الفصل الثاني
تتراكمُ الغيومُ المتوعِّدة في الأجواء نتيجةً للانتصارات الثلاثة، ويعرف بسمارك الأخطارَ القادمة في الحين بعد الحين فيعتقدُ قدرته على اتِّقائها، وكان ملك بروسية قد قال منذ عشرين عامًا إن بسمارك يصلح أن يُعيَّن رئيسًا للوزارة «في وقت يكونُ الحكم فيه للحراب.» ومنذ عشر سنين يُسلِّم الملكُ الحاضر مقاليدَ ذلك المنصب إليه مع الارتياب، راغبًا في رجل قادر على تدبير أمور الوطن.
وبسمارك من ذلك الحين سار جبَّارًا في الخارج فنال ثلاثة انتصارات، وهل نَعجَب بعد ذلك من عودة هذا الرجل إلى نقطة الابتداء فيرى في نفسه من القوة ما يمثِّل به دور الطاغية؟ وهل نعجب من أنَّ الحبوط سيكونُ نصيب هذه المحاولة؟ وهو إذ كان فخورًا بتحرُّره من كلِّ مذهب لم يُوفَّق لمعرفة ما في عدم استناده إلى أيِّ مبدأ فلسفيٍّ من خطر، وهو إذ كان مزدريًا للأحزاب الكثيرة المتصدِّية له لم يُوفَّق لملاحظة عدم وجود حزبٍ يدعمه، وهذا الباني العظيم إذ رجَعَ غضًّا من ميادين القتال عاطلًا من مبادئ اجتماعية أساسية، لم يَبْدُ أَهْلًا لتنظيم داخل بيته.
وفي اعتدادِ بسمارك بنفسه أعمقُ سببٍ لحبوطه، وبسمارك إذا ما فكَّر حول الدول وجد نفسه تجاه خصوم في مثل وضْعه، فكان أمرُه كلاعبِ الشطرنجِ الذي يرى أمامه من القوة ما يجب عليه أن يداوره ويقضيَ عليه، وبسمارك إذا ما كان عليه أن يُعالجَ شئون الوطن بدا واثقًا قبل بدء اللعب بأن الغَلَب له على خصومه معرفةً ونشاطًا وكيدًا، وفي الخارج دولٌ كبيرة عليه أن يقهرها، وفي الداخل أناسٌ صغار لا يجرءُون على الجواب، وفي الخارج يقف بسمارك بين أمثال يحقُّ لهم أن يكونوا خصومًا لألمانية، وفي الداخل لا يُدرك أحدٌ ما هو ألمانيٌّ خيرًا من بسمارك، فلا ينبغي لأحد أن يُعارض خِطط هذا السيد التي تؤدِّي إلى عظمة البلاد ولا أن يزعم وجودَ ما هو أصلحُ منها.
وبسمارك يكون متفننًا حول وضْع ألمانية في أوروبة، وبسمارك يكون طاغيةً حول المسائل الاجتماعية الأوروبية إذا ما لاحت في ألمانية، وبسمارك إذ كان متعوِّدًا توجيهَ ذهنه إلى عظائِمِ الأمور لا إلى الأفكار، وبسمارك إذ كان متعوِّدًا تقديرَ الأمور الحربية لا المدنية؛ تجدُه منوعًا مقيمًا سلطانَه المطلق في الداخل على صخرة من برونز.
وأولُ عِراكٍ يقع بينه وبين الكنيسة.
فمما وقع ذات يوم في فِرساي أن واجه المستشار أسقُفَ مايانس، وكان هذا الأسقُف من ذرية أشراف الكاثوليك، وكان لابسًا حُلَّةَ الكهنوت فيقابلُ الشريفَ اللوثريَّ اللابس بِزَّةً عسكرية، ويُريد الأسقف إدخالَ بضع موادَّ إلى دستور الرَّيخ حاميةٍ للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، فلما عجَز عن نَيل ما يودُّ حوَّل الحديث إلى العقيدة:
الأُسقف: «تكون الضمانات للكاثوليك بعد الموت يا صاحبَ الفخامة أعظم مما لسواهم.» صمتٌ وتبسُّم. «أو أنتم تفترضون أن الكاثوليكيَّ لا يمكنه إنقاذُ روحه.»
ولا يُجيبُ الأسقف عن هذه الدعابة بغير الانحناء ساخرًا، ويتفرَّس كلٌّ من القطب السياسيِّ اللابس بِزَّة جنرالٍ والأسقُف اللابس حُلَّة الكهنوت في الآخر باسمًا، ولكنه كان يستترُ تحت ابتسامةِ بسمارك الرياضية مشاعرُ داويةٌ مضادَّةٌ للكاثوليك، وبسمارك في الوقت نفسه كان يُفكِّر في دعوة البابا، الواقع الآن تحت وعيد «ملك اللصوص» إلى كولونية أو فولدة معتقدًا «أنه لا شيءَ يُمكنُه أن يُبَدِّدَ أوهامَ الألمان ويُنير بصائرَهم بسرعة أكثر من مشاهدتهم مطبخَ الكهنوت في قبضتهم».
ومن خلال ذلك، ومن خلال غير ذلك، نُبصرُ قلَّةَ فَهْم بسمارك للقُوى الأدبية، أجَلْ إن بسمارك كثيرُ الاطِّلاع على التاريخ، ولكننا نجد نقصًا في وقوفه على تاريخ الكنيسة.
والحقُّ أننا لا نُعنَى هنا ﺑ «محاربة الظلام»؛ أي بالكفاح بين ثقافتَين مختلفتَين، أي بين ثقافة الكنيسة الكاثوليكية وثقافة الدولة العلمانية، فبسمارك كان يُجاهد في سبيلِ السلطان، لا في سبيل المبادئ التي حوَّل أفكارَه حولَها في السنين العشرين الأخيرة تبعًا للأحوال، وبسمارك كان متسامِحًا في الأمور التي لا أهمية لها مع ذلك، وبسمارك كان لا يُناهض الكنيسة إلا كصاحبة سلطة، لا لأنها دليل ثقافة خاصة، وبسمارك كان يبدو عدوًّا لها حينما يراها تُضعف دولته، وبسمارك كان يُبصرُ حدوثَ ذلك الكفاح منذ عشرين عامًا.
وبسمارك صرَّح في فرانكفورت بأن مكافحة «روح الفتح في المعسكر الكاثوليكي» أمرٌ لا مفرَّ منه منذ أصبح العهدُ النمسويُّ يأتي بأعداء بروسية إلى هذا المعسكر، وبسمارك بعد أن ارتقى في سُلَّم السلطة وُصِفَ في الفاتيكان، كما يَعرف بأن «الشيطان تجسَّد فيه»، وقد قال فِينْدهُورْست بعد زمن: «إن محاربة الظلام تَرجع إلى معركة كُونِيغْراتْز»، ومن الواقع أن خوارج البروسيين المدَّثِّرين بثياب الإكليروس، ولا سيَّما قسيس برلين، قالوا وكتبوا: «إن على أوروبة ومنها تركية أن تدين بالبروتستانية!»
بيدَ أن الأزمة لم تظهر إلا بعد عقْد المجمع البابويِّ في رومة وتركيز جميع سلطات أوروبة الكاثوليكية هنالك، فلما حلَّ منتصف شهر يوليو سنة ١٧٨٠، وكانت الحربُ في مرحلتها الأولى، أُعلِنت عِصمة البابا فكان هذا طعنًا لمشاعر بسمارك وخِطَطه؛ فما كان بسمارك ليُطيقَ أن يدعوَ إنسانٌ نفسَه بالمعصوم، ولِمَ ذلك وهو الذي لم يعتقد عصمة نفسه؟ ومن الفظاعة أن يتَّبع قسمٌ من ألمانية سلطانًا أجنبيًّا، وهو عندما انطلق إلى فرنسة أنذر أساقفة الألمان بعدم الموافقة وأنذَر البابا بألَّا يأتيَ أيَّ إكراه كان، وهو في الوقت نفسه أعرب عن قَصْده في حماية الدولة تجاه سلطان رومة، وإلَّا «عَدَّتِ الحكومةُ الأساقفةَ موظفين لدى سيدٍ أجنبي».
وهنالك — وفي إبَّان الحرب — جعَل أصحاب فِينْدهُورْست من حزب الوسط حزبًا كاثوليكيًّا مجاهدًا، ويَعجز بسمارك عن إقامة كنيسة ألمانية كاثوليكية فيتخذ خطةَ الهجوم من فوره، ويمنع رئيسُ أساقفة كولونية طلابَ بون من حضور دروس علماء اللاهوت من الأحرار، ويُصرِّح بسمارك ببطلان هذا النهي، وبسمارك لكونه بانيَ الإمبراطورية، وبسمارك فيما كان جادًّا في ذلك يَسِمُ النزاعَ الكنسيَّ بسِمَة الهجوم على الإمبراطورية فيُصرُّ على قوله إن رومة هي مركزٌ لالتقاء جميع أعداء الرَّيخ، وبسمارك عند رُجُوعه إلى الوطن يجد أن الحزب الجديد يتألف من سبعة وخمسين رجلًا، وأن جميع الساخطين يلتفون حوله.
وهنالك ما يستفزُّ مَن هو أهدأُ من بسمارك، وبسمارك قضى عشرين سنة مفكِّرًا في عمله، وبسمارك قَاتَلَ ثمانِيَ سنين في سبيل عمله، وبسمارك — أخيرًا وبعد أسابيع إعياء — سيَّرَ السفينة إلى مرفأٍ متحديًا الرياح المعاكسة. وبسمارك الآن يَصِل إلى الوطن ليجادل الشعب تَعِبًا مُضْنًى منهوك الأعصاب، وماذا يجد؟ يجد عصبة مؤلفة من نواب الأمة المعادين يَجمعهم إيمانٌ دينيٌّ واحدٌ، ويَرأَسُهم رجلٌ بعيدٌ من ألمانية، فلا بدَّ من خصومته لإمبراطور ألمانية اللُّوثَري الجديد نادبًا الإمبراطورَ الرسوليَّ القديمَ، وهل يغيب عن المستشار المرتاب الذي أَبصَرَ إمكانَ انهيار عمله أن يرى تلك الجماعةَ حاملةً مطارق خفيَّة مُعدَّة لتحطيم ذلك البناء الذي شِيدَ بمشقة؟ ومَن ذا الذي يطالب صاحبَ مزاجٍ حادٍّ أن يكون منصفًا في مثل تلك الحال؟ هو يَعزم على حماية عمله مُشبعًا من روح ميدان الحرب فيخطئ تقديرَ مدَى قذيفته، فيرمي بها سلطة رومة العظمى فلا يؤذيها كثيرًا، وذلك بدلًا من أن يصيب بها تلك الزمرة من كاثوليك الألمان، وما فُطِرَ عليه ذلك الفاتح من مزاج مكافحٍ وما يُساور ذلك البانيَ الواقعيَّ من همٍّ فيوضِّح خطأه في تقدير أمر حلْفٍ كاثوليكيٍّ ضدَّ إمبراطوريته الفتية وتخوُّفِه منه.
وليس ذلك الحزبُ وحده هو ضدَّهُ في الحقيقة؛ ففي الداخل يتألَّب عليه الغلفيُّون والبولونيون والألزاسيون، وفي الخارج يتضافر عليه النمسويون والفرنسيون، وتتفاهمُ الديمقراطية الاشتراكية، الفتيَّةُ فتاءَ الإمبراطورية والضعيفةُ ضعْفَ أوروبة، هي وحزب الوسط ذلك، ومن بين جميع «أعداء الرَّيخ» ترى حزب الوسط وحده هو «أول مَن يبرز في الميدان» ويزيدُ الارتباكُ بما كان من اعتراضِ بعض علماء اللاهوت في الجامعات الألمانية (ومنهم الكاردينال هُوهِنْلُوهه) على مبدأ العصمة، وبما كان من مؤازرة ملك بافارية الكاثوليكي لاحتجاجهم، وبما كان من لَوم رومة لحزب الوسط الألماني. ومن الزعماء أناسٌ خُضَّعٌ لم يبالوا بالأمر مع الشغب، ومنهم سافينْيي الذي عطَّل بسمارك طموحَه منذ بضع سنين.
ولكن أفكار بسمارك المكوَّنة سابقًا ونزوات مزاجه ليست كافية لحمله على اتخاذ قرارات بعد ذهاب سَوْرَة غضبه الأولى، وبسمارك لم يفعلْ ذلك إلا بعد أن حسب النتائج السياسية لِمَا يريد أن يصنع. ويُقدِّر بسمارك أنه إذا قام بتلك الحملة قوَّى المناحيَ اللاإكليريكية في إيطالية الجديدة وفصَل إيطالية عن فرنسة، وأمكنه تقويةُ الصِّلات بين ألمانية وروسية ما دامت روسية معادية لرومة على العموم ولقساوسة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية المثيرين للفتنة في بولونية على الخصوص. وقد تجعلُ هذه السياسةُ وليَّ العهد وديًّا في البلاد، وقد تتغلب هذه السياسة على تذمُّر الأحرار من الدستور؛ وذلك لاتخاذ وليِّ العهد والأحرار فلسفةً عقليةً نِبْراسًا لهم فلا يودُّون أمرًا أكثرَ من مكافحة الكنيسة.
ولم يتمالك بسمارك أن بدأ حملته بعد إمضاء معاهدة الصلح في شهر مايو، وذلك بصولةٍ تُذكِّرنا بما يقَع في المعسكر الحربيِّ، ومن بيان بسمارك غيرِ الرسمي: «ستقرر الحكومة الألمانية بعد قليل قيامها بعمل عِدائي … وكان الشعور الألمانيُّ في ألمانية منذ ثلاثمائة سنة أقوَى من شعور الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وشعورٌ مثل هذا هو أشدُّ في الوقت الحاضر مما كان عليه في ذلك الحين … وذلك لأن رومة عادت لا تكون عاصمة للعالم، ولأن الذي يضَع على رأسه التاج الإمبراطوريَّ الألماني هو أميرٌ ألمانيٌّ لا إسباني.»
ولم يُرِد بسمارك في ذلك الوقت فصْلَ الكنيسة عن الدولة فصلًا غير مُقيَّد، وإنما كان يرغب في اتخاذ «وضْعٍ دفاعيٍّ قويٍّ تجاه اعتداء الكنيسة الكاثوليكية»، وهو لكي يُنفذ هذه السياسة يُدخل إلى الرَّيخ في بدء الأمر «فِقَرَ المنبر» التي تجعل كلَّ جدال حول أمور الدولة من فوق المنبر جُرمًا يعاقَب فاعلُه بالسجن.
ثمَّ يندفع بسمارك إلى الأمام فيُصدر ببروسية في عام أو عامين «قوانين مايو» التي كانت لها نتائج مهمة، فيُلغي بسمارك الفرعَ الكاثوليكيَّ من وزارة الديانة والتعليم ويمحو من الدستور ما فيه من نصوص ملائمة للكنيسة، ويتدخَّل في إدارة الأسقفيات وفي أمور التعليم الديني في المدارس، ويَطرُد اليسوعيين ومَن إليهم من أصحاب الطرق خارج بلاد الرَّيخ، ويجعل الزواجَ المدنيَّ إلزاميًّا، ويتوعَّد العُنُدَ بالإبعاد والغرامة الاعتقال والحبس ومصادرة الدخل.
ويُجرِّد أديارًا كثيرةً من الرُّعاة، ويُلقي بسمارك بذور الشقاق بين الأساقفة والقساوسة، وبين العلمانيين والشمامسة، ويُوقع الشرَّ بين أبناء الأُسَر، ويُعرِّض للخطر وِجدانات الأقِسَّة والنسوة والطلبة والطبقة الوسطى، وتلوح الفوضى في المشاعر والمصالح. وهكذا، يتحقق وعيدُه على وجهٍ يخالف ما أبصرَه، وهو: أن يُقيم العالَم ويُقعده.
وهكذا ترى بسماركَ الحَذِر في إلقاء الكلام على العموم يَقذف بكلمة القتال أمام مستمعيه كاشفًا عن السببِ الحقيقيِّ والزَّيفِ التاريخيِّ للوضْع مع القياس الرائع، وليست الثقافةُ موضعَ بحث، فلِمَ يتكلَّم عن «مكافحة الظلام»؟
ولعواملَ مختلفةٍ يُدافع عن القضية ذاتها خصمُ بسمارك القديمُ وحليفُه الجديد فيرشوف الذي انتحل كلمة «مكافحة الظلام» مستعيرًا إياها من لاسَّال، قال فيرشوف: «تؤدِّي البروتستانية في روح البحث الحرِّ إلى فتحِ أوسعِ الآفاقِ في كلِّ جهة للجنس البشري، وتدفعُنا البروتستانية إلى العمل المستقل. ادفعوا أساقفتكم إلى حريةٍ أكبر مما هو واقعٌ، وادفعوا موظفيكم إلى نشاطٍ أعظمَ استقلالًا مما هو حاصلٌ؛ ترَوا تحوُّل جميع ذلك، وعليكم أن تُقاوموا ذلك النظام الروماني المضادَّ للنظام الألماني. وإذا كنتم تجدون أنَّ من حقِّكم جَعْل الروحانيِّ شاملًا للزمنيِّ … قضيتُم علينا بالهلاك وحوَّلتم تقدُّم ألمانية إلى هباء!»
آلحرية والعلم؟ ألم نسمع منذ هنيهة قولًا عن الكفاح في سبيل السلطان؟ اليوم كما كان الأمر منذ عشر سنين تُبصِر عالمَين مختلفين، تُبصِر فيرشوف وبسمارك متفقَين في أثناء رقصٍ مقنَّعٍ على قفزٍ سياسيٍّ بالذكاء مبرقَعٍ، والآن تشاهد أحد زعماء حزب الوسط المنافح مالِّينكرود ينهض ويَرُدُّ ذلك الطبيبَ البليد: «إذن، أين تُثبت قُوَى البروتستان العقلية العظمى نفسَها؟ من المحتمل أنها تُظهر نفسَها في الارتباك المتأصِّل بينهم والصادر عن وجود رأيٍ خاصٍّ لكلِّ واحدٍ منهم حَول الحقِّ! وأمَّا نحن فتقوم قضيتُنا الأساسيةُ على كَون الكنيسة ممثلةً للحقِّ. والكنيسةُ إذا ما انتهت إلى قرارٍ وجَب الاعترافُ بأن قرارها هذا مطابقٌ للحقيقة. وبهذا يتجلَّى الفرقُ بين مَبدئنا في الرئاسة ومَبدئكم في الحكم الفرديِّ؛ ولهذا ترَوْننا منذ دخول القرن التاسع عشر لا نزال أقوياءَ متحدين في العالم، على حين تبصرون — متفجِّعين — تفتُّتَ حجارة بُنيانكم!» وماذا يمكن مستشارَ الرَّيخ بسمارك أن يفكِّر فيه عندما يقرأ هذه الخطبة؟ أفلا يشعرُ بأنه أوثقُ عروةً بهذا الخصم مما بحلفائه؟ يَحمل هذا الكاثوليكيُّ طابعَ بسمارك في أسلوب بيانه، وهو يرمي فيرشوف بالكلمات التي كان على هذا الطبيب أن يسمعَها من بين شفتَيْ بسمارك في أثناء الصدام.
ولمَّا قال فِينْدهُورْست إن بسمارك يريد نقلَ معظم سلطان الدولة إلى البرلمان أمسك بسمارك الكأسَ التي أمامه على المائدة مضطربًا، ولم يتمالك أن شرِب ما فيه على عدة مرات بسرعة عازمًا على الجواب، ويواصل فِينْدهُورْست كلامه قائلًا: «إذا ما طُرِدت الكنيسة من المدارس فمَن ذا الذي يقوم بالتعليم الدينيِّ بدلًا منها؟ وهل الدولة أهلٌ لهذا الأمر؟ وهل لديها من الوسائل ما تُنجزه به؟ وإذا كان الأمر كذلك فدعوني أطَّلع على كتاب الدولة الديني الجديد، ألَا إن هذه الدولة ستكون دولةً وثنية أو دولة بلا ربٍّ، أو دولة إلهةً في الأرض.» وهنالك لم يُرِدْ بسمارك أن يُجيب أو لم يَقدر على الجواب، وإنما اكتفى بقوله متأثِّرًا: «لقد أدليتُ بأدلَّتي حول المبدأ الملكيِّ ببروسية في سنواتٍ كثيرةٍ قضيتُها في الخدمة، فآمُل أن يأتيَ نائب مِبِّنَ المحترمُ بذلك المقدار.»
وفي اليوم التالي يقومُ بسمارك بهجومٍ مضادٍّ فيقول شاتمًا بشدة: «ليس من شأن كلماتكم أن تَشفيَ الجروح، بل من دأبها أن تزيد نار الغضب لهيبًا، ومن النادر أن أبصرتُ نائب مِبِّنَ المحترمَ يحاول الإقناع أو إصلاح ذات البين، أدعو الله الذي أومِنَ به ألَّا يمنَّ على هذا النائب المحترم بحقِّ التصرُّف في كرمه، لما لا يكون لي غير نصيبٍ هزيلٍ إذ ذاك، وإنك تكون على وئامٍ مع الدولة إذا ما عدلْت عن الزعامة الغِلفيَّة، وما كانت الآمالُ الغلفية لتُحقَّق إلا إذا سيطر الشقاقُ والاضطرابُ على الدولة.»
ويجيب فِينْدهُورْست من فوره: «لستُ شيئًا، ولا أستطيعُ أن أصنع أمرًا، ولكنكم أيها السادة تَوَدُّون أن تجعلوا مني شيئًا كما يظهر، ولا أريد أن أقول ما أفكِّر فيه حول مهاجمة الوزير لي؛ وذلك لوقوعي تحت سلطة رئيس المجلس غير الواضحة تجاه الوزراء، ولكنني لا أتقهقَر أمام أيِّ إنسان كان؛ ولذا أقول: إن الخطيب المحترم يسأل عن بقائي مرتبطًا في أُسرة هانوفر المالكة، فأُجيب عن ذلك بأنني سأظلُّ وفيًّا لها حتى الممات، ولا يوجد في الدنيا من القوى — ومنها قوة وزير ألمانية القدير — ما يستطيع أن يفصلني عن تلك الأُسرة، وهذا مع اعتقادي أنني قمتُ بواجباتي عن وجدانٍ كأحد الرعايا وكما تقتضيه أحكامُ الكتاب المقدس، وإذا ما عُزِيَ إلى الوسط خططٌ مثيرةٌ للشبهات، وإذا ما قُصد إلقاءُ الرعب في الوسط ببَذْرِ الرِّيَب حول نائب؛ فإننا نكون قد دنونا من دور الهول الذي يُبطل حرية القول، وليعلم السيدُ المحترم أن من السهل دَعْمَ المبدأ الملكيِّ عند اليُسر وأن من الصعب دَعْمَه في أيام العسر حين تُفرَض الطاعة!»
وعلى ذلك الوجه الساطع يكافح فِينْدهُورْست خصْمَه، ثمَّ يحلُّ فِينْدهُورْست عقدة ما بين القوة والروح من كفاح، حيث يقول: «يُحالف النجاح جنابَ الوزير ما دام ذا جندٍ ومال أكثر مما لديَّ … وليست السياسةُ الخارجيةُ أمرًا عسيرًا على مَن يستندُ إلى مليونَي جندي!» وهنالك يغادر بسمارك المجلسَ فيقول فِينْدهُورْست باسمًا مستنتجًا: «إن من عادات الفرسان في مثل تلك الحملات أن يَتلقَّوُا الأجوبة شخصيًّا، ولمخاطبة الوزير المحترم أمام ألمانية قيمةٌ عظيمةٌ»، فبهذه العزَّة وبهذه المرونة وبهذه المهارة وبهذه الصَّولة حمَل داود على جُلْيات بالمقلاع والحجر.
ولكنه لم يَسطع إصابةَ الهدف، فلم يَلبث بسمارك أن عرَف خطأه حول تلك المسألة الدينية، وقد أفاد بسمارك من موت محبِّ العِراك بيوسَ التاسعِ ومن ارتقاء الدِّبْلُمِيِّ ليون الثالث عشر إلى عرش البابوية فتقهقرَ مستترًا ملقيًا على عواتق مرءوسيه مسئوليةَ غارةٍ أمرَ بشنِّها، ويقفُ بسمارك الكفاحَ بغتةً في الشئون الداخلية، ويكتب أندراسِّي في أواخر سنة ١٨٧٣ قوله: «يحتقن الدمُ في عينَيْ بسمارك عندما يتكلم عن البابا، وترنُّ كلماته كصبِّ اللعنات، ويدَّعي أنَّ الباب خطرٌ على جميع البلدان، وينعته بالثوريِّ والفوضويِّ فيدعو أُوروبة إلى مقاومته إذا أراد كلُّ أميرٍ فيها أن يحفظ عرشه.»
وقع الكفاح خلافًا لِمقاصدي؛ فالذي أردتُ هو مكافحةُ الوسط سياسيًّا، ولستُ المذنبَ في إغاظة جميع الكاثوليك من السكان، وقد عارضتُ ذلك … ولكن كنفاوزن وفالك هدَّدا بالاستقالة فلم أرَ لي مناصًا من الإذعان، والآن تراني آسفًا على أنني أمضيت تلك القوانين من غير أن أقرأها؛ فهي تحتوي كثيرًا من الترَّهات … فأطلب إليك — والحالة هذه — أن تتفضَّلَ فتقول لملكك إنه لا ينبغي له أن يَعُدَّني مسئولًا عما حدَث في بروسية في أثناء السنتين الأخيرتين.
ذلك ما نطق به بسمارك الذي حرَّض منذ سنةٍ نصفَ أبناء الوطن على نِصفهم الآخر، حين قال: «إن البابا المعصومَ هو الذي يُهدِّد الدولة، وينتحل البابا لنفسه ما يروقُهُ من الحقوق الزمنية، والبابا يُصرِّح بأن قوانيننا باطلةٌ لاغية، وهو يَجبي الضرائب. ومجمل القول أنك لا تجدُ في بروسية مَن هو قويٌّ كهذا الأجنبيِّ!»
ويظنُّ بسمارك أن درسدن نسيتْ ذلك منذ زمنٍ طويل، ولكنه مخطئٌ فيما يظنُّ، وتَذكُر أوروبة ذلك، وتذكر رومة ذلك قبل الجميع، وليس مما سُدِل عليه ثوب النسيان قولُه منذ خمسٍ وعشرين سنة في اللَّنْدتاغ: «أرجو أن أعيشَ إلى الزمن الذي أرى فيه سفينة مجانين زماننا تتحطم على صخرة الكنيسة النصرانية.» ويُذكِّره الشيخُ غِرْلاخ بهذه الكلمة التي نطَق بها في أيام بِياتِيَّته فيُجيبه بسمارك غيرَ مكترث بأنه قصَد الكنيسة البروتستانية في ذلك الحين، ويتبسم عرَّافُو الرومان لا ريب، ويُلقِّبُ بيوس التاسع قُبيل موته عدوَّه الأكبرَ بسمارك بفيليب البروتستاني، ويُضيف إلى هذا نبوءتَه القائلةَ: «إن صخرةً ستتدحرجُ إلى سَفْح الجبل في نهاية الأمر فتَكسر التمثال الهائل!»