مؤتمر برلين.

ويخاطب بسمارك الرأيَ العامَّ بقوله: «سنمثِّل دور السمسار الشريف»، ويقرأ بِلِيشْرُودِر هذا فيهزُّ رأسه مرتابًا ويقول عن حُنكةٍ: «لا وجودَ لسمسار شريف».

١  التوتوني: الألماني.
٢  الهرص: الحصف الذي يخرج بالبدن من الحرِّ، والحصف هو الجربُ اليابسُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤