الفصل الرابع عشر

في ١٣ من يوليو سنة ١٨٧٠ تناول بسمارك برقية إمس، وفي ١٣ من يوليو سنة ١٨٧٤ جُرِح بعيارٍ ناريٍّ أطلقه عليه كولمان، وفي ١٣ من يونيو سنة ١٨٧٨ يفتتح مؤتمر برلين، وفي ١٣ من يوليو سنة ١٨٧٨ يوقِّع بسمارك معاهدة برلين التي هي وليدة ذلك المؤتمر، ويجلب الرقم ١٣ — وهو الرقم الذي يتطيِّر به تطيُّره من يوم الجمعة — حُسنَ الحظ إليه مرتين من خلال الشرِّ، والمسألة هي أن يعرف هل تكون نتيجة ذلك المؤتمر الذي بُدِئَ وخُتِم بتاريخين مشئومين شؤمًا عليه مع أنه تُوِّج بنجاح ساطع، وإذا نُظِر إلى المظهر لم يُرَ بسمارك في أيِّ دورٍ من أدوار منصبه أبهرَ فلاحًا مما في ذلك الدور حين كان ينهض في قاعة قصره الرسميِّ المقبَّبة ومن مركز المائدة العظيمة المصنوعة على شكل نعل الفرس ليُحيِّيَ — وهو رئيس لأوروبة — سياسيِّي الدول العظمى، وأمرٌ مثلُ هذا مما لم يحدُث منذ عشرات السنين، وكان بسمارك يكتسب بلحيته البيضاء الكبيرة منظرًا أبويًّا، غيرَ أن أحوالًا كثيرة كمرضه واضطرارِه إلى القيام بشئون الرئاسة بلُغة أجنبية وحمله عبء جميع العمل كانت تُزعجه بعض الإزعاج، وإن كان قد افتتح المؤتمر مع قليلٍ ضيق و«عدم عطلٍ من نَرْوزة».١
ويجلس حول تلك المائدة المصنوعة على شكل نعلِ الفرس عشرون سياسيًّا مشهورًا من سبع أُمم مختلفة، والملكيَّة عن يمين بسمارك، أفلا تُبصِر هنالك ثوريًّا يمثِّل دور قائد الهُونفِد؟٢ ترى ملامحَه النحيفة الضيقة على شيء من التخالُف، وتراه ذا أنف كبير وأذنين عظيمتَين وفمٍ حسَّاسٍ ولحية صغيرة، وينمُّ منظرُه على النفور وعدم التقيُّد بالرسميات، فهذا هو الكونت أندراسي السريع الفَهْم والبطيء العزم، وبجانب الكونت أندراسي يجلس الكونت كاروليه؛ أي سفير النمسة الدائم ببرلين، والذي لم تُقْصِه محاربةُ النمسة عنها سوى بضعة أسابيع، والبارون هايمرل هو العضوُ الثالث في الوفد النمسويِّ المجريِّ، وهو الذي تشاهد فيه كلَّ شيءٍ حادًّا من أنفِه إلى رأس قلمه الرصاصيِّ الذي يُقيِّد به ملاحظاتِه.

والرجلُ الجالسُ عن شمال بسمارك هو ودينغتن الذي ينمُّ بسيماه على إنكلترة القديمة المرحة، والذي هو سهل مقبول، والذي هو رئيس للوفد الفرنسي وإن كان إنكليزيًّا بالاسم والأصل، والذي هو عالمٌ أثريٌّ أكثر من أن يكون وزيرًا للخارجية، وأما الجالس بجانبه فهو الكونت سان فاليه الدائم الحركة والكثير التبرُّم والسفير لفرنسة ببرلين، والذي هو أكثر تمثيلًا لأمته، وأما العضو الفرنسيُّ الثالث فهو ديسبرز الذي يدلُّ مظهرُه الذهنيُّ على أنه بلاطيٌّ إكليريكيٌّ.

وماذا يصنع الشرق الأقصى هنالك؟ أحقًّا أن ذلك الرجل الصغير الذي يدلُّ منظرُه على المكر هو يابانيٌّ؟ كلَّا، وإنما هو الكونت كورتي الذي يمثِّل إيطالية بذكاءٍ أكثر مما يُبديه جارُه الكونت لوني، وبالقرب منه يجلس عسكريٌّ ألمانيٌّ مرتزقٌ أزرقُ العينين لابسٌ طربوشًا، ويلوح كلُّ شيء حول تلك المائدة مقلوبًا رأسًا على عقب، ويدلُّنا كلُّ شيء حول المائدة على سخافة أيِّ حديثٍ عن الشعوب والعروق، وذلك التوتونيُّ المليح هو الفريق الأول علي باشا وإن كان يحمل في صباه بِمَغدبُرْغ اسمًا آخر، وإن كان في مَغدبُرْغ نوتيًّا فأبَق٣ فغدا غلامًا لدى الصدر الأعظم عليٍّ — كما أشيع — فصار ذلك الصدر الأعظم حاميًا له، وقد قُتل الأفَّاق الألمانيُّ علي باشا بخنجر ألبانيٍّ بعد المؤتمر بشهرين، والممثل التركيُّ الآخر هو قَرَهْ تِيُودُوري باشا، وهو لطيف الأنف محكمُ الفم شاحب الوجه متحفِّظٌ مولودٌ في الشرق الأدنى، وهو يونانيٌ حسيب.

ومن هو ذلك الجالس هنالك عن اليمين قريبًا من البارُون الفينيِّ؟ أَهو عضوٌ آخرُ من الوفد الألماني؟ كلَّا، وإنما هو السفير البريطانيُّ ببرلين اللورد أودو رسل، وهو يبدو أريبًا لطيفًا نشيطًا بسيطًا، ويجلس بجانبه رجلٌ ذو لحية شقراء عريضة وجبين عالٍ، وهو اللورد سالْسِبُري الخبير في المسألة الشرقية، وما كان طرفُنا ليرتدَّ عن ملامح هذا الرجل الإنسانية إلا ليُبصرَ الممثل البريطاني الثالث الذي هو أكثر رجال المؤتمر وقفًا للنظر على ما يحتمل، ولا يكاد منظره ينمُّ على جنسيته، ولا يدلُّ مظهرُه على أنه إنكليزيٌّ، وديسرائيلي هذا، قبل أن يُصبح اللورد بيكونسفيلد بزمن؛ أي حين اشتهر بأنه كاتبٌ روائيٌّ، كان شابًّا يهوديًّا ذا ظرفٍ مثاليٍّ، والآن يبدو ديسرائيلي ميفيستوفليًّا موسيقيًّا، وهو يُشابه كاتبًا صوَّره رَنْبرانْت بأنفِه الكبير وارتخاء شفته السفلى وخُشنَة شاربَيه وجبينه العالي المزيَّن بخُصَل من الشعر، واليوم يظهر شائبًا منهوكًا متوكِّئًا على عصاهُ عند ذهابه إلى مقعده، ولا أحدَ ممن ينظرون إليه يظنُّ أنه هو الرجلُ الذي فتَن قلب الملكة فيكتورية.

وأين غُورشاكُوف الذي له ما لديسرائيلي من الشهرة؟ وهل هذا هو الرجلُ القصيرُ المتكرِّش هنالك؟ هو في الثمانين من سِنِيه، وهو على خلاف الإمبراطور وِلْهِلْم الذي لا يزال منتصبَ القامة كضابطٍ شابٍّ، وهو يألَم من النِّقرِس٤ فيُحمل إلى مقعده، وإذا رجَعْنا البصرَ إليه عن كثَب لم نجدْ وجهه متكرِّشًا بمقدار تكرُّشِ جسمه، ولا يزال فمُه باديًا حسَّاسًا، ويظهر ناعمَ الخدَّين حادَّ الأنف، وهو إذا تلفَّت ذات اليمين وذات الشمال ألقى في روعنا أنه نصف ألمانيٍّ، وذكَّرنا بصورة ألمانيٍّ غريبِ الأطوال لسبيتزفيغ، ويدلُّ مُحيَّاه على أنه رجلُ لهوٍ لا رجلُ كيد وإن كان جامعًا للأمرين في الحقيقة، وهو قد أقنع مولاه بأن يأذن له في الجلوس حول تلك المائدة على أن يكون حقُّ التصويت لسفيره ببرلين بول دوربيل وأن يقومَ بالنقاش في الأمور جارُهما الأهيَف الكونت بطرس شُوالُوف الذي هو صاحب فكرة عقد المؤتمر والذي يُشابه ماريشالًا فرنسيًّا مظهرًا، والذي يبدو نبيهًا نبيلًا مفاوضًا منقطع النظير.

وفي البداءة تَصِلُّ سيوفُ الخصوم حينًا من الزمن، ومع أن الرئيس ألقَى خطبةَ الافتتاح باللغة الفرنسية في أرضٍ ألمانية ألقى ديسرائيلي جوابه باللغة الإنكليزية وقورًا متخذًا لهجةَ أوكسفورد الخالصة، ولكن على وجهٍ لم يفهمه غيرُ القليل من الحضور، وبعد ذلك نطَق غُورشاكوف باللغة الفرنسية — خلافًا لما كان يتوقعُه بسمارك — لا باللغة الروسية بطائفة من الأمور التي لا تُعَدُّ جوابًا فأدَّى هذا إلى جَعْل الرئيس المَلُول يكتب على ورقة الألفاظَ «بُونبوس، بُونبو، بُونب، بُو»، ثمَّ انتقل الجميعُ إلى غرفة مجاورة حيث مُدَّت مائدةٌ مشتملة على مرطِّبات، وحيث أتمَّ بُرشارد «أعظمَ نجاح في كلِّ واحدةٍ من اجتماعات المؤتمر العشرين».

ويساور الغضبُ بسماركَ حتى قبل افتتاح المؤتمر؛ وذلك لأن جميع الممثلين حينما ردُّوا إليه زيارتَه «أبدَوا من الروح الريفية ما أتعبوه به»، وبسمارك بعد ذلك أخَذ يهزأُ بضيوفه منكِّتًا، وصار يُحاول في الجلسات القادمة أن يُدير كلَّ شيء وفقَ منهاجه، ومن ذلك أن قدَّم إليه سالْسبري مشروعًا جديدًا فقال له: «وشيءٌ آخر أيضًا!» وممَّا جاء في التقرير اليونانيِّ «أنه لا يَلتفت إلى الاعتراضات، ولكنه يُمعن في الإسراع فيضغط الجميع بتبرُّمه العصبيِّ، مشعرًا كلَّ واحد بهيمنته شيئًا فشيئًا»، وهو مع إتقانه التكلُّم باللغة الفرنسية كان لا ينطق بها إلا بهزَّات سريعة أو بطيئة على حسب حال أعصابه — شأنُه عندما يتكلم بالألمانية — ومن قوله: «إن من النادر أن أنام قبل الساعة السادسة صباحًا، وأنام في الساعة الثامنة غالبًا؛ وذلك لساعة أو ساعتين، ولا يقابلني أحدٌ قبل الظهر، ويمكنكم أن تتصوروا الحال النفسية التي أكون عليها عند افتتاح الجلسات، وأشرب قبل كلِّ جلسة ثلاثةَ — أو أربعةَ — قِعَبَة٥ جعةٍ مملوءةً برحيق بورتو القويِّ، فلولا فِعْلي ذلك لم يَجْرِ الدمُ في عروقي وصرتُ غيرَ صالحٍ لعمل شيء.» وقد أجمعت التقاريرُ — مع ذلك — على أن بسمارك أعان إلى أبعد حدٍّ على التوفيق بين الجميع؛ بفضل صلابته وبصيرته وسعة حيلته.
ومن بين أعضاء المؤتمر كان يثقُ بالدرجة الأولى بأندراسِي ورسل، وقد حاول — على غير جدوى — أن يكتشف «عيبًا في رسل الذي لم يَجِد إنكليزيًّا مثلَه كمالًا، وهو رجل يُتقن ستَّ لغات»، وهو يتمنَّى أن يقود اللورد سالِسْبُري بين يدَي عريف ألماني معلِّم للرياضة نصف ساعة في كلِّ يوم حتى يتعلم تقويم هيئته، وهو ينظر إلى أحمد علي كمرتدٍّ فيعاملُه ببرودةٍ وغلظة تقريبًا، وهو يُبدي لعدوِّه غُورشاكوف إخلاصًا ساخرًا، ويزورُه الشيخُ غُورشاكوف ذاتَ مرة، ويودُّ بسمارك أن يُساعده على النهوض على كُرسيِّه، ويظن الدِّرْواس٦ الدانيماركيُّ أن هذه الحركةَ علامةٌ للهجوم، وينتهر بسمارك الكلب، ويُخيَّل إلى غورشاكوف الذي لم يلاحظ هذا الحيوانَ سابقًا أن بسمارك فاجأه بذلك انتقامًا منه فينصرفُ مغاضبًا، ويقصُّ بسمارك الخبرَ مساءً، ويُضيف إلى ذلك تعليقَه الآتي الذي ينمُّ على سياسيٍّ مُحبٍّ للكلاب أيضًا، قال بسمارك: «لمَّا يتمَّ تدريبُ تيراس كما يجب؛ فهو لا يعرف مَن يجبُ عليه أن يعضَّ، ولو عرَف ذلك لعضَّ التركيَّ.»
ويؤثِّر على أوجُه مختلفةٍ كلٌّ من مغامري المؤتمر الثلاثة، الغلام والروائي وبسمارك، في الآخر، وبسمارك قال في المساء الأول: «أودُّ لو أعرفُ هل يريد بِيكُونْسفِيلد الحربَ، لا أحدَ يعرف ذلك! والشعورُ السائد هو أن الميزان بيده، وهو حَذِرٌ مرتاب، ولا يعرف مصورُه فرنر الإنكليزية، ولكن ديسرائيلي لم يقنعْ بذلك حتى أكَّده له غير مرة، وما فُطر عليه هذا الشيخُ من روح المُلَح فقد مكَّنه من التمتُّع ببعض النكات البرلينية على حساب شخصيتِه واسمِه وأصلِه اليهوديِّ، ومن تلك الطرائف أن ضابطًا كان يَسيرُ حوله فسأل الحارسَ الواقف أمام باب ديزِّي عن الذي يحافظ عليه فأجاب هذا الرجل عن ذلك بقوله: «كما تأمر يا سيدي، هو ﺑ. أ. كُوهِنْفِيلد».»٧

ولو كان بسمارك لا ساميًّا لكان كلُّ شيء في ديسرائيلي ولا سيما ميولُه الخطابيةُ غيرَ ملائمٍ لبسمارك، ولكن بسمارك بعد أحاديثَ قليلةٍ كان على تفاهُم معه أكثر من تفاهمه مع كلِّ واحدٍ من الآخرين، وبسمارك يقول بعد زمنٍ: «إنه قضى لياليَ كثيرةً هنا، وهو — لانحراف مزاجه — كان يشترط خلوَّ المكان من كلِّ ضيف، وهكذا غدَونا متحابِّين، وهو مع وضْعه رواياتٍ خياليةً كانت تسهل مناقشتُه، وكان يعرف في ربع ساعة ما يودُّه، ويعلم الحدَّ الذي لا يريدُ مجاوزتَه، فنُسوِّي كثيرًا من المسائل معًا.»

وما فتئَ ديسرائيلي — حتى موته — يكونُ صديقًا لبسمارك وإن شبَّه بسمارك في الإنديميون بكونت فيرُّول بعد رواية مُوتْلِي عن بسمارك بأربعين سنة.

ويَلوح أن بسمارك اتخذ لهجةَ المساوم مع بِليشْرُودِر، وقد قال له في أول مساء: «إن فائدة السِّلم هي ٦٦ : ٣٤، وقد تكون ٧٠ : ٣٠.» ويُقيم بِليشْرُودِر «حفلةَ عشاء كبيرةً بلا مملحة، ولكن مع كثير غناءٍ»، ويدعو وليُّ العهد إلى نُزهة في سفينة فوق الفانسي، وكاد أعضاء المؤتمر يَغرقون بعاصفة هبَّت فورًا حين عودتهم إلى قصر سانسوسي حيث «وجَد أعضاء المؤتمر قبل العشاء — كما روَى هُوهِنْلُوهِه — طُسوتًا٨ كثيرة لغسل الأيدي، ولكن مع إناء خزفيٍّ لغير الغسل تجمَّعت حولَه جميعُ أوروبة».

والمسائلُ التي يجب النقاشُ حولها في المؤتمر نُسيت منذ زمن طويل، وعادت التفصيلاتُ غيرَ مجدية، وعادت المسألة المهمة الوحيدة لا تبدو في سوى ما بين الدول الثلاث الطامعة في الشرق الأدنى من منافسة، ويبلغ ما بين روسية وإنكلترة من مزاحمةٍ غايته حول مسألة بلغارية، وتتشدد روسية، وكان بيكونسفيلد قد أوصى بقطارٍ خاصٍّ له، وكان بسمارك قد اطَّلع على ضَعْف روسية من شُوالُوف، فأقنع الإنكليز بأن يكونوا أقلَّ تصلُّبًا وأقنع الروس بأن يكونوا أقلَّ انتفاخًا، وهكذا وُفِّق بسمارك لحفْظ السَّلْم على حساب صداقة روسية، فصار الناسُ يتحدثون في الحقيقة «عما أصاب به بسمارك روسية من خِزي».

وإذا عدوتَ ما قيل من البُهتان العامِّ حول حماية النصارى من الكافرين وجدتَ المساومةَ تتجلَّى في تحديد مناطق المصالح المزعومة على خرائطَ لا يفقه أمرَها أقطابُ لندن وسان بُطرسبرغ أكثرَ مما يفقهه واسطتُهما الألمان، ومن الأمثلة على ذلك ما كان من تخصيص بلغارية الحديثة بالسَّنْجق ثمَّ اكتشافُ وقوع السنجق وراء سلسلةِ جبالِ البلقان بمسافة غير قصيرة وظهور تنزل إنكلترة عن الشيء الكثير ورغبتها في اقتضاب ذلك، ومن الأمثلة على ذلك ما رواه هُوهِنْلُوهِه من «اكتشافنا مساحةً صغيرة يُمكن اقتطاعُها من الروس، وهي صَرْدٌ٩مع أن أحدًا منَّا لم يعرف كونه حدًّا معقولًا، وكانت الخرائطُ متناقضةً غير دقيقةٍ».

وتُمضَى المعاهدة بعد أربعة أسابيع فلا تُسفِر عن سكون مزار في البلقان، فقد «بُنيت» بلغارية و«استقلَّت» صربية ورومانية والجبلُ الأسود، ووُسِّعت بلاد اليونان، وجُعل نهرُ الدانوب محايدًا تُديره لجنةٌ دولية، وأُغلقت المضايق، وتحتلُّ النمسة ولايتَي البوسنة والهرسك وتُديرهما مع بقائهما تركيَّتين، ويكون هذا الأمر الأخير مصدرَ توتُّر في عشرات السنين الآتية وإن اتفق عليه قيصر روسية وإمبراطورُ النمسة سرًّا منذ عام. ولم يُسَوَّ شيءٌ وفقَ العوامل العِرْقية ولا وفقَ رغائب السكان؛ فقد ظلَّ الصربُ مُقسَّمين بين أربعةِ بلاد، وبقيَ البلغار موزَّعين بين ثلاثة بلاد، ودُحرَ الإسلامُ مع بقاء الترك في أوروبة، وهكذا اشتمل رَقٌّ دقيقٌ على مسائلَ كثيرةٍ لم تُحلَّ.

ولم يكن لألمانية أيةُ مصلحة مباشرة في الأمر، وخَسِرت ألمانية الشيءَ الكثير على وَجْه غير مباشر مع ذلك، فزُعزِع ما بينها وبين روسية من الصداقة، ولم تَنلْ صداقة إنكلترة بدلًا من ذلك، ويعزو بسمارك ذلك إلى عِلَل شخصية، فقد قال: «كنَّا قبل المؤتمر على تفاهُم مع القيصر إلى أبعدِ حدٍّ، وكان من المتفَق عليه أن أستصوب جميعَ رغائب روسية، وأن يُرسَل شُوالُوف بدلًا من غُورشاكُوف كما وعَد القيصر، ويظهر أن غُورشاكُوف نَشِيَ١٠ ريحَ ذلك كما يدلُّ عليه قيام سياسته على تناقُض طلبات روسية فاضطررت إلى القول لشِوَالُوف إنني لا أستطيعُ أن أكون روسيًّا أكثر من روسية نفسها، ويقدِّم غُورشاكوف تقريرَه إلى القيصر بعد ذلك، ويقول له: علينا أن نشكر لبسمارك هُزالَ النتائج التي انتهينا إليها، ومما رُويَ لنا أن القيصر قال له عندئذٍ: حسنًا إذن! ستظلُّ مستشارًا إذن!» والذي لا ريبَ فيه هو أن القيصر شعَر بأن ذلك «السمسار الشريف» تخلَّى عنه في أثناء الكفاح الدِّبْلُمِيِّ، وعن المؤتمر قال القيصر: «إنه حلفٌ أوروبيٌّ بإمرة بسمارك ضدَّ روسية.» وإن شُوالُوف كان ضحيةَ خداع بسمارك.

وقد مهَّدَ مؤتمر برلين السبيل لاضطراب البلقان وشِقاقٍ بين الدول العظمى لم يَنشَب أن بدَا أثرُه.

١  Nervosité.
٢  الهونفد: المدافعون عن الوطن، وهي كلمةٌ مجريةٌ اصطلح عليها في سنة ١٨٤٨ للدلالة على جنود هنغارية المدافعين عن وطنِهم تجاه عُصاة الصقالبة والفالك.
٣  أبق: هرب من سيده.
٤  النقرس: داء المفاصل.
٥  القعبة: جمع القعب، وهو القدح الضخم الغليظ.
٦  الدِّرْواس: الكبير الرأس من الكلاب.
٧  أي بيكونسفيلد.
٨  الطسوت: جمع الطست، وهو إناءٌ من نُحاس لغسل الأيدي.
٩  الصَّرْد: المكانُ المرتفعُ في الجبال.
١٠  نَشيَ الريح: شمَّها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤