الفصل الخامس عشر
خالي العزيز، أجد في صداقتكم الدائمة ما يُشجِّعني على التعبير بصراحةٍ عن أمر دقيق أزعجني كثيرًا؛ وذلك أن سلوك وكلاء ألمانية الدِّبْلُمِيِّين في وقت مضى كان ينمُّ على خصام لروسية مناقضٍ لتقاليد الصداقة التي سارت عليها سياسةُ حكومتَينا منذ قرن فكانت منسجمةً مع مصالحهما المشتركة، وقد ظلَّت هذه الصداقة ثابتةً غيرَ متغيرة عندي، فأرجو أن يكون الأمر لديكم كذلك، بيدَ أن العالم يحكم في الأمور بالأعمال، ويُظاهر الإنكليز والنمسويون التركَ فيضع هؤلاء العراقيلَ في طريق البلغار، والآن يجب على أكثرية ممثلي أوروبة أن يُقرِّروا، وتؤيدنا فرنسة وإيطالية على حين يسير الألمان — كما يظهر — مؤازرين لوِجهة نظر النمسة مؤازرةً مطلقة ومعاكسين لنا معاكسةً منظَّمة …
ولي منكم الصفحُ، ولكنني أجدُ من الواجب أن ألفتَ نظركم إلى النتائج السيئة التي قد يؤدِّي إليها ذلك في صِلاتنا الودِّية، وما اتخذتْه صحافةُ كلَا البلدين من الوضع فأخذ يُزعجنا، ولا يغيب عني ما يجب أن تكونوا عليه من حُسن العلاقات بالنمسة، ولكن الذي لا أدركه هو أن يكون لألمانية مغنمٌ من التضحية بالمصالح الروسية، وهل يجدر بقطبٍ سياسيٍّ كبيرٍ أن يتأثَّر بما يُواثبه من كمدٍ شخصيٍّ عندما تمسُّ المسألة مصالحَ دولتين كبيرتين أسْدت إحداهما إلى الأخرى في سنة ١٨٧٠ ما لا يمكن نسيانُه من الخدم كما أقررتم؟ وما كان ينبغي لي أن أُذَكِّركم بذلك لولا بلوغ الأحوال من الخطورة ما لا يجوزُ لي معه أن أكتمَ عنكم مخاوفي حول النتائج الشديدة لكلٍّ من بلدَينا، أنار الله لكم السبيل ودفَع ذلك البلاء عنا.
ويقرأ وِلْهِلْم ما اشتملتْ عليه رسالةُ القيصر المطوَّلة تلك من العبارات الخطيرة في شهر أغسطس سنة ١٨٧٩، ولا يزيد ما يراه من جدٍّ في محتوياتها على ما يراه كاتبُها، وغيرُ قليلٍ ما حدَث من تحاكِّ الحليفَين في غضون المائة سنة الأخيرة وتصادم مصالحهما، ولكن الأمور كانت تُسوَّى بينهما على الدوام، ومن مبادئ بسمارك أنَّ ألمانية وروسية صديقتان طبيعيتان، وبلغ بسمارك من اعتقاده ذلك ما رأى معه أنَّ ما بدَا من حملة صحافية بعد مؤتمر برلين لا يُنتظر تأثيرُه في مشاعر قيصر روسية وإمبراطور ألمانية حول شرعيةِ العروش، ولا في حركة القِطَع على رُقعة شِطْرنْجِه.
وما بين البلدَين من حدود مشتركة طويلة وما ليس لدى البلدين من وجود سببٍ لاحترابها، فكان يجعل بسمارك منذ خمس وعشرين سنةً حتى في الأدوار الخطرة صديقًا ثابتًا لروسية، وما توانتْ فرنسة منذ سنة ١٨٧١ في طلب محالفة روسية وصولًا إلى مهاجمة ألمانية من جبهتين؛ ولذا قامتْ سياسةُ بسمارك في الأعوام الثمانية الأخيرة على الوقوف وسيطًا بين الإمبراطوريتين الروسية والنمسوية مانعًا «الحيوانَين المجهَّزَين» من أن يُمزِّق كلٌّ منهما الآخر مجتنبًا الانحيازَ إلى أيِّ واحدٍ منهما، وحديثًا قال بسمارك لميتناخت: «إذا ما تدخَّلنا لِمصلحة النمسة جعلْنا روسية عدوةً لنا لا يُشفَى لها غليلٌ، فغدَتْ حليفةً لفرنسة.»
وجاء في آخر تقريرٍ من سفير ألمانية بسان بطرسبرغ أنَّ القيصرَ فيما كان يُبدي ألمَه من سوء التفاهُم بين البلدين في الكتاب المذكور آنفًا كان يذكر الجيشَ الألمانيَّ بالجميل في حفلة عشاء فشرب نخْبَه، وبسمارك منذ بضعة أشهُر أخذ يرى آراءً جديدة حول روسية مع ذلك، فصار يدنو من صديقه المجريِّ أندارسي ويدعوه إليه في غاستن، ومن المحتمل أن كان حبُّه للانتقام من غُورشاكوف هو الذي حَفَز إلى ذلك مع أنه لم يَبْقَ لهذا الأخير من السلطة سوى الشكل، وقد بدأ شعور بسمارك بالعِداء نحوه منذ إيلامه إياه كما بيَّنَّا ذلك سابقًا، ثمَّ اشتدَّ ارتيابُه من روسية بجحود هذا البلد بعد مؤتمر برلين، ثمَّ زاد ارتيابُه بسبب حملة الصحُف وصعوبةِ رقابة الجيش الروسيِّ وعِظَم نفوذ وزير الحربية الكاره لألمانية، ثمَّ يأتي كتابُ القيصر ذلك فيُثير غضبَ بسمارك، ويُهرَع بسمارك إلى لقاء أندارسي.
وما كتبه بسمارك إلى مولاه من غاستن حول القيصر فيشتمل على أشدِّ العبارات التي استعملها حول أيِّ بلدٍ أجنبيٍّ منذ أيام إمس، ومن ذلك «أنه لا معنى للألفاظ التي أعربَ بها القيصرُ عن صداقته لجلالتكم بجانب وعيده المكشوف حول الحال التي لا تجعلون بها سياستَكم تابعةً لسياسة الرُّوس، ولهجةٌ بين الملوك مثلُ تلك هي نذيرُ قطعٍ للعلاقة عند عدم وجود معاهداتٍ تَحولُ دون ذلك، وما كانت المجاملة بين الملوك لتُوجبَ اتخاذَ لهجةٍ أقسَى من تلك حتى عند شهْر الحرب، وإذا كان جوابُ جلالتكم بمثل تلك اللهجة وجدْنا أنفسنا في حربٍ ضدَّ روسية على الأرجح.»
ويصفُ بسمارك وزيرَ حربية روسية بالعدميِّ الذي يُمهِّد السبيلَ للنظام الجمهوريِّ بزجِّ روسية في حرب — على ما يُرجَّح — ويُعزَى تحفظُ روسية في سنة ١٨٧٠ إلى ضغط النمسة، ويُعدَّد ما قدمتْه بروسية إلى روسية من خِدَم، ثم يستخرج بسمارك نتائجَه فيقول إنه كان، دومًا، نصيرَ الاقتراب من روسية لِما بدا له من كونِ هذه السبيل أسلمَ من سواها، وهو يقول مع ذلك: «لنا من عوامل الصِّلة بالنمسة أكثر مما لنا بروسية، وما يربطنا بالنمسة من وشائج الدم والذكريات التاريخية واللغة الألمانية وتعلُّق هنغارية بنا؛ فيجعلُ محالفةَ النمسة أعظمَ حُظوةً في ألمانية — وأكثرَ دوامًا على ما يحتمل — من محالفة روسية، وما هنالك من علاقات أسريَّة وصداقةٍ شخصية نحو القيصر إسكندر، فكان يُميل الميزانَ إلى روسية حتى الآن، ونحن لما نراه من خطر يَحيقُ بمزيَّة محالفةِ روسية؛ نرى من الجوهريِّ أن نُعنَى — بعض العناية — بصِلاتنا بالنمسة.»
ويقرأ الإمبراطور تلك الكلماتِ فيُذعَر ويزيد الإمبراطور ذُعرًا عندما يجد بسمارك راغبًا في الذهاب إلى فِيَنَّة، ويُبدي وِلْهِلْم من الصلابة غيرِ المعتادة ما يقول معه: «لا أوافق على مثل هذه الخطوة مهما كان الأمر، فروسية إذا ما أبصرتْني أصنعُ ذلك عَدَّتْ عملي معادلًا لقطع العلاقات!»
وتمضي بضعةُ أيام على ذلك، فيأخذ الإمبراطور من بسمارك برقيةً يَقُصُّ فيها خبرَ محادثته أندارسي الذي يقترح عقْدَ حِلْف دفاعيٍّ بين ألمانيا والنمسة تجاه هجوم تقومُ به روسية، ويرتعبُ الإمبراطورُ، ويتفقُ من تلقاء نفسه هو والقيصرُ على الاجتماع في قرية واقعة على الحدود الروسية للحديث حول رسالة القيصر، ويثور غضبُ بسمارك تجاه فكرة هذا الاجتماع، ويكتب تقريرًا مطوَّلًا في عشر صفحات من القَطْع الكامل يشرح فيه لمولاه سياستَه الجديدةَ، ويذكر فيه حسدَ غُورشاكوف وكتابَ إسكندر التهديديَّ وخطَر تحالف كالذي كان في حرب السنوات السبع، ويذكر فيه وجودَ صلاتٍ بالنمسة منذ ألف سنة كان قد أشار إليها في نِقُولْسبُرْغ، ويَذكر فيه أنه يمكن كلًّا من ألمانية والنمسة أن تقوم بدفاع متقابل من غير أن تضطلع بالتزامات الأخرى، ثمَّ يختم بسمارك تقريرَه بوعيد استقالته المعتاد قائلًا إنه لا يستطيع أن يقومَ بسياسةٍ أخرى.
ليس من الرأيِ أن تُناطَ سلامتُنا بروسية، وأجمل من ذلك أن يُعتمد على النمسة، ومَن ينظرْ إلى وضْعِ النمسة وطبيعةِ الأجزاء التي تؤلَّف منها؛ يجدْها محتاجةً إلى سندٍ في أوروبة كاحتياج ألمانية إلى مثله، وعكسُ هذا أمرُ روسية التي لا تحتاج إلى دعامة ما لم تكن إمبراطوريتُها مُعرَّضةً لخطر التقسيم، ومَن ينظر إلى النمسة وهنغارية يجدْ لشعوبها كلمةً في الموضوع ويجدْ رغبة هذه الشعوب في السِّلم، وعكس هذا أمر روسية التي لا تنطوي سياسةُ معاداتها لألمانية وسياسة محاربتها لألمانية على تهديد لوضْع إمبراطوريتها الداخليِّ فيمكنها انتحالُ هاتين السياستين في كلِّ حين، والنمسة — لا روسية — هي المحتاجةُ إلينا، ومَن ينظر إلى النمسة يجدْ داخلها — على ما يحتمل — سليمًا أكثر من داخل جميع الدول، ويجدْ بيتها الإمبراطوريَّ ثابتَ الأساس بين جميعِ شعوبها، وعكس ذلك أمر روسية التي لا يستطيع أحدٌ أن يُبصر ما تُخفي من اندفاعاتٍ ثورية يمكن أن تعمَّ إمبراطوريتَها الكبيرة.
والعكسُ هو الذي كان بسمارك يعتقدُه، أو كان يتمسَّكُ به، حتى ذلك الحين، فكان يَعُدُّ روسية صخرةَ النحاس ضدَّ الثورة على حين يرى ثباتَ النمسة ملغومًا بتحاسُد مختلف الشعوب التي تتألفُ منها، والآن يقولُ لنا بسمارك إِنَّ النمسة إمبراطوريةٌ نموذجيَّةٌ على حين يجد روسية بؤرةَ ثورة! فبمثل هذه البراهين أخذ بسمارك يحاولُ أن يُقنع نفسه ويُقنع مولاه، ولكن السببَ الحقيقيَّ يُمكن أن يُبصَر من خلال السطور، ومن ذلك أن النمسة ضعيفةٌ محتاجة إلى ألمانية، وأن روسية قويةٌ غيرُ محتاجة إلى ألمانية؛ ولذلك يعدُّها بسمارك خطرًا، والحكم من عادة بسمارك، وبسمارك وزيرًا، وهذا يعني أن على الوزير أن يعمل متحدًا مع الوزراء الآخرين. كان يُفضِّل ألَّا يكون في وزارته سوى أُناس يستطيع أن يسيطرَ عليهم، فهل يحتمل الآن ظهورَ القيصر بجانبه صديقًا متوعِّدًا؟ والذي يصدُّ بسمارك عن روسية قبل كلِّ شيءٍ هو جُرأتُها على المطالبة بحقِّها في المساواة، ومثلُ هذا الطلب مما لا يُطيقه بسمارك في عالم السياسة ولا في الحياة المنزلية ولا في المجالس الوزارية. والهُنْغارِيُّون أناسٌ مسالمون دومًا، وهم يَسعَون في إرضاء ألمانية القوية، وهم يرَون أنفسهم من السعداء إذا ما كانوا تحت حماية مَن هو أقوى منهم.
ويركبُ الإمبراطورُ متْنَ العناد، ويبلغ وِلْهِلْم الثانيةَ والثمانين من سِنِيه، وهو قد ترك بسمارك يقودُه في الأعوام السبعة عشر الأخيرة، ولم يبدو الآن جامحًا؟ ثار حسُّ الشرف فيه، وأخذ يفكِّر في تراث أبيه، ويظهر أثرُ الشعور الأسريِّ، وتُمثِّل العادة والرغبة دورَيهما، ويتمثل ما كان من اعتذار ابن أختِه القيصر إليه قلبًا وقالبًا، وتزول عوامل الخلاف بينهما: «وتُمازجني هذه العقيدةُ فيتعذَّر عليَّ أن أوافق على اقتراح مستشار الإمبراطورية، وأجدني قد وقعتُ في ورطة هائلة، وأُفضِّل أن أنزويَ من الميدان فأسلِّم إلى ابني مقاليدَ الحكم على أن أسير ضدَّ عقيدتي فأقترفَ خيانةً ضدَّ روسية، ويمكن الأمير «بسمارك» أن يخاطب الكونت أندراسي حول بعض الاحتمالات في المستقبل، ولكن على ألَّا يكونَ هنالك تحالفٌ لا أريده، وكان الأمير قد قال لا ينبغي لنا أن نُقيِّدَ أيديَنا بمحالفات، وكان الأميرُ يقول — في الحين بعد الحين — إن النمسة دولةٌ لا يُعتمد عليها.»
وتكون ذاكرة العاهل الشائب جيدةً عندما يكون مضطربًا، وتظهر أجوبةُ بسمارك طويلةً مقدارًا فمقدارًا، ومن الواضح أن كان ذهنُه مصروفًا إلى عملٍ إنشائيٍّ، ولا نكاد نشكُّ في أنه كان يفكر فيما هو أهمُّ من إقناع الملك، والآن يشكو تهدُّمَ صحته ويُصرِّح بأنه لا يستطيع احتمالَ مثل ذلك التحاكِّ وبأنه يستقيل إذا لم يُعقَد الحِلف، «وقد يمكنني أن أستمرَّ على خدمة الإمبراطور إذا كنت من السعادة ما أقدر معه على مشاطرة صاحب الجلالة عقائدَه في المسائل السياسية الحاسمة، ولا تزال صحتي تُقاسي تأثيرَ مثلِ ذلك التحاكِّ الذي احتملتُه في نِقُولْسبُرْغ وفِرساي، واليوم بلغتْ صحتي من الوهَن والانحطاط ما لا أقدرُ أن أحلُم معه بإنجازِ عملٍ في مثل تلك الأحوال، وفي التاسع عشر من الشهر الجاري يكون قد مضى سبع عشرة سنةً من بدءِ احتمالي هذا الكفاحَ الذي دام بلا انقطاع، وأعتقد أنني في أثناء هذا الدور قمتُ بالواجب الرسميِّ، وإذا لم يُغيَّر الوضْعُ في ثمانية أيام أو عشرة أيام من الآن استقلتُ وظائفي وبيَّنتُ الأسباب وفقَ قوانين الإمبراطورية».
ولم يُؤدِّ تعيينُ بسمارك وقتًا لاستقالته التهديدية إلى غير إثارة غضب الإمبراطور الذي صرَّح غير مرَّة بأنه يتنزل عن العرش إذا اعتزل بسمارك منصبَه.
يَشقُّ عليَّ أن نُبديَ صداقةً لروسية في الظاهر، وأن نُحالف النمسة ضدَّها، وقد بلغْتم من العزم على ذلك ما لم تقتصروا معه على إيضاح خطتكم للكونت أندراسِي، بل أذنتم له في عَرْض الأمر على إمبراطوره الذي لم يُعتِّم أن وافق على الفكرة، فضعوا أنفسكم في مكاني لقصيرِ وقتٍ وفكِّروا في أنني ذهبتُ للاجتماع بصديقي وقريبي وحليفي في السراء والضراء فأسفَر ذلك عن زوال ما حام حول بعض عباراتٍ وردتْ في كتابه من سوءِ تفاهُم وعن الوصول إلى نتائجَ سارة، ثمَّ فكِّروا في أنني في الوقت نفسه أعقِد حِلْفًا معاديًا لهذا العاهل؛ أي أصنع خلف ظهره ما يناقض أقوالي، ومهما يكن الأمرُ فلا أريد — ولا ينبغي لي — أن أتنصَّلَ من الخطوات التي اتخذتموها لدى أندراسِي ومولاه، فيمكنكم إذن أن تبحثوا في فِيَنَّة عن عواقب اختلافٍ مع روسية قد يؤدِّي إلى قَطْع الصِّلات بها، ولكنني لا أستطيع — عن وجدان — أن آذنَ لكم في عقْدِ أيِّ اتفاقٍ ولا ائتلافٍ ولا حِلف …
عالَمان مختلفان يتحادثان هنا، وهما بروسية القديمة والإمبراطورية الجديدة، أو الفارس والدِّبْلُمِيُّ، أو الوجدان والذكاء، بيدَ أن مِيفِيسْتُوفِل يتصرفُ في وسائلَ قوية، فعلى هُوهِنْلُوهِه بباريس وروس بفِيَنَّة ومولتكه ببرلين وجميعِ الوزراء أن يؤيِّدوا سياستَه، وتُهدِّد الوزارة بالاستقالة، ويجدُ الإمبراطورُ نفسَه محصورًا، وليستْ سياسةُ بسمارك ولا حِيَلُه هي التي تُثير إعجابنا في هذه المرة، بل نُعجَب بالإمبراطور الفارس.
ويذهب بسمارك إلى فِيَنَّة ويُتمُّ المفاوضات، ويضعُ عَقْد التحالف حتى التوقيع، ويجتنب بإصرارٍ برلين وستِيتن وبادن حيث يذهب الإمبراطورُ مناوبةً؛ وذلك خشيةَ التنافُر المباشر، ويُحاول الإمبراطورُ أن يُدافع — مع ذلك — عن شرفِه خطوةً بعد خطوةٍ، والإمبراطور؛ لعجزه عن حفظ سياسته لا يُريد أن يزجَّ باسم روسية في معاهدةٍ تُعقَد ضدَّها، والإمبراطورُ يرى أنه خسِر اللعب، فيتألفُ من ذلك أسطورةٌ ألمانيةٌ.
ويكتب العاهلُ المغلوب بعد ذلك قولَه: «ما فتئتُ منذ أربعة أسابيع أُجاهد ضدَّ عبارة وردت في معاهدة فِيَنَّة ظهر لي أنها مخالفةٌ لكرامتي وواجبي، وقد أذعنتُ أمس مساءً بعد أن أدليتُ بكل دليلٍ، وذلك على أن يُبلَّغ إلى روسية ما أوجب اتخاذ تلك الخطوة من الأسباب، وأرى أنَّ قوَّتي الأدبية كُسرتْ بأسْرِها، ولا أدري ماذا يُصيبني! وسيعُدُّني القيصر إسكندر ناكثًا للعهد ما دمتُ قد كتبت إليه وقلت له غير مرةٍ ما أملاه عليَّ الأميرُ بسمارك من عزمي على صيانة وصية الآباء المئوية.» وهنا نتثمل هذا الإمبراطورَ الشيخ الذي وُلد في القرن الثامن عشر ذاكرًا ما كان منذ خمسٍ وستين سنة من دخوله باريس مع القيصر إسكندر الذي هو جدٌّ للقيصر الحالي، وذلك قُبيل إرسالِ نابليون إلى جزيرة إلبة.
وقد نظر بسمارك في كلِّ واحدٍ من هذه البراهين فرفضه، والذي يظهر أن الأحاسيسَ هي التي حَفَزته إلى تغيير سياستِه أكثر من أن يحمله الحسابُ عليه، وليس ما قاله كارل ماركس عن غُورشاكوف في كتاب أرسلَه إلى إِنْجِلس غيرَ صدًى لما قاله بسمارك عنه، وإليك كلمةَ ماركس: «إن أبرز أمرٍ في بسمارك هو الوجهُ الذي ظهر به عِداؤُه لروسية، وبسمارك أراد إسقاط غُورشاكوف ونصْبَ شُوالُوف في مكانه، وبسمارك إذ لم يُوَفق لذلك قال ها هو ذا العدوُّ! وبسمارك وهو ينتظر، أبصرَ في سُحُب الشرق ما يؤيدُه، فبدَا رجلَ الساعة مرةً أخرى، وستجدَّد ميزانية الحديد العسكرية في الرَّيشتاغ القادم، ومن المحتمل أن يُصوِّت لهذه الميزانية إلى الأبد.»
وهنالك سببٌ آخرُ، وهو عاطفيٌّ أيضًا، وهو أن بسمارك قبل ذلك ما كان ليطلبَ موافقة الشعب ليُسَوِّغ حِلفًا، ولا لينظرَ إلى رفْض الشعب لينقضَ حِلفًا؛ فالآن يُشير بسمارك إلى الرأي العام كثيرًا، ويبتهج جنوب ألمانية بذلك في الحقيقة، وتوافقُ جميعُ الأحزاب في الرَّيشتاغ على سياستِه، وهذا ما أبصره وأراده ما دامت أكثريته متذبذبةً.
وهنالك سببٌ ثالث لتغيير السياسة تجده في مزاج بسمارك، وبسمارك قال لِلوسْيُوس: «إن من الخطر محالفةَ عاهلٍ مستبد يحكم في أمة مضطهدة شبه متبربرة، على حين ترى فوائدَ كثيرةً في محالفة دولةٍ ضعيفة نسبيًّا كالنمسة.» وقال له أيضًا: «إذا خُيِّرتُ اخترتُ النمسة التي هي ذات نظامٍ دستوريٍّ والتي هي دولة مسالمة واقعة تحت بَنادقِ ألمانية، مع أنه لا سلطان لنا على روسية.» ومتى كان بسمارك ينفر من محالفة مستبدٍّ قبل ذلك؟ ومتى فضَّل بسمارك قبل ذلك أن يشدَّ أواصرَ صداقة مع دولة دستورية؟ ومنذ كم كانت النمسة سلميةً أكثر من روسية؟ ألا إن ذلك هو استهواءٌ ذاتيٌّ لكَتْم أعمقِ الأسباب عن نفسه وعن الآخرين، وما فُطر عليه من ميول استبدادية فيفسِّر رغبتَه في حليفٍ «ضعيفٍ نسبيًّا»، و«واقعٍ تحت بنادق ألمانية» ولا سيَّما عند ظهور وزير هذا الحليف مستعدًّا للطاعة.
وإن تلك المشاعر المختلفة أو تلك الأخيلة التي تُساور ذلك القطبَ السياسيَّ القائمة عظمتُه على الحساب الدقيق، هي الناظمةُ لتغيير سياستِه واستحسانِه ذلك ثم تصميمه على ذلك، ولأنْ يرى بسمارك وجوبَ اختيارِه مطلقًا مناقضٌ لمبادئه القديمة، ولأن يرى وجوب اختياره النمسة أمرٌ جالبٌ للنوائب، وما أتمَّه فلا يعدو حدَّ الوقاية ضدَّ دولةٍ استطاع حتى الآن أن يكسبَ صداقتها فأقصاها، وما ناله في هذه المرة فأقلُّ مما كان ينتظرُه تقريبًا.
وما هَدَف إليه بسمارك فأكثرُ من طمأنةٍ لا تمنع من زوال اتفاق الأباطرة الثلاثة من غير أن يقوم مقامَه اتفاقٌ آخر، فبسمارك أراد في هذه المرة وضْعَ معاهدة مع النمسة، وإن شئتَ فقُلْ أراد قيام محالفةٍ حقيقية مع النمسة، يوافق عليها برلمانَا البلدَين وتُدمج في دستورَيهما. وليس الأمرُ غيرَ عاطفيٍّ هنا؛ فقد ودَّ بسمارك إعادةَ بناء ما هدمَه الزمنُ، وقد خُيِّل إليه إتمامُ الناقص فعَنَّ له إقامةُ دولةٍ ألمانية أوسعَ نطاقًا، وهل عاد الحاسبُ المتروِّي في السنوات ١٨٦٠ وما بعدها غير موجود قبل انقضاء خمس عشرة سنة؟ وهل نسيَ إذن ما حفزه من سببٍ إلى إخراج ثمانية ملايين ألمانيٍّ من الرَّيخ تخلُّصًا من شعوب أجنبية كثيرة ومن مزاحمة آل هابسْبرغ؟ وقد انتهت تلك المزاحمةُ وسُوِّيَ أمرُها، ولكن تلك الشعوب الأجنبية لا تزالُ قائمة، ولكن الذي لا ريبَ فيه هو أنَّ بسمارك الذي كان قد قوَّض شوكةَ النمسة جاء اليوم ينشُد محالفةَ النمسة؛ لأنها ضعيفة!
وهكذا تُبصر القدَرَ يُعيد العدوَّ إلى ضحيته ويدفعُه إلى الاتحاد بمَن سبَق أن كسر قواه وإلى الزواج بامرأة مسنَّة كان قد تركها حينما كانت فتاة، وهل وُجِد في شَوق الفريق الآخر إلى المساومة ما يدعوه إلى التوقُّف؟ لقد أتى فرنسوا جوزيف الذي نزعت منه معركةُ كُونِيغْراتْز نصفَ سلطانه، ليزور بنفسه قاهرَه في منزله بفِيَنَّة بعد تلك المعركة بثلاث عشرة سنة، غير أن الإمبراطور الزائرَ وأندراسِي أصرَّا على رفْض الحلف وفقَ الوجه الذي اقترحه بسمارك، وبسمارك كان قد قضى على الجامعة الألمانية، والآن لا يريد المغلوبون أن يُثيروا ذكرى تلك الجامعة، ويريد بسمارك أن يخلَّ بالتوازن الأوروبي في سبيل أوروبة الوسطى، وتُفضِّل النمسة أن تُولِّيَ وجهها شطرَ الشرق، وشطر الغرب عند الضرورة، ويرفض أندراسي الحربَ بجانب ألمانية في سبيل الألزاس رفضًا باتًّا، ويمكن الشيخ وِلْهِلْم أن يقول دهشًا: «تلك إذن قسمةٌ ضيزى!» وهذه هي أولُ مساومة في حياة بسمارك يُعطي فيها أكثرَ مما ينال.
وبسمارك — قبل أن يختار — أتى بعدَّة براهينَ مكتوبةٍ جديدة عن روسية، ذاكرًا ما لها وما عليها، قائلًا إنها أقوى حليف من الناحية مشيرًا إلى الولاء الملكيِّ وغريزة المحافظة على النفس وفقدان الخلاف. ثم تكلَّم عن ضعف النمسة فبحث عما فيها من «تذبذُب الرأيِ العامِّ بين الشعوب الهنغارية والسلافية والكاثوليكية، وتأثير المرشدين في الأُسرة الإمبراطورية واحتمالِ تأسيس صلاتٍ ودِّيَّة بين النمسة وفرنسة على أساسٍ رومانيٍّ كاثوليكيٍّ»، ويذكر بسمارك المسألة البولونية، وقد عاد إليها في مذكِّراته، فيقول إن مسألة مستقبل بولونية ستكون على جانبٍ كبير من التعقيد عند عقْد حِلفٍ عسكري بين ألمانية والنمسة، وهو يُلخِّص الأمر كما يأتي: «لا يمكنُ أن يدومَ أيُّ واحد من الحِلفَين: الحِلف الأسريِّ مع روسية والحِلف القائم على العاطفة الشعبية بين الألمان والمجر، والذي يبقى هو كابوسُ الخوفِ من المحالفات الألمانية.»
وفي سنة ١٨٨٠ يكتب قوله: «نرجو، ونريد، أن نظلَّ في حال سلمٍ مع روسية، فإذا تعذَّر ذلك لمهاجمة روسية إيَّانا أو مهاجمتها النمسة كانت محاربتُنا لروسية وحدها أو محاربتُنا لروسية وفرنسة وإيطالية معًا ذاتَ نتائجَ خطيرة، ولا نكونُ قد نِلْنا ما يعدل متاعبنا، ولو تمَّ لنا النصر.»
وهكذا ينتصبُ شبحُ الحرب العظمى أمام بسمارك عند توقيعِ المعاهدة مع النمسة، ولن يقدر أحدٌ على دفْعه.